الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التقليد والابداع

فارس تركي محمود

2017 / 4 / 14
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


مما لا شك فيه ان الشعوب العربية شعوب مقلدة شعوب مجترة ، افكارها ورؤاها ومقولاتها وطروحاتها ومفاهيمها ثابتة لا تتغير ولا تتطور ولا تتبدل مهما طال الزمن وتوالت السنون والقرون ومهما تغيرت الظروف والاحوال ، بل ان تغير وتغيير بعض معالم الارض وتضاريسها اسهل بكثير من تغيير تلك الافكار والرؤى التي نتوارثها جيلا بعد جيل بدون أي نقصان او زيادة ونحرص على نقلها الى الابناء والاحفاد وكأنها كنوز ثمينة ومقتنيات تليدة في عملية مستمرة من التقليد نقلد فيها بعضنا بعضا ونقلد الاباء والاجداد والاسلاف واسلاف اسلاف الاسلاف ، ونحرص على تقليد بعضنا بعضا وتقليد اجدادنا ، ونتفانى ونتسابق في التقليد وفي اتقان التقليد وفي الاحتفاء بالتقليد والتغني به وتبرئة انفسنا من أي شبهة ابداع ونحرص كل الحرص على ان لا نضبط ونحن نحاول ان نفكر بطريقة مبدعة خلاقة او بطريقة تختلف عما هو سائد وتقليدي وعما تواطئ الناس على صحته وصوابيته وكأن حياتنا برمتها ليست الا حفلة او كارنفال ومهرجان مستمر لتبجيل التقليد والاحتفاء به ولعن الابداع والتجديد والتبرؤ منه .
والكارثة ان التقليد لدينا لم يقتصر على جانب واحد او مجال بعينه بل هو كالوباء الذي ضرب كل مفصل من مفاصل حياتنا من اعلاها الى ادناها فالتقليد حاضر في مأكلنا ومشربنا وملبسنا وشكلنا وقيامنا وجلوسنا ونومنا وصحونا واقتصادنا وسياستنا وحربنا وسلمنا وحبنا وكرهنا وكل جزئية من الجزئيات مهما صغرت ودقت ، وانا على يقين انه لو اجرينا نوع من المقارنة بين الغالبية العظمى من ابناء الشعوب العربية في الوقت الحاضر وبين اسلافهم الذين عاشوا في القرون الغابرة فلن نجد فرقا يذكر من أي نوع سواء في طريقة التفكير او طريقة التصرف والعمل او في الرؤى والافكار والمقولات او في النظرة للحياة وللآخر وللمرأة وللحرية وللحكومة وللدولة وللمجتمع وغير ذلك من المفاهيم والقضايا . وكأن مئات السنين التي مرت لم تكن سوى عملية استنساخ مستمرة تكررت لآلاف المرات وانتجت في كل مرة نسخة طبق الاصل للنسخة التي سبقتها .
وفي العصر الحديث تطورت قدرتنا بشكل كبير ومذهل على التقليد بحيث لم نعد نكتفي بتقليد اجدادنا واسلافنا بل اتسع وامتد نشاطنا التقليدي ليشمل الحضارات والشعوب الاخرى فاصبحنا نقلد افكارها ورؤاها وفلسفتها ، فمع ظهور ما يعرف بالعولمة وفي عصر السماوات المفتوحة ومع التطور الهائل الذي شهدته وسائل الاتصال والتواصل اصبح العالم قرية صغيرة واصبح كل جزء فيه مطلع على ما يحدث ويدور في بقية الاجزاء واصبحت الشعوب اشد تأثرا وتأثيرا ببعضها البعض وتم عولمت بعض المفاهيم والافكار والسلوكيات واصبحت مطلبا للكثير من الشعوب ومنها الديمقراطية والانتخابات والحرية وحقوق الانسان والمساواة .
لقد كان هذا الانفتاح على المجتمعات والثقافات الاخرى اكبر محفز ومثير لواحدة من اهم مزايانا وخصائصنا وهي التقليد فاذا بنا بين عشيةٍ وضحاها لم نعد نرضى بغير الديمقراطية ولم نعد نرى للحياة طعم بغير الحرية واصبحت الانتخابات أسمى امانينا وحقوق الانسان غاية ما نصبو اليه متصورين ان هذه التمائم والايقونات هي الحلول الناجعة لكل مشاكلنا وهي الطريق الامثل لتصبح مجتمعاتنا متقدمة ومتحضرة كالمجتمعات الغربية لذلك ليس مطلوب منا سوى ان نطلق العنان لقدرتنا على التقليد ونبدأ وعلى وجه السرعة في تقليد المجتمعات الديمقراطية من حيث تأسيس الاحزاب واجراء الانتخابات والذهاب فرحين الى صناديق الاقتراع والثرثرة بشكل دائم عن الديمقراطية والحرية والدستور وحقوق الانسان والمساواة وحكم القانون والشفافية و و و . . . الخ ، وبمجرد ان ننتهي من عملية التقليد هذه ستتحول مجتمعاتنا وبقدرة قادر الى مجتمعات ديمقراطية متمدنة مستقرة ، لكن الذي حصل بالفعل اننا فتحنا بوابات جهنم واصبحنا في وضع اسوء بكثير مما كنا عليه قبل ان نقلد الاخرين .
ان السبب في ذلك يعود الى ان تقليدك للآخرين لا يعني انك اصبحت مثلهم فتقليدك للديمقراطية لا يعني انك ديمقراطي وتقليدك للعملية الانتخابية لا يعني انك ستحظى بحكومة ديمقراطية فعلية ، وتقليدك للذين يؤمنون بالديمقراطية والحرية وحقوق الانسان لا يعني انك تؤمن بها مثلهم حتى اذا توهمت ذلك ، وسينكشف أمرك عند اول اختبار حقيقي لان الديمقراطية وحقوق الانسان والحرية والمساواة مفاهيم ( ابداعية ) ابدعتها وانتجتها وطورتها وصقلتها حضارة وثقافة وظروف جغرافية وتاريخية تشجع على الابداع ، وهي مختلفة عن حضارتك وثقافتك وظروفك المرسخة للتقليد ولا يمكن ان يلتقي الابداع والتقليد ، لذلك ستفشل مهما بذلت من جهد في تقليدها ، وستجد نفسك في النهاية تقلد اجدادك حتى وانت تدعي انك تقلد المجتمعات الحديثة المتمدنة في ديمقراطيتها وحريتها ، بل حتى وانت تمارس قشور الديمقراطية وشكلها الخارجي ستمارسها بعقلية ونفسية اجدادك واسلافك القدماء .
لذلك نرى ان الديمقراطية تحولت في ايدينا الى سلاح ووسيلة نقضي بها على المعنى الحقيقي للديمقراطية فنذهب الى صناديق الاقتراع بذات الطريقة وبذات العقلية والنفسية والحالة الوجدانية التي كان يذهب بها اجدادنا الى المعركة والغزو فكلانا يذهب لكي يعلي من شأن العشيرة والقبيلة والمذهب والدين والعرق وينصرها على بقية القبائل والمذاهب والاديان والاعراق ، وكلانا يذهب بقصد نصرة الاخ وابن العمومة وابن الدين والمذهب والعرق على اعدائه ومنافسيه ، الفرق الوحيد انهم كانوا ينصرونه بسيوفهم ونحن ننصره بأصواتنا بغض النظر عما اذا كان مستحقا لهذه النصرة ام لا ، وبغض النظر عما اذا كان صالحا ام طالحا صادقا ام كاذبا فاسدا ام نزيها ، وبدون ان نعرف ما هي افكاره وما هي فلسفته السياسية وما هي توجهاته وما هو برنامجه الانتخابي ، بل بدون ان يكون عنده اصلا برنامج انتخابي فالمهم انه منا وفينا ، وكما تعلمون حضراتكم فحكمتنا الازلية تقول : انا واخي على ابن عمي وانا وابن عمي على الغريب ، وكأننا ما زلنا نعيش في زمن الاسلاف والاجداد وما زلنا نردد مع شاعرنا القديم الذي قال مفتخرا بقومه :
لا يسألون اخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
وما زلنا ننظر الى منافسينا في العملية السياسية والانتخابية كما كان اسلافنا ينظرون الى اعدائهم وخصومهم ومنافسيهم على السلطة والسيادة والمال او على الماء والكلأ والاراضي الخصبة ، فنسعى الى اقصائهم وتهميشهم وتشويههم وسبهم وشتمهم وفي احيان كثيرة الى التخلص منهم نهائيا والدخول في صراعات مسلحة معهم كما كان يفعل اجدادنا مع خصومهم بالضبط ، وهكذا وجدنا انفسنا في النهاية نقلد اسلافنا الذين عاشوا قبل عشرات القرون على الرغم من ان قصدنا كان تقليد الشعوب المتمدنة في ارقى ممارساتها .
والقول نفسه ينطبق على الحرية وحقوق الانسان والمساواة وغيرها من مفاهيم حديثة فاذا ما قلدنا المجتمعات الحرة تحولت الحرية لدينا الى فوضى عارمة ، فلا نفهم منها سوى حريتنا في الغاء حريات الاخرين او الغائهم هم انفسهم ، وحريتنا في التعبير بالقول والفعل عن مبلغ جهلنا وتخلفنا ، وحريتنا في تقليد اسلافنا المبجلين كيفما نشاء ، وحريتنا في تشويه ونقد وادانة مفهوم الحرية ذاته وتفريغه من محتواه ، وعندما نحاول ان نقلد منظومة حقوق الانسان تصبح حقوقنا نحن فقط وليس حقوق الاخرين المغايرين المختلفين عنا فهؤلاء – وفقا لفلسفتنا الموروثة من اسلافنا - لا حقوق لهم ، وهكذا نفهم كل شيء وكل منتج فكري حديث كما كان اسلافنا يفهمونه لأننا نسخة طبق الاصل عنهم . وخلاصة القول اننا شعوب مقلدة لا نستطيع ان نبدع اطلاقا وحتى عندما نحاول ان نقلد ابداع الاخرين فنحن نقلده بطريقة تفرغه من محتواه وتحوله الى نقيض معناه ، وكأن اسلافنا قد بعثوا في العصر الحديث وهم الذين يتعاملون معه – ولسنا نحن - ويكيفونه بالطريقة التي تتلائم مع افكارهم ورؤاهم البدائية .
إن كون الشعوب العربية شعوب مقلدة بامتياز ليس عيبا بل صفة مجبرة ان تتصف بها الشعوب التي تعيش في ظل ظروف جغرافية شبيهة بالظروف التي عاشت في ظلها الشعوب العربية وليس لها خيار في ذلك ، كما ان الشعوب المبدعة كالشعوب الاوربية مثلا لا يحق لها ان تتفاخر بذلك لأن ظروفها هي التي اجبرتها ان تكون مبدعة بل لو ارادت ان تكون شعوب مقلدة لما امكنها ذلك . فالابداع يحتاج الى توافر وتضافر عدد من العوامل والاسباب والظروف اهمها الظروف الجغرافية التي تكون محفزة للجهد البشري ومثيرة لقدراته العقلية ومتحدية لملكته الابداعية لان الابداع في النهاية ما هو الا استجابة لتحديات تطرحها البيئة المحيطة بنا بشرط ان تكون هذه التحديات تحديات يمكن التعامل معها وايجاد حلول لها فلا تكون تحديات قاهرة لا يمكن التغلب عليها ابدا من جهة ، ولا تكون تحديات بسيطة جدا لا تستدعي من الانسان اعمال فكره وعقله في حلها ولا تدفعه لإيجاد حلول خلاقة مبدعة من جهة اخرى ، بل يجب ان تكون تحديات متوسطة ما بين القاهرة والبسيطة ، والبيئة المثالية لطرح مثل هذا النوع من التحديات هي البيئة الخضراء المشتملة على مساحات واسعة من الغابات والاراضي الخصبة والظروف المناخية التي تقضي على اية امكانية لخلق الشخصية المقلدة وتساعد على خلق الشخصية المبدعة وقد توفرت مثل هذه البيئة في القارة الاوربية ، على العكس من البيئة العربية الصحراوية وشبه الصحراوية التي تقدم لساكنها تحديات قاهرة يقف الانسان عاجزا امامها لأنه يدرك مسبقا انه من المستحيل التغلب عليها مهما بذل من جهد لذلك تقتل عنده ملكة الابداع ويركن شيئا فشيئا الى الكسل والخمول والى ما وجد عليه ابائه واسلافه فيقلدهم تقليدا حرفيا في معيشتهم وسلوكهم وافكارهم ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم لأنه ليس في الامكان اروع مما كان ، ولأنه ليس بيده حيلة ولا يستطيع ان يكون مبدعا ما دام يواجه تحديا جغرافيا قاهرا لا ينفع معه ابداع او ابتداع فلا يبقى امامه الا ان يقلد وان يعيش كما عاش اجداده بدون اية اضافة او تجديد . ومما يزيد الطين بلة ان الشعوب العربية حالها حال بقية الشعوب الاخرى تميل الى اضفاء نوع من الاحترام والتبجيل بل وحتى التقديس على عاداتها وتقاليدها وصفاتها لذلك اصبحت تحترم وتقدس التقليد وتعتبره ميزة ايجابية وتحتقر وتعادي وتنبذ وتخطِّئ كل من يحاول ان يخرج عنه وان ينقد وينتقد ما جاء به الاولون وان يحاول ان يصبح مبدعا او مبتدعا فكل محدثة بدعة . . . ، وهكذا تدرج التقليد من كونه صفة انتجتها ظروفنا الجغرافية الى صفة محترمة ومبجلة ومقدسة ومدان وملعون كل من يخالفها او يتمرد عليها ، مما عزز من تجذرها ورسوخها في الشخصية العربية حتى استحوذت عليها بشكل كامل ، لذلك اصبحنا نقلد الاخرين في كل الاشياء من اكبرها الى اصغرها وحتى في التفاهات والسفاسف .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اضطرابات في حركة الطيران بفرنسا مع إلغاء نحو 60 بالمئة من ال


.. -قصة غريبة-.. مدمن يشتكي للشرطة في الكويت، ما السبب؟




.. الذكرى 109 للإبادة الأرمينية: أرمن لبنان.. بين الحفاظ على ال


.. ماذا حدث مع طالبة لبنانية شاركت في مظاهرات بجامعة كولومبيا ا




.. الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق بشأن المقابر الجماعية في مستشف