الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل عقلنة مفاهيمنا الثقافية

نبيل عودة
كاتب وباحث

(Nabeel Oudeh)

2017 / 4 / 16
الادب والفن


من أجل عقلنة مفاهيمنا الثقافية
نبيل عودة

إتهمني بعض المثرثرين شعرا ونقدا بحوار في برنامج ثقافي بالراديو ، باني فقدت البوصلة ، ولم اعد أجاري عصري ومن هنا نقمتي على الإبداعات الحديثة ، خاصة الشعر.. الذي يملأ صحافتنا.
ساءني أني لم أعط الفرصة لأفهم تهمتي وأقدم دفاعي ... كنت قد شاركت بمداخلة قصيرة عبر التلفون، انتقدت فيها استعمال اصطلاحات لم تنشا القاعدة المادية لتصبح جزءا من ثقافتنا وخاصة مصطلح الحداثة، الذي صار شرشوحة من كثرة استعماله دون فهم الواقع الثقافي والاجتماعي الذي نشأ به هذا الاصطلاح، وإطلاقه على كل نص أدبي غير واضح ومفكك. اتهمني احدهم ان مشكلتي اني لم استوعب الحداثة وتفاعلاتها في الأدب الحديث ، وكل ما نجحت في إيصاله للزميلين ، الضميرين المستترين ، بأن مفهومهما للحداثة عقيم ، وإذا كانت الحداثة تعني قطع التواصل بين القارئ والأدب ، فبئس مثل هذه الحداثة ... ولن أصوت لها في الانتخابات !!
اعترف ان الزميلين تكلما معي باتزان وهدوء ، ولا أريد كشف الأسماء لأن ما يهمني ليس الأشخاص بل الجانب الفكري والثقافي من الموضوع. ...
عدا قلة من المبدعين يكاد يكون غياب كامل للأعمال الأدبية المثمرة على صفحات الجرائد ... واعترف أني حين عملت نائبا لرئيس التحرير ومحررا أدبيا في صحيفة "الأهالي " رفضت بقوة نشر اي عمل أدبي مما سماه الزميلان وراء الأثير بالحداثة الأدبية او الشعرية .
إقرأوا مثلا هذا المقطع:
" سأحمل حبك سرا صغيرا
يؤانس قلبي الحزين الكسيرا
فهل تقبلين ،
بقلبي الكسير
يتوج بين يديك أميرا؟!"
هذه احدى قصائد الشاعر حسين مهنا ( من قرية البقيعة الجليلية ) نشرت في العدد الثالث من مجلة "المستقبل " ( مجلة فكرية ثقافية شهرية أصدرها وحررها نبيل عودة بالتعاون مع الكاتب والمفكر المعروف سالم جبران )
من يستطيع ان يقول أنها ليست شعرا ؟!
وفي قصيدة أخرى نقرأ هذا المقطع :
"وتمر يداي
على جيدك المرمري
فيزهر ورد وجنتيك
وينطق صمت
يفوق بيان الكلام
وسجع الحمام
وهمس المطر.. "
هذه مقاطع لو طاوعت نفسي لنشرتها كاملة لأدلل على ما افهمه من الحداثة ، وعلى ما لا يفهمون .. إقرأوا معي هذا التجلي لحسين مهنا :
"سألتك : لا تقتلي الشعر عمدا
بطول التمني
وبعد الرجاء
ولا تتركيني أسيرا لطيفك هذا المساء
وكل مساء
تعالي فما زال في القلب بعض اخضرار
سينزف وردا
يعيد إلى الحب ما ضيعته الدروب
وللشعر قيثارة الحب والكبرياء "
هذا الشعر يحمل من الحداثة بمفهومها الأدبي أكثر من كل القصائد الغيبية لغة ومضمونا. والأهم انه لا يحتاج الى جهابذة النقد لتحليله ، لأنه شعر يتدفق كالماء بلا ضجيج، ويتغلغل بجماله ورونقه في وعي القارئ وأحاسيسه. وهو ، وهذا الأساس ، لا يحتاج الى مثقف عبقري ( نابغة عصره ) ليفهمه ويشرحه للقراء المساكين ،إذ ما قيمة الشعر حين تصبح قراءته مثل حل لغز الكلمات المتقاطعة؟...
أردت أن استعمل بعض "الجواهر" التي تقصفنا بها "الفانتومات الأدبية" ب "أم القنابل" ، ولكني لا اقصد التشهير ، وأخاف ان تبدو مقارنتي بين شاعر حقيقي مثل حسين مهنا ، وناظمين بلا شعر .. تشهيرا فيهم ، أو إقلالا من قيمة شعر حسين مهنا . المقارنة لا تجوز إلا بين أنواع من نفس القيمة ، واترك المقارنة للقارئ الذي ما زال يجرؤ على المغامرة ...إذا تبقى لدينا مثل أولئك القراء ولم "يطفشوا" بعد .
تيار الحداثة او تيار ما بعد الحداثة ... هي تيارات تستعمل في ثقافتنا خارج مسارها . الحداثة هي بجوهرها عملية تنوير اجتماعي وثقافي وفكري. مجتمعنا ، وكل المجتمعات العربية عامة ، ما زالت على ضفاف الحداثة، وعدا بعض المثقفين ... وقليل من الأدباء المبدعين ، ما زلنا اجتماعيا وفكريا نعيش في مجتمعات تحت سيطرة او تأثير وتحكم الفكر الأصولي المتطرف . وحتى على المستوى السياسي تتحكم بمجتمعاتنا قوى تفتقد للتوازن السياسي والفكري والثقافي . السيطرة للأسف ليست لحركة الإصلاح والتنوير العربية، إنما للقوى الظلامية ... ما زلنا نبحث ونتعارك حول السماح للمرأة بقيادة السيارة ... ولا نقبل الآخر المختلف، نفجره إذا استطعنا، ونعاني من الرقابة الفكرية المتخلفة على الأعمال الأدبية، ويصل الأمر الى سجن المبدعين ومصادرة أعمالهم، وما زلنا نعلم طلابنا في الهندسة ان "المتوازيان لا يلتقيان إلا بإذنه تعالى" (حتى بإذنه لا يلتقيان!!) ، وما زلنا نطالب بإصلاح التعليم وتحرير عقل الطالب من أسلوب التلقين والإيمان الأعمى بلا وعي، ومجتمعاتنا ما زالت في أدنى مستويات الفقر دوليا، وتعاني من انتشار هائل للأمية ،خاصة بين النساء، هل يمكن تربية جيل جديد متنور بأحضان أمهات جاهلات؟
ونتحدث عن الحداثة ... وما بعد الحداثة ؟! نملأ صحافتنا شعرا لا شعر فيه ونقدا لا نقد فيه... هذا ليس دليل الحداثة إنما دليل انفصام ثقافي مع مجتمعنا ، بدل ان نوقفه نزيده اتساعا ب " العبقريات الفريدة " التي تطغى على النشر . ان ثقافة الحداثة أعزائي الأدباء لا تجيء ببضع خربشات شعرية او نثرية او نقدية ،إنما هي معركة تنوير ما زلنا على ضفافها ... استغرقت أوروبا مئات السنين من الصراع مع الأصولية المسيحية للقرون الوسطى ، ومع ذلك ما زال الغرب يعاني من أزمة معنى الحياة ومعنى الوجود ، مما يعني ان التطور الاقتصادي والأكل والمشرب والمتع الجسدية ، ليسوا كل شيء ، وهي مشكلة تختلف مع مشكلة الإنسان العربي الذي ما زال يبحث عن إشباع جوعه أولا.
ان المحاولة للتقدم دون فهم أهمية عصر التنوير (الرينيسانس)الذي حرر الإنسان من التخلف الاجتماعي والعلمي والقوى الظلامية ، ووضع مستقبله بين يديه، وغير أولويات حياته ، وحرره من القيود على تطوير الفكر والعلوم والاقتصاد والثقافة وضاعف أوقات راحته وقدراته الاستهلاكية بمختلف أنواعها ، هي محاولة عقيمة ومحكومة بالفشل .
أصبح مصطلح الحداثة تبريرا لغموض الكثير من النصوص الأدبية وغياب المضامين منها، وأصبح الغموض تقليعة نعلق عليها كل غسيلنا الأدبي الوسخ وكل عاهاتنا الإبداعية ونبرر بها أزمتنا الأدبية بمصطلح الحداثة.
ماذا تعني الحداثة؟ ولماذا تطورت في أوروبا وليس في شرقنا التعيس؟
ان الحداثة هي وليدة مجتمع بشري متطور اقتصاديا ، ثقافيا، فلسفيا وعلميا، وهو ما لم تنشا له قاعدة مادية في ثقافتنا ومجتمعنا، وما كان للحداثة ان تنشا بدون الثورتين البرجوازية والليبرالية، وبدون الفكر الثوري الذي أطلقة كارل ماركس..
ان الثقافة لا تعني الإبداع الأدبي فقط، بل أيضا إنتاج الخيرات المادية التي يحتاجها الإنسان. رجاء لا تقحموا الحداثة وانتم تجهلون نشأتها، تجهلون القاعدة المادية والاجتماعية التي شكلت مضامينها، وتجهلون الفكر والنظريات الفلسفية التي انطلقت منها.
إن مفاهيم الحداثة ليست مميزا للأدب فقط ... وهذا ما يجب أن نستوعبه قبل ان نثرثر ونضفي الحداثة على أعمال غير ناضجة!!
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حكاية عن شخص مسخرة اسمه هواش
نبيل عودة ( 2017 / 4 / 16 - 04:26 )

اتفق محمد ابو هزاع هواش وزوجته من أول يوم بعد الزواج ان يكون لكل منهما علبة خاصة ، توضع فيها حبة حمص كلما ارتكب احدهما خيانة زوجية.. وان يجري بعد عقدين من الزواج، فحص عدد حبات الحمص في علبة كل منها، لمعرفة من كان مخلصا اكثر.
مضت الأيام .. وحان وقت الفحص.
احضر الهواشان علبتيهما.
قال محد هواش ساكون البادئ بكشف عدد حبات الحمص في علبتي.
فتح عليته وافرغها.. كان بها ستة حبات حمص فقط.
قال مبررا: هل تصدقين يا زوجتي اني وضعت تلك الحبات ليس لأني خنتك، بل لأني اشتهيت ممثلات أمريكيات ومارست الجنس معهم بأحلامي. والآن افتحي علبتك لنرى من كان مخلصا أكثر.
فتحت الهواشة علبتها وكانت فارغة تماما ...
صاح الهواش سعيدا: الله اكبر..لم تشتهي في حياتك رجلا غيري؟
اجابت وهي عابسة: يا عزيزي، من أين تظن كنت احصل على الحمص لأصنع لك كل اسبوع علبة مدمس الحمص التي تحبها؟


2 - تحيه طيبه
ادم عربي ( 2017 / 4 / 16 - 12:01 )
الانسان ابن مجتمعه والشعر تحديدا مرأة المجتمع ، من خلال دراستي للنصوص الشعريه الثلاث في ورقت رايت ثلاث مستويات للثقافه ، وهذا يؤكد اننا ما زلنا على هامش الحداثه


3 - الى آدم
نبيل عودة ( 2017 / 4 / 16 - 12:26 )
أستاذ آدم ملاحظتك سليمة على العموم.. الحداثة هي نتاج مجتمعات سبقتنا مع الاسف في التطور الحضاري.. العرب في عصرهم الذهبي في بغداد والأندلس كانوا منجزين للحداثة.. اليوم لأسباب عديدة لا مجال للخوض فيها بهذه العجالة بتنا في آخر الركب. لكن هذا لا ينفي وجود مثقفين حداثيين وهم عمليا طليعة مجتمعهم، مثلا في الشعر نجد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب اول من اقتحم الحداثة الأدبية بشعرهم. لكن الحداثة ليست أدبا فقط، انما اقتصاد ومجتمع وثورة علمية تكنولوجية ورفاه اجتماعي... الخ. والأدب او الجانب الروحي من الثقافة نجده لدى مثقفين وادباء
يتواصلون مع الحضارة والثقافة العالمية.
السؤال الذي يشغلنا: متى نجدد حضارتنا ؟ او متى يعود العرب الى التاريخ ؟


4 - تحيه طيبه
ادم عربي ( 2017 / 4 / 16 - 14:11 )
متى نجدد حضارتنا؟
لا شك ان التخلف مادي بامتياز ، وهو ما يبقي مكبلات العقل البشري المنسجمه مع طريقة الانتاج ، ان التحول الى الافكار الغيبيه هي النتيجه الحتميه التي لا تقبل الشك لطبيعة الانتاج المادي لاي مجتمعات ، ولتدعيم وجهة نظري هذه الافكار ليست منتشره فقط في بلاد العرب ، وانما ايضا في البلدان المتشابه في نمط الانتاج والاقتصاد ، وها هي دول العالم الثالث ، سواء في افريقيا واسيا وامريكيا اللاتينيه ، وهو تشابه قائم رغم خلاف الدين - مسيحي ، مسلم ،سيخي ، بوذي ، هندي .........الخ .
ان الفكر هو نتاج للواقع الاقتصادي، لكن عودا للنخبه فقد نجد فكرا تنويريا يخرج من مسجد ااو كنيسه وهذه تُمثل استقللاليه الافكار عن اللوااقع المادي ، لكنها لا ترق للتعميم .


5 - الى آدم عربي
نبيل عودة ( 2017 / 4 / 16 - 16:55 )
، طبعا لا يمكن انكار وجود فكر متنور وحداثي رغم الواقع الاجتماعي - اقتصادي .
اضافة قيمة جدا استاذ آدم..

اخر الافلام

.. أشرف زكي: أشرف عبد الغفور كان من رموز الفن في مصر والعالم ا


.. المخرج خالد جلال: الفنان أشرف عبد الغفور كان واحدا من أفضل ا




.. شريف منير يروج لشخصيته في فيلم السرب قبل عرضه 1 مايو


.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح




.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار