الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


داعش في العالم: الآثار الحقوقية والسياسية لظهور كائن مجنون

ياسين الحاج صالح

2017 / 4 / 18
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


من باب تنظيم التفكير، تميز هذه المقالة المعنية بتقصي أثر صعود داعش على الأوضاع الحقوقية والسياسية في المجال العربي، والعالم، بين ثلاث مستويات لذلك الأثر: مستوى أول يخص أوضاع الواقعين تحت سلطة داعش مباشرة، ومستوى ثان يتصل بنمط تفاعل الحكومات الإقليمية مع هذا الصعود، ثم مستوى ثالث يتمثل في تغيرات سلوك القوى الدولية النافذة بفعل صعود الكيان الإرهابي. على أن المقالة ستبدأ بمحاولة رسم ملامح أولية لداعش، بما يمهد للاستدلال على الأوضاع الحقوقية والسياسية المراد تناولها.

في أصول داعش وبنيتها
تولدت داعش من التقاء منظمة القاعدة بالبعثية العراقية، السُّنِّية، المتماهية بنظام صدام حسين، وذلك في المختبر العراقي بعد الاحتلال الأميركي للبلد عام 2003. القاعدة ذاتها، على نحو ما تخلقت في المختبر الأفغاني، هي نتاج التقاء الوهابية السعودية مع القُطبية المصرية، على نحو يرمز إليه قائدا القاعدة، السعودي أسامة بن لادن ووريثه المصري أمين الظواهري. من الوهابية التي نشأت في نجد في القرن الثامن عشر أخذت القاعدة شكلاً أولياً من عقيدة الحاكمية الإلهية ورفضاً لـ"الوسائط" بين الحاكم الإلهي ومخلوقه البشري، أي عملياً للفن والثقافة والتاريخ، ومنزعاً قتالياً، وتمركزاً مفرطاً حول الإسلام، السني منه بطبيعة الحال، ومن القطبية المصرية أخذت نزعة الخروج على الحكم الموصوم بالجاهلية، وصيغة أكثر نجازاً من الحاكمية الإلهية، التي تعني اختصاص الله بالتشريع، وتكفير الدول المجتمعات التي لا تحتكم إلى "ما أنزل الله". ومنهما معا تشكل الميل المعاصر إلى العيش داخل الدين، داخل عالم مفرط التنظيم والحصر من الأوامر والنواهي الدينية، وإرادة توسيع هذا العالم بالقوة، "الجهاد"، ليشمل بلدان المسلمين، والعالم ككل يوماً. وهو ما لم يلق إلا التعزيز من حقيقة أن العيش في "الدنيا" المعاصرة لم يوفر لمسلمين كثيرين، وفي الربع الأخير من القرن العشرين على نحو خاص، كرامة أو عدالة، أو رسوخاً في العالم.
وكي ندرك أهمية نقطة "العيش في الدين" تفيد الإشارة إلى أن تاريخ الإسلام خلال أربع عشر قرنا هو، في وجه أساسي من وجوهه، تاريخ امتلاك المسلمين لدينهم في غيبة أية سلطات إسلامية أو بعيداً عنها وخارجها، وبالنفور منها غالباً. كانت هذه في الغالب سلطات خارجية، تنهب وتُخضِع، وقلما يتعرف عموم المسلمين على شيء يخصهم فيها. وكان امتلاك المسلمين للدين يعني أن يُحوّروه ليناسب حياتهم، وأن يعيش الدين في داخل الناس، وهذا خلافا للدين/ السلطة الذي يعيش الناس في داخله، والذي تمتلكه السلطة وتقرر صحيحه، وتحكم الناس به. الوجهة التاريخية للإسلاميين جميعاً، والسلفين الجهاديين أكثر من غيرهم، هي نزع الدين من الناس وإخضاعهم له كسلطة خارجية.
في العراق، تلونت القاعدة بلون عراقي، يضاف إلى لونيها النجدي والمصري، مصدره ضباط مخابرات وجيش صدام حسين من ذوي الأصول السنية الذين وجدوا أنفسهم مقصيين خارج الحكم، مجردين ليس من امتيازات غير عادلة فقط، وإنما حتى من فرص العمل والمشاركة في الحياة العامة في العراق الجديد، وهذا في سياق طائفي صاعد يُحقِّر مرحلتهم وبيئاتهم. وتقاطع هذا الشرط مع خميرة القاعدة التي سهل تسربها إلى البلد حل الدولة والجيش العراقي هو ما سهل اندفاعهم في اتجاهات متشددة، كان السير على دربها قد بدأ من تسعينات القرن العشرين على يد صدام حسين شخصياً. كان البعثية العراقية وقتها توغل في الانحطاط، متجردة من أي مضمون اجتماعي تحرري، ومكتسبة، بالمقابل، نزعات عرقية أو عنصرية عربية، ونكوصاً بدويّاَ على الصعيدين الاجتماعي والقيمي.
وأسهم في تغذية القسوة الوحشية التي لم تكن غريبة على أجهزة نظام صدام واقعة وفود مجاهد أردني سفاح بكل معنى الكلمة، أبو مصعب الزرقاي الذي أعلن دولة العراق الإسلامية عام 2006. بعد سيرة جانحة وتجربة سجن، تدرب الرجل على "الجهاد" في أفغانستان، ومنها جاء إلى العراق بعد الاحتلال الأميركي، وكان يذبح بيديه رهائن غربيين وغيرهم، ويهاجم مساجد شيعية ويقتل كل مرة العشرات من الشيعة، على نحو أثار حفيظة أسامة بن لادن نفسه.
وقادة داعش اليوم هم من جيل كان شاباً في سنوات صدام، ألِف قسوة عالمه، ثم خبر قسوة ممزوجة بالكراهية على يد المحتلين الأميركيين والحكام الشيعة الجدد. إنهم سليلو عالم لم يعرف سياسة ولا ثقافة ولا بهجة عيش، ولدوا في سبعينات القرن العشرين حين كان العراق يغرق تدريجياً في الظلام السياسي، وفي ريوع النفط وفي الحروب. وخرج غير العراقيين من جماعة داعش من بيئات لا تختلف كثيراً، أعمارهم تتدنى عن الخمسين، ويبدو أن أكثر القادة أربعينيون وثلاثينيون. وفي سيرة كثيرين منهم تجارب سجن.
ويجمع بين الجذرين القاعدي والصدامي المخيلة الامبراطورية الإسلامية التي جرى تعريبها في القرن الماضي، وكانت تعممها المدارس ووسائل الإعلام، ولم يطلها نقد جدي في أي وقت. أفكار الفتح والقوة والمجد الحربي والاستيلاء على البلدان والأراضي اعتبرت غالبا مصدر فخر قومي عربي (بعثي بخاصة) وديني إسلامي، "قدر الأمة" بصورة ما، وليس شيئاً من عوارض التاريخ المحرجة. داعش والقاعدة ذاتها هي قوة توسع وسيطرة حربية وفرض سيادة دينية في مواقع سيطرتها.
وعلى نحو ما تظهر في سورية على الأقل، حيث هي أكثر وحشية، ربما لكونها خارج بيئتها وشبكات روابطها الاجتماعية، تجمع داعش بين المنظمة الإرهابية والدولة الشمولية والاستعمار الاستيطاني. تأخذ المنظمة الإرهابية من جذرها القاعدي التمرد على العالم، ليس كقوى ودول، ولا حتى كقوانين دولية تعكس تفضيلات الأقوياء النافذين ومصالحهم، ولكن أيضا كمفهوم لمجال للإنسان. العالم ليس مصلحة عامة، يمكن الاعتراض على نظامه في كل وقت باسم هذه المصلحة بالذات، ومن أجل تعبيرات أكثر عدالة وديمقراطية عنها. على العالم أن يخضع لنظرة المنظمة وقواعدها كي يكون مقبولاً. تستوي في هذه النظرة المنظمات الإسلامية مع المنظمات الإرهابية اليسارية في جيل سابق. لكن داعش، وبحكم العنصر المخابراتي الصدامي في تكوينها، هي أقرب إلى جهاز مخابرات كبير منها إلى منظمة إرهابية ("جبهة النصرة"، بالمقابل، منظمة إرهابية أكثر)، وهي لذلك معادية للمجتمع الذي تسيطر عليه، وليس فقط للدولة ومن يمثلونها. ومنهجها في الحكم يبدو موروثاً عن منهج نظام صدام، البدء بالقتل من باب كسر عين وظهر المجتمع، والحيلولة دونه ودون أي مقاومة. معلوم أن من أول ما فعل صدام وقت أزاح أحمد حسن البكر عام 1979 قتل العديد من رفاقه في قيادة حزب البعث الحاكم، وهذا في سياق اجتمع فيه أيضا البطش بالشيوعيين العراقيين، وبحزب الدعوة الشيعي، ثم بعد حين، وبموازاة الحرب مع إيران، حرب "الأنفال" ضد الكرد، ومجزرة حلبجة الكمياوية 1988.
ومن هذا الباب، ولكن أيضاً على أرضية عقيدة الحاكمية الإلهية التي صاغها أبو الأعلى المودودي في أربعينات القرن العشرين، متأثرا بنموذج الدولة الشمولية الشيوعي والنازي، تعرض داعش سمات حكم شمولي، لا فضاءات عامة فيه، ولا أجسام وسيطة، ولا فصلاً بين الحياة الخاصة والحياة العامة. ومثل كل الدول الشمولية يجري تسخير التعليم للتلقين العقدي، وتجري عسكرة التعليم وإعداد الصغار ليكون جنوداً للدولة وأداة لإخضاع السكان في الداخل والتوسع في الخارج. ومثل النظم الشمولية لدى داعش عقيدة "علمية" معصومة، السلفية الجهادية، ويسميها أهلها "الإسلام"، ويفرض على السكان العيش في عالمها المغلق، مع الحرص على ألا يتسرب إليهم تلوث من الخارج. من هنا التحكم بالاتصالات، وقد ألغت داعش مستقبلات الإنترنت المستقلة في الرقة في تموز 2015، وصار الاتصال بالشبكة يمر حصراً عبر مراكز إنترنت مراقبة ومُتحَكَّم بها كلياً. يجري تفريغ اللغة أيضاً من الخصوصية، وتفرض قوالب لغوية أجنبية عن تجارب الناس وحياتهم، على نحو كان مميزاً للاتحاد السوفييتي وما شابهه من دول، ولسورية البعثية ذاتها.
وتتصل بالشمولية خاصيتان إضافيتان: أولاهما الحركة المستمرة والصراع المستمر و"الثورة" المستمرة ضد الحياة العادية، ومن ذلك الإعدامات المشهدية والاستعراضات القتالية التي من أهدافها إبقاء المحكومين مرتاعين، مكسوري العزائم. هذا المهرجان الدائم، استعراض السلطة الدائم لنفسها أمام أنظار المحكومين، شرط وجود وشرط فاعلية عند الدول الشمولية. وثانيتهما الحرب والتوسع الخارجي، والرفض المبدئي للسلم. يمكن إجمال هذه الشرطين، وقد أشارت إليهما معا حنه آرنت في كتابها عن "أصول التوتاليتارية"، بالتوسع: التوسع الداخلي والتوسع الخارجي. الشمولية، في رأيي، امبريالية داخلية تتسع نحو الداخل، على حساب المجتمع وأجساد الناس، وتتوسع في الخارج حيثما أمكنها. وأسطورة الخلافة الإسلامية التي تُعِزّ المسلمين وتشفي غليلهم وتذل خصومهم هي العقيدة المشرعة لهذا الكيان مثلما كانت الشيوعية هي العقيدة المشرعة للاتحاد السوفييتي.
وفي المقام الثالث، داعش استعمار استيطاني قائم على التوسع والإحلال، مثل إسرائيل وخلافاً للفرنسيين في الجزائر الذين لم يطردوا الجزائريين من أرضهم. الدواعش ليسوا أهالي إقليم أو أو سكان دولة، بل هم كيان معولم، بالغ الحداثة والاصطناع، طوعي التكوين وليس عضوياً ووراثياً مثل العشيرة والطائفة، كادرها العسكري والديني بخاصة وافد من عشرات البلدان. وهي في الوقت نفسه تقوم على التخلص من غير الصالحين من السكان، إن بالتهجير أو القتل. والأمر يتعلق في سورية بظاهرة تبدلات سكانية كبيرة، هي بمثابة تطهير عرقي مع الاستيلاء على أملاك المهجرين والمقتولين وإسكان المستوطنين المجلوبين مكانهم. جرى الاستيلاء على بيت أسرتنا في الرقة في عام 2014، وأسكن فيه "مجاهد" من أوزبكستان، ومثل ذلك كان مصير بيت أخي، وبيوت أصدقاء معارف كثيرين.

أحوال السكان في دولة داعش
تلقي المعطيات والتقديرات المذكورة أعلاه فكرة أولية عن أحوال السكان في ظل حكم داعش. هنا معطيات إضافية.
بداية، هناك فصل صارم بين الجنسين، مع حظر خروج المرأة من بيتها وحيدة، فإن كان معها مرافق وجب أن يكون من "محارمها". النساء يرتدين، حصراً وقسراً، لباساً أسود مع نقاب أسود مسدل على وجوههن، ويجب أن يكون مضاعفا فلا يشف عن وجوههن. وهو ما يطبق أيضا على غير المسلمين من "أهل الكتاب"، أسرة أرمنية أو أسرتان، مسيحيون ديناً، باقون في المدينة. الرجال ملزمون بإرخاء لحاهم، ومحلات الحلاقة الرجالية ممنوعة. ليس للرجال شكل قياسي، لكن الطبيب الستيني الذي كان يرتدي ربطة عنق وجد نفسه ممسوكا من ربطة عنقه على يد داعشي تونسي في عشرينات عمره، كان يزعق في وجهه: لماذا تضع رسنا في رقبتك، شيخ؟
التعليم ألغيت منه الاجتماعيات والعلوم الطبيعية، ويقتصر على مواد دينية متنوعة وعلى العربية والحساب، وبالطبع التدريب الديني العسكري. عمليات القتل يتواتر أن تجري في ساحات عامة بحيث يراها أكبر عدد من الناس. وأشكال التعذيب مبتكرة، وتستعاد أشكال قديمة من القتل مثل قطع الرؤوس الصلب والرمي من مواقع مرتفعة، وأشكال جديدة أيضاً من القتل والدفن: رمي ما قد يبلغ 3000 شخص في تجويف أرضي سحيق شمال الرقة، اسمه الهوتة، وبعض من رميوا فيها كانوا أحياء.
وقد سبقت الإشارة إلى قطع الاتصالات غير المراقبة، والاستيلاء على المساكن.
لا يعاني الناس عموماً من شح في الطعام، لكنهم لا يتمتعون بأية حقوق سياسية أو اجتماعية، ولا حتى حقاً مضموناً في الحياة. عالم داعش خارج الحق، وقتل الناس أسهل من شربة الماء عند الدواعش.
على أن الملمح الأبرز لداعش يتصل بالحياة الدينية. للوهلة الأولى يبدو أن داعش انتصار الإسلام وسلطانه، أنها كلها إسلام بإسلام. في واقع الأمر تحول الإسلام إلى أداة حكم، أو أداة الحكم الرئيسية، مع كونه في الوقت نفسه الأساس اللغوي الإيديولوجي لعالم داعش. الإسلام كإيمان شخصي حي وكعلاقة اجتماعية مستقلة بين الناس يزول كلياً لمصلحة الدين كسلطة وقوة خارجية. وبينما قد يبدو أنه جرى تأميم الدين، فإن ما يجري فعلياً هو العكس تماماً: نزع ملكية الدين من "الأمة"، عموم المسلمين، وامتلاكه الخاص من قبل السلطة الداعشية. وبعد أن كان الدين يعيش داخل المسلمين المؤمنين، يفرض على الجميع اليوم أن يعيشون قسراً داخل الدين كسلطة خارجية إكراهية، أي داخل العالم اللغوي الرمزي السياسي الذي تفرضه داعش. وهذا عالم ثابت لا يتغير ولا يتأثر بمر الزمان، فقاعة يختنق الناس في داخلها. سجن. وحماية هذا السجن هي حماية سلطة داعش.
ومثلما لا حقوق في هذا العالم، لا سياسة أيضاً، ولا ثقافة ولا اجتماع، ولا إيمان. وهو لذلك مناسب للمأفونين من مافيات الدين والسلطة ومجانينهما، من طغاة مؤلهين لأنفسهم (نفي الوسائط يفتح الباب لتأله الناس لا لأنسنتهم). هنا الدرجة صفر من الإنسانية، على نحو يتجاوز أمثلة الأنظمة الشمولية التي عرفها القرن العشرين، ليس لكونه يجمع إلى الشمولية التنظيم المخابراتي والإرهابي والاستعمار الاستيطاني الإحلالي فقط، وإنما كذلك لأننا حيال شمولية دينية، لم يكن لها مضمون تحرري في أي وقت، وأفقر ثقافياً بما لا يقاس من الشموليات العلمانية، وأدنى قدرة علمية وتكنولوجية بما لا يقاس. وهذا المعطى الأخير إن كان يحد من عدد ضحايا داعش في المحصلة، فإنه لا ينال من طاقتها الإبادية الكامنة. ثم إن هذا الضرب من الشمولية، حتى على المستوى الديني ذاته، يستصلح صيغة من الإسلام السني، الوهابية، هي الأشد فقراً وعدوانية وسلطوية، وبدائية.
والواقع أننا بمجرد استعراض هذه الأوجه من الحياة في ظل كيان داعش نجازف بأن نعتبرها موضوعا للمعرفة مثل غيره، معقولاً مبدئياً، فيفوتنا الإحساس بمدى جنون هذا الكائن ولا معقوليته، ويفوتنا أكثر الإحساس بهول ما نحن فيه، أعني السوريين أساساً، لكن كذلك عموم المسلمين الذين لا يستطيعون إنكار ضرب من الأبوة لهذا الغول الفتاك الذي يريد أن يكون أباهم كلهم.
داعش نتاج جنوننا، أو لنقل إنها وليدة قلة العقل والعدل في مجتمعاتنا الحديثة والمعاصرة. إنها استحضار الماضي الذي لا يصلح في حاضرا غير صالح. أرواح الماضي حين تظهر في الحاضر تظهر على شكل أشباح أو أرواح شريرة، شياطين. داعش من هذه الكائنات التي حولت ما يفترض أنه خير المسلمين العام، دينهم، إلى شر عام، قوة اغتصاب وقتل وإكراه وكراهية وكذب وسرقة.
من وجه آخر داعش نتاج العالم الحديث والمعاصر، مراكز القوة فيه في الغرب والشمال بخاصة، في تجنيننا عبر رعايتها أوضاعا وممارسات غير عادلة ولا عقلانية، وهي الصانعة لمعايير العقل والعدل في عالم اليوم.
ليس هذا من باب توزيع المسؤوليات بالقسط، فالصحيح من وجهة النظر العملية أن ننطلق من أن هذا الجنون الديني نتاجنا الخاص، نتاج قصورنا وخورنا، وأن يجري الشروع الآن في مواجهة أوجه قصور عقلنا وعدلنا دون انتظار تغير العالم أو تغيرٍ في العالم. تغيير حالنا، ونحن جزء كبير من العالم، هو مساهمتنا في تغير العالم. هذا من باب تحمل المسؤولية، وإظهار النضج والجدية في مواجهة شرنا وشياطيننا.
لكن لعلنا لا نخطئ، من وجهة نظر التحليل، بالقول إن كيان داعش المعلوم هو نتاج معولم، نتاج الغرب والشرق، والحاضر والماضي، وإن العالم الذي ظهرت داعش في ظله وشكلت نموذجا جاذباً في مناطق متعددة في آسيا وافريقيا، واجتذبت أوربيين وأميركيين وروساً، هذا العالم ليس هو الحل لظواهر مجنونة مثل داعش. هو نفسه مجنون بصورة ما، وإن كان جنونه مغايراً لجنوننا ونظامه من نظام عقله. داعش جنوننا نحن، لغتها من لغتنا و"عقلها" من عقلنا، وضميرها من ضميرنا.
معلوم على كل حال الدور الأميركي في بناء الجذع الأفغاني لحركة الجهاد المعاصرة. ثم في تهيئة مختبرها العراقي. وقبل كل ذلك، هناك جهاز التخمير السعودي والخليجي الدائم: المال الريعي الكثير الذي يصرف بسفه متعدد الوجوه، منها سفه موائد القمار، وسفه شراء سلاح لا يلزم يشغل معامل الأميركيين والأوربيين، وسفه اقتناء الأشياء وحيازة الملكيات الكبيرة، وليس من صنف مغاير السفه الديني، تمويل حركات دينية مجنونة مثل القاعدة، التي هي جذع داعش.

داعش والدولة الأسدية
زود صعود داعش في سورية الدولة الأسدية بقضية تتجاوب مع غرائزها الأساسية، وأولها غريزة حفظ السلطة، ومحاولة نيل شرعية دولية لها، أعني شرعية رضا الأقوياء، تمييزاً عن الشرعية المستمدة من رضا السوريين أو المبنية عليه. وعلى الفور تقريباً انعكس ظهور داعش وصعودها بضرب من إعادة اعتبار دولية جزئية لدولة الأسديين، وتحديداً من قوى بدت لبعض الوقت أميل إلى نزع الشرعية عن تلك الدولة. كان انقضى أكثر بقليل من أربع شهور على استقلال "داعش" عن القاعدة وقت وقعت المجزرة الكيماوية في غوطة دمشق في 21 آب 2013، وسقط خلال ساعة واحدة نحو 1500 من السوريين، ثلثهم أطفال. وبعد تهديدات مترددة بمعاقبة النظام عسكريا، تمسك الأميركيون بمخرج روسي يقضي بتسليم النظام سلاحه الكمياوي. كان هذه الصفقة المشينة ترخيصا بقتل السوريين بأسلحة أخرى، سهّل من أمرها وجود كائن مستحيل مثل داعش. بهذا المعنى أنقذت داعش الدولة الأسدية، وعلى ثلاث مستويات لا على مستوى واحد. من جهة أضفت طابعاً نسبياً على جرائمها ما دام هناك مجرم آخر، جرائمه "سِكسية" أكثر فوق ذلك، وتحرص داعش نفسها على سِكسيَّتِها بصورة تحيل إلى دوافع استعراضية واستعرائية قوية في تكوين الدواعش، لعلها تضمر شعوراً متأصلاً بالضعف وقلة الشأن (الأسديون بالمقابل متكتمون في جرائمهم، ويثابرون على إنكارها حتى حين لا يشك أحد في العالم بأنهم مرتكبيها)؛ ومن جهة ثانية، تراجعت الضغوط الدولية على دولة الأسديين، وقد كانت ضغوطاً مترددة في الأصل بفعل الدور الأمني المهم الذي تقوم به الدولة، لإسرائيل بخاصة؛ ومن جهة ثالثة وأهم وجد جمهور الثائرين أنفسهم في وضع يزاد سوءاً: لا يستطيعون خوض مواجهة على جبهتين: النظام وداعش (لا يقدرون)، ولا يستطيعون خوض مواجهة على جبهة واحدة: داعش وحدها، أو النظام وحده (وإلا خسروا المجتوى القيمي لقضيتهم). وحتى لو تركوا داعش بحال سبيلها، فإن داعش، وهو قوة توسع داخلي وخارجي كنا سبق القول، لا تتركهم بحالهم. هذا الوضع المستحيل قاد إلى تحلل ما كان بقي من الجيش الحر المُهمل، وإلى تآكل المعارضة السياسية السورية نفسها. كانت هذه تعرف نفسها بمعارضة الدولة الأسدية، مع ظهور داعش لم يعد هذا كافياً على الأقل.
وعبر كل ذلك وفرت داعش للنظام قضية، لدى القوى الغربية، والأميركيين بخاصة، استعداد طيب لتبنيها: مكافحة الإرهاب. في خطابه في تموز 2015 ذكر بشار الأسد الإرهاب مراراً وتكراراً، ولم يذكر داعش قط ولا القاعدة. كان ظاهراً أن الرجل الصغير يريد قولاً يخاطب كبار عالم اليوم: إن الإرهاب هو كل من يعترض على نظامه القاتل، وإنه هو شريك في محاربته!
ومعلوم أن الأوضاع الحقوقية والسياسية التي تقترن مع الحرب ضد الإرهاب هي أوضاع الاستثناء، مع كفالة دولية لاستباحة السكان. قد يقال إن لا حقوق للناس ولا سياسة في سورية أصلاً. نعم، ولكن لا ريب في أن اندراج الدولة الأسدية في ما يسمى الحرب على الإرهاب هو القوة الخفية وراء عدم رؤية التفظيع بالسوريين وقتل العشرات منهم كل يوم بالبراميل المتفجرة وتحت التعذيب والحصار والجوع.
وصحيح أنه لم يكن ينقص الدولة الأسدية ذرائع للتوحش في مواجهة محكوميها، إلا أن داعش وفرت أسباباً شرعية لغير طرف محلي للتشدد في التعامل مع السكان. الوحدات العسكرية لتنظيم الاتحاد الديمقراطي الكردي، وهو بمثابة فرع سوري لتنظيم بي كي كي الكردي في تركيا، يتوسل مواجهة داعش للتحكم بحركة السكان العرب وعموم غير الكرد، والكرد ذاتهم، في المناطق التي يسيطر عليها، وبخاصة في منطقة تل أبيض التي انتزعت في حزيران 2015 من يد داعش التي كانت هجّرت سكاناً كرداً واستولت على ملكياتهم، وقتلت منهم كثيرين. الذريعة الجاهزة لاعتقال أفراد، ولمنع عودة أسر إلى بيوتها، وسكان إلى قراهم، ولنهب ممتلكات سكان، هي العلاقة مع داعش، وهذا في غياب أي جهة يمكن الشكوى إليها أو السماح بدخول وسائل إعلام مستقل أو جهات حقوقية محلية أو دولية. وهذا مع وجود عدد كبير من المقاتلين الكرد من تركيا وغيرها، ومع مركز قيادة سياسي عسكري يوجه الأمور من جبال قنديل (بين تركيا والعراق)، والرؤوس الكبيرة فيه من كرد تركيا، ومع تنسيق عسكري مع قوات التحالف الدولي، الأميركيين على نحو خاص. للأمر تبعات وعواقب لا يستبعد أن تكون خطيرة في الشهور والسنوات المقبلة، وهذا في منطقة لم يسبق أن عرفت في تاريخ سوربة المعاصر صراعاً بين سكانها مختلفي المنابت الأهلية.
ومثل ذلك يقوم به "جيش الإسلام"، وهو تكوين سلفي جهادي، لكن له تبعية سعودية، عاصمته هي دوما في الغوطة الشرقية، وله قوات في القلمون وشمال سورية. هذا التشكيل أيضاً يتحكم بالمجتمع المحلي في الغوطة الشرقية بذريعة مواجهة داعش. ليست الذريعة مخترعة تماماً، فقد كان لدواعش بالفعل جيوب في المنطقة، لكنها صارت الحجة التي تتيح لزهران علوش ومسانديه السيطرة على المنطقة وضرب أية مجموعات عسكرية أو مدنية مستقلة عنهم، على نحو ما جرى فعلا في مواجهة "جيش الأمة" في مطلع هذا العام (وجيش الأمة تشكيل عسكري محلي، تكون من مجموعات لها الفضل في تحرير دوما من الدولة الأسدية في خريف 2012)، ثم إعدام ترهيبي في ساحة عامة في دوما لأحد الأبطال الشعبيين ضد النظام، أبو علي خِبِّيّة، مع أربعة آخرين، وهذا في انفصال عن استراتيجية واضحة لتوحيد القوى ومواجهة النظام. في شهر آب من هذا العام خرجت مظاهرات شارك فيها ألوف في بلدة سقبا القريبة من دوما منددة بتسلط ميليشيا "جيش الإسلام".
وفي غير النطاق المحلي وجدت قوى إقليمية، منها بخاصة مصر، مناسباً أن تدعم نظام بشارالأسد، سياسياً وبالعتاد العسكري، بذريعة داعش والإسلاميين. لدى نظام السيسي الذي تولد من انقلاب على حكم الإخوان في مصر، أسبابه الخاصة لدعم نظام قاتل، أهمها أنه بذلك يطبّع نفسه بذلك. وفي الوقت نفسه يجري تخويف المصريين من مصير سوري أو عراقي من أجل أن يستسلموا لحكم عسكري يطور ملامح فاشية. ولا ريب في أن داعش، ذلك المزيج من منظمة إرهابية واستعمار استيطاني إحلالي ودولة فاشية كما سبق القول، توفر ذريعة قوية لتضامن الطغاة.

داعش في العالم
على المستوى الدولي انعكس صعود داعش جفاء حيال الثورة السورية وتطلعات السوريين التحررية. الواقع أن هذا الميل كان سابقا لصعود داعش، ولظهورها ذاته، لكنه تلقى التعزيز القوي منهما. الوكالات الدولية المعنية بوضع اللاجئين السوريين شكت على الدوام من شح الموارد، وتدهورت أوضاع اللاجئين في لبنان والأردن على نحو يستفيد من ضعف التعاطف الدولي مع السوريين وقلة الاهتمام الدولي بما يصيبهم بفضل الوظيفة الأمنية الإقليمية للدولة الأسدية، ولظهور كيان داعش الإجرامي. وعملت أوربا على رفع أسوارها القانونية والسياسية والأمنية في وجه موجة اللاجئين السوريين المتصاعدة. أما موجة الاهتمام الحالية بوضع اللاجئين والتضامن معهم في بلدان أوربية (آب وأيلول 2015) فستكون عارضة في تقديري، وسيبقى الميل العام سائرا نحو التقييد ورفع الأسوار.
كان أكثرية السوريين اللاجئين، وعموم السكان في سورية، لا يملكون وثائق سفر، ومعلوم أن جواز السفر لم يكن حقاً روتينياً للسوريين، وكانت الدولة الأسدية تستخدمه استخداماً عقابياً. سياسة الأمم المتحدة والقوة الدولية كانت استمراراً لسياسة الأسديين في هذا الشأن من حيث أنها لم تحاول توفير حماية خاصة لمن تقطعت بهم السبل، أو تسهل تحركهم بين الدول. ولي شخصياً غير تجربة لا تسر بهذا الخصوص، لكوني لا أملك جواز سفر. لكني رغم ذلك من قلة محظوظة تستطيع السفر بوثائق خاصة أحياناً، والعودة إلى مستقر مؤقت.
وحيث جرى الاهتمام بقضية اللاجئين السوريين، وهم اليوم فوق أربعة ملايين، فقد نزعت عنها الصفة السياسية تماماً واختزلت إلى بعد إنساني محض. هذه هي السمة العامة لموجة التعاطف الأوربي، النمساوي الألماني بخاصة، التي أعقبت اكتشاف مقتل 71 لاجئاً، معظمهم من السوريين، في شاحنة مغلقة على طريق دولي في النمسا في آب من هذا العام، ثم الصورة المؤثرة جداً للطفل السوري إيلان كردي (3 سنوات)، وقد جرفت جسده الصغير الميت أمواج المتوسط نحو الشواطئ التركية التي كان مع أسرته قد غادرها باتجاه اليونان في طريق الذهاب إلى أوربا. هذا التعاطف الواسع ينظر إلى اللاجئين كضحايا بحاجة إلى المساعدة، ويقدم لهم مساعدات فعلاً، لكنه لا يكاد يقول شيئاً عن الجذر السياسي لأوضاعهم. فكأنهم هجروا بلدهم بسبب زلزال أو شرط طبيعي من نوع ما. الواقع أن التيار السائد في الغرب عموما ينظر إلى صعود داعش بهذا المنظار، أعني كشيء متصل بطبائع المسلمين وتكوينهم أو بمشكلات داخلية في مجتمعاتهم، وليس كشيء يشرح بلغة الإنسانيات والتاريخ الدنيوي.
والأثر السياسي الأوضح لصعود داعش تمثل في تراجع التعامل مع الأطر الرسمية للمعارضة السورية وعمل القوى الغربية على استغلال انقسامات المعارضة لإضعاف الجميع، وهو ما توافق مع اعتبار بشار الأسد، بالمقابل، شريكاً محتملا في الترتيبات السياسية لمستقبل البلد.
وقبل ذلك كان الأميركيون قد عطّلوا مجموعة "أصدقاء الشعب السوري" التي تشكلت في الأصل لتوفير إطار لدعم السوريين خارج مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي عطل الفيتو الروسي والصيني المتكرر أي فاعلية له في معالجة المشكلة.
ومثلما أعاد صعود داعش المركزية السياسي والقانونية لمدركات مثل الأمن والاستقرار، أمن مصالح القوى المحلية والدولية النافذة واستقرارها، بما يقارب تعويم طغمة قاتلة. ينبغي أن يبدو المشهد غريباً: القوى التي ينظر إليها عموماً بأنها مسيطرة في العالم ولا منافس لها تتصرف بصورة متلكئة ومريبة بحيث ينمو كائن خطر تحت أنظارها، ثم تشغل نفسها كثيراً بمواجهة هذا الكائن، وتوحي للجميع بوجوب الارتجاف أمامه هلعاً. فإما أنها محدودة الكفاءة، فوق محدوديتها الأخلاقية، وإما أنها كانت بحاجة إلى ظهور هذا الكائن المرعب كي تتحكم بالسكان في منطقتنا، وفي بلدانها ذاتها. يمكن التفكير في تفسير مختلف عن هذا وذاك: إن تكوين النخب والمؤسسات التي تنتج السياسة والسياسيين في العالم لم يعد يسمح بما يتجاوز نهج إدارة الأزمات، ليس في سورية وحيال الصراع السوري وحده، بل في العالم ككل. وهذا ليس منهجاً يهمش تكوينياً الأبعاد الأخلاقية للصراعات السياسية والاجتماعية، وإنما هو يهمش أبعادها السياسية بالذات. الواقع أنه يُحِلُّ "الخبير" محل السياسي، ويُرجِع السياسة إلى تكنولوجية تحكم بالسكان والجماعات البشرية.
ويبدو لي أن هذا منعطف كبير في سياسة العالم ككل. وهو خطير على الديمقراطية في الديمقراطيات الأعرق بقدر لا يقل عن خطره على فرص التحول الديمقراطي في بلدان أخرى. قد يمكن تلخيص الأمر مؤقتاً على الوجه التالي: الغرب متقدم وديمقراطي لا يزال، لكنه لم يعد قوة تقدم عالمية. هناك دول ديمقراطية في العالم، لكن ليس هناك نظام دولي ديمقراطي، ولا دينامية ديمقراطية عالمية. هذا الركود قد لا يحتاج إلا إلى أزمة كبيرة أخرى مثل الأزمة السورية كي ينقلب إلى نكوص عالمي عن الديمقراطية، أو إلى ديمقراطية تسلطية، تخلّى فيها السكان المتعبون عن حقوقهم لنخبة سياسية أمنية قديرة، مرتبطة بالمشاريع الكبرى والصناعات العسكرية والأمنية.
وغير الآثار السياسية والأمنية والحقوقية لصعود داعش وشبيهاتها، يبدو لي أن هناك آثاراً ثقافية وفكرية لا تقل خطورة، وتتمثل في موجة أخرى من الثقافوية والعنصرية، أو في تمديد عمر الموجة السابقة التي كانت تلقت دفعا قويا من هجمات 11 أيلول الإرهابية، بعد أن كانت انطلقت أصلاً من نهاية الحرب الباردة. تتضافر للدفع في هذا الاتجاه مخاطر جديدة من نوع داعش وموجة جديدة من السلفية الجهادية الإسلامية، ثم حاجات النخب المسيطرة في الغرب، وهي تعرض تكويناً مؤسسياً يتصل بعالم الخبراء ومراكز الأبحاث ومنهج إدارة الأزمات، وتكوينا اجتماعياً يتصل بالبرجوازية العليا وأنماط عيشها واستهلاكها، أكثر مما بعالم "الشعب" والطبقات والصراعات الاجتماعية والدولية، ثم حالة توقف التقدم العالمي وفقدان الوجهة و"انتهاء التاريخ"، وهي ربما تزكي انكفاء على النفس وضرباً من الداروينية الاجتماعية المعممة دولياً. كانت الموجة الثقافوية اللاحقة للحرب الباردة قد حدت من الإحساس بالغير، من القدرة على التضامن معهم، وفي المحصلة عززت من تباعد الإنسان عن الإنسان وقت كان يبدو أن العالم يتحول إلى "قرية صغيرة" (مارشال ماكلوهان). يبدو وضع عالم اليوم متناقضاً: يختلط الناس ببعضهم أكثر من أي وقت سبق، لكنهم التفاعل بينهم محدود، ولا تكاد تتشكل قوى وتيارات فكرية ومؤسسات عالمية تستثمر في التقارب الإنساني، وتحوله إلى قوة سياسية عالمية.
في المجمل يبدو أن صيغ التفاعل مع ظهور صعود داعش، محلياً ودولياً، هي من الصنف الداعشي، أعني من صنف الاستجابات التي تعزز داعش، ولا تشكل قطيعة مع البيئة والشروط السياسية والأخلاقية التي أفضت إلى ظهورها. ليس الغرض لوم العالم أو اتهامه، ولكن التشكك في أن ضروب الاستجابة الملاحظة لظهور داعش، ليس فقط لا تؤثر على هذا الكائن، بل هي من الصنف الذي يشجع ظهور كائنات مثله. داعش من هذا العالم، لا من عالم آخر. وهذا الجنون هو من هذا العقل وهذا العدل، ليس من خارجهما.
وليس صحيحا على كل حال أن استجابات الدولة الأسدية أو القوى الإقليمية والدولية لظهور داعش تستحدث شيئاً جديداً. كلها اتجاهات أقدم، سابقة لداعش ومحتاجة إليها، أكثر مما هي استجابات آسفة لظهورها ومضطرة لمسالك استثنائية في مواجهتها.


في مواجهة داعش والداعشية
إذا كانت التقديرات السابقة قريبة من الصواب، فإنه يترتب عليها وجوب بذل اهتمام أكبر بثلاث مجالات عمل لمنظمات حقوق الإنسان، ولمجمل المعنيين بقضايا العدالة والأخلاقيات في العالم العربي.
أولها، ضرورة توفير تحليلات أفضل للشرط السياسي الثقافي الدولي، وإعاة بناء فلسفة حقوق الإنسان حول الوضع العالمي ووضع النزعة الإنسانية في عالم اليوم. هذا العالم ليس صديقاً لمبدأ حقوق الإنسان ولتساوي البشر في الكرامة الإنسانية. وهو ما يوجب تفكيراً متجدداً في مبدأ حقوق الإنسان ذاته. على سبيل المثال أثار النقاش السوري خلال العامين الأخيرين قضايا تستحق نقاشاً مستفيضاً: الحق في صورة كريمة (تجمع "أبو نضارة" السينمائي)، الحق في قبر شخصي، الحق في الدين مما سأتكلم عليه أكثر أدناه، والحق في اللجوء وفي فتح الحدود أمام اللاجئين، ونيل حقوق اللاجئين المقررة دولياً. وضع اللاجئين السوريين في البلدان العربية بخاصة، لبنان والأردن بالأخص، فضيحة أخلاقية وسياسية. وهو أمر غير متصل بحال بصعود داعش. كان الوضع غير كريم قبل داعش، وصار مشيناً بعدها.
ثانيها، الربط بين السياسة وحقوق الإنسان، ومقاومة الفصل بين المجالين، ليس فقط لأن معظم انتهاكات حقوق الإنسان سياسية، ولكن لأن أنسنة السياسة تقتضي سياسة الإنسانية، أي تسييس أوضاع الإنسان، واعتبار حالها في كل مكان نتاج السياسة في كل مكان، أي أيضاً مسؤولية سياسية عامة، والنظر إلى معاناة البشر في كل مكان بعين السياسة. وإذا كان لا يجوز ممارسة السياسة في حقوق الإنسان، بحيث يعتبر بعض الناس أكثر إنسانية من بعض، وبعض الانتهاكات أولى بالاهتمام من بعضها، انتهاكات داعش أخطر من انتهاكات بشار الأسد مثلاً، أو العكس، فإن أنسنة السياسة توجب الكف عن ممارسة السياسة في السياسة أيضاً، أي ترتيب أولويات السياسية حول اعتبارات النجوع والفاعلية، أو الأمن والاستقرار، وعلى نحو يلحق الضرر بمبدأ العدالة والكرامة الإنسانية.
ثالثها، وفي المجال العربي والإسلامي الحاجة قوية إلى شغل فكري وسياسي وحقوقي على الانتهاكات الدينية لحقوق الإنسان، بما فيها حق الإنسان والمجتمع في الدين، وهو حق لا تكف عن انتهاكه المنظمات السياسية الدينية التي تتمثل فلسفتها بالكامل في امتلاك الدين وإشهاره في وجه السكان كسلطة مطلقة مقدسة، وإجبارهم على العيش في حظيرته مثلما يُجبِر الرعاة مواشيهم على دخول الحظائر في الليل. هل الحياة الدينية للمسلمين في ظل داعش أفضل من الحياة الدينية في تركية العلمانية مثلاً؟ ولا بأي حال من الأحوال. لكن ليس هذا هو الميدان الوحيد للدفاع عن حقوق الناس. يلزم الكشف عما جعل الداعشية ممكنة في الفكر الإسلامي والنظام الحقوقي الإسلامي والشريعة، وفي المخيلة الإسلامية الخاصة بالثواب والعقاب أيضاً. الإسلام ليس داعش، لكن داعش من الإسلام. وحين يكون من العقاب تعذيب أبدي في جهنم، كيف يمكن لاستنكار سجون تعذيب في سورية أو مصر أو غيرها أن يكون متسقاً أخلاقياً؟ وكيف لا تكون داعش ممكنا قويا من ممكناتنا؟ هناك أيضاً مشكلات "الحدود"، والتمييز المرسخ بين النساء والرجال في الزواج والميراث وحضانة الأطفال والشهادة. ويبدو لي أن الأرضية السياسية- الحقوقية الأصلح لمعالجة هذه المشكلات هي الدفاع عن حق الناس، عموم الناس، في الدين، أعني في امتلاك الناس (لا الدولة) للدين، بوصفه الركن الأساسي في الحرية الدينية، وهو ما يتوافق مع السير التاريخي الفعلي للأمور في مجتمعاتنا خلال 1400 عام، ومع مبدأ التاريخية ذاته دون صعوبة كبيرة. تنهض المشكلات في وجه مبدأ التاريخية من الخطط السياسية لامتلاك الدين، سواء باسم العلمانية أم باسم الإسلامية. والنقد الواجب للانتهاكات الدينية لحقوق الإنسان ينبغي أن يقترن دوما بالدفاع عن حق الناس في الدين وعن كرامة الناس. ليس للنقد باسم الكرامة الإنسانية أن يستهدف على نحو تمييزي كرامة الإسلام أو أي دين، لكن ليس له أن يجامل تصور الإسلاميين النخبوي لكرامة الدين، وهو تصور موجه ضد النقد باسم الإنسانية من جهة، ويفصل كرامة الإسلام عن كرامة المسلمين وكرامة عموم الناس ويضع تلك فوق هذه من جهة ثانية.
وغير الحق في الدين، يتأسس مبدأ الكرامة الإنسانية على مركزية الإنسان ونقد الدين التوحيدي وتبعية الإنسان الأساسية فيه. تأليه الإنسان وسيادته غير المقيدة تكاد تودي بالكوكب، لكن تبعية الإنسان من النموذج الإسلامي السياسي والعسكري تقود إلى تدمير الإنسان وإلى أشكال منحطة من الحياة البشرية، تقترن بتأله بعض البشر باسم الدين على سوادهم. الجمع بين حق العموم في الدين والحق في نقد الدين هو ما يمكن أن ينفتح على أوضاع أكثر تحررية وعدالة.
ختاماً، شغلت أنشطة حقوق الإنسان مساحة مهمة من الانشغال بالشأن الأخلاقي في مجتمعاتنا على أرضية غير دينية. من المهم ونحن في المنعطف الحالي، حيث تلتقي مشكلات تتصل بمفهوم حقوق الإنسان ومرجعياته الغربية من جهة، ومشكلات تتصل بصعود كائنات متوحشة ومجنونة مثل داعش من جهة ثانية، ثم مشكلات تتصل بالفقر الأخلاقي للعلمانية العربية من جهة ثالثة، أعني ضعف شواغلها المتصلة بالعدالة والحرية والمساواة بين الناس والاحترام المتبادل، وضعف المكونة الأخلاقية في ثقافتنا، أقول: من المهم في ظل هذه الشروط أن يجري العمل على تحرير التأمل الأخلاقي والحقوقي من أسر المرجعيات الإسلامية والغربية، وأن نعطي انتباها أكثر لتجاربنا، وهي إن لم تكن أقسى التجارب الإنسانية في عالم اليوم فإنها من أقساها. وليس لنا أن نخذع أنفسنا في الإنسانية الجاهزة والصلاحية الجاهزة للمرجعيات الفكرية والتاريخين لمفهوم حقوق الإنسان الذي تكونت حوله المنظمات العربية مثل غيرها. نحسن إلى أنفسنا، ونحسن إلى غيرنا بالقدر نفسه على الأقل، إن قلنا إن مفاهيم الحقوق والأخلاقيات تاريخية، وهي بنت التجارب والمحن التاريخية، وإن لدينا من التجارب والمحن ما يضعنا في موقع من يبادر إلى إعادة النظر في أجندة حقوق الإنسان الدولية، على مستوى المفاهيم والقيم، وعلى مستوى السياسات والقوى والتنظيم.
المسألة ليست مسألة أصالة وهوية، ليست مسألة كبرياء جمعي أو أن تكون لنا كلمة عربية أو إسلامية في هذه الشؤون، بل هي مسألة تجارب الإنسانية وتشكلاتها المختلفة. وبفضل داعش، نحن نمثل اليوم صيغة قصوى من اللاإنسانية والإنسانية معاً. تكفيرنا االتاريخي عن داعش يتمثل في مساهمتنا في تحويل أجندة النقاش العالمي، وفي العمل على تغيير العالم ذاته بحيث لا تكون داعش ممكنة.
أيلول 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات