الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موارد العنف -1-

جميل حسين عبدالله

2017 / 4 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


موارد العنف
قراءة لعقلية الكراهية
‏-1-‏
يتبع
بعد أن عرجنا في مقالاتنا حول عقيدة التسويغ على مجموعة من ‏المناطات التي يتحقق بها تحريف المسار الأخلاقي بين مدارات المجتمع ‏الإنساني، عن لي أن أنظر إلى ‏عقلية العنف، وعقيدته، وما تحمله ‏أفكاره من موارد شتى، تصب جميعها في اتجاه واحد، وهو رص ‏الأشياء في وحدة الحياة بعلاقات متشنجة، وسلوكيات متعنفة، ‏‏تتضمن فحوى الكراهية، والضغينة، وتحتوي على خطر متعدد ‏الجوانب، والمناحي، يمكن له أن يحدث الفواجع في مسير الإنسان نحو ‏لحظة تفاؤله، وأمله، ويربك ‏كثيرا من القيم التي انبت عليها الصيرورة ‏المتعددة في الواقع البشري، وتوقفت عليها كل الأفعال التي يلتزم بها ‏الإنسان في صناعته للعمران، والحضارة، إذ ما نقوم به ‏في مواجهة ‏الزمن السائر إلى الأمام بسرعة فائقة، لا يتجسد إلا فيما نخلفه اليوم ‏من أفكار وأخلاق لمن سيأتي بعدُ من ذريتنا، وحفدتنا، لأنهم المرآة ‏التي ستنعكس ‏عليها كل الصور التي نقشناها في عقولنا، وصنفناها في ‏واقعنا، والصفحة التي نكتب عليها سِير سلوكنا، وتميز قيمنا، والكتاب ‏الذي ستقرأه الأجيال القادمة بين ‏مدارات الزمان، ومحاورات المكان، لكي ‏تستوهب منها ما يرثه الخلف عن السلف من سلوك يثري الفعل ‏المسؤول عن وظيفته، وعلاقاته بما سواه من النظم ‏الإنسانية. ‏ ‏
ومن هنا يكون فعلنا هو المطلوب منا، والمسؤول عنا، لأنه بمنتهى الغايات المسلمة منطقيا، سيرفع هامتنا غدا، أو سيضعها على رغام الحسرة، ‏والندامة. وذلك ‏حين لا يجد غيرنا في تاريخنا ما يُقْدره على تجاوز أزمته التي تكالبت عليه بين أمداء واقع مفتون، يشهد اغتيال كل رابط يصل الإنسان ‏بحضارته، وتاريخه، إذ لا يمكن ‏أن يدرس يومنا في التاريخ الذي تفترض قيمته مستقبلا، إلا إذا كان لطفا ساريا في الوجود، ونسيما يهب على الذوات بآمال متسامحة، ‏لأنه هو الذي يطيق أن يعبر ‏بنا على جسر الزمن إلى نبع الشعور بهوية المستقبل المشترك نفيسُ ألحانه، وأنغامه، ويلحقنا بما انطوى عليه الماضي من عقيدة التسامح الذي سادت بأخلاقها ‏‏الفارهة، وأنماطها الفارعة، فنكون جزءا من سلسلة تكتنز كل ما أنتجه الإنسان في تاريخه من ثقافات، وحضارات. ولذا، يصعب علينا أن نتوقف عن الاسترسال ‏مع الأحداث التي ‏تعترينا بأشباحها المجلجلة، وأصدائها المصلصلة، ولا أن نستكين إلى ما يدس أنوفنا في نتن المذلة، وعفن المهانة، لأننا ومهما أردنا أن نحدث فجوة في ‏تاريخ العالم، وزمنه، لكي نعثر على لحظة فراغ ‏فيه، فإن ما نحاوله من ذلك، ونكابده من أجله، لن يكون له أثر يوجه فعلنا إلى معين نقي لتحصيل رغباتنا الموجودة ‏فينا بحكم الطبيعة، وكسب الفطرة، بل سينتج عنه ألم التأخر عن ركب الحضارة ‏المشتركة العلم، والحكم، إذ مقصد النبلاء من عقلاء العالم، وزُراع بذور المحبة فيه، هو ‏إثارة حوار الأخلاق المختلفة، واستفزاز الهمم نحو قبول التعدد في الطبيعة البشرية، لأن رفض كل القيم التي انحاش ‏إليها الإنسان في شعوره بأوَّليات تطبيقاته ‏النظرية، هو تعطيل لعجلة الاستقرار بين الأماكن القوية بتكاملها المعرفي، وتدوالها الأخلاقي. ‏
وإلا، فإن كل محاولة تريد أن تجعل هذا الكوكب ملكا لها بالوساطة، والوصية، تسطو عليه بما تقتضبه في ذهنها من أفكار سوداوية، وما تحتقنه في صدرها من ‏أصوات مخنوقة، لن يأتي منه في محصلته إلا فعل ‏الخراب، والدمار، لأن عملية الإثبات والنفي في صيرورة الأشياء بين مدارات مواقعها المسلَّمة لها بين كل ‏النظريات الدينية، والفلسفية، لا تكون إلا بالاحتكاك ‏المؤدي إلى ظهور نمط بخفاء الآخر، وخمود سياق ببروز غيره، لأنهما في المرتبة التي يحتلانها عند الانتماء إلى ‏صفة معينة، لا يجوز جدلا أن يموت ذا، بحياة ذاك، ‏بل كلاهما في ناموس التضاد القائم بكل المباني، يتدافعان تحت معنى الخير، والشر، ويتشابكان حول مفهوم ‏الجمال، والقبح. وذلك ما يمنحنا قوة طبعية على الفعل، والعطاء، ويجعلنا متمسكين بما ‏نراه سليما في التفكير، والتنظير، ولو خالف ما يجأر إليه غيرنا في انتماءاته ‏المتضيقة، وتحديداته المتضخمة، لأنها حقيقة الإنسان التي هي في جوهره مكنونة، وصوته الذي تردده كلية وجوده بين ظواهره المتنافرة، إذ لا يخلب لبه منها شيء ‏حتى يخلق، ويبلى، ثم تغريه الأشياء البارزة له بفتنتها، وبهرجها، فتستحوذ على لطف نسيانه، لكي تغرقه في بحر غفلته، فتصير به موجودة في الطبيعة، ومفقودة في ‏الحقيقة، ‏لأنه ومهما ملك أشباحها في المادة، فإنه قد يفارق في باطنه نفحة روحها التي تسري في الحياة بنسيم المحبة، والمودة.‏
وهكذا، فإن نظام الكون الذي يتركب من تركيبات معقدة، وتأويلات متعددة، وما يمثله من إحكام في الاختراع، ودقة في الإبداع، لا يقبل أن يكون ‏محلا للفساد، ‏ولا موئلا للشر، إذ موضعه الصلاح، وموقعه الخير. وإلا، فإن أي خلل فيه، سيؤدي إلى انهياره، وتلاشيه، وأي نكوص عنه، سيقود إلى معاداته، وحربه، وإذ ‏ذاك يستحيل قطعا أن نكتسب ‏الإيقان في إتقان الفعل الحكيم لصناعته، لأن طرو الخلل فيه، وظهور الجهل به، هو الذي يعرض مستقبل البشرية للفناء، ويقرب ‏مستظهر الكون من الخفاء، إذ نتيجة الفعل غير المتسجيب للخصوصية الإلهية في تدبير نواميس ‏العناصر المكونة للوجود، لن يكون صفاء في المورد الذي ننتمي إليه ‏بعضويتنا في العائلة البشرية، لأن مخالفة الناموس الذي ينسج العلاقات بين الأشياء الظاهرة، والباطنة، هو في كل الوصايا سبب ما يلف الديار من بؤس، وشقاء، ‏لأنه رابطة الإنسان بما خفي عنه من نظم يقوم بها بين الأكوان، ولم يجد لها من تفسير سوى ما صدقه من يقين، وإيمان. ومن هنا، فإن الإقرار بميلاد وظيفة أفعالنا ‏بين هذه الدوائر المحكمة ‏الصنعة، لن يصرفنا عن الأصل الذي حصل به التأثير في الأشياء؛ وسواء استجابت لأهليتنا، أو رفضت أحقيتنا، لأن قيام تلك الصلة بين ‏الفعل وجوهره الذي ينتمي ‏إليه في نظام الكون، هو الذي يجعل الإنسان حريا بالاحترام، والتقدير، إذ هو فيما ينوي من حركات، وسكنات، لا يلبي إلا حاجة ‏المطلق في ذاته، وهي ‏التي تسبل عليه إزار التضحية، والفداء، لكي يكتسب شرف الفعل السوي في موسيقى الكون الطافح بالأنغام الرخيمة، والأوزان الفخيمة، لأن ‏انحصار الفعل في الذات التي ابتعدت ‏عن بؤرة فطرتها، ومن غير أن تلتزم بالانتماء إلى الأصل الجامع لحقيقة الأشياء في كلية الاستجابة، لن يجعله أثرا ممتدا في صيغ ‏الزمان، والمكان، إذ سموه فيما يحتويه من ‏نفَس الخلد الذي يميزه عن الغثاء، والزبد، ورقيه فيما يتضمنه من سر الوجود الذي ينزف بالحقيقة الخالصة، لأنه هو الذي ‏ينقله من زمن إلى زمن، ومن عمق إلى عمق، لكي ‏يقطع به المراحل، والمنازل، فيصير ناطقا بالحكمة الإلهية السارية في الأكوان الجميلة.‏
‏ ومن ثم، فإن الأفعال المقبولة في قاموس حقائق الزمن الذي يؤثر بالبقاء، والفناء، هي تلك التي تضمنت تقديس ناموس الأزل في الحياة، والإنسان، ‏والطبيعة، لأن ‏إهمال هذا التأثير الكلي لفعل الخير الأول في صيرورة البقاء المجرد عن العيوب البشرية، لن ينتج عنه إلا ضيق في أفق المعرفة بالقوانين الجارية بأثرها ‏على الأشياء ‏الجلية، والخفية، إذ معرفة ذلك، هو الذي ينفخ مسحة الحياة في الإنتاج الذي خلفه الإنسان من بعده، وما زال أثره مواجها لغوائل الزمن، وريبه، لأن ‏تضمنه لمعنى ‏الخيرية، لن يوقف سيره إلى الأمام بخصيصته الفذة، بل سيجعله منطقا يتحدث بلغة التجارب، والخبرات، إذ هو التاريخ الذي كتبه السلوك السوي ‏على صفحة ‏الكسب المتصل، والمتسلسل، وأنى له أن يفنى، أو يبلى، وهو متحرك بنيات تنضح بروح الإخلاص، والتفاني، وترشح بمعاني الوفاء للعهد القديم في ‏الأشياء التي ‏أبتلي بها الإنسان لمعرفة سموه من دنوه، لأن صناعة العهد الجديد، لن يحمل خصائص ماضيه، إلا إذا فضل غيره بما يختزنه من أدب، وفضائل، كان ‏اتخاذها منطلقا ‏سليما لتجاوز الانحراف عن سياقها المحدد لها في الطبيعة، لأن ضم القديم إلى الحديث، لا يكون في الاعتبار صفة مشتركة بين المجموعات المختلفة ‏الزمان، والمكان، ‏إلا إذا كان هوية موحدة التأليف في كل المدارات المتعددة، تجمع مكارم الأخلاق في ماهيتها المرشحة للقبول بين العقول السليمة، إذ الأساليب يمكن ‏لها أن تتضمن ‏الاختلاف، لأنها وسائل للاستثمار في المتآلف عليه تواطأ، وإذعانا، لكنها بسبب الإحساس بالضرورة القائمة في معايير الأشياء الحاملة للمعنى الخالد، ‏والتالد، هي ‏محل للمسؤولية التي تحدد أهمية الاختيار، والإرادة، لأنها وظيفة الكائن البشري في الانتماء إلى الجماعة الواضحة المعالم، والمرامات. ‏
‏ ولا غرابة إذا كتب الخلد لبعض الأعمال التي استجاب الإنسان لها في تدرج مراحل عمره الكلي، ولم يكتب لغيرها أن تتجاوز دائرتها المقصورة على ‏فترة من الزمن، ‏لأن تماسكها العضوي مع الكلمة الأولى، هو الذي يجعلها سياقا متفجرا بين أودية الفعل البشري السوي، والمتكامل، إذ تصنيفها بين الأفعال الخالدة، ‏لا يتم إلا بما ‏تستحق به الأهمية في احتياجات الإنسان، ورغباته المتتالية، لأنها تتضمن المعيار الأخلاقي الذي دأب التاريخ على تقديسه، واحترامه، لكونه ينتمي إلى ‏النص الذي ‏تقاس عليه مناقب الأخلاق في النوازل الحاضرة، إذ هو محل الالتزام في النظر الجماعي، لأنه يحتوي على كل ما يحدد الانتماء إلى هوية فاعلة بالتواطؤ، والاشتراك. ‏ومن هنا، يكون صعبا تسويغ الخروج عن هذه الدائرة، لأنها مسيجة بما تتضمنه نتائجها من غايات محبوبة، لكن منطلق العزوف عنها، لا يتأتى من ‏ضدها القائم ‏معها بالعناد، والعداء، بل ينشق من باطنها ما يبدد به الانحرافُ سبيل الاحتياج إلى ما استجن فيها من قيم كبرى، وعناوين الأخلاق المثلى، لأن ‏مقاييس الحيدة ‏عنها، لا تعرف إلا عند التحديد الوصفي لما هو مراد منها في التكوين، والتدبير، إذ يبين كل واحد منهما قيمة الفعل للشيء، لأنه يرتبط بالشعور ‏المعقولِ بدور كل ‏حقيقة في سياق الكل الجامع لأصل الانتباه إلى ما نطق به لسان الحق في أزل المعارف. ولذا يضع كلُّ محدود حدا لماهيته، لأنها تشكل هويته ‏بين الأشياء المختلفة ‏الأسباب، ولو اتحدت في صياغة الغايات، إذ هي محل الفحص العقلي، ومآل كل رجاء يبتغي تضامن الحقائق في حقيقة واحدة، هي موقع النظر ‏الأول، وموضع ‏نؤوب إليه في كل قياس نريد أن نوجه به السلوك في فعل العمران، والحضارة. ‏
وإذا كان درك هذا الملحظ ضروريا للوصل، والاستمرار، فإن ما يهمش هذا التلاقي بين المعاني، والمفاهيم، هو ما يفصل بين اللفظ وحقيقته، ‏لأن ‏قوة المعرفة في بساطتها المتجاوزة لكل الأنماط الفكرية المعقدة، إذ قصارى الجهد منها في الغاية المحددة، هو ما تضيفه إلى الإنسان من ‏سعادة، أو شقاوة. ولا حرج إذا كان مدرك بساطتها ‏مؤهلا للقيام بها، ما دامت الغاية منها، هو وجودها بين الحقائق التي نختبر بنياتها، ‏وقصودها، لأنها هي التي نحكم عليها بالإيجاب، أو السلب، لا لأنها مقصودة لما ‏يحوم حولها من شكوك، وملاحظات، بل الهدف منها، هو ‏التسليم لها، والتفويض لما تحتويه من نفس السماء، لأنها صلتنا مع المطلق الذي نعرف به قيمة الجمال، والحب، والخير. ولذا يكون كثير من ‏الانحراف عنها معبرا عن ‏القصور الذي يحصل في درك أبعادها النفسية، والاجتماعية، لأنها لا تكون قيمة حقيقية إلا إذا احتفظت على ثوابت ‏نواميسها، وقوانينها، واستكانت إلى ما في خصوصيتها من أفضلية، ومزايا، إذ ‏ما نختاره من أساليب التعبير عن شوقنا الأرضي، وعشقنا ‏السماوي، لا يتحول إلى مثال مجسد في الواقع، يسترعي الاهتمام، والانتباه، ما لم يكن كيفية مقبولة في ‏الوجود الكلي للحقيقة الأزلية، لأن ‏تبادل الأدوار بين الأزمنة، والأمكنة، هو الذي يعلمنا كيف نستسلم للاختيار الذي أفضينا إليه بسبب من الأسباب، إذ هو الذي ‏يحمل هوية ‏الانتماء إلى سلالة معينة في المعرفة البشرية، والانتساب إلى أمشاج مختلفة في العرق، واللون، واللغة، لأن تاريخنا الذي يعرب عن وحدتنا في ‏التصنيف ‏الكوني، هو ما تواطأ فيه الناس على حقيقة مجردة، تكون معيارا على الولاء لغاية تحتفظ على شعورنا بالحياة، والطبيعة. ‏
ومن هنا، فإن ما يتطلبه ذلك من دوافع تتجه بنا إلى المحافظة على الهوية المشتركة للكون، هو الذي يظهر قرارنا الوجودي في نيل تعددية ‏‏محورية، ترتكز معالمها على تقديس الخصائص الدائمة في العلاقات البشرية السوية، لأن تمعننا في طرق حبك هذه الخيوط التي تصل بيننا وبين ‏تاريخنا، هي القوة التي ‏تجعل انتماءنا إلى زمن الإنسان ميسرا، ومبسطا، إذ ما ينتجه ذلك من اعتبارات بديلة عن لغة الصراع التي تسود ‏العلاقات بين الأمم، والشعوب، هو القادر على ‏تغيير لغة العالم في ألسن الناطقين باسم الإنسان، والمدافعين عن حريته، والمنافحين عن كرامته، ‏لأن ترسيخ النزاع في محل يجعل هذا الكائن ضعيفا بلا إرادة، ليس مبتغىً ‏للحقيقة الرائعة التي نعبدها، ونوحد بها أنظارنا إلى الأشياء ‏المتصارعة حولنا، لأن لازم الانتساب إلى الأديان، أو الفلسفات، هو ما نشعر به من وحدة مقيدة ‏باختياراتنا السلوكية، والأخلاقية. وذلك ما ‏يجعل قضية الوحدة عمقا للتوحيد الذي نتحارب حوله، لأن ادعاء الوحدة في عالم متحارب، ومتقاتل، هي الكلمة التي ‏ينطقها أدعياء الإصلاح ‏بلا معنى، إذ لا توحيد بدون أن نركز جهدنا على النتائج المتوقعة من أفعالنا التي نخلد بها قيمتنا الإنسانية على هذه البسيطة، لأن سبب ‏‏تأثيرنا في الكون، لا تجري سننه في محيطنا النفسي، والاجتماعي، إلا إذا أيقنا بمسؤوليتنا الوظيفية في إجراء فعل الخير بين شرايين مجراه ‏الطبعي، إذ الاضطلاع بهذه المهمة التي تحرر المعاني من عداء أضدادها، ‏هو النص الذي يفصل بين فعل المفسدين، وعمل المصلحين.‏
وتأسيسا على هذا، فإن الفصل بين هذه الحقائق المتحدة المقاصد، لا يكون مستساغا في الذهن إلا حين يكون العقل نارا طائشة، لأن تجاوز ‏نارية الفكر إلى نورانية القلب المضيئة، هو الذي ‏يمحص الصورة، وينظفها من شوائب العلل، والزلل، إذ العقل حين ترد عليه رياح التغيير ‏التي تفصل بين الموصولات، وتصل بين المتباينات، فلم يجد له من محضن سوى قلاع الخرافة، ‏والأسطورة، أو لم يعثر له على سبيل سوى ‏القطع بين ما جمع في الطبيعة، لا يأتي منه أي اختيار يلتزم ببناء الحقائق في كلية التوحيد، والوحدة، لأن ضعف ‏الشيء، وهوانه، لا ينشآن إلا ‏حيث ينفرد سياق بالتفكير في استكناه الحقيقة، ويكون ما عاداه مخالفة لعرف العقول المتسمة بالأحكام المعيارية، إذ ما يقوم به الإنسان من ‏تسويغ ‏لعجزه، قد يؤدي به في نهاية تفكيره إلى ممارسة العنف، ومزاولة كل عمل حقير، يؤدي إلى تهدئة نزعة الاستفواء التي يشعر فيها ‏الفرد بأنه يمتلك القدرة على ‏الاستفراد بالأشياء الممنوحة للاستفادة، والاعتبار. ولذا، فإن سياق ما يجري في الحياة من مخاضات ‏متصارعة، لا يجوز صرفه عن ضرورته التي تقوم به في حركيته، لأن فهم طرق تكونها بين المفاهيم ‏المتداولة، وسواء تحمل غلطا في المنهج، أو ‏صوابا في التقدير، هو الذي يبلغنا إلى درك الظواهر التي تتلاشى معها إرادتنا للخير الوفير، إذ وعي ما فيها من خيوط ‏تربط بين أجزائها، ‏وتصل ماضيها بحاضرها، هو المعيار الذي يدل بصيغه على الحدود القابلة للابتلاء بالصلاح، والفساد. ‏
وحقا، إن كثيرا مما ابتلينا به من صراع، ونزاع، لم ينشأ إلا من هذا الجهل الذي يتظاهر بالمعرفة الكاملة الأبعاد، والمناحي، وهو غير قادر على النفاذ ‏إلى حقيقة ما ‏يقع من أحداث تختلف فيها الأنظار قبولا، أو رفضا، لأن صعود رأي على غيره، وعلى رغم قفزه على ما عداه، واعتباره مطيقا لأن يكون ترياقا لكل ‏ما يحدث من ‏ضخام الأرزاء، وجسام الأدواء، هو تبسيط لعملية تكوُّن الأفكار في محيطها النفسي، والاجتماعي، وتبخيس لما يتفاعل في الأشياء من حتيمات ‏يستلزم بعضها ‏بعضا، ويستوجب الجزء فيها الكل، إذ حصر هذه الضرورات في منحى واحد، وقصرها على معنى متفرد، وحبسها في سجن منفرد، لن يؤثر في ‏زوالها، ولا في ‏إبقائها، بل يغري بكثير من الصخب، والجلبة، ويثري مجال النقاش العام بأفكار ردئية، ودنيئة، وكلاهما، لا يعكر إلا صفو العقول التي تريد أن تشهد ‏هذا العالم ‏جميلا في اختلافه، وتعدده، لأن ما يصير قيمة أخلاقية في الوجود البشري، ليس هو ما نبرهن به على النقيض المتردد في الأحكام، بل ما يستلزم إنكار ‏كل خلل ‏يحدث في هرم القيم التي تتنافس من أجل صلاح صيرورة العالم، وحيلولته دون الوقوع بين مخالب العقل المتوحش، إذ إمكانية تدبيره لكل الموارد التي يغشاها ‏‏الإنسان بكده، وسعيه، هي التي تجعل خطاب الإصلاح قيمنا بالجدارة، والاستحقاق، لأنه يوحي بتبادل التجارب في سبيل غرض مقصود بالنتيجة، وهو مساءلة ‏‏اختيارات الأخلاق، لكي نستكشف منها ما يدعو إلى الانهيار، والتلاشي، أو ما يبني أنموذجا له قوة التأثير على توحيد الكون، وتقريب المسافات التي تتناءى ‏‏بالحلم البشري عن طريق الرعاية، والمناعة، إذ تفويض كل علاقات الإنسان إلى مقتضيات المادة التي تعرب عنها الآلة العجماء، هو رفض مبدئي لروحانية العالم، ‏‏وجمالية تماسكه بالفضائل التي تبرزها قيمة احترام حق هذا الكائن المستخلف في الأرض، والمستغل لخيراتها، وبركاتها. ومن هنا تكون تجزئة هذا المبتغى نفيا للجزء ‏‏الأكمل فيها، إذ لا يجوز أن تتغير كل المواضعات الاجتماعية، وسواء في ذلك تقاليدها، أو أعرافها، أو عاداتها، أو غيرها مما يتقوم به الكيان المادي والمعنوي من ‏آداب، وأخلاق، إلا إذا شككنا في الأصل الجامع لوحدتنا القائمة على ‏حركية التاريخ المشترك، وشعرنا بالغبن في كل الروابط التي تصل بين أنواعنا في جنس المتوحد ‏الغاية، إذ هي لا تعرف الحدود المزعومة في المفاضلة، ‏والمفاصلة، بل هي مطلوب الإنسان الذي تحدى من أجله الصعاب، ونازل النكبات، وعارك المصائب، لأنها ‏توضح كيفية بناء خياراته الفكرية، والعلمية، وطرق وضع ‏هويته المناسبة لدوره، ووظيفته. ‏
ومن هنا، فإن أول مصدر للعنف الذي نترجى فهم عقليته المستحوذة عليه، ليس هو ما يحدث من مشاحة حول حدود القصود، والأهداف، بل ‏هناك أمر خفي ‏في عمق هذه العلاقة التي تربط بين الإنسان، والأشياء التي فيها إغراء، ونفور، لأن استحضار الخوف من كل ما يرده الفرد في المجتمع، واستفخام ‏ذلك في كل ‏المسالك التي يستهدي إليها بجهده المكدود، هو شعور باطني بوجود مناطق جوفاء في الأواصر التي تربط الصيرورات مع بعضها، وحضور وجداني بقبول ‏الحقائق ‏لمعاني أضدادها، إذ لا يمكن أن نتوجس خيفة مما نحس بأنه يصل فينا بين ما نراه استواء، وبين ما نخاله انحرافا، لأن المادة ‏التي تتكون منها مفاهيمنا، والطاقة ‏الفكرية الموجهة لسلوكنا، هي التي تحدد نوعية أقوالنا، وسببية أفعالنا، وإلا، فإن محاولة الفصل بين آليات جهاز التفكير الذي يضمر الإطار المعرفي للذات المكلفة، ‏وبين ‏الأخلاق التي تواطأ المجتمع عليها في سياقه العام، والخاص، وصارت مع شدة التشبث بها سببا في كسب رهان الوجود بين عوالم متصارعة بالكراهية، هو زرع ‏‏حقيقي لفسيلة العنف الذي لا يميز بين الأفعال إلا بما تمليه الأنانية من غرور، واغترار، إذ لا يقوم في الأشياء إلا إذا انفصلت عن كلياتها، وانحسر فيها المراد ‏عن ‏حقيقتها. وهكذا، فإن أزمة العقل الفقهي على جهة الخصوص، أو العقل العربي على جهة العموم، لم تتجسد في كونه لم يهدأ باله بما تفرزه الحضارة الفارهة، بل في ‏كونه لم ‏يستطع أن يستوعب الحقائق في أبهى تجلياتها، وأظهر ملامحها، لأن افتراض ما هو ميتافيزيقي في تفسير الظواهر، ومحاولة سبك كل القناعات بهذه النظرة ‏‏المحدودة الأفق، إن لم يكن مستندا إلى دراسة ما هو فيزيقي، وهو محل التأمل العقلي، والتبصر الفكري، لن يكون إلا نظرة روحية مستغرقة في العماء، لا تشهد ما ‏له علاقة ‏بما هو مادي في جوهر الحقيقة.‏
ولذا، فإن الاستغراق في المجال الروحي، من غير التوسط بالعالم المادي الذي تتركب منه جواهر الأشياء في الطبيعة، لن يفضي إلا إلى نزاع ‏مستفيض بين ‏الدروب الذي ينزف على رُحبها صوت الإنسان المتمخض عن آماله، وآلامه، لأن ترجي المحال في ذا، أو في ذاك، لن يأتى نتاجه إلا نشازا في الصيرورة البشرية، ‏إذ ‏هي مرتبطة بكونه كيانا متعددا في خصوصياته، ومتنوعا في طبائعه، لا يستقل منه جزء عن جزء آخر، ولا يستغني فيه كل عن كلية، لأن قيام ضرورته ‏الوجودية ‏متأكدة بحضور كل العناصر المكونة له في ماهيته الذاتية، وهويته الشخصية. ومن هنا يكون الخطاب الروحي مقابلا للمادي على جهة التقابل، ومعارضا له ‏في ‏الكينونة المتعاركة الغرائز، والرغبات، وكل غلو في أحدهما، أو تحريف لمسارهما، أو استهانة بهما، لن يؤثر إلا بما هو أسوأ في ترتيب العلاقة القائمة بين الذات ‏الواعية ‏وغيرها من الكائنات المحيطة بها، والمتجسدة في جنسها، وفي كل الأنواع التي تحتمي بصلادة نظام الكون القائم على الإبداع، والحكمة، لأن تجاوز هذه ‏العلاقات ‏المدهشة الإتقان، لا يعني سوى الانفراد الذي يسير بالإنسان إلى طريق الأنانية المسدود، وهو في حد ذاته مرام يقود إلى الضياع، والفراغ، ويسوق إلى ‏النزاع، ‏والكراهية، إذ كل ما يخرج عن وضعه، أو عن طبعه، لن يكون إلا هدما للروابط، ونسفا للعلاقات.‏
‏ وذلك ما وصل إليه الخطاب الديني حين انزوى إلى ركن قصي، واكتفى بذاته عن غيره من القوى المركبة لسياقه الكوني، ولم يرد أن يعبد الطريق ‏بينه وبين كل ‏المختلفات الموجودة بتناقضها في العالم الإنساني، لأن ربط هذه الخيوط مع بعضها، ووصل ماضيها بحاضرها، هو الذي يفقهنا بطرق بناء الحقيقة في العلم، ‏والمعرفة، ‏والحضارة، إذ عدم فهم منطق التعدد في المتشابهات، والاختلاف في المتنافرات، هو المجاز الذي يمر عليه كل من خال الكون بلا نظام، وظن العلاقات ‏البشرية ‏بدون انتظام، لأن كثيرا من نزاعاتنا الباطنية، والظاهرية، لم تكن مفردات تضر لغة العالم الجميلة، إلا حين حملت فوضى الإنسان، وعبثيته بكل التنويعات ‏التي تتولد ‏منها أواصر الإخاء، والمحبة، إذ جور الإنسان بمقتضى تجاوز الناموس الأزلي القائم بالنظام في صيرورة الأشياء، هو الدليل على دخوله إلى عالم دناءته، ‏وخسته، لأن ‏توليد العنف في الحقائق التي تحرص الطباع السليمة على حماية وحدتها، هو الذي سوغ مرسوم الظلم، والغطرسة، والجبروت، إذ هو التخلي عن كل الحواجز ‏‏الفكرية التي أقامتها الديانات والفلسفات بحدودها، ورسومها. ومن هنا نضع أيدينا على أول معلم في الدوافع التي تدعو إلى العنف، والكراهية، لأنهما لا يتحققان إلا ‏‏بوجود تربة قابلة لزرع الفتنة فيما توافق الناس على صلاحه، وخيره. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تقتحم بلدة شرقي نابلس وتحاصر أحياء في مدينة را


.. قيادي في حماس: الوساطة القطرية نجحت بالإفراج عن 115 أسير من




.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام