الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سياسة التعليم في تونس ومحاولات الاصلاح التغريبية

الأستاذ الأسعد بنرحومة

2017 / 4 / 21
التربية والتعليم والبحث العلمي


أهميّة التعليم في حياة الأمم
إنّ الأفكار في أيّة أمّة من الأمم، وفي أيّ شعب من الشّعوب، هي أعظم ثروة تنالها الأمّة في حياتها إن كانت أمّة ناشئة، وهي أعظم هبة يتسلّمها الجيل من سلفه إذا كانت الأمّة عريقة في الفكر المستنير.
أمّا الثروات المادية والاكتشافات العلميّة والمخترعات الصّناعيّة وما شاكل ذلك، فانّ مكانها دون الأفكار بكثير، بل إنّ الوصول إلى الثّروة والاكتشافات والصناعات وكلّ إبداع علمي يتوقّف على هذه الأفكار، بل ويتوقّف الاحتفاظ بها على بقاء الأفكار وإنتاجهاواستمرارها، فإذا دُمّرت الثروة المادية وانتُزعت كلّ قدرة على الإنتاج الصناعي والإبداع العلمي، فانّ الأمّة سرعان ما تعيدها وتجدّدها ما دامت محتفظة بثروتها الفكريّة وبطريقة تفكيرها المنتجة. ولذلك نجد كل الحملات الاستعمارية تتجه أساسا إلى ضرب البنية الفكرية للأمم والشعوب لجعلها طيعة بين يديها قبل البداية في استنزاف ثرواتها المادية.
وإذا ما فقدت الأمّة هذه الطريقة المنتجة في التّفكير، وتداعت ثروتها الفكريّة، فانّه حينها لن يفيدها الاحتفاظ بثرواتها المادّيّة في شيء، وسرعان ما تتضاءل تلك الثروة، وترتدّ الأمةإلى حالة الفقر، بل وتصبح الثروة المادّيّة نفسها عبئا ثقيلا بسبب ما تجلبه من الصراعات عليها، ومن تكالب القوى الاستعمارية للاستبداد بها، كما هو حاصل اليوم في كلّ البلاد الإسلامية وليس فقط في تونس.
ومن هنا كان لا بدّ من الحرص على الأفكار وعلى طريقة التفكير أوّلا، وعلى أساس هذه الأفكار وحسب طريقة التفكير المنتجة،تُكتسب جميع نواحي الثروة المادية، ويُسعى للوصول إلى المكتشفات العلميّة والاختراعات الصّناعيّة وباقي أصناف العلوم الأخرى.
والمراد بالأفكار هو وجود عمليّة تفكير عند مجموع الشعب والأمّة في وقائع حياتها، بأن يستعمل أفرادها ما لديهم من معلومات عند الإحساس بالوقائع لإدراكهذه الوقائع والحكم عليها، أي أن تكون لديهم أفكار يبدعون باستعمالها في الحياة، فينتج عندهم من تكرار استعمالها بنجاح طريقة تفكير منتجة.
ونحن اليوم في تونس،كما هو حال جميع المسلمين في كلّ البلاد الإسلامية، نُعتبر فاقدين للأفكار، وبالتالي فاقدين لطريقة التفكير المنتجة، وذلك رغم مرور أكثر من ستّين سنة من "الاستقلال" المزعوم وشعارات "الدولة الوطنيّة الحديثة"،حيث فشلت الدّولة في بناء أجيال مفكّرة، ولم تبن شعبا يمتلك تميّزا في الفكر وفق طريقة منتجة، وهي - أي الدّولة - وفي ظلّ منظومة الفكر العلماني التي سارت عليها لم تُوفّق في رسم سياسة تعليم واضحة وقادرة على إنتاج هذه الأفكار وتقديمها بشكل مؤثر بحيث يبني شخصيّات متميّزة منسجمة الفكروالشعور الشيء الذي أحدث تصحّرا في جميع المستويات وشمل كلّ الميادين، وبالتالي نشأت مدارس ومعاهد وكلّيات خالية من القيم الرّفيعة ومن الإبداع، ممّا جعل الجيل الحاضر لا يعتنق الأفكار الصحيحة المنتجة النابعة من عقيدته ونظرته للحياة، فصارفكره منفصلا عن شعوره وأضحى خاليا من كلّ فكرصحيح ومن أيّ طريقة من طرق التفكير المنتجة.
فقد ورث الجيل الحاضر الأفكار الإسلامية ولكن باعتبارها فلسفة خياليّة مثل فلسفة أرسطو وأفلاطون، وورث الإسلام باعتباره مجرد طقوس وشعائر للتديّن كما يرث النصارى دين النّصرانيّة، يُضافإلى ذلك أنّ هذا الجيل، بسبب الاستعمار الثقافي وإملاءاته السياسة، قد عشق الأفكار الرأسماليّة من مجرّد مشاهدته نجاحها في محيطها أي لدى الغرب، وليس من إدراكه لواقع هذه الأفكار ولا من إدراكه لمناقضتها لعقيدته ووجه نظره في الحياة.
ومما زاد الطّين بلّة هو افتقار البلد إلى رؤية صالحة للتعليم، في مقابل خضوعه لمنظومة تعليميّة ليست فاسدة فقط، بل هي منظومة مدمّرة للإبداع،ومجمّدة للعقول، بما تزرعه من إحباط وانتكاس، فهي - أي سياسة التّعليم الحاليّة - وجميع مراحل التجارب التي مُورِسَت على التلاميذ والطلبة باسم الإصلاح طيلة أكثر من نصف قرن، مفصولة انفصالا كلّيا عن عقيدة النّاس التي هي العقيدة الإسلامية، وعن حضارتهم التي هي الحضارة الإسلامية، وبذلك ساهمت هذه السياسة في إنتاج شخصيّات مضطربة مهزوزة ومنهزمة، تقضي الوقت كلّه في محاولات التّوفيق بين ما تعلّموه، وبين العقيدة الإسلامية وأفكارهاومفاهيمها، وذلك لأنّ الأفكار التّي تدرّس في مدارسنا ومعاهدنا مخالفة بل مناقضة لأفكار الإسلام، كالفصل بين الإيمان والعقل، وبين الدّين والحياة، وكالاشتراكيّة والوجوديّة، والدّاروينيّة، والأخلاق والطّبيعة والمجتمع، والنسبيّة وغير ذلك،سواء في الفلسفة والأدب أو التاريخ والتربية، وحتّى العلوم لم تسلم من هذا التوجه.
وعلاوة على ذلك فإن هذا التّعليم لم يراع الحاجة في سوق الشّغل ولا نوعه، مما دفع بأفواج كثيرة من الطلبة إلى الالتحاق بصفوف "البطّالين" والمعطّلين عن العمل من أصحاب الشهادات العليا بمجرّد تخرّجهم، وقد يضطرّ الطالب في أحسن الأحوال إلى العمل في مجال لا علاقة له بمجالتخصصه وبأجر زهيد.
لذلك لم تنجح جميع محاولات الإصلاح المتعدّدة للتعليم عبر ستّين سنة، لأنّها لم تنبع من الدّاخل، ولم تنبثق عن العقيدة الإسلامية التي هي عقيدة الناس، بل كانت كلّها إملاءات مسقطة من الخارج، ومن جهات لها علاقة مباشرة بالاستعمار مثل البنك الدّولي وهيئة الأمم المتّحدة والاتحاد الأوروبي...، فزادت في إفقار العقول وتدمير التفكير والإبداع والقضاء على كلّ مبادرة، أمّا العقول النابغة فيتمّ دفعها للهجرة ومغادرة مواطنها ليستفيد منها الغرب ويُحرم من إنتاجها البلد. وذلك كله بسبب محاولات الإصلاح الفاسدة والفاشلة خلال هذه المدّة.

واقع التعليم في تونس
مرّت منظومة التّعليم في تونس منذ خروج الغزو العسكري الفرنسي من البلاد وحتّى اليوم بمراحل عديدة ومختلفة وكلها تحت عنوان إصلاح التعليم. وقد تنوّعت مشاريع وبرامج الإصلاح على النحو التّالي:
كانت البداية سنة 1958 مع برنامج محمود المسعدي الذي كان تطبيقا لمشروع الاتّحاد العام التّونسي للشغل، وقد تمّ ترويج هذا البرنامج على أنّه نموذج موحّد يهدف إلىإنتاج المكوّنات الرئيسية لما سمّوه حينها "الشخصيّة التّونسيّة". وسرعان ما انكشف المستور، وتبيّن أنّ ما كان يُروّج له ليس ألا تضليلا متعمّدا للشعب، حيث أنّ برنامج المسعدي أو برنامج الاتّحاد العام التّونسي للشغل لم يكن إلا نسخة مشوّهة من برنامج الخبير الفرنسي "جان دوبياس"، وقد تمّ اقتباسه من أجل إنهاء الصراع بين المدارس الزيتونيّة والمدارس الفرنسيّة، ولم يكن هذا الإصلاحإلا عمليّة مُمنهجة تهدف بالأساس إلى "فرنسة" المناهج التعليميّة التي خرّجت أجيالا من المتعلّمين غرباء عن حضارتهم وتاريخهم وقيمهم، منبتّين في محيطهم،ومضطربين في شخصيّاتهم.
كما قامت السّلطة حينها، وعن طريق وزارة التعليم العالي، وطوال الفترة التي أعقبت ما يسمّى بالاستقلالبإرسال مجموعة من الأساتذة الجامعيين والخبراء إلى فرنسا بمنح حكوميّة لينخرطوا فيما بعد في سياسة الدّولة لتغريب التّعليم و"فرنسته"، هذا إلى جانب العمل المقصودلإفراغ الجامعة في تونس من طاقاتها،إذ لم يكن مسار التّعليم قادرا على استيعابهم، مما دفع العدد الكبير منهم للبقاء في الخارج لتنتفع بإمكاناتهم الشعوب الأخرى "هجرة الأدمغة".
وكان العنوان الأبرز لتلك الفترة هو الصراعات الإيديولوجية، ومهادنة السّلطة البورقيبيّة، والتزلّف إليها على حساب التعليم والأجيال، ولم تأت فترة التعاضد إلّا والوضع قد وصل مرحلة الانهيار التعليمي التّام.
وفي أواسط السبعينات،وأمام هذا الانهيار الكبير للتعليم جاءت مرحلة أخرى أكثرإفسادا للتّعليم , وأشدّ قتامة على التلاميذ والطّلبة والمربّين والأساتذة على حدّ سواء، وهي المرحلة التي اتّسمت حينها بما عُرفبـ"إصلاح الإصلاح" حيث تمّ فصل التّعليم المهني عن التّعليم العام، وتقسيم التعليم الثانوي إلى مرحلتين تتوّجان بامتحان البكالوريا.
ولم تنفع مراحل الإصلاح التّي سوّقوا لها في تغيير وضع التّعليم ومعالجة الخلل، بل إنّ وجوها كثيرة مثل المسعدي وأحمد قريعة ومحمّد مزالي ومحمد الشّرفي مع برنامجه في تسعينات القرن العشرين كانت تتساقط مع كلّ محاولة إصلاح كأحجار الدومينو، فينكشف مع سرعة سقوطهم حجم التضليل وزيف الدّعاية.
لقد كان ميدان التّعليم في تونس حقلا للتجارب المختلفة على شاكلة النّاسخ والمنسوخ، كما كان ميدانا لوزراء مغتربين عملوا على وضع بصماتهم الفكرية والإيديولوجية ذات الخلفية الغريبة عما يعتقده الناس، وجعلوا من التّلميذ والطّالب خلال كلّ هذه المدّة محورا لتجاربهم. وبذلك فشل التّعليم في تكوين شخصيّة يمكن تمييزها عن غيرها فضلا عن تميّزها، إلى درجة عجز العقل عن الحكم عليها وعلى ماهيتها بسبب ما اتّسمت به من انفصال بين العقل والشعور، وبين فكرها والعقيدة التي يعتنقها صاحبها،وأصبح ظاهرا جليّا أنها شخصية "لامُنْتَمِية"، فلا هي بالشخصيّة الإسلامية، ولا هي بالشخصيّة العلمانية الرأسماليّة، ولا بالشيوعية، ولا شيء آخر بعينه بل هي شخصية فوضوية تجمع بين جميع المتناقضات والمختلفات، مما تولّد عن ذلك أجيالا فاقدين للانسجام بين فكرهم وشعورهم.
وفي تسعينات القرن الماضي جِيءَ بمحمّد الشّرفي فَأَعْمَل معاول الهدم والإفساد في سياسة التّعليم وبرامجه، وأوصل التعليم إلى مرحلة خطيرة من تجفيف المنابع والانسلاخالفكريعن المحيط الإسلامي، بعدما أُوكِلَت إليه مهمة اجتثاث كلّ ما تبقى في مواد التّدريس من أيّة أفكار لها علاقة بالإسلام، فتمّ إلغاء جزء كبير من تاريخالإسلام والمسلمين ومنع تدريسه، وما بقي منه شُوّه على طريقة المستشرقين، وصار التعليم غريبا عن الواقع والتّاريخ، وخاليا من كل القيم الرّفيعة والحكمة، وأصبح الطالب والتلميذ يشعران بالغربة والانبتات وهو الأمر الذي أدخل الجامعة في حقبة خطيرة من الصراعات والعنف امتدّت إلى سنة 1994 تاريخ التحوير الوزاري وخروج الشرفي.
واستمرّت عمليّات "الإصلاح" المزعوم مع مجيء الوزير الأزهر بوعون الذي أحدث برنامج كارثة التعليم التي عُرفت بثلاثيّة ـ أمد ـ "الإجازة-الماجستير-الدكتوراه"،ولم تكن تلك المحاولةأيضا إلّا نسخة مشوّهة عن اتفاقية بولونيا لسنة 1999م، وقد أدّى هذا البرنامج إلىإيجاد واقع جديد كلّيا لم يراع فيه واقع البلاد وسوق الشّغل، ممّا جعل من الجامعة مصنعا لتفريخ البطّالين، وصارت البلاد مخزنا للمعطّلين عن العمل من أصحاب الشهادات العليا الذين أصبحوا يُعدّون بالآلاف،ويذكر أنّ جميع ذلك كان يحدث على مرأى ومسمع من جميع نقابات التّعليم ومنها نقابة التعليم العالي ونقابة التعليم الثانوي إلى جانب الاتّحاد العام التونسي للشغل.
وفي سنوات الربيع الأمريكي العجاف على كل المستويات، تداولت على وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي والبحث العلمي وجوه كثيرة خبطت خبط عشواء، كالأعمى الذي لا يدري أَوَقَعَتْ عصاه في الطُّهر أم في النّجاسة، وتصاعدت منذ سنة 2014 الدّعوات من جديد المنادية بإصلاح المنظومة التّعليميّة، ولكنّها دعوات جاءت هي الأخرى كسابقاتها استجابة سريعة لما تمّ فرضه من البنك الدّولي ومؤسسة "آغورا"الدولية، إلى جانب كونها بنود قد سبق رسمها وإعدادها مسبّقا على قائمة "مشروع الشّرق الأوسط الكبير" الذي يُنفّذ علينا باسم الربيع العربي وتحت شعار الإصلاح ومكافحة الفساد .
إلى أن جيء بناجي جلول على رأس وزارة التربية والتعليم الذي أجهز على الأنفاس الباقية التي كان يتنفسها التلميذ ويشعر من خلالها بارتباطه بمحيطه الإسلامي، حيث لم تسلم من هذا الوزير حتى آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فعمد إلى حذفها من نصوص الكتب المدرسية وخاصة في مواد التربية واللغة والفلسفة وعوّضها بنصوص منتقاة تدعو للرذيلة والتفسخ الأخلاقي وما أسماه هو بـ "ثقافة الجسد". بل تمّ مسح كل ما له علاقة بالإسلام والعقيدة الإسلامية، أو تشويه ذلك في سياق الحرب المعلنة على الإسلام التي يخوضها المغتربون من أبناء جلدتنا نيابة عن الغرب لفرض الحضارة الغربية ومفاهيمها عن الحياة، وتمّ تحويل المدارس والمعاهد إلى مرتعللمجون والرقص والعبث،وأصبحت ساحات المؤسسات التعليمية سوقا خصبة لتجارة المخدرات واستهلاكها، ومسرحا للصراع والتنافر والصدام بين مكوّناتها (تلامذة وطلبة وأساتذة وإداريين)،فانتشر تبعا لذلك العنف المدرسي، وأخذ منحى الجريمة، وتفاقمت حالات الانتحار والاكتئاب الجماعي، وضُرب الحجر على السلطة المعنوية للمعلمين والأساتذة حتى لا تكون لهم القدرة على الوقوف في وجه هذا الانهيار. وارتفعت نسبة المغادرين لمقاعد الدراسة في صفوف التلاميذ والطلبة علاوة على تضاعف معدلات البطالة بين حاملي الشهادات العليا، وكل ذلك باسم الإصلاحوالفنّ والثقافة.

انتشار المخدرات ترويجا واستهلاكا حالات الانتحار
النسبة: 70% من المزاولين للتعليم
60% من النسبة تتراوح أعمارهم
بين 13 سنة و18 سنة.
60% من الذكور.
40% من الإناث. سنة 2014 ====== 323 حالة.
سنة 2015 ====== 549 حالة.
مع وجود 54 حالة من الأطفال دون 15 سنة.
نسبة الارتفاع بين السنتين: 170%.
العنف المدرسي هجرة مقاعد الدراسة
النسبة: 52% من مجموع عدد التلاميذ.
48% يمارسون العنف في محيط المدرسة.
معدّل 9727 حالة عنف سنة 2015 استوجبت العقاب ضد الفاعل. معدّل 100 ألف تلميذ سنويا.
نسبة 37% منهم مرتاحون لمغادرة مقاعد الدراسة.
البطالة
242 ألف عاطل عن العمل من حاملي الشهادات العليا.
ونسبتهم بين مجموع عدد العاطلين عن العمل تساوي: 32%.





وهكذا تكررت محاولات الإصلاح الترقيعية الفاشلة والتي زادت في تعميق أزمة التعليم تحت عنوان "إعادة هيكلة القطاع"، كما تكرر سير السلطة في نهج الانقياد الأعمى للاملاءات "الإصلاحية" المفروضة من الدوائر الاستعمارية، وذلك طمعا في قروض ومساعدات مشروطة توقّعها السلطة في شكل اتفاقيات وتتعهد بموجبها بتنفيذ جميع ما يطلب منها، وغالبا ما تكون هذه القروض مصحوبة بوفود ومندوبين من طرف تلك المؤسسات الاستعمارية بغاية الإشراف على السير في بنود الاتفاقيات والتحقق من تنفيذها ومراقبة مدى استمرار السلطة في الانضباط لها. وقد شمل ذلك كل الوزارات تقريبا وبخاصة وزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي والبحث العلمي، والشباب والطفولة.
وإمعانا في تضليل الناس وصرفهم عن محاسبتها تسير السلطة في تنفيذ تلك الاملاءات الأجنبية تحت شعار "المدرسة الجديدة" التي لم نر من جِدّتِها سوى إنفاق مئات المليارات في صفقات مشبوهة على تجميل واجهات المدارس والمعاهد والكليات وترميم الجدران وبناء الأسوار وصيانة الأبواب، دون أن يكون ذلك عاما شاملا للمدارس في الجهات النائية التي تفتقر لأبسط الحاجيات، ودون أن يتمّ معالجة الأزمة الحقيقية المتمثلة في فساد سياسة التعليم ومناهجه السائدة وبفساد الفكرة التي تقوم عليها.

الأسس الصحيحة لبناء سياسة التعليم
تنشأ الدّول بنشوء أفكار جديدة تقوم عليها، وتتحوّل السّلطة فيها بتحوّل هذه الأفكار، لأنّ الأفكار إذا تم تشخيصها في الذهن ووقع التصديق بها تحولت إلى مفاهيم وقناعاتوأثّرت في سلوك الإنسان، وجعلت هذاالسلوك يسير بحسبها، فتتغيّر نظرة الإنسان للحياة وتبعا لذلك تتغيّر نظرته إلى المصالح.
والسّلطة إنما هي الجهة التّي ترعى شؤون النّاس وتشرف على تسيير العلاقات بينهم، ولذلك كانت النظرة إلى الحياة هي التي تؤسس الفكر عن تنظيم العلاقات وهي الأساس الذي تقوم عليه الدّولة، وهي النظرة التي تحدّدها العقيدة التّي يعتنقها الشّعب أو الأمّة. وبذلك تكون العقيدة هي أساس الدّولةوأساس كل العلاقات، وهي القاعدة التي يجب أن تُبنى عليها كل السياسات في المجتمع ومنها سياسة التعليم ومناهجه. وما دام الشعب في تونس شعبا مسلما يعتنق العقيدة الإسلامية ويمثل جزءا لا يتجزأ من الأمةالإسلامية فيجب أن تكون العقيدة الإسلامية لا بوصفها الروحي فقط وإنما بوصفها عقيدة روحية عملية سياسية هي القاعدة التي تُبنى عليها السياسات وهي محل انبثاق كل المعالجات التي تنظم تلك السياسات ومنها سياسة التعليم.
لذلك فانّ أوّل خطوة في طريق معالجة الوضع الرّاهن برمّته، والتّعليم جزء منه، يجب أن يبدأ من تحديد الأساس والانطلاق منه،لأنه يمثل المضمون وذلك قبل البحث فيالأساليب،أي يجب أن يكون الأساس الذي تبنى عليه سياسة التعليمومنهجهوالغاية المحددة منه هو العقيدة الإسلامية، فتوضع مواد الدّراسة وطرق التّدريس جميعها على الوجه الذّي لا يُحدث أيّ خروج في التّعليم على هذا الأساس.ومعنى جعل العقيدة الإسلامية أساسا لمنظومة التّعليم ومنهجه هو أن تُبنى جميع المعارف والأحكام والمواضيع المدرجة على العقيدة، فما ناقضها لا يؤخذ ولا يُعتقد به كالاشتراكية والشّيوعيّة والرأسماليّة العلمانية والوجوديّة والدّاروينية وغيرها، وما لم يناقضها جازأخذه،أيأن تكون العقيدة هي مقياس الأخذ والردّ.
أمّا من حيث باقي أصناف العلوم كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والهندسة والطبّ والجيولوجيا وغيرها، فلا يوجد مانع يمنع أخذها وتعلّمها، لأنّها عامة ويجب أن لا تكون حكرا على شعب دون آخرأوأمة دون أخرى. فكل ذلك من باب المدنية التي يجب أن تسعى لتحصيلها كل الأمم والشعوب ولا علاقة لها بالمفاهيم الحضارية للأمم والشعوب.والأدلّة جاءت عامّة فيها وفي الحث على طلب العلم "اطلبوا العلم ... ".
وعليه فان سياسة التعليم ومناهجه يجب أن تبنى على العقيدة الإسلامية وأما الغاية الأولى من ذلك فهو بناء الشخصية الإسلامية في عقليتها ونفسيتها. تلك الشخصية القادرة على خوض غمار الحياة بقوة الفكر وسلاح العلم.
هذا بالنسبة لأسس سياسة التّعليم ومنهجه والغاية منه، ويتمحور ذلك حول جعل العقيدة الإسلاميةأساسا عند إعطاء الأفكار والمعارف بُغية بناء شخصيّة إسلاميةمتميّزة،وهو الجزء المتعلّق بنظام التّعليم ومنهجه.والذي يجب أن تبرمج فيه المعارف العلمية لتنمية العقل كما تبرمج فيه أيضا المعارف الشرعية المتعلقة بأفعال الإنسان.
أمّا بالنسبة للقوانين الإدارية المتعلّقة بتنفيذ سياسة التعليم ومنهجه، فهي الوسائل والأساليب المباحة التّي تتّخذها الدّولة في تنفيذ نظام التّعليم وتحقيق الغايةمنه، وهي تمثل مختلف أوجه النّشاط الإداري والتعليمي الموجّه الذي تقوم به الإدارةوالمدرّس والمربّي من أجل إيصال الأفكار والمفاهيم ومختلف المعارف إلى التلاميذ والطلبة. أيهي المتعلقة بأساليب التعليم ووسائله ومراحله ودوراته وهي ما نسميه "البيداغوجية". ويجب أن تتّصف هذه القوانين بالبساطة والنجاعة والقدرة على مواكبة الحاجات الأساسيّة للأمّة .
وإلى جانب ذلك تهيّئ الدّولة وبشكل ضروري المكتبات العامة والمختبرات وسائر وسائل المعرفة في غير المدارس والجامعات لتمكين كل الذّين يرغبون في مواصلة الأبحاثمن إتمام نشاطهم العلمي في شتّى المعارف من فكر وطبّ وهندسة وكيمياء، ومن فقه وأصول فقه وحديث وتفسير،ومن اختراعات واكتشافات وغير ذلك مما له علاقة بالعلم والتعلم.
وبذلك يُزال كل حشو لا فائدة منه في مواد الدراسة وبرامجها، ويتمكّن الطالب من التخرّج بسرعة، مما يؤهله للدخول في معترك الحياة وممارسة حياته الطبيعية كانسان في مرحلة مبكرة من عمره، وينتهي الانفصال ما بين شعور الطالب وفكره ويتحفز للبذل والعطاء وهو لا يزال يتمتع بالقوة والعنفوان،وتتمكن مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا من إعداد أجيال من العلماء والمجتهدين والمخترعين والمكتشفين والمهندسين والمبدعين في جميع مجالات الحياة.

الخاتمة
إنه بالرغم من أن سياسة التّعليم ومناهجه السائدة حاليا مؤسسة في الأصل على فكرة فاسدة هي فكره فصل الدين عن الحياة، وهو الأمر المشترك بين جميع سياسات التّعليم ومناهجه في كافّة البلاد الإسلامية، وبالرغم من فشل هذه السياسة وتلك المناهج في بناء شخصيّة الطّالب لتكون شخصيّة، وفشلها في بناء الدّولة والمجتمع عموما على أسس صحيحة وواضحة مما أفقدهما جميع القيم الرّفيعة وأحدث تنافرا في العلاقات وصداما بينها ـ بالرغم من ذلك كله ـ فإن حكام العالم الإسلامي لا يزالون يبذلون الجهود لترقيع تلك السياسات وتنفيذها تحت مسمى "الإصلاح"، وذلك كله استجابة للإملاءات الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيّة التي تعمل على تدويل النظام العالمي الجديد تحت شعار العولمة وما يعنيه ذلك من فرض النظام الرأسمالي العلماني وأفكاره على العالم، وخاصّة على المسلمين لأنّهم يمثلون الجهة الوحيدة التي تهدّد الحضارة الغربية الفاشلة في وجودها بسبب اعتناقهم للإسلام بوصفه مبدأ للحياة، هذا الغرب وبقيادة أميركا يشنّون حربا عنيفة على الاسلام والمسلمين، حربا دمويّة وفكريّة، سياسية واقتصادية، ومن مظاهر هذه الحرب فرضهم على دول المنطقة سياساتومناهج تعليم أكثر فشلا، وأشدّ عداء للإسلام وللعقيدة الإسلامية، إذ رغم فساد جميع المنظومات التعليميّة في البلاد الاسلاميّة،ولكنه يسوء الغرب والمضبوعين بثقافته من بني جلدتنا أن تحتوي هذه المناهج بعض الآيات والأحاديث، وبعض الأفكار والأحكام الإسلامية، فكان لا بدّـ في نظرهم ـ من "تطهير" المناهج من هذه "المظاهر" الإسلامية، واجتثاث كل ما يتصل بالإسلام من جذوره، وتعزيز قيم العلمانية والحضارة الغربية التي لها حضور واضح في الكتب المدرسية، والاستعانة على ذلكبالدّعاية الزائفة والتّرويج الكاذب لها تحت عنوان " إصلاح التّعليم".
إن هذه الحملة التي تشنها هذه الأقلام المسعورة عبر الإعلام المأجور ليست منفصلة أبدًا عن الهجمة الدولية على الإسلام والعالم الإسلامي بقيادة أكريكا، بل هي جزء من الهجمة الشرسة التي تريد فصل ارتباط الأمة بعقيدتها وهويتها، وتجفيف منابعها، ولم يقتصر الأمر على سياسات التعليم ومناهجه، وإن كان هو الأبرز، بل شمل ذلك أيضا الإعلام وطبيعة المواضيع التي يتناولها والقضايا التي يعالجها، في خطة شاملة ودقيقة، تهدف إلى أن يعتنق الناس دينا على مقاس رغبات أمريكا، والذي يسمّى حسب مؤسسة راند بـ"الإسلام الديمقراطي المدني"، وهو ما يسمونه بـ"الإسلام المعتدل"!، ولا يعني ذلك إلا إفراغ الإسلام من مضمونه، وجعل مفاهيم الحضارة الغربية وأفكارها من ديمقراطية وتعددية وحريات عامة وحرية اقتصادية هي المضمون لهذا "الدين الجديد".
وأمام هذا الهدف الفظيع ـ والذي لا يخفونه ـ كان لابد لنا من اليقظة وإدراك حقيقة ما يدبِّره لنا الغرب المستعمر أميركا وأتباعهم. ونحن شباب الأمة مَدْعُوّون اليوم قبل غيرنا ليس للدّفاع عن عقيدتنا وديننا، وعن وجودنا كأمة، بل نحن مدعوون للهجوم على هذه الفكرة الفاسدة فكرة "فصل الدين عن الحياة" ومشتقاتها وتوابعها وكشف فساد هذه الأفكار الغربية التّي يتمّ التّرويج لها في "دمغجة" خطيرة للعقول عبر وسائل الاعلام المأجورة والسياسيين الفاسدين ومن خلال القوانين الوضعية، وبيان فساد شعار "إصلاح التعليم" والتدليل على أنه شعار مضلّل لا يزيد الأزمة الّا تهميشا وتعقيدا. فالأمم تبقى ببقاء عقائدها وأفكارها وتزول بزوالها.
لقد آن أوان المفاصَلة بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال. فأميركا والغرب ومعهم أذنابهم من الذينيحكموننا، ومَن حولهم من سياسيين ومفكرين ورجال اقتصاد وإعلام وغيرهم من المضبوعين بالرأسمالية والمفتونين بطريقتها في العيش، وكل المنادين بـ"الدين الجديد" في خندق واحد هو خندق الباطل، والواعون المخلِصون من حَمَلة الدعوة الإسلامية ومعهم كل الغيورين على دينهم من أبناء الامة الاسلامية في خندق الحق.
وإنها لمعركة فاصلة يتقرر فيها مصيرنا، إذ ليس بعدها إلا الحياة وعزة الدنيا والآخرة، أو الموت وخزي الداريْن. فكل مسلم مؤمن بالله ورسوله، وبالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مطالَب اليوم بالوقوف في خندق الحق، ولا خيار له في ذلك، لأنه لا مجال في هذه المعركة المصيرية للوقوف على الحياد.
" هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون "

أفريل 2017 م

"نادي رؤية الثقافي"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يوقع حزم المساعدات الخارجية.. فهل ستمثل دفعة سياسية له


.. شهيد برصاص الاحتلال الإسرائيلي بعد اقتحامها مدينة رام الله ف




.. بايدن يسخر من ترمب ومن -صبغ شعره- خلال حفل انتخابي


.. أب يبكي بحرقة في وداع طفلته التي قتلها القصف الإسرائيلي




.. -الأسوأ في العالم-.. مرض مهاجم أتليتيكو مدريد ألفارو موراتا