الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاكمة القرد أم محاكمة الفكر؟ على المسرح القومى

أيمن غالى

2017 / 4 / 22
الادب والفن



يحاصرنا صفير الريح حين تمر بين فراغات المكان ، المدينة كالسجن الكبير لاتحوى سوى الفراغات ، بين الأرض وبين السماء سلم حديدى طويل يمتد بقطر الأفق كالخط الفاصل أو الواصل بينهما ، السماء تحاصر هامات الأبنية وهامات البشر ، ناس المدينة يجوبون سوق الحياة يعرضون بضاعتهم فهذا يبيع المأكولات وهذا يبيع الكتب المقدسة ، هذه تبيع الورود وتلك تبيع الهوى ، وذاك يربط قردا فى سلسلة يتسول به ، ووجه الكاهن رجل الدين يحتل فراغ السماء يتلو تراتيله وترانيمه المقدسة فتتماوج حركة السائرين فى الطرقات يرددون كجوقة من المجاذيب " ماورثته عن ابى فيه خير لى وكفاية " ، هذا هو عيشنا على الارض وذاك هو ميراثنا من السماء .
"ميراث الريح" رواية من تأليف جيروم " لورانس وروبرت إي لي " وهى مأخوذة عن واقعة حقيقية حدثت فى احدى الولايات الأمريكية عام 1925 حيث أُتُهِمَ أحد مُدَرِسى الولاية بتدريس نظرية التطور والإرتقاء " لداروين " التى ترصد تطور وأصل أنواع الكائنات الحية وتنتهى إلى فرضية علمية بأن الإنسان هو نتاج عمليات تطور وإصطفاء طبيعى تراكمت عبر مئات الآلاف بل ملايين السنين على الأرض كان آخرها التطور من سلالة القرد ، وهو الإفتراض الذى يختلف عن التصور الدينى عن نشأة الخلق . ولذا تتم محاكمة المدرس وإتهامه بمخالفة القانون الذى منع تدريس تلك النظرية فى المدارس ، ويتطوع بالإدعاء ضد المدرس أمام المحكمة "السيد الفاضل" وهو السياسى الأشهر والمرشح الرئاسى السابق والمدافع عن الدين والفضيلة وعن البسطاء فى دعاياته الإنتخابية وهو رجل الدولة وصديق أجهزتها وبذلك ينال بركات وتأييد الكاهن رجل الدين الذى يسيطر على عقول البسطاء بآيات الكتاب المقدس . وعلى الجانب الآخر تُكلِف أشهر صحف المعارضة للدفاع عن المدرس أكبر وأعتى المحامين الحقوقيين وهو المكروه من الدولة ومن رجال الدين ومن عامة الناس لمواقفه وآرائه الليبرالية المثيرة للجدل والصادمة للمجتمع والداعية للتفكير وبذلك يؤرق مضاجع اصحاب المصلحة فى إستكانة وخضوع العامة . وأيضا تكلف الجريدة أشهر الصحفيين المعارضين بتغطية المحاكمة . وأطلقت الصحافة على هذه المحاكمة إسم " محاكمة القرد " وأصبحت حديث الساعة والرأى العام حينها .
ومن حيث حاولت نظرية داروين رصد التطور الفيزيائى للإنسان حاول العرض المسرحى "المحاكمة" الذى يعرض على خشبة المسرح القومى والمأخوذ عن نفس الرواية برؤية إخراجية لطارق الدويرى رصد مراحل التطور المعرفى للإنسان ، هل مازالت فى إتجاه التطور الصاعد على سلم المعرفة أم أنها تكلست وتجمدت بالإكتفاء بالإيمان الغيبى بالحقيقة المطلقة ولم تعد فى حاجة إلى النقد أو التطوير الفكرى ؟ وماهى الآليات المحركة لعملية التطور المعرفى للإنسان ؟ هل هى التفكير العقلى والمنطق الجدلى أم الإيمان المطلق بالغيبى وإعلائه فوق النقد والتفكير ؟ هل حرية الفكر وإعمال العقل تدفع الانسان للإرتقاء أم أنها تكدر وتهدم ميراثه الفكرى والوجدانى الثابت المقدس فلا يرث الإنسان عنها سوى الريح وفق مقولة الكتاب المقدس "من يكدر بيته لايرث إلا الريح" ؟ ، فمازال الإنسان حتى الآن فى القرن الواحد والعشرين يطالب بحق الإنسان فى التفكير !! ، حق الإنسان فى الإختلاف !! ، حق الإنسان فى إستخدام عقله !! ، ومازالت آلة القمع الإجتماعى تمارس فاشيتها تحاول الإلتفاف على حرية الفكر وتطويقه وإرهابه وتضليله فى مدارات الدين والأخلاق . فالحق فى التفكير هو موضوع هذه المحاكمة . حرية التفكير العلنى هو موضوع هذه المحاكمة .

فالعرض موضوعيا يتناول الصراع بين النسق المعرفى القائم على الإعتقاد الغيبى فى إمتلاك الحقيقة المطلقة وبين النسق المعرفى القائم على البحث العلمى المادى وحرية العقل فى التفكير والرأى ، وينعكس هذا الصراع على ومن كافة عناصر العرض الفنية ، لدرجة الصراع بين الاجناس الفنية المستخدمة فى العرض حيث تداخلت السينما/الفيديو بروجيكتور على حالة المسرحة ، فخلقت حالة إستقطاب وإنشقاق فنى بين المسرحة والسينمائية ، وتشكل هذا الصراع وفق طبيعة كل جنس فنى منهما ، فالمعروف أن المسرح يتميز عن السينما بالتجسيد المادى الحى المباشر فالمسرح هو إتصال جماهيرى "مباشر" فالممثل موجود جسدا ماديا فى واقع المتلقى ، أما السينما فهى إتصال جماهيرى " غير مباشر" فالممثل يظهر عبر وسيط "الصورة الضوئية" وليس موجودا بجسده المادى وإنما وجوده غيبى " ميتافيزيقى" . فحينما تكون حالة السينمائية دال على الغيبى "السماوى" فى مواجهة حالة المسرحة كدال على المادى "الأرضى" فهذا يخلق تطابقا طبيعيا وموضوعيا بين طبيعة الجنس الفنى وبين دلالته الموضوعية ، فاستخدمت السينما "الفيديو بروجيكتور" فى عرض المحاكمة كمعادل فنى لعالم السماء والمعرفة الميتافيزيقية الغيبية فى مواجهة المسرحة كمعادل فنى للواقع المتجسد ماديا والمُدرَك بالمعرفة العلمية الحسية ، فحاول كل قطب منهما (السينما/المسرحة) الإستحواذ والسيطرة على الفراغ المسرحى وإعادة تشكيل سينوغرافيا المشهد المسرحى والإستحواذ على الشخصيات واستقطابها ونقلها إلى عالمه واستمالتها إلى سياقه وجنسه الفنى ، ودارت كافة العناصر الفنية فى فلك هذين القطبين وتشكلت ملامحها وفق إنتمائها لكل قطب
فنجد الديكور المسرحى يُصر على إستخدام خامة الحديد بإفراط مُبرَر لما لها من إنطباع بالصلابة والجمود ، وتَعمُد الطرق عليها لإبراز الصوت الحديدى وارتباطه المباشر ذهنيا بالسجن والعبودية فى إشارة الى الجمود المعرفى المتصلب على الواقع الحياتى للإنسان فيأسره فى سجن اليقين المعرفى .
وقد إنقسم تشكيل الديكور فى الخلفية إلى كتلتين (قطبين) متساويتين ، القطب الأول هو المساحة السفلية التى بها المجسمات المسرحية الدالة على الأماكن التى تدور بها الاحداث (المدينة – قاعة المحكمة – السجن ) وهى عبارة عن قضبان حديدية مستقيمة عالية متقاطعة وهى مساحة المسرحة الدالة على المعرفة الحياتية المادية وهى أرض الصراع والنزاع بين قطبى المعرفة ، لذا يتم نصب حلبة مصارعة داخلها بين السيد الفاضل وبين المحام ، والقطب الثانى يمثل السماء / شاشة السينما وهو مساحة من الفراغ يعلو المجسمات الديكورية ، ومنطقة السماء هى منبع إنعكاس الضوء السينمائى فهى مساحة توَلُد المعرفة الغيبية النابعة من اليقين السماوى المطلق ، وبين الكتلتين(القطبين) يوجد سلم حديدى مستقيم طويل يمتد بقطر خلفية المشهد يفصل بين الكتلتين ويصل بينهما فى نفس الوقت ، وبفرض تأويل أن هذا السلم دال عن درجات الإرتقاء المعرفى للإنسان فمجرد وضع السلم مكانيا فى وضع قطرى بين المستويين يوشى برفع مكانة كل ماهو سماوى عن مستوى المعرفة الانسانية ، وكلما صعدنا درجة من درجات سلم المعرفة الانسانية إجتزنا مساحة من مساحات الغيبى السماوى حتى نصل الى الدرجة العليا ، وقد حاولا السيد الفاضل ورجل الدين إرتقاء هذا السلم لكنهما لم يتجاوزا منتصفه ، ولم يستطع الوصول إلى قمة السلم سوى المحامى ، وفقط حين أمسك بالكتابين (كتاب نظرية داروين والكتاب المقدس) فى يده فى إشارة مباشرة الى ان المزج بين المعرفة المادية العقلية والمعرفة الغيبية الروحية هو السبيل الوحيد للإرتقاء المعرفى الإنسانى وهو مايتطلب بالضرورة تحرير العقل وحرية التفكير والرأى .
وانعكس ايضا ذلك الاستقطاب الفنى لعناصر العرض فى إنقسام الشخصيات مابين شخصيات تنتمى الى عالم السينما "السماوى" وأخرى تنتمى لعالم المسرح "الأرضى" . فالسيد الفاضل ورجل الدين ينتميان كليا إلى شاشات العرض السينمائى وتجلى ذلك بوضوح فى كثرة وتكرار ظهورهما السينمائى وكأنهما قد إحتلا منطقة السماء ، فهم وسطاء الإله الميتافيزيقى والمتحدثين بإسمه فكان ظهورهما عبر وسيط الصورة السينمائية دالا على تلك الوساطة للمعرفة الغيبية ، وتأكد هذا من لون ملابسهما الأبيض تماما وكأنهما جزء لايتجزأ من شاشة العرض السينمائى ، كأنهما خارجَين منها منتمَيين إليها ، وعلى الجانب الآخر نجد شخصيات المحامى والصحفى والمدرس لم يظهر أيا منهم سينمائيا فهم منتمون إلى عالم المسرح "الأرضى" الحاضر والمُتجَسِدُ ماديا وليس غيبيا ،
فدارت حركة شخصيات العرض بين المسرحة والسينمائية فهم شخوص تنتمى الى الواقع المكانى المادى المسرحى بلون ملابسهم وطريقة حركتهم ، فهم مرتبطون بواقع حياتهم ومعيشتهم ، لكن برغم انهم شخوص مسرحية الا أنهم جميعا تحت تأثير الحالة السينمائية كالمخطوفين إلى حالة ديماجوجية أشبه بالدروشة والإنسحاق التام أمام المقدس الدينى ، فى تطابق تام وشرطى بين طبيعة الجنس الفنى المستخدم وبين دلالته الموضوعية فى العرض ،
وعلى إمتداد هذا الصراع الفنى بين الحالة السينمائية والمسرحية كانت الإضاءة تهرب من الحالة المسرحية إلى الحالة السينمائية حيث استُخدِم تكنيك إضاءة الكادر السينمائى الذى يختزل الرؤية إلى مساحات محددة يراد التركيز عليها وتأكد ذلك ايضا من خلال سرعة تغيير حركات الاضاءة مما يتوازى مع التتابع السريع لكادرات السينما ، مما أعطى إنطباعا عاما بأن الحالة السينمائية تحاول فرض سطوتها الفنية على الحالة المسرحية .
وعلى المستوى اللونى سينوغرافيا سواء فى الملابس او الديكور أو الإضاءة أو حتى البوستر الدعائى للعرض جاء التركيز على الصراع القطبى بين الأبيض والأسود مرورا بدرجات الرمادى بينهما ونادرا جدا ماظهرت ألوان اخرى فى الملابس أو الإضاءة ،
ممايؤكد قصدية التقطب الفنى لكافة العناصر الفنية المرتكز والمتطابق موضوعيا مع قكرة التقطب المعرفى بين المادي والغيبيى ، بين البحثى النقدى والمستكفِ اليقينى ، بين المتحرك الحر والثابت الجامد ، فأدى الظهور السينمائى المتداخل مع الحالة المسرحية إلى خلق صراع درامى قطبى فنيا وموضوعيا ، حيث إتخذ كل طرف منهما وضعية قطب من أقطاب الصراع يحاول طرح ظلاله على كافة العناصر الفنية وصبغها بصبغته وتدويرها فى فلكه ، فلم يكن التداخل السينمائى على الحالة المسرحية مجرد ماكياج تجميلى شكلى مجاني بلا مبرر موضوعى ، وإنما ارتبط بالموضوع إرتباطا شرطيا طبيعيا ، وهو تكنيك إستخدمه المخرج طارق الدويرى كثيرا فى عروضه الأخيرة ، فقد إستخدمه فى "المحاكمة" منذ عرضها اول مرة عام 2014 على مسرح ميامى وإستخدمه أيضا فى عرض " الزومبى " عام 2016 على مسرح الهناجر ، وكان لى مقال نقدى نُشر فى اليوم السابع بعنوان " الزومبى والخطايا العشر يعيد الهناجر لصدارة المشهد " .
وتأتى أهمية هذا العرض مضمونا حيث عرض لأول مرة على خشبة مسرح ميامى مواكبا للأحداث التى مرت بمصر حينها حيث وصل للحكم فصيل ذو خلفية دينية فإجتمعت فى يديه سلطة الدين وسلطة الدولة فحدث تطابق موضوعي تام بين الطرح الموضوعى للرواية/العرض وبين الواقع الإجتماعى المعاش حينها ، أما عن أهمية اعادة عرضه الآن بعد ان أقصى الشعب المصرى هذا الفصيل عن سدة الحكم فتأتى من أن فكرة تقييد حرية الفكر والرأى هى فكرة إنسانية عامة مهما إختلفت أشكال السلطة المقيدة للفكر والرأى سواء كانت فاشية دينية او فاشية بوليسية او عسكرية ، فالعرض وإن كان تعرض بشكل مباشر لتأثير الفاشية الدينية على تقييد حرية الفكر والعقل الإنسانى لكن كان هذا مجرد إطار خاص لفكرة الفاشية العامة بمختلف أنواعها وظهر هذا من خلال تجريد وتعميم كافة أسماء الشخصيات والإكتفاء بصفتها العامة ، فأسماء الشخصيات فى العرض لم تحمل أسمائها الخاصة التى وردت فى رواية "ميراث الريح" فكانت أسماؤهم هى السيد الفاضل – السيد المحترم – رجل الدين - المدرس – حاجب المحكمة – بائع الكتب المقدسة – محافظ المدينة – القاضى .. إلخ . وظهر ذلك ايضا فى فكرة القرص الدوار فى منتصف خشبة المسرح الذى أكد على نسبية المعرفة وأنه لاتوجد معرفة تمتلك اليقين المطلق سواء فى إطار دينى او إطار وطنى سياسى أو أى إطار آخر ، فحين تحول ديكور المشهد إلى حلبة مصارعة بدأ دوران القرص الدوار فتغيرت وتعددت زوايا رؤية الصالة للحدث مما ينقلنا الى المنهج التكعيبى مباشرة ممايطلق الموضوع إلى آفاق ومستويات مفتوحة على إمتدادات هذه الزوايا ، وبالتالى يحرر الموضوع من قالبه الخاص إلى قالب عام على إمتداده ، فهنا يحاول العرض الهجوم على آليات تقييد الفكر الانسانى العام مهما إختلفت وتنوعت آليات التقييد والقمع ، فليس مجرد نقد آلية معينة (دينية) تمارس هذا القمع ، انما حرية التفكير هى قضية هذه المحاكمة ، ومن هنا أتت أهمية إعادة العرض على المستوى الموضوعى .
أما على المستوى الفنى يجب التنويه أن عرض المحاكمة فاز فى مهرجان المسرح القومى المصرى عام 2015 بعدة جوائز كأفضل عرض مسرحى وأفضل مخرج ، وأفضل ممثل وأفضل موسيقى ، فهو مباراة فى الاداء التمثيلى بين عملاقين مخضرمين من أساتذة التمثيل المسرحى هما الفنان القدير / أشرف عبد الغفور ، والفنان القدير / سامى عبدالحليم بالاضافة الى نخبة ممتازة ومحترمة المسرحيين / عماد الراهب - سامح فكرى - سلمي الديب - حماده شوشه - زين نصار - عاصم سامي - عادل خلف ، ومجموعة من الشباب الواعد مسرحيا ، الديكور/ محمـد جابر ، والإضاءة / أبو بكر الشريف ، والموسيقى / تامر كروان ، كاريجورفي/ ضياء شفيق ، ماده فلميه / عمرو وشاحي ، تصميم دعاية / عمرو حسني . هذا وقد تم مد عرض المحاكمة حتى آخر ابريل الحالى بقرار من وزير الثقافة ويُعرض يوميا على خشبة المسرح القومى الساعة 8 م عدا يوم الاربعاء . عرض جدير بالمشاهدة والاحترام موضوعيا وفنيا ومثير للجدل والنقد الفنى والفكرى كعادة عروض المخرج المبدع / طارق الدويرى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا


.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني




.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع