الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (9)

موسى راكان موسى

2017 / 4 / 22
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية




عالم الايديولوجيا التوسعي (ص 48ـ52) :


في كتاب طبع في مطلع سنوات السبعين (و اسمه الصدفة و الضرورة) حاول عالم الطبيعيات جاك مونود أن يشخص هذا القلق ـ فكتب يقول : في غضون ثلاثة قرون احتل العلم موقعه في المجتمع : في الممارسة و لكن ليس في العقول . إن المجتمعات الحديثة قد بنيت على العلم ، و هي مدينة له بثروتها و قوتها . و لكن إذا كانت المجتمعات الحديثة قد قبلت الثروة و السلطات التي قدمها لها العلم فإنها بالكاد فهمت و لكن لم تقبل الرسالة الأعمق للعلم : تعريف نبع جديد و فريد للحقيقة ، ضرورة مراجعة شاملة لقواعد الأخلاق و قطيعة جذرية مع التراث الأحيائي ، و التخلي النهائي عن (( الحلف القديم ، و ضرورة عقد حلف جديد )) .


إن (( التراث الأحيائي )) ، و (( الحلف القديم )) الذي يشير إليه جاك مونود ، هو في الواقع (( الوعي الايديولوجي )) : أي الاختلاط الحاصل بين (( الوقائع )) و (( القيم )) ، أو أيضا بين ما (( هو كائن )) و (( رغباتنا )) ، أو أيضا لكي نستعمل لغة هيغل (الذي كان يخلط بين هذه الأمور) بين (( الكائن بذاته )) و (( الكائن لنا )) . و (( الحلف الجديد )) هو على العكس من ذلك وعي الانفصال الذي لا مفر منه بينهما .


أما النتيجة (و هي غير (( علموية ))) التي وصل إليها عالم الطبيعيات الفرنسي فهي أن قلق مجتمعنا يعود في آن معا إلى حفاظه على (( الحلف القديم )) في ظروف جديدة تطورت و جعلت منه مستحيلا ، و إلى حقيقة أنه مع فك الحلف يستيقظ الانسان من (( حلمه المستمر منذ آلاف السنين )) لكي يكتشف لا مبالاة و لا توافق الواقع مع رغباته ، و عرضية وضعه في الكون . غير أنه ، و مهما كانت قيمة تشخيص العالم الفرنسي فإن شيئا واحدا كان مؤكدا : منذ 1980 جرت الأحداث (على الأقل فيما يخص إيطاليا) في اتجاه معاكس تماما لما كان قد تمناه . (( فالوعي الايديولوجي )) تمدد بشكل مرعب (لعل ذلك يحصل لأول مرة على هذا المستوى من الجماهيرية) حتى ابتلع و هضم كل شيء . إن الايديولوجيا قد كانت دائما موجودة . إلا أنها حظيت (( بقفزة نوعية )) ، أعطتها تقريبا سمة أو طابعا جديدا . في السابق كانت الايديولوجيا أساسا سياسية . كان هناك أشكال أخرى من الوعي و العقلية تسكن معها في داخل الفرد : في سلوكه العملي ، في عاداته ، في طريقة فهمه للحياة الخ ... و كان ذلك صحيحا حتى بالنسبة لمناضلين قدامى ملتزمين منخرطين منذ الأبد في النضال . و كان ذلك صحيحا مرتين كحد أوسط في بقية الحالات . في تلك اللحظة ، و فجأة تقريبا ، و خصوصا لدى الشبيبة ، تغير هذا الوضع .


أصبحت الايديولوجيا موجودة ضمنا ، تغلغلت في كل شيء ، احتلت مناطق و مواقع في الحياة و السلوك ، كانت حتى ذلك الوقت خارج حقل عملها ، و متروكة للتقاليد و العادات الموروثة و الحية .


هكذا إذن ظهر و لأول مرة (و على مستوى الجماهير ـ و هذا أمر حاسم) الـ(( الانسان الايديولوجي )) ، أي التجسيد الكامل و التحقيق الشامل لشيء لم يكن في السابق موجودا إلا بأشكال جزئية و غير كاملة . لقد استولت الايديولوجيا على العمل ، و على العلاقات بين الأجيال ، و بين الجنسين ، و على حقل الحياة الخاصة بأكمله ، إلى حد أنه يمكننا القول (و بهذا المعنى عن حق) بأن (( الشأن الخاص هو سياسي )) .


و من خلال هذا التوسع ، تكشّف (( الوعي الايديولوجي )) غازيا (( و شاملا )) بنفس الطريقة التي كان عليها من قبل (( الوعي الديني )) . و في الواقع فإنه ليس من قبيل الصدف بأن ما كان أزمة ، و فقدان امتياز ، عاشته الكنيسة في إيطاليا خلال تلك الفترة ، بدا و كأنه يساهم في عملية الانتقال هذه في وظيفة الايديولوجية . لقد وجد العالم الكاثوليكي التقليدي نفسه و قد اخترقه شعور بالقلق العميق أدى أحيانا إلى إعادة النظر و أحيانا إلى القطيعة في علاقات (( الانضباط )) و السلوك القديمة . و شهدنا حينذاك ولادة نوع من (( الدياسبورا الكاثوليكية )) (الشتات) أي التحرر ، و التشتت العنيف في ألف اتجاه و اتجاه لعدد من (( أشكال الوعي )) كانت في السابق متجمعة و منضبطة تحت راية الكنيسة .


لقد كان ذلك تكرارا لمسيرة جد معروفة . إن (( العقلنة )) التي سببها المجتمع الصناعي الحديث (و تأثير (( فك السحر أو خيبة الأمل في العالم )) الذي تحمله في طياتها على حد تعبير ماكس فيبر) كانت تفعل فعلها كمسحوق مذيب بالنسبة لتجربة (( المحرّم )) . و كانت تهدد الوعي (( الأسطوري الديني )) كما كانت تفتح أزمة في الكنيسة بوصفها مؤسسة .


كان الأمر يتعلق بعملية جرى تحليلها مرارا هي عملية (( الدَنْيوَة )) . في سياق هذه العملية فإن الطاقات الروحية التي جرى جمعها و تغذيتها بواسطة الدين و التي هي نتيجة لذلك موجهة بإتجاه (( التجاوز )) ، قد تحررت في إتجاه آخر . إنها تصبح بمتناول يد العالم الدنيوي . إنها تنتقل إلى سيطرة (( الحضورية )) و لكن بشرط (و هنا لب الموضوع) أن تستطيع هناك إيجاد (( كلية ذات معنى )) أو ببساطة أكثر (( مطلقا )) يمكن مقارنته بذلك الذي تقدمه التجربة الدينية .


و في الظروف المعاصرة الحديثة ، فإن هذا الدور غالبا ما يلعبه (( الإيمان بالتاريخ )) و نموذج هيغل حاسم في هذا المجال . فهو كفيلسوف مسيحي أيضا يقوم بدَنْيوَة الإيمان المسيحي بالعناية الإلهية و يحوّل التاريخ المسيحي للخلاص (الافتداء) إلى ربوبية دنيوية ، ترى أن الروح الإلهية ماثلة في العالم و أن الدولة هي إله أرضي ، و أن التاريخ بشكل عام يمثل شيئا من الربّانية . و بعد هيغل تجذرت هذه العملية أكثر . فقد حول تلامذته ميتافيزيقه لتاريخ الروح إلى تاريخانية مطلقة . أي أنهم (( احتفظوا فقط بالطابع التاريخي للسمة المطلقة للروح و المتطورة تاريخيا ، معتبرين ما يأتي زمنيا ، في الزمن ، على أنه القوة العليا ، حتى بالنسبة للفلسفة و للروح )) . و بهذا الشكل فإن تاريخانية هيغل المكوّنة من ذكريات و الموجهة نحو الماضي ، تتحول كما يقول كارل لوويث إلى (( مستقبلية تاريخية )) أي بكلمة أخرى أن (( العقل الأول الإلهي ، الروح المطلقة ، يصير دنيويا حتى النهاية )) . و كل ما كان في السابق يعني التسامي و التجاوز ينتقل في (( المستقبل )) ، (الذي هو اللا حاضر ، أي الذي ليس كائنا أو موجودا بعد ، هو إذا (( يتجاوز )) في النهاية كل ما هو معطى حاليا) و يصبح بحق (( المطلق )) الجديد . و بلغة ماركس فإن مطلق المستقبل هذا ، هو طبعا (( المجتمع الشيوعي )) المقبل ، حيث سيحقق التحرر الكامل الشامل و (( القفزة )) من (( حكم الضرورة )) إلى (( حكم الحرية )) : إنه نوع من التجديد ـ (نهضة) للانسان و للطبيعة ، و نهاية لكل التناقضات ، و ولادة ، لمجتمع (( منسجم )) (( متكاتف )) .


إن عملية (( الدَنْيوَة )) هذه ، و التي سبق أن هضمتها بلدان صناعية أخرى قبلنا بكثير ، و التي ذابت تأثيراتها بمرور الزمن لم تعط فقط الشعور بأنها تندلق بالكامل و فجأة في إيطاليا و إنما وجدت أيضا وسطا متأثرا بعمق بالماركسية عرف كيف يقدم للطاقات التي تحررت إبان هذه الأزمة الأشكال المناسبة لاستقبالها .


إن الأمل الكاثوليكي بالعالم الآخر ، حين صار دنيويا ، إنقلب إلى توجه نحو المجتمع الجديد الموضوع (( خارج )) أو (( فوق )) المجتمع الحالي . و هو حين صب في الماركسية فاقم فيها السمات (( المسيحية الانتظارية )) على حساب سمات الواقعية العقلانية و البراغماتية (العملية) التي كانت تمتلكها العقيدة أيضا . هكذا وُلدت (( طوباوية )) اجتماعية ذات إنتشار واسع و فيها عناصر قوية من الفوضوية ، و ميزتها الرئيسية كانت الرفض الواعي لحساب (( الغايات أو الأهداف )) على ضوء (( الوسائل )) المتوفرة ، و هدفها الأخير المعلن هو عدم إيلاء أي اعتبار لما كان يسمى (( توافقات و انسجامات النظام )) ، و إذن إلى مفاقمة تناقضاته إلى حد تجاوزه بإتجاه جديد .


هذه الايديولوجيا (التي لم تكن آخر العوامل التي ساهمت في إطالة عمر ظاهرة 68 في إيطاليا لحوالي عشر سنوات) طبعت فئات و أوساطا لم تكن حتى ذلك الوقت قد تأثرت باليسار ، و قادت قطاعات من الفئات المتوسطة غير المنتجة و من البورجوازية الصغيرة الطفيلية (و هي معششة و محمية جيدا في بطن الدولة الرخو و في القطاع المتمحور حولها) إلى إتخاذ موقف تمرد مطلبي (تعاوني في الحقيقة و إنما مغطى بشعارات ثورية) قامت الاتحادات النقابية بتغذيته و الاستحواذ عليه (دون عقد) طوال عدة سنوات و حتى اليوم الذي جازفت هي أيضا في إفلات السيطرة عليه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا