الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


داروين وميتشورين وصواب المسار العلمى والسياسى

بشير صقر

2017 / 4 / 22
التربية والتعليم والبحث العلمي


تقديم :

لأن السياسة علم شأنها شأن العلوم الطبيعية والإنسانية (تجريبية ونظرية) تحكمها قواعد صارمة محددة وتخضع لكثير من مقومات وقوانين التطور بل ومعطيات العلوم الأخرى ذات الصلة.

كان من المنطقى الالتزام بتلك القواعد من قِبَل من يمارسونها بالذات إذا ما كانوا يستهدفون تطور شعوبهم وتقدمها وتحقيق العدالة ونبذ التمييز ونشر السلام.

ونظرا لأنها فى عرف من مارسوها وخبروها تتضمن جوانب ووجوه عديدة متداخلة ومتكاملة ومتغيرة ؛ فكرية وسياسية ، نظرية وعملية بات؛ من الضرورى الإلمام بتلك الجوانب فى صلتها ببعضها بل وامتلاك ناصيتها لتجنب التعثر والانحراف أو التردد.

وحيث أن المعرفة العلمية بتلك الجوانب لا تتأتى دفعة واحدة ، بل تشكل الممارسة والخبرة المتحصلة والمراجعة المستمرة والتصويب .. ركنا أساسيا من أركان تلك المعرفة وشرطا لنجاحها وتحقيق أهدافها ؛ نظرا لما تتضمنه من تحديدات فكرية وسياسية وعملية ؛ منها على سبيل المثال قراءة دقيقة للواقع الاجتماعى والسياسى والثقافى ومعرفة بقواه البشرية وأوضاعها الفعلية ؛ تلك القوى التى هى أداة العمل السياسى وموضوعه فى نفس الوقت.

كما يحتاج العمل السياسى لبوصلة تحدد الاتجاه الذى يتخذه معبدو ذلك المسارالعاملون فى هذا المجال خصوصا من يدعمون الفقراء ويقودونهم نحو النهوض والتقدم وامتلاك المصير والقرار وهم الاشتراكيون العلميون.

والتوصل لتلك البوصلة يستلزم الشروع فى الإمساك بجملة العوامل التى تصيغ ذلك الاتجاه والبرنامج المزمع النضال من أجل تطبيقه ومراحله المختلفة وكذا الخطط المتبعة والأدوات المستخدمة والكيفية التى يجرى بها إعدادها وتنظيمها.

وإذا ما كانت تلك مقومات البوصلة فإن الخطأ فى الإمساك بها يعنى بالتبعية خللا فى تحديد الاتجاه مما يفضى لكوارث قد لايمكن علاجها أو تصويبها فى الوقت المناسب.

ويأتى تحديد ما نسميه التناقض الرئيسى والتناقضات الثانوية أو الفرعية حاسما فى سلامة المسار الذى يتخذونه؛ فكم من أحزاب وهيئات سياسية لقيت حتفها لخطأ فى تحديد تلك التناقضات تحديدا صائبا ودقيقا.

يصدق هذا على العلم والبحث العلمى كما ينطبق على العمل السياسى مع الوضع فى الاعتبار طبيعة الفروق بينهما ووجوه الاختلاف .

داروين وميتشورين وجدل الطبيعة وتصويب نظرية التطور:

فى موضوعنا الذى نعرضه عن عالم الأحياء الروسى إيفان ميتشورين يبرز أمامنا مثال ناصع على جبروت المناخ الفكرى السائد فى تضليل كثير من كبار المفكرين و صفوة العلماء .. الذى لا يفلت منه إلا القليل النادر.

فقد نشرت صحيفة " اليساراليوم " العراقية بتاريخ ( 22 إبريل 2017 ) مقالا عن عالم الأحياء الروسى إيفان ميتشورين؛ يستعرض سيرته العلمية والعملية ويتناول فيه عددا من منجزاته العلمية البارزة ودوره فى استنباط مئات السلالات الجديدة من محاصيل الحبوب والفاكهة . كما تضمن تأثيره فى الحياة السياسية فى حقبة الثورة الاشتراكية والمقاومة وبناء المجتمع الجديد ؛ وتفانيه النادر فى البحث العلمى الذى دعمته الدولة الجديدة بشأنه ومنحته خمسين فدانا يتابع فيها أبحاثه ؛ ثم كرمته بمنحه الأوسمة ، وتسمية موطن مولده ( مدينة دلجوى ) ومكان وفاته ( مدينة كوزلوف ) باسمه ( ميتشوروفكا ) ، و( ميتشوريسك ) ، وتأسيس مركزت للبحوث يحمل اسمه وتاريخه ..إلخ .

ولأنى أتذكر جيدا ذلك العالم البارع حيث كان صديقى الراحل صلاح العمروسى قد أهدانى عام 1972 كتابا صغيرا لهذا العالِم- لايتجاوز الستين صفحة- بعنوان " الروح الحزبية فى الفلسفة والعلوم " . أيقنت منه وزنه العلمى فى مجال التاريخ الطبيعى إلا أننى تصورت وقتها أنه أستاذ فى الفلسفة بناء على ما تناوله الكتاب.

لذا رأيت أن مقال الصحيفة العراقية عن العالم ميتشورين قد أغفل أهم إنجازاته العلمية وهو تعديل بالغ الأهمية لنظرية التطور للعالم الأشهر تشارلز داروين ويتلخص التعديل فى الآتى :

حدد داروين العاملين التاليين لـ " نشأة وتطور الكائنات الحية " : 1- التنافس بين الكائنات الحية
وبعضها . 2- الصراع بين الكائنات الحية ككل وبين الطبيعة. وبذلك اعتبر – استنادا إلى سياق البحث- أن العامل الأول هو العامل الرئيسى بينما العامل الثانى هو الثانوى .

إلا أن ميتشورين - استنادا إلى أبحاثه ومشاهداته - رأى أن يعكس ترتيب هذين العاملين ، بحيث يكون ( الصراع بين الكائنات الحية ككل وبين الطبيعة) هو العامل الرئيسى والأهم بينما العامل الآخر ( التنافس بين الكائنات الحية وبعضها) هو العامل الثانوى والتالى فى الأهمية . وقدم براهينه العلمية والعملية فى دراسات شتى تضمن كتابه الإشارة لبعضها. وكان الشئ الجدير بالاحترام والتقدير فى هذا التعديل هو أنه بعد إشادته بقيمة وجهد العالم داروين وبأهمية ما قدمه للعلم والبشرية.. أوضح لماذا قام داروين بترتيب العاملين بهذا الشكل.. فقال ما معناه : أن المناخ الفكرى السائد فى حقبة أبحاث داروين هو السبب . فقد كانت الرأسمالية ( مازالت فى طور المنافسة ولم تصل بعد إلى طور الاحتكار أو الإمبريالية) وداروين قام بأبحاثه وكتب كتابه ( أصل الأنواع ) الذى تضمن نظرية نشأة وتطور الكائنات الحية فى الفترة ( 1838- 1859). وقال ما معناه : لاتعرفون كيف كان النظام الرأسمالى البازغ مهيمنا على كل شئ فى الحياة الاقتصاد، والإنتاج المادى ( زراعة ، صناعة، استخراج) ، والتعليم والثقافة، بل ومهيمناعلى المدارس الفكرية والسياسية عموما. ومن هنا كان تأثر داروين بفكرة المنافسة التى طبعت النظام الرأسمالى آنذاك بطابعها.. شأنه شأن كثير من العلماء فى مجال العلوم الطبيعية والمفكرين خصوصا وأنه كان منكبا ومنهمكا فى أبحاثه ورحّالا منقبا عن الكثير من النباتات والحيوانات والحشرات للبرهنة على ما يتوصل له من استنتاجات. وعليه رأى داروين أن التنافس بين الكائنات الحية وبعضها هو العامل الرئيسى فى نظريته عن التطور ومن هنا رتب هذين العاملين حسب أهميتهما بالشكل الذى صدرفى كتاب " أصل الأنواع " .

ولذا يُعدّ ميتشورين مطورا حقيقيا لنظرية داروين حيث أوقفها على قدميها بعد أن كانت على رأسها. وحيث كانت الأفكار الاشتراكية العلمية قد انتشرت فى فترة شبابه بين النخب الروسية فقد تأثر بها ، بل وتطرق من خلال نشاطه إلى إبداء عدد من الأفكار الفلسفية بل وكانت له بعض الكتابات فيها آنذاك.

وكان هذا دافعى الرئيسى فى كتابة هذا المقال.

ترتيب التناقضات بين مسار العلم والعمل السياسى :

فى البحث العلمى فى مجال العلوم الطبيعية كالهندسة والفيزياء والطب والأحياء وغيرها إذا ما اختل تراتب العوامل المرتبطة بظاهرة أو بتجربة ما اختل مسارها وبالتالى منتجها النهائى أو تفسيرها، وهو ما نجده فى تفسيرات خاطئة لبعض تلك الظواهر و يأتى الوقت الذى يُكتشفُ فيه الخلل ويتم تعديل أو ترتيب تلك العوامل بغير ما كانت عليه قبل ذلك. وبتعبير آخر يكتشف العلماء أن العوامل المؤثرة فى الظاهرة تظل كما هى؛ أما ما تغير فهو ترتيب تلك العوامل الذى أفضى إلى تفسيرين أحدهما قديم – قبل اكتشاف الخلل والآخر حديث بعد اكتشافه وتعديله؛ وما يسرى على الظواهر ينسحب على التجارب مع الفارق.. وهكذا.

وفى العمل السياسى تظل القاعدة ثابتة ( الخطأ فى ترتيب أو فى أهمية العوامل المرتبطة به أو الفاعلة فيه يفضى إلى خطأ فى المسار ومن ثم فى النتائج ) إلا أن هناك فوارق بين تحقق تلك القاعدة فى مجال البحث العلمى وبين تحققها فى العمل السياسى .. مثل أن اكتشاف الخلل فى السياسة أسرع ويتم من خلال الممارسة التى تمثل ترمومتر النشاط السياسى لكن نتائجه أو خسائره باهظة نظرا لارتباطه بمصائر جموع هائلة من البشر.أما الفارق الآخر فهو أن اكتشاف الخلل فى البحث العلمى منوط بالعلماء أو القائم بالتجربة بينما فى العمل السياسى فالمنوط بهم ذلك هم المسئولون عنه الذين قد يكونون أقل تأهلا وإمساكا بقواعده مقارنة بالعلماء والباحثين.

ولنضرب لذلك مثلا : فاكتشاف الخلل فى نظرية التطور كان متيسرا لوجود علماء يملكون مقومات ذلك العلم ، بينما اكتشاف الخلل فى نشاط قطاعات واسعة من الاشتراكيين المصريين لم يتيسر إلا متأخرا نسبيا .. لأن الكثيرين منهم لم ينخرط فى العمل السياسى إلا فى ظل مصادرة الحريات السياسية منذ منتصف القرن العشرين حيث تعلموا السياسة فى تلك الحقبة ؛ وتأثروا فكريا بأطروحات النظام؛ وعمليا بمنطقه فى النشاط الجماهيرى الذى تمثل فى اقتصار النضال على الأنشطة الاحتفالية ( إقامة المؤتمرات، ورفع الشعارات، وإصدار البيانات إلخ ) فضلا عن افتقارهم للإمساك الحقيقى بالنظرية ، وانقطاعاتهم الطويلة عن ممارسة العمل السياسى والجماهيرى التى أضعفت حصيلتهم الفكرية والسياسية وأوقفت تطورهم من ناحية وأثلمت نصلهم فى الأنشطة العملية من ناحية أخرى .

ليس هذا فحسب بل إن انعطاف بعضهم أو تعاطفهم مع جماعات الإسلام السياسى ؛ أو مشاركتهم لها منذ عهد مبارك وبعد يناير2011 فى النشاطات أو فى القوائم الانتخابية ؛ أو اعتبار أعضاء تلك الجماعات من فقراء الشعب أو من البرجوازية الصغيرة المقهورة ويلزم الأخذ بيدها .. لدليل على ذلك ، وهو ما تكرر فيما بعد فى أعقاب يونيو 2013 بالانحياز للنظام بدواعى مكافحة الإرهاب.. إلخ.


ولعلنا نذكر كيف كان ترتيب الأولويات لدى قطاع منهم فى زمن أسبق يتبنى فكرة التحول اللارأسمالى، ووجود جناح اشتراكى فى السلطة ، ومقولة أن التناقض الرئيسى مع الاستعمار والثانوى مع النظام.. وغيرها.

ما نود توضيحه هو أن بوصلة ميتشورين تركزت فى منهجه الذى حدد به الأولويات فى القضية التى كان يبحثها، وبقراءته الجيدة لواقع تطورالكائنات الحية، وإمساكه بأدواته العلمية بكفاءة بالغة.بينما الأمر لم يكن كذلك فى العمل السياسى للاشتراكيين المصريين.

لذلك فالبوصلة السياسية التى نسعى لها فى مصر تتطلب الإمساك بالعوامل التى تحدد اتجاه السير المستقل بما يعنيه هذا من تحديد دقيق للأولويات وتخلّص من جملة الأفكارالتى تخلط أوراقنا بأوراق أعدائنا وتوجيه جهودنا لمن يستحقونها من الفقراء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإنفاق العسكري العالمي يصل لأعلى مستوياته! | الأخبار


.. لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م




.. ألفارو غونزاليس يعبر عن انبهاره بالأمان بعد استعادته لمحفظته


.. إجراءات إسرائيلية استعدادا لاجتياح رفح رغم التحذيرات




.. توسيع العقوبات الأوروبية على إيران