الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظلال الله على الارض

فارس تركي محمود

2017 / 4 / 23
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


لقد ناضلت البشرية وكافحت لقرون طويلة من اجل التخلص من الافكار والممارسات الظلامية التي كانت سائدة في العصور الوسطى وما قبلها كالديكتاتورية والاستبداد والعبودية والاقطاع والاستغلال الطبقي ، وتعد فكرة او مقولة ان السلطان او الملك هو ظل الله على الارض واحدة من اهم تلك الافكار التي بقيت مسيطرة على العقلية البشرية توجهها وتتحكم بها لفترة طويلة ولم يتم التخلص منها والقضاء عليها الا مع بداية العصر الحديث حيث بدأت البشرية تتجه الى مناخات الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الانسان . ان فكرة " ظل الله على الارض " قديمة قدم المجتمعات البشرية نفسها فالقادة او الزعماء كانوا دائما يحاولون اضفاء نوع من القدسية على انفسهم وعلى حكمهم ليتمكنوا من اخضاع الجماهير وضمان ولائهم ، وكان هناك دائما وعلى مر التاريخ تحالف قوي بين الحكام والملوك من جهة وبين رجال الدين او طبقة الكهنوت من جهة اخرى من اجل ترسيخ هذه الفكرة وزرعها في نفوس الناس وتحويلها الى حقيقة لا تقبل الجدل ، فالسلطان او الملك وفقا لهذه الفكرة تم اختياره من قبل الاله وهو الذي يحكم على الارض بالنيابة عنه وهو المكلف بالسيطرة على حياة الناس واحوالهم وافكارهم واقوالهم وافعالهم وملبسهم ومشربهم وشؤونهم كلها وتوجيهها بالشكل الذي يتماشى مع مشيئة الاله وهو الذي يحدد ما يصح وما لا يصح وما يجوز وما لا يجوز والصح والخطأ والحلال والحرام.
لقد كان لهذه الفكرة تأثير سلبي مدمر على رحلة البشرية نحو التمدن والتحضر ، وكانت من ابرز المعوقات التي حالت دون تبلور ونضوج المفاهيم المعاصرة عن الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ، وتسببت في بقاء البشرية لقرون عديدة حبيسة الخرافات والجهل والتخلف والقمع والاضطهاد والاستغلال والديكتاتورية والحكم الفردي ، وكانت الشعوب تتقبل وتصدق هذه الفكرة وتتعامل معها باعتبارها حقيقة مقدسة لا يجوز التشكيك بها او مناقشتها ، كذلك كان الملوك والحكام يصدقونها ويعتبرونها حقا لهم وامتيازا خصهم به الاله . الا انه ومع تراجع نمط التفكير البدائي ومع ازدياد النضوج العقلي للبشرية بدأت الفكرة تفقد رصيدها بشكل تدريجي حتى اذا ما اطل العصر الحديث اصبحت شيئا من الماضي وجزءً من التاريخ ، وتخلصت منها الكثير من الشعوب بشكل نهائي وانتقلت الى الحياة المدنية والحكم الديمقراطي ، الا ان هناك شعوب اخرى ومنها الشعوب العربية لم تستطع ان تنتقل الى الحياة المدنية على الرغم من تخلصها من فكرة أن السلطان ظل الله على الارض ، والأنكى من ذلك انها انتقلت الى حالة اسوأ بكثير مما كانت عليه في ظل تلك الفكرة .
فبدلا من ان ينتج عن انتهاء وانهيار الفكرة والقضاء على حكم الدكتاتور الانتقال الى الحرية والديمقراطية ، وبدلا من ان يؤدي ذلك الى خلق مجتمعا متمدنا ومتحضرا نجده على العكس من ذلك يقودنا الى المزيد من الجهل والتخلف والبدائية والفساد والافساد والتفكك والأحتراب والاقتتال وما هو أدهى وأمر انه انتج لنا الملايين من ظلال الله على الارض ، فبعد ان كنا نعاني من ظلٍ واحد ودكتاتور واحد اصبح علينا ان نتعامل مع الكثير من الظلال لأننا اكتشفنا ان كل مواطن عربي تقريبا يقبع بداخله دكتاتور صغير ويرى بنفسه ظلا لله على الارض ، فترى كل الناس يتدخلون بكل شيء ويصدرون الفتاوى حول كل الامور والقضايا ويطلقون آرائهم واحكامهم القطعية في كل ميدان ومجال : سياسة ، اقتصاد ، دين ، تاريخ ، علاقات دولية ، استرايجيات عسكرية ، تنمية وحكم رشيد ، فلسفة ، اخلاق وآداب عامة ، الخ . . . ، والغريب ان الناس كلما كانوا اكثر حمقا وغباءً – وما اكثرهم ببلادنا - كلما اتسعت دائرة المعارف والعلوم التي يتحدثون عنها وكلما كانوا اكثر جرأة على اصدار الاحكام القاطعة الغير قابلة للجدل والنقاش ، والويل والثبور وعظائم الامور لمن حاول ان يناقشهم او يدخل معهم بحوار عقلاني والعياذ بالله .
والمصيبة انهم لا يكتفون بذلك بل يتدخلون بكل وقاحة وصفاقة وسماجة وفجاجة وقلة ذوق بحياتك وشؤونك الخاصة وسلوكك وذوقك ويحاولون ان يجعلوا منك نسخة طبق الاصل عنهم - وكأن عدد الاغبياء غير كافي فيسعون الى ادخال عضو جديد الى نادي الحمق والغباء العربي – فيجتهدون في صب نصائحهم وعظاتهم الساذجة والبدائية على راسك ابتداءً بماذا تأكل وكيف تأكل ، وماذا تشرب وكيف تشرب ، وكيف تنام وكيف تصحو واين ومتى ، وكيف تقوم وكيف تجلس ، وكيف تدخل الى الحمام وكيف تخرج منه ، وما الذي يجوز لك ان ترتديه وما لا يجوز ، وما الذي تقوله وما الذي لا تقوله ، وما الذي تسمعه وما الذي لا تسمعه ، وما الذي تشاهده وما الذي لا تشاهده ، والحلال والحرام ، والصح والخطأ ، وكيف تربي اطفالك وتعامل زوجتك وتؤدي عملك ، وبماذا تؤمن وبماذا تكفر ، وما الذي تصدّق وما الذي تكذّب ، وكل صغيرة وكبيرة تمر بحياتك من ولادتك التعيسة حتى مماتك الأتعس .
ان اغلب شعوب العالم قد تخلصت من فكرة ظل الله على الارض ومن الديكتاتورية وغادرتها بشكل نهائي وتمكنت من خلق واقع افضل وحياة اجمل لان هذه الشعوب قد كرهت هذه الفكرة بالفعل وادانتها ورفضتها نفسيا وعقليا ، بعكس الشعوب العربية التي تحبها وتنسجم وتتناغم معها عقليا ونفسيا بشرط ان تمارسها هي على الاخرين ولا تمارس عليها ، فهي تكره من يمارس عليها الديكتاتورية لكنها تنتهز اول فرصة متاحة لتمارسها على الاخرين وبمستوى عالٍ من الحقد والبغض والقسوة ، فالمواطن العربي يكره الديكتاتور لكنه لا يكره الديكتاتورية ، وهو يكره فكرة انه ليس هو الديكتاتور وليس هو ظل الله على الارض وليس هو الآمر الناهي ، وان هناك شخص غيره قد فاز بهذا الامتياز واستمتع بهذه النعمة وهذه المتعة واللذة ، وان هذا ( ألغيره ) يمارس عليه عملية تعذيب مزدوجة فهو من جهة يمارس عليه – أي على المواطن - الديكتاتورية ويقمعه ، وهو من جهة اخرى يحرمه من التعبير عن ديكتاتوريته ويمنعه من الاستمتاع بها ، لذلك ما ان يتلاشى الديكتاتور الاكبر حتى يتحول كل مواطن الى ديكتاتور صغير يتمنى ان يكبر ، وقد عبر عن هذه الفكرة المخرج السوري المبدع حاتم علي في رائعته ( الزير سالم ) من خلال حوار بين جساس والجرو ابن كليب حيث يقول جساس للجرو " اننا قوم نحب ان نتجبّر ولا نحب ان يتجبّر علينا احد " نعم نحن نحب ان نتجبر وان " نتدكتر " وان نصبح ظلالاً لله على الارض ، وان نسوق خلق الله امامنا سوق البهائم والقطعان ، وتاريخنا كله بقديمه وحديثه ومعاصره يؤكد هذه الفكرة ويتغنى بها ، والادب والشعر العربي يزخر بآلاف القصائد والابيات التي تؤكدها وتمجدها وتعتبرها مثارا للفخر والمجد وترجمة للبطولة والاقدام والامثلة على ذلك اكثر من ان تعد او تحصى ، فالشاعر عمر بن ابي ربيعة يعد من ارق الشعراء العرب والينهم وابعدهم عن شعر الفخر والحماسة ، وتعد قصيدته " ليت هندٍ " من اكثر قصائده جمالاً ورقةً وعذوبةً اذ يقول في مطلعها :
ليت هندٍ أنجزتنا ما تعد وشفت انفسنا ممــا تـــجــد
واستبدت مــــــــــرةً واحــــدةً انما العاجز من لا يستبد
حتى هذا الشاعر الرقيق المرهف الاحساس وظّف الفكرة في البيت الثاني من قصيدته الغزلية معتبرا ان العاجز فقط هو من لا يستبد ، واننا اذا ما اردنا ان نعرّف العاجز نقول انه ذلك الشخص الذي لا يستبد ، وانه ليس هناك أي سبب لعدم الاستبداد الا العجز عنه فبمجرد حصول القدرة يأتي الاستبداد مباشرة وبشكل تلقائي وعدم الاستبداد مع وجود القدرة عليه شيء محير يثير الاستغراب والتساؤل ، والشاعر بقوله هذا لا يعبر عن راي شخصي او موقف استثنائي بل يعبر عن راي عام ونفسية عامة وعقلية عامة حكمت مجتمعاتنا ولا زالت تحكمها تعتبر عدم الاستبداد دليل العجز وتعتبر الحاكم الذي لا يستبد ضعيف وعاجز . ويقال ان احد المغنيين كان يغني هذه القصيدة امام الخليفة العباسي هارون الرشيد - الذي لم يكن قد استبد بالأمر بعد ولم يكن قد اصبح ظلا لله كامل المواصفات اذ كان للبرامكة نفوذ وسلطان كبير في دولته - وظل المغني يردد عجز البيت الثاني " انما العاجز من لا يستبد " مرارا وتكرارا فكان ذلك بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير اذ استشاط الرشيد غضبا وقام بما يعرف في التاريخ بـ " نكبة البرامكة " حيث قتلهم وسجنهم وشردهم واستولى على اموالهم لينفي عن نفسه تهمة العجز وليصبح الحاكم الاوحد والظل الوحيد لله على الارض .
واذا ما اخذنا مثالا معاصرا بسيط جدا وقد يكون غير ملاحظ لوصلنا الى النتيجة ذاتها ، هذا المثال هو برنامج الاتجاه المعاكس الذي تعرضه قناة الجزيرة والذي يستضيف النخبة – هكذا يسمون انفسهم - من ابناء الشعوب العربية وفي مختلف التخصصات في جلسة حوارية من المفترض ان تكون نموذجا للحوار البناء واحترام الراي الاخر واستخدام العقل والمنطق ودفع الحجة بالحجة ، ففي بداية البرنامج – في غالبية الحلقات وليس كلها - يظهران الضيفان بسيماهم وملابسهم الدالة على التحضر والتمدن والتعقل ويبدآن حديثهم بمنتهى الشفافية والديمقراطية والاحترام للآخر ، مؤكدان على التزامهم بالحجة والمنطق ، ولكن ما ان تتصاعد حرارة الحوار حتى يتحول الامر الى تلاسن ثم تشاتم وسباب وتخوين وقد تصل الامور الى حد الاشتباك بالأيدي في محاولة كلٍ منهما فرض وجهة نظره على الآخر بالقوة واثبات انه ظل الله على الارض ، لنكتشف في النهاية اننا لم نكن نشاهد عالمين من علمائنا ، او فاهمين من فهمائنا ، او متمدنين من متمدنيننا او متنورين من متنوريننا ، او رمزين من رموز نخبتنا المنتخبة الناخبة المنخوبة ، بل كنا نشاهد احمقين من حمقى العصور الوسطى بربطات عنق والقاب علمية ، او اثنين من همج العصور الغابرة مختبئين تحت بدلات عصرية يحاول كل منهما ان يصرع الاخر ويفتك به بل وينهش لحمه ويسلخ جلده ان سنحت له الفرصة ، وهؤلاء هم النخبة فما بالك بالعوام اللانخبويين من امثالي . ولا غرابة في ذلك فنحن ابناء الشعوب العربية لا خيار لنا فأما ان نستبد او يستبد بنا ، وأما ان نمارس الديكتاتورية أو تمارس علينا ، وأما أن نَقمَع أو نُقمع ، وأما ان نصادر الحريات او تصادر حريتنا ، وأما ان نَقهر او نُقهر ، وأما ان نسلخ الجلود او تسلخ جلودنا ، وليس هناك أي خيار اخر مطلقاً البتة فكلنا نريد أن نصبح ظلالاً لله على الارض .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار


.. تساؤلات حول ما سيحمله الدور التركي كوسيط مستجد في مفاوضات وق




.. بعد تصعيد حزب الله غير المسبوق عبر الحدود.. هل يعمد الحزب لش


.. وزير المالية الإسرائيلي: أتمنى العمل على تعزيز المستوطنات في




.. سائح هولندي يرصد فرس نهر يتجول بأريحية في أحد شوارع جنوب أفر