الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (10)

موسى راكان موسى

2017 / 4 / 23
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية




الطابع التصنيفي للعلم (ص 52ـ61) :


هناك سمة أخرى من سمات هذا النقاش حول و ضد (( العقلنة )) المرتبطة بالمجتمع الصناعي الحديث ، هي تلك المتعلقة (( بالمفهوم الايديولوجي )) للعلم ، و الذي تأكد في مجرى السبعينات . حين تكلم عن (( فك السحر )) الذي مارسته هذه العقلنة على العالم ، بيّن ماكس فيبر في وقته بأن (( التناقض ـ التباعد بين حقل قيم (( للعلم )) و حقل الخلاص الديني غير قابل للتبسيط أو للحل )) . العلم هو (( القوة الغريبة تخصيصا عن الألوهية )) . و العالم الذي يكشف عنه العلم هو الأقل (( شكلا إنسانيا )) من كل ما نتخيله .


إنه عالم غريب عن (( المعاني )) و عن (( القيم )) التي هي في صميم الانسان ، إلى حد أن العلم لا يطرح على نفسه حتى مسألة (( إثبات )) أن واقعة الوجود بحد ذاته ، مجرد أن نكون ، لها بالنسبة للانسان (( مغزى و معنى )) . و قد كتب ماكس فيبر بأن (( العلم ليس في حل من وسائل الخلاص و من الرؤى و التجليات )) . و أضاف بأن (( القدر يفرض علينا أن نحيا في عصر دون إله و دون أنبياء )) . و بما أنه يعتبر من جهة (( بأن عدم القدرة على الاحتفاظ بنظره موجها نحو الوجه القاسي للقدر ، هو ضعف )) ، و بما أنه من جهة أخرى قد اختار العلم ، فإنه يختتم قائلا بأنه ينبغي (( مواجهة قدر عصرنا هذا برجولة و شجاعة )) .


إن نفس النظرية الفيبرية حول (( الأنماط المثالية )) سيتم تفسيرها (وفقا لملاحظة ملائمة تماما أدلى بها كارل لوويث) على ضوء هذا المنهاج ـ المحاولة . لقد كانت تفترض (( رجلا )) دون (( وهم )) على وجه التخصيص ، و هو لكونه موجود في عالم خال موضوعيا من المعنى (المغزى ـ الإشارة ـ الوجهة) ، متخلص من السحر (المفكوك سحره) ، و بهذا المعنى (( واقعي )) تماما ، مردود على نفسه و يجد نفسه إذن مضطرا إلى أن يعيد بنفسه (( معنى ـ وجهة و ترابط الأشياء )) .


هذه السمة المزدوجة ، المعطاة في آن معا (( للواقعية )) و (( للرواقية )) (مذهب أتباع زينون : كل شيء من الطبيعة إنما يقع بالعقل الكلي و يقبل مفاعيل القدر طوعا) ، نجدها لدى الكثير من العلماء و فلاسفة العلم المعاصرين .


و في كتاب برتراند راسل (( الرؤية العامة العلمية )) نجد حول هذا الموضوع صفحات جد جميلة . و كذلك الأمر في العديد من كتاباته الأخرى ...


إن التعارض بين عالم العلم و عالم (( الخلاص الديني )) ، و الذي سبق أن أشار إليه فيبر ، يعود إلى الظهور مع راسل كتعارض بين العلم و الميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) ، بين العلم و الايديولوجيا . و يجري التعبير عن ذلك بلغة شعبية في كتابه (( محاولات ارتيابية )) و بهذه العبارات :

(( قبل كوبرنيكوس لم يكن هناك من حاجة لحجج فلسفية دقيقة لكي تُدعم النظرة (( المركزية البشرية )) للعالم . (مذهب أن الانسان هو حقيقة الكون المركزية) كانت السماوات تدور ظاهريا حول الأرض ، و على الأرض كان الانسان مسيطرا على الحيوانات . و لكن حين خسرت الأرض موقعها المركزي خُلع الانسان أيضا عن عرشه ، و أصبح من الضروري اختراع ميتافيزيقيا تصحح (( قساوة و وحشية )) العلم . و هذه المهمة أنجزها أولئك الذين أسميناهم (( المثاليين )) )) . و كان راسل قد لاحظ قبل ذلك بقليل بأن (( الكتلة الكبيرة من القناعات التي نبني عليها حياتنا اليومية ، ليست سوى تجسيد للرغبة (المصححة هنا و هناك ، في نقاط معزولة) بالمواجهة الحادة مع الواقع )) .


و هناك لهجات مشابهة ضد المفهوم المركزي البشري و المفهوم الانسانوي للواقع (أي ضد الرؤية التي لا ترى العالم إلا على مقاس و بناء على حاجاتنا و رغباتنا أو (( قيّمنا )) ، أي و أيضا متطلباتنا (( للأمان ))) نجدها في الصفحات التي ذكرناها سابقا لجاك مونود .


إن هذا الجهد الذي بذلته العلوم الطبيعية لوصف العالم ، و هي تحاول ما أمكنها ذلك تجاهل ذواتنا ، و ميولنا ، و رغباتنا ، يُشكل (و كما ذكّر بذلك أيضا ورنر هايزنبرغ) إحدى المحطات المركزية من تاريخ الفكر الحديث ، بدءا من (( الثورة العلمية )) للقرن السادس عشر . و قد أدى سريعا إلى التمييز بين واقع (( موضوعي )) و واقع (( ذاتي )) ، أو إلى التمييز بين صفات (( أولية )) و (( ثانوية )) ، حيث لا تكون الثانية بالضرورة مشتركة بين كل الناس ، فيما تفرض الأولى نفسها بنفس الطريقة على الجميع و في الخارج .


و الحال أن هذا الطابع الخاص بالعلم الحديث قد كان في سنوات ليست ببعيدة موضوعا لاهتمامات تارة إنذارية و تارة نقدية للغاية . فهذا ألكسندر كويري ، أحد أكبر مؤرخي العلم المعاصرين ، قد عبّر عن ذلك بوضوح كبير و في ختام الفصل الأول من كتابه (( دراسات نيوتنية )) ، فكتب يقول : (( هناك شيء يمكن اعتبار نيوتن (و ليس نيوتن وحده و إنما العلم الحديث بشكل عام) مسؤولا عنه و هو : شطر العالم إلى شطرين . لقد سبق أن قلت بأن العلم الحديث قد أزال الحواجز التي كانت تفصل السماء عن الأرض ، موحدا بذلك الكون و هذا صحيح . و لكنه حقق هذا التوحيد باستبداله عالمنا ، عالم الصفات و الإدراكات الحسية (العالم الذي هو مسرح حياتنا و عواطفنا و موتنا) ، بعالم الكمية ، عالم الهندسة الرياضية المجسدة كحقيقة ، و التي لا مكان فيها للانسان رغم احتوائها لأي شيء آخر . و هكذا يصبح عالم العلم ، العالم الحقيقي ، غريبا و يتميز بعمق عن عالم الحياة الذي لم يكن بوسع العلم تفسيره و لا حتى بتحديده و تعيينه كـ(( ذاتي )) )) .


و كان هذا بإختصار ، مضمون خطاب ـ هوسرل في كتاب (( الأفكار )) و (( المنطق الشكلي و المنطق الاستعلائي )) و خصوصا في (( أزمة العلوم الأوروبية )) (حيث يجري ذكر كويري و ليس ذلك صدفة) . و في نفس الوقت الذي كتب فيه هوسرل كلامه نجد نفس المعنى لدى هايدغر في (( الكائن و الزمن )) و لكن خصوصا في نصوصه المتتالية . لقد شطر العلم الحديث العالم شطرين ... من جهة كان هناك عالم (( الموضوعية )) : (( ريضنة الطبيعة )) (جعلها رياضية ـ حسابية) التي تطورت منذ غاليلي ، عالم (( الهندسة الرياضية المجسدة كحقيقة )) ، سيادة الكمية النقية الصافية . و من جهة أخرى عالم (( الذاتية )) أو الإدراكات الحسية ، و الصفات أو النوعيات ، و الحقل الذي تدور فيه الأحداث الأرضية الحقيقية ، (( عالم الحياة )) و أيضا (( الموت )) ، و لكن فقط كحقل تجاهله العلم و لم يكن لديه أي شيء يقوله حوله .


لقد كبر العلم الحديث على قاعدة هذه الثنائية الأساسية ، و هو قد طوّر (( حقيقة )) حيث فقط الأشياء ، مكانها ، و لكن ليس الانسان ، إلا إذا تحول الانسان إلى مجرد (( شيء )) بسيط . و من هنا استمدت (( البرّانية )) و التشيوء جذورها . و من هنا أي من الثنائية الأساسية بين (( الذات )) و (( الموضوع )) ، نشأت عدم قدرة العلم على تقديم تفسير كلي شامل كالذي يقدمه الدين و الميتافيزيقيا . أي معرفة تُقدم ، بإعادتها لوجود الانسان إلى مركز الكون ، علة الـ(( لماذا )) و تُفسر (( المعنى ـ المغزى )) و (( الغاية )) .


إن (( أزمة العلوم الأوروبية )) كانت موجودة في فقدان الشمولية هذا ، فقدان المعنى ـ الوجهة . و من أزمة العلوم هذه أخذت أزمة أوروبا مضمونها أي أزمة الانسانية الأوروبية .


لم يكن الخطاب جديدا ـ فالنضال المرير الذي خاضه غوته ، في كتابه (( نظرية الألوان )) ، ضد البصريات الفيزيائية لنيوتن ، قد أوحت به مبررات مشابهة : المطالبة بـ(( عالم الصفات )) ، و الإدراك الحسي ، ضد التخلي عن (( الحيوية )) و عن (( المباشرية )) اللتين وسمتا تقدم و انجازات العلم منذ القرن السابع عشر . كتب ورنر هايزنبرغ يقول أنه (( إذا كان باستطاعتنا انتقاد غوته على شيء فذلك فقط على أنه لم يصل إلى حد استخلاص النتائج الأخيرة : لم يكن ينبغي عليه محاربة أفكار نيوتن ، و إنما إعلان أن كل فيزياء نيوتن ، البصريات ، الميكانيك (الأوالة) ، قانون الجاذبية ، هي من عمل الشيطان . و بالعكس ، فإن الدأب الذي واصل به العلم المجرد سيره في نفس الإتجاه و رغم كل هذه الإعتراضات ، هو دليل واضح على قوته و على طابعه المنطقي الصميم )) .


و الحال أن ما لم يتجرأ غوته على قوله أصبح فيما بعد جرأة أظهرتها فلسفات ما سُمي (( بالردة المثالية ضد العلم )) ، و على الأخص لدى هوسرل و هايدغر .


فبالنسبة لفلسفة هذين الرجلين يصبح العلم الحديث بالفعل (( عملا من أعمال الشيطان )) . العلم هو بالنسبة لهما مسبب و في الآن نفسه نتيجة (( إنخلاع )) الانسان الحديث ، (( برّانيته )) في العالم ، و للتشيوء العام .


إن ماركوز و قد كان في شبابه تلميذا لهايدغر قد استعاد في (( الإنسان ذو البعد الواحد )) ليس فقط موضوعة أستاذه و إنما أيضا الموضوعات التي طرحها هوسرل في (( الأزمة )) و وايتهيد (و هو أيضا اسم له أهمية حاسمة) في (( العلم و العالم الحديث )) ، و هو كتاب استشهد كويري به في خاتمة المقطع المذكور سالفا و الذي استعار منه ماركوز تعبير و مفهوم (( الرفض الكبير )) .


و من جهة أخرى فإن فكرة (( المجتمع الصناعي المتقدم )) ذاتها ، (و قبل ماركوز بكثير) قد جرى تنظيرها ، في خطوطها الأساسية ، من قبل هايدغر . إن (( التخطيط الكوكبي )) (على مستوى كوكب الأرض) . و الـGestelt الوحشي ، و الاستعمال التقني ـ الصناعي على نطاق واسع للرجال و للطبيعة ، قد سبق أن أشار إليهم هايدغر (( الأخير )) على أنهم الرمز المشؤوم حيث قدر الغرب ، كارض للغروب ، يكون قيد الإنجاز .


إن (( الإنسان ذو البعد الواحد )) لم يفعل سوى إضافة خاتمة سياسية لكل هذه النصوص . فماركوز و قد أخذ كنقطة انطلاق (( العقل الحاسب )) ، الممقوت للغاية (العقل الحسابي الرياضي) و الذي تكلم عنه قبلا هوسرل و هايدغر ، أقام صلة أو إتصالا بين هذا (( العقل )) و بين روح السيطرة الذي كان يعتبره مفسدا لكل شيء في المجتمع في المرحلة الأخيرة من تطوره .


و بهذه الطريقة فإن نقد العلم الحديث و هو نقد تطور في الأصل انطلاقا من مواقف رجعية و رومنطيقية ، أصبح بإمكانه أن يكون سلاحا بيد اليسار الثوري . و كتب ماركوز حول ذلك قائلا : (( إن العقلانية العلمية تحبذ نوعا معينا من التنظيم للمجتمع لأنها تحتوي شكلا نقيا (أو مادة نقية : إن المصطلحات التي قد تكون في حالات أخرى متعارضة تتلاقى هنا) يمكن تكييفه مع أية غاية )) . و يضيف ماركوز قائلا بأن (( الملاحظة و التجربة ، التنظيم و التنسيق المنهجي للمعطيات ، المقدمات و النتائج ، لا تتقدم أبدا في مجال حيادي ، نظري ، و غير مركب )) . إن (( مبادئ العلم الحديث قد جرى تركيبها قبليا ، بغية التمكن من الخدمة كأدوات مفهومية لعالم من الرقابة المنتجة دخل في حالة الحركة بواسطة قوة دفعه الذاتية )) . و يختتم : (( إن المنهج العلمي الذي قاد إلى السيطرة (الأكثر فأكثر تأثيرا) على الطبيعة قد وصل هكذا إلى تقديم المفاهيم النقية و لكن أيضا الأدوات لسيطرة (أكثر فأكثر تأثيرا) الانسان على الانسان ، من خلال السيطرة على الطبيعة )) .


و عند هذه المرحلة من التحليل ، تكون الأوراق قد كشفت تماما . (( العلم )) و (( المجتمع الرأسمالي ـ الصناعي )) تماثلا ، تطابقا . لم يعد العلم يظهر على أنه الشكل الخصوصي للمعرفة (و من ثم ، إذا كان ينبغي فعلا استعمال هذا المصطلح ، على أنه شيء (( حيادي ))) و إنما على أنه ايديولوجية و ممارسة للسلطة ، أي على أنه الشكل الذي يتحقق من خلاله الاستغلال و السيطرة . و لكن لم يكن هذا كل شيء . في نهاية سنوات الستين وصل إلى إيطاليا كتاب يصعب فهم نجاحه الخارق للعادة في بلادنا كما في بقية أنحاء العالم . أنه كتاب (( بنية الثورات العلمية )) لتوماس كوون Kuhn . لقد صب هو أيضا الزيت على النار .


و إذا أعدناها إلى ما هو أساسي فيها ، فإن الأطروحة كانت بدائية . يقول كوون بأنه في ظروف عادية ، لا يكون العلم نشاطا إدراكيا (عروفيا) ، إنه ليس جهدا نقديا لنقاش و اختبار النظريات السائدة ، و (( النماذج )) المطبقة ، و إطار الفكر الذي نتحرك ضمنه . إن (( العلم المعياري )) ، على العكس هو فقط نشاط (( لحل أحجية مربكة )) ، أي نشاط مخصص لحل (( ألعاب معقدة )) (فيها تكسير رأس بالعامية) مشتقة من (( النموذج )) الذي يسيطر في الوسط العلمي لذلك الوقت . إن القيمة الإدرامية ـ العروفية لهكذا نشاط هي معدومة . ففي سياق هذا النشاط ، لا يتم أبدا مناقشة (( النموذج )) فعليا أو وضعه موضع الاختبار . إن من يجازف بالقيام بذلك سيكون موضع عداء الوسط العلمي . إن غائية النشاط هي فقط عملية . إنها تفيد في وضع لياقة الباحث في الدفاع عن المبادئ السائدة و إذن النموذج المعتمد موضع اختبار ، بهدف إكتساب أعضاء جدد للوسط العلمي . و بعد تحديد إطار العلم المسمى (( معياري قياسي )) وفق المصطلحات التي وصفتها ، انتقل كوون إلى دراسة مراحل (( الثورة )) . و تغيّر النص حينذاك بشكل جذري . إن الثورات في العلم ، لا تسجل فقط لحظات استثنائية ، و إنما هي (و لنشدد على ذلك) ذات منشأ لا عملي ، من خارج العلم . لقد كان للنموذج الجديد منشأه في الرؤى الميتافيزيقية و الدينية . كان يناضل لتثبيت نفسه ، بالتغلب على الآخر ، و بعد ذلك ، و بعد فرض نفسه ، يصبح هو الآخر (( عقيدة )) ، و تفتتح مرحلة جديدة من (( العلم المعياري ـ القياسي )) .


و كما نستطيع أن نرى بسهولة فإن ما كان واضحا بالخصوص في كتاب (( كوون )) هو شحنة الظلامية التي كان مطبوعا بها . و بالنسبة للكاتب فإن التجديدات النظرية كانت تُنتج فقط خارج العلم . إن الفكر النقدي يعيش فقط في لحظات المواجهة الميتافيزيقية الكبرى التي تطبع عصور الثورات و حالما كان (( العلم المعياري ـ القياسي )) يصل ، كان الفكر النقدي يختفي . لقد كان (( كوون )) يكرر حرفيا (و ربما دون أن يعرف) جملة رهيبة أطلقها هايدغر ؛ (( رسالة في النزعة الإنسانية )) حيث قال : (( ما أن يولد العلم حتى يختفي الفكر )) و ردد كوون ذلك قائلا : (( إن ما يسم عملية الانتقال إلى علم هو بالضبط التخلي عن الخطاب النقدي )) .


و لكن التحفظات النقدية ضد (( كوون )) لم تكن قليلة . و رغم أن ذلك تم وسط جو من التقدير و التثمين العالي ، فإن أطروحته قد ناقشها بوبر و واتكينز ، و لاكاتوس و غيره . لقد لاحظ لاكاتوس على سبيل المثال أن (( التغيّر العلمي )) من (( أنموذج )) إلى آخر ـ هو بالنسبة لكوون ، عملية تحول صوفية ليست و لا يمكن أن تكون خاضعة لقوانين عقلانية و هي تنتمي بالكامل إلى مجال علم النفس (الاجتماعي) الاكتشاف . إن التغيّر العلمي هو نوع من التحول الديني (الانتقال من دين إلى دين) .


و قد أضاف لاكاتوس إلى ذلك أيضا بأن كوون (( يستثني كل إمكانية إعادة بناء عقلانية لتقدم العلم )) . (( لا يوجد سبب عقلاني مخصوص لظهور أزمة كوونية (نسبة إلى كوون) )) . و يختتم لاكاتوس قائلا : (( هكذا إذن ، و حسب مفهوم كوون ، فإن الثورة العلمية هي لا عقلانية )) و قد قدم واتكينز ملاحظات أكثر قسوة .


و لكن أطروحة (( كوون )) حول العلم النابع من الايديولوجية ، قد لقيت ترحيبا عجولا في إيطاليا و خصوصا في أوساط أقصى اليسار الذي لم يكن يملك لا الوقت و لا الوسائل للتصرف بصراحة (أو بلا إلتواء) . لقد كان مطلوبا هنا و بشكل طارئ البرهنة على أن العلم كل شريك (( رأس المال )) ، و أنه كان فقط ايديولوجية للسلطة ، و أن المصالح الطبقية قد احتوته أو هيمنت عليه كليا . و كان بالإمكان استخدام مواقف ماركوز و مدرسة فرنكفورت من جهة ، و مواقف كوون من جهة أخرى لتدعيم هذا التحليل .


و هكذا ، فإن هذه المواقف النظرية التي كانت رائجة منذ بضع سنوات ، استطاعت أخيرا أن تخرج للعلن في ربيع 1976 . ذلك أن مجموعة من الأساتذة الجامعيين في الفيزياء ، و المنتمين إلى أقصى اليسار (و البعض منهم كان قد فقد منذ زمن طويل حتى مذاق مهنته ، في حين أن الآخرين لم يكونوا قد اكتسبوها بعد) نشروا كتابا ضحلا هو عبارة عن تجميع لمقالات و أبحاث حملت عنوان (( النحلة و المعماري : النموذج العلمي و المادية التاريخية )) لقد جرى التأكيد صراحة هنا على أطروحة (( الطبيعة الطبقية )) للعلم . و حسب المؤلفين فإن التكييف التاريخي و الاجتماعي للعلم ، و من ثم المصالح الطبقية الناتجة عن ذلك ، تمتد لتصل حتى إلى الهيكلية النظرية و النواة الصميمية للعلم ... و كما شرح ذلك مارسيللو تشيني في مقدمة الكتاب (التي أعادت التعريف بمختلف مراحل المسيرة المنجزة) فلنقد الاستخدام الرأسمالي للعلم ، ينبغي لنا السير إلى أبعد من ذلك و أن نفحص المسائل التي عليه حلها ، في تعريف الأولويات المطلوب مراعاته ، في صياغة تعود للانتاج الرأسمالي ، يكون العلم ينتج اليوم في وسطها .


لم يكن هكذا خطاب ليسمح بأي سوء فهم حول معناه . إن (( فرضية الموضوعية )) (و التي اعتبر جاك مونود قبل بضع سنوات إنها (( حجر الزاوية في الطريقة العلمية ))) قد جرى قلبها هنا بالكامل . إن علاقات الانتاج الرأسمالية تؤثر على العلم في أخص خصوصياته و أعمق أعماقه ... إنها تحدد له محتوياته و طرائقه ، مسائله و أدواته النظرية . إنها تجعل منه معرفة (( طبقية )) . إن (( العلم )) و (( الايديولوجيا )) يختلطان ، يتماهيان إذن .


بل الأنكى من ذلك أن العلم يظهر كأداة و كوسيلة للرأسمال إلى الحد الذي يسمح لتشيني بأن يقدم أطروحته القائلة بأن (( التقدم العلمي و التكنولوجي قد خدم النظام الرأسمالي ليس فقط للبقاء على قيد الحياة متجاوزا بذلك تناقضات سبق لماركس أن تنبأ بأنها متفجرة ، و إنما أيضا لكي يتدعم و يتطور بنشاط )) .


لقد واجهنا هنا ، حقيقة ، و لأول مرة ، الوجه الآخر للقمر ... فها هي الماركسية ، التي أرادت في الأصل أن تكون (( تحليلا علميا )) للرأسمالية ، تكتشف اليوم بأن العلم ، على العكس من ذلك ، كان ... ابن الرأسمالية .


و هكذا فإن (( التوقعات العلمية )) لكتاب (( رأس المال )) لم تتحقق ، بسبب ... (( أن التقدم العلمي )) قد لعب لمصلحة رأس المال و ضد ... علم ماركس . أن المفترض الضمني الكامن في هكذا نص كان واضحا صريحا ، و هو وحده كان بإمكانه إعطاء نوع من التماسك لهذه القطعة من الاشتطاط (استدلال زائف) ، فالمفترض كان أن هناك علمين : العلم (( البروليتاري )) ، و العلم (( البورجوازي )) ، و أنه كان يستحيل تمييز العلم عن الايديولوجية . لقد أنهت سنة 1976 إذن قفل الدائرة ، بإحتفالها بإنتصار ما كان النتاج الأنجح للمرحلة التي مرت منذ 1968 : أي الانسان الايديولوجي Homo ideologicus .


إن الايديولوجيا التي كانت قد رافقت الإيطالي في تلك المرحلة ، في كل مكان ذهب إليه ، حتى في سريره ، بين أغطيته (أو حتى حيث طلب منه إعلان تصريحات إيمان بالتحرر النسائي ـ النسوية) ، إن هذه الايديولوجيا تتكشف الآن أمامنا حتى في العلم ، و قريبا سنكتشفها حتى في الشوربة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكر وتحية
إبتسام بوكسرة ( 2017 / 4 / 24 - 17:11 )
نشكر أسرة تحرير الحوار وعلى رأسهم السيد رزكار لأنهم يخضضون فضاء واسعاً لأعداء الشيوعية
وتحية للمثقف موسى راكان

اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024