الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة المدنية ومستلزمات بنائها في العراق إنموذجا

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2017 / 4 / 23
المجتمع المدني


الدولة المدنية ومستلزمات بنائها في العراق إنموذجا


في ظل تصاعد الأصوات المتكاثرة اليوم من داخل الطبقة السياسية الحاكمة خاصة بضرورة قيام دولة مدنية في العراق كموجه توجيهية مرتبطة بالتحضيرات لدورة أنتخابية قادمة، يصبح من الضروري جدا أن نشرح لهؤلاء مفهوم الدولة المدنية ومستلزمات بنائها بالشكل الذي يجعل منها مفهوما واضحيا جليا لا لبس فيه ولا غموض، الدولة المدنية لا تعني بالتأكيد أن ترتدي بدلة أفرنجية ورباط ملون وتنزع العمة لتحلق شعر رأسك وفق أحدث القصات، بل المدنية الحقيقية أن تكون معمما أو معقلا ولكن تتصرف بروحية التساوي والمماثلة مع الأخر، دون أن يحق لك أن تطالب بأمتيازات وحقوق خارج القانون أو ترهق القانون الذي تصنعه بأمتيازاتك الخاصة، لأنك من سلالة أباطرة أو لأنك تؤمن أن وجود نعمة ورحمة لذا لا بد أن تكون أفضل من كل المجتمع وأقدس، وأن ما تراه عيونك وعقلك هو الحق والناس مجرد قطيع وظيفته الهتاف والتصفيق والإنقياد لمقدماتك ومؤخراتك الفكرية.
المدنية التي نفهمها ونعمل لها نظام إداري وأجتماعي وفلسفة إنسانية تقوم على إعادة تهذيب العقل ليكون فيه الفرد عضوا أجتماعيا مساويا للكل لا أفضل ولا أقل من غيره، إنسان يعمل وينتج ويبني طالما أنه قادر وتتوفر له الفرصة أن يعمل دون أن يخلط بين وجوده ومعتقده، ما تريده المدنية يجب أن يكون وجود عقلاني وموحد للجميع بحيث تتضائل فيه فرص التمايو وتتصاعد فيه فرص المميزات العطائية التي تمنح المجتمع قدر أكبر من غيرك، في المجتمع المدني هناك تتواجد حقيقة وليس أفتراضا أو توهما مسائل التخصص والمهنية والتوافق بين المؤهلات الفردية المتحصلة من التعلم والمعرفة وبين الوظيفة الفردية والعامة، في بناء مجتمع مدني نحتاج أولا وقبل كل شيء إلى مفهوم الحرية المسئولة التي تعي حدودها بما لا تنتهك به حق الأخر ولا تتعداه تحت أي مبرر وعنوان.
في المجتمع المدني الذي هو نواة الدولة المدنية علينا أن نبني الإنسان الفرد مدنيا من ناحية الإحساس والأنتماء والتوظيف، فلا يمكن بناء دولة مدنية بإنسان لا يعرف حدود ومعنى المدنية أولا، المدنية الحقيقية هي أن نستبدل سلسلة مفاهيم وأعراف وقيم تمجد المجموع المقاد على حساب الفرد الحر، فلا يمكن للعشائرية والقبلية والإتباع الأعمى والمطلق للأديان والعقائد على الأعتياد والتعود بدل أن نجعل من الإنسان واعيا وفاهما ومدركا لما يؤمن به، وأن نفتح مصاريع العقل للتحرر من الثوابت الزائفة والمطلقات اليقينية التي لم يثبت أو يجرب الكثير منها على الواقع النقدي والواقع المنطقي، لا يمكن لرجل دين أن يكون مدنيا وهو يؤمن أن عقله قاصر أن يدرك الواقع والحقائق الراهنة دون الرجوع إلى مقدماته الفكرية ومعطياته التكوينية ليستشيرها ويأخذ الأذن منها في كل مسألة
لا يمكن لرجال عشائريين وقبليين أن يكونوا مدنيين وهم يرون أن مجد القبيلة وعزها وفخرها أن تكون تحت أمرة شيخها وزعيمها على الحق والباطل، وأن هذا الشيخ أو الامير له القدرة على توجيه الناس بما يسنه لهم من أعراف وفرائض وسنن حتى لو كانت مخالفة للقانون والشرع المتبع دينيا وأجتماعيا، لا يمكن للمرأة في واقعنا الراهن أن تكون مدنية وهي ترى في نفسها أو بما يفرضه المجتمع من قوانيم مجرد ملحق وتابع وذيل للرجل، لا إرادة ولا قرار ولا قدرة على أن تمارس وجودها الطبيعي دون ظل رجل وسلطة أب أو زوج أو أخ، المرأة المدنية الحقيقية هي التي تقرر نوعية الحق الذي تريده وشكله ومداه بما يتناسب مع مقدار الحرية التي يجب أن تتمتع بها في ظل مجتمع يؤمن أصلا بحقها وبوجودها كفرد أجتماعي متساو مع غيره ومتاح له أن يشارك ويقرر ويتحمل مسئولية الفردية الأجتماعية.
في المجتمع المدني ليس هناك قضاء خاص وقضاء عام وليس هناك متهم درجة أولى ومتهم درجة ثانية، وليس هناك صاحب حق مقدس يجب أن تخضع له العدالة وصاحب حق عادي لا تبالي فيه العدالة الخطأ والصواب، في الدولة المدنية هناك فقط سيد واحد وسيدة واحدة هما القانون والعدالة فوق الجميع وأمام وخلف الجميع، أمتيازات سلطوية ولا حماية يوفرها القانون لأحد دون أخر، المتهم برئ ولو كان بالجرم المشهود حتى تثبت إدانته بقرار قضائي عادل وشفاف وبأستخدام حق الدفاع المقدس وفي محكمة عادلة في كل شيء، وليس في تطبيق القانون وتجريم المتهم فقط أنتقاما للمجتمع وتأديبا له، بل بالبحث عن المجرم العميق في المجتمع والمتخفي بالواقع المعاش بأسبابه ودوافعه وأفعاله، المجرم الأساسي الذي ساهم في صنع الجريمة وخلق واقعها والدفع بالناس إليه جبرا وأختيارا، العدالة في الدولة المدنية ليس في إيقاع العقوبات على الخارجين عن القانون بل في حماية المجتمع أولا من الوقوع في الجريمة ومكافحة أسبابها ودوافعها وتحصين الإنسان عقليا وحسيا وسلوكيا من أن يذهب للجريمة بقدميه.
في المجتمع المدني الإنسان قيمة القيم ومحل التقديس والتسخير له لأن يكون سيد نفسه وشيخ روحه وإمام ذاته، ليس خادما للمجتمع ولا خادما لغيره بل خادما لوجوده أولا ومن ثم ربط هذه القضية جمعيا فيصبح المجتمع سيد نفسه وشيخ روحه وإمام ذاته، في الواقع العراقي مطلوب من الفرد أن يخدم المجتمع ويخدم الدين ورموزه وأن يخدم العشيرة والقبيلة وأن يخدم الأخرين حتى يكون إنسان محترم، ولكن من يخدمه هو ومن يحترمه هو ككائن مستوجب أن يعيش ليحيا، هنا في راهنية الواقع وواقعيتنا الراهنة الفرد معبأ بأحمال الجماعة ومدافع أول عنها دون أن يشعر ولو لمرة واحدة أنه صاحب حق ومحمي به، في المجتمع المدني ليس هناك تغطية أجتماعية لمفهوم أن يكون الفرد مجرد عضو في جماعة مصانة، بل هناك نظام تخادمي مشترك يحمي الفرد فردا والفرد مجتمعا ويتقاسم الإثنان مسئولية مشتركة.
في النظم المدني هناك مفهوم الإدارة المجتمعية التي تجعل من الوظيفة العامة تكليف محدد بالمدى وبالسقف الزمني وأن لا سلطة للمكلف على الناس بشخصنته وشخصيته إلا ما يفرضها القانون المدني من حدود عامة ومجردة وأساسية، السلطة في المجتمع المدني لا تعني الزعامة والقيادة بل تعني الإدارة الأفضل والجودة والتميز والإبداع لوحدها يمكن أن تبرر وجود المدير الجيد وتستبعد المدير الأقل جوده دون النظر لوضعه الاجتماعي أو الحزبي أو السياسي والديني، هناك الفرصة مفتوحة للتنافس على تقديم الأحسن والأكثر قدرة على أداء خدمات المجتمع، لا علاقة للدين ولا للنسب والأصل بمفهوم الإدارة، إنما الخبرة والمهارة والتجسيد الحي للمعرفة المنتجة هي معيار التميز والمنافسة.
بعد كل هذه المقدمة هل تظن الأصوات السياسية التي تمحورت وتأسست وتكون على أسس دينية وأجتماعية وعنصرية أن تكون قادرة على تحمل والقبول والرضوخ لشرط المدنية وأهدافها ووسائلها، هل يمكن لها أن تفك أرتباطها بالتأريخ والواقع والمرجعية والشخصنة ومفاهيم القيادة والسيادة وحماية المصالح والمكاسب الفردية والحزبية الفئوية لها، هل يمكنها أن تخضع لقانون يساوي بين رئيس الجمهورية كونه موظف لدى المجتمع وكذلك زعيم الحزب وشيخ الدين وزعيم القبيلة مع أبسط مواطن لأن كليهما مواطن درجة أولى، هل يقبل الزعماء والقادة أن يعيشوا بلا سلطة على الأخرين وينزلوا من عروشهم وينزعوا التيجان لينخرطوا عمالا وفلاحين وموظفين وكسبة كبقية أفراد الشعب، قبل الإجابة الرجاء التأكد من المجيب على سلامة قواه العقلية وقدرته على الصراحة والصدق أولا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غارتان إسرائيليتان تستهدفان خيام النازحين في حي زعرب برفح


.. اعتقال مؤيدين لفلسطين في جامعة ييل




.. الأونروا: ما الذي سيتغير بعد تقرير الأمم المتحدة؟ • فرانس 24


.. وكالة الأونروا.. ضغوط إسرائيلية وغربية تهدد مصيرها




.. آلاف المهاجرين في بريطانيا يخشون الترحيل إلى رواندا