الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فاصولياء يابسة

علي دريوسي

2017 / 4 / 24
الادب والفن


كان السمكري جابر متوسط القامة، عريض المؤخرة، كبير البطن، غزير الشعر، وكان كما كل أبناء قريته مولعاً بأكلة الفاصولياء اليابسة المطبوخة بالثوم ومرق البندورة، يأكل منها الصحن تلو الآخر مع الخبز والبصل اليابس، حتى أنه كان يأكل ما تبقى في الطنجرة في صباح اليوم التالي قبل أن يمضي إلى عمله في ورشة التمديدات الصحية، اعتاد أن يقول لعماله: وحدها هذه الآكلة ما تجعلك تعمل طيلة النهار وأنت شبعان بل وتجعلك تتسلى بأصوات المدافع التي تطلقها…
عندما يصل إلى الورشة بعد وجبة فاصولياء صباحية مُترَفة تراه محبوراً، تلعل ضحكته عالياً وكأنه يغطي بها على الأصوات العالية لضحكات مؤخرته، يضحك ويقول لعامل من عماله: أعطني تلك الماسورة. ما أن يناوله إياها حتى يَضرِط فصاً كريهاً، ترتج على أثره الماسورة بين يديهما، يخجل العامل من سماجة معلمه، وأحياناً ما أن يَضرِط ذاك الشنيع حتى يقول لعامله: هل تستطيع أن تكمشه بين يديك يا سعيد؟ أتحداك أن تستطيع!
عندما يأتي المتعهد المتأنق دائماً، ترافقه سكرتيرته الجميلة، كان جابر يشعر وكأنَّه تحت ضغطٍ لا يُطاق، فلا يلبث أن يختلق الضجيج الذي قد يغطي على أصوات مدافعه، يرفع صوت المسجل أو يدير مضخة الماء أو يطرق الجدران بمطرقته، كان يَستلِذّ لامتزاج روائحه مع روائح الرطوبة والعفونة القادمة من قبو البناء...
كان يعزم أحياناً أصدقاءه وعماله على أكلة الفاصولياء في البيت، ما أن ينتهوا من الطعام حتى يصرخ بهم بغبطة وكأنه الفيلسوف الألماني مارتن لوثر: ما الأمر معكم يا أصدقاء، لا أسمعكم تضرطون أو تتجشَّأون، لا أشم رائِحَةَ فُسَائكم، ألم يعجبكم مذاق فاصولياء أم جابر؟ دعوني بسرعة أشم أو أسمع أنها قد أعجبتكم!
ذات يوم وقع جابر آخيراً في حب اِمرأة، قالوا عنها بأنّها بنت عائلة ميسورة، تعيش في المدينة وقالوا أنَّ العطر يفوح من جسدها وملابسها، وقالوا أنّها تعمل مصفِّفة للشَّعر في صالونها الخاص. وقالوا أنَّها صارت كالألمان بعد أن زارت بلاد هم لبضعة أسابيع، إذ غالباً ما يبتعد الألمان عن تناول البُقول بأنواعها! يقول المثل هناك: كل حُبَيبة فاصولياء تُطلق نغماً (ريحاً)!
لكن فرحته لم تطول فقد عرف في قرارة نفسه أنَّ اِمرأة بنعومتها لن تقبل رجلاً ضَرّاطاً مثله في سريرها الزوجي، ولهذا توجَّب عليه أن يتخلّى عن الفاصولياء اللذيذة لأجل فتاة أحلامه أو عنها كرمى لحبات الفاصولياء. وقع اختياره بالطبع على الفتاة، فضّلها على الفاصولياء بعد صراعٍ مرير مع بطنه، انتصر العقل على البطن، حالما شعر بقدرته على العيش دونها ودون مدافعه التي أحبها، توجّه مع أمه لطلب يد الصبية، اتفق الجماعة مع بعضهم البعض وأعلنوا موعداً للزواج.
اتفقوا على العيش في بيته في القرية التي تبعد حوالي خمسين كيلو متراً عن المدينة، بعد فترةٍ وجيزة من الزواج السعيد، في طريق عودته مساءً من الورشة إلى البيت، تعطّلت سيارته فجأةً على بعد عشرة كيلو متر من القرية، أصابه الغم قليلاً، اتصل بزوجته، أخبرها بالأمر وقال لها: سأتأخر عن الوصول في موعدي المعتّاد يا حبيبة، لا تقلقي، قد أستريح في مطعمٍ أعرفه، أشرب كأس شاي، ثم أتابع طريقي مشياً على الأقدام.
مشى حوالي نصف ساعة، شعر بالتعب، سمع زقزقة عصافير بطنه، كان قد اقترب من مطعم شعبي، تدفقت منه رائحة لا تقاوم، رائحة الفاصولياء الساخنة، سال لعابه، نظر إلى ساعته وخاطب نفسه: لدي ما يكفي من الوقت للطعام وحالما أصل البيت سأكون قد ضرطت كل ما في بطني من أعداء وانتهى تأثير حبّات الفاصولياء، وهكذا لن تنتبه زوجتي الحبيبة إلى نوع الطعام الذي تناولت، ثم أنها منشغلة اليوم حتى أذنيها بالتحضير للاحتفال بعيد ميلادي.
دخل المطعم وطلب على الفور وجبتين متتاليتين من طعامه المُشتهى. في الطريق إلى البيت كان قد فسا وضرط وتجشأ بلا انقطاع وبمتعة لا تضاهيها متعة. عندما وصل آخيراً إلى منزله ابتسم كمنتصرٍ، إذ شعر بالأمان وبأنّ زوجته لن تشعر بشيءٍ غريب لأنّه قد تغلّب على آخر عدو وضرطه من جبهة بطنه شر طردة.
فرحت زوجته لوصوله، قبّلته وعانقته، قالت: لقد حضّرتُ لك في غرفة الطعام مفاجأة ستعجبك، وطبخت لك ما لذ وطاب، لكن لي رجاء لديك!
قال لها: أطلبي ما تشائين.
أجابت: الأمر بسيط، دعني أعصب عينيك بمنديلٍ أسود، شريطة أن تعدني بألّا تسترق النظر.
قال: لك ما ترغبين، أعدك.
طمّشتْ عينيه وقادته بهدوء إلى كرسيه حول طاولة الطعام الكبيرة، كان الصمت مُخيّماً على المنزل، ما أنْ جلس في كرسيه حتى شعر بأنّ ضرطة عِملاقة لا هوادة فيها راحت تتشَكَّل في أحشائه ببطءٍ، وكأنّها هجمة مضادة للأعداء لاسترداد كرامتهم وإعادة احتلال بطنه من جديد.
لحسن حظه رنَّ في تلك اللحظة جرس الهاتف، من جديد رجته الزوجة الناعمة عدم التَلَصَّص، وطلبت منه الانتظار لحظات حتى تُنهي مكالمتها التلفونية. آن ذهبت، اغتنم الفرصة. أسند ثقل جسده الضخم على ساقه اليسرى، رفع ردفه الأيمن بزاوية حادة قدرها حوالي ثلاثين درجة، ترك ضرطته تتَحَرَّر مطلقةً صرخة انتصار مُدَوّية، لم تكمن مشكلة الضرطة في صوتها العالي بل في رائحتها التي كرائحة البيض الفاسد. وبالكاد استطاع التنفس، تلّمس منديل الطعام المطوي بعناية جانب صحنه، رفعه بيديه وراح يلّوحه يمنة ويسرة لطرد الرائحة المَزرِيّة من حوله.
ما أنْ تعافى الجو قليلاً حتى بدأت الكارثة الثانية تختمر منذرة بالانفجار. فعل ما فعله في المرة الأولى وحدث البركان. كان صوته يشبه صوت إقلاع محرك المازوت لتراكتور قديم، ورائحته أسوأ من رائحة المجارير. كي لا يختنق راح يُحرّك يديه بعنفٍ في كل الاتجاهات لتبديد الرائحة وإبعاد الشبهات عن جسده.
مرة ثالثة وعندما كان كل شيء قد هدأ، أحسّ بكارثة تلوح في الأفق. هذه المرة رفع ساقه اليسرى، وسمح لبخار العنفة الغازية الرطب بالخروج من صنبوره. استحقت ضرطته الثالثة ترقيةً عسكرية، رتبة أعلى، اهتزت النوافذ، تأرجحت الأطباق على الطاولة، وبعد دقيقة ذَبُلت كل الزهور في المزهرية.
استمرت عمليات الإطلاق قرابة عشر دقائق، جرى الأمر خلالها كما في المرات الثلاث الأولى، وفي كل مرة كان يستمع لزوجته فيما إذا كانت ما تزال منشغلة بحديثها التلفوني.
عندما سمع كيف وضعت زوجته سماعة الهاتف في الغرفة المجاورة، انتهت حريته بالإطلاق، بحاسة اللمس أعاد منديل الطعام إلى جانب صحنه، وضع يديه ببراءة الضيوف المهذبين فوق المنديل (سيرفته الطعام)، وانتظر وصول زوجته بعد أن رسم على شفتيه ابتسامة طفل ارتكب لتوه حماقة كبيرة.
عادت زوجته إليه، أرخت ذراعها الطرية على كتفيه، اعتذرت منه بلباقة للإطالة في المحادثة، وسألته ممازحة فيما إذا الفضول قد دفعه لإزاحة رباط العينين ورؤية ما على الطاولة من مفاجآت.
قال لها: أنا آخرُ رجلٍ في الدنيا يَتنبَّأ في عيد ميلاده عن أحوال ومفاجآت الطاولة يا زوجتي العزيزة.
لمّا استوثقت من صدق كلماته، أبعدت العِصَاب عن عينيه وصاحت بصوت مسرحيّ: مفاجأأأأأأة!
عندما فتح عينيه، فركهما بيديه غير مصدق لما رأى، نهض من كرسيه كالملسوع، غطاه الخجل والرعب من رأسه إلى أخمص قدميه المتعبتين، إذ اِكتَشَفَ أنّ هناك اثنا عشر ضيفاً من النساء والرجال، الذين جلسوا حول الطاولة مدهوشين حائرين مما فعله أمام نظرهم في الدقائق العشرة الأخيرة، كانوا يحدِّقون إِليه مصعوقين بوقاحت، وهم على أهبة الاستعداد لمغادرة السهرة، بينما زوجته الناعمة تنظر ببلاهةٍ حولها دون أن تفهم ما جرى.
*****
ملاحظة: القصة مستوحاة من حكاية ألمانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع