الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موارد العنف -2-

جميل حسين عبدالله

2017 / 4 / 24
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


موارد العنف
قراءة لعقلية الكراهية
‏-2-‏
يتبع
وهكذا، فإن تبني خيار أحد الخطابات في المساحات الاجتماعية التي نشغلها بهمومنا الثقافية، والفكرية، لن يخلق إلا مناخا متهيأ لنوازع الخلاف المؤدي ‏إلى هوية متضيقة تتبنى ‏خيار التحارب، والتقاتل، لأنه إن لم يكن موجها لما يحتدم الصراع حوله إلى ما يضمن مركب الاستقرار، ومعنى الوحدة، ولو في أبسط حدودها التي تتآلف عليها النفوس السليمة، ‏العقول ‏العظيمة، فإن مشاكل العالم ستتفاقم فيها نسب الشقاء، وعلل العناء، وستتعالى معها أصوات المنددين بالعدوان، والمعادين للطغيان، وستتوارى بها كل الاعتبارات القيمية، ‏والالتزامات الخلقية، إذ لا يمكن جدلا أن نخلق فضاء قابلا للاتحاد على قاسم مشترك، يكون حقيقة لمشروع الحوار والتفاهم بين كل مكونات العالم، ما لم نفك عن أصول هذه ‏العقدة التي نتكهن فيها التميز، والتفوق، لأننا حتما سننتهي إلى رفض االهويات المختلفة، ونبذ كل استقلال يحر الإنسان من العبودية. وإذ ‏ذاك سيعيش الأقوياء على جوع الضعفاء، ‏ويحيى البائسون على فتات تجود به الأنانيات المفرطة، والنيات المفسدة، لأن ما نخاله فعلا سويا في كل الحضارات ‏الإنسانية، والثقافات التي أنتجتها دورات الأفعال البشرية ‏المعتدلة، لم يكن مستساغا في تمثلات البعد الإنساني المتضمن لكل سياقاتنا الوجودية، إلا حين دبره دافع غريزي، ورافد معرفي، وكلاهما يؤثر فيه جمالا، أو قبحا، ويصبغه ‏بمدارات الذات وأحوالها النفسية، ‏والاجتماعية، إذ هو الذي يعبر عما يضمره الإنسان من عقيدة الخير، وخلق الصلاح، لأن أجمل ما في الإنسان من سمو ظاهر الملامح، والغايات، ‏هو استقامة المفاهيم في باطنه، واستكانته إلى كل ما يضيف ‏إلى عطاء الكون رونقا، وبهاء، إذ ما أهين الفعل إلا بما يحتويه من فساد مشرب بنزيف الروح المتألمة، لأنه عنوان على ‏انحراف الذات عن معلوم الأخلاق بالضرورة.‏
‏ ومن هنا تكون بعض الخطابات التي تستحوذ على رقعة كبيرة من جغرافيا هذا الكون متسمة بأنانية تعبر عن رأي ملتو على غموض في ‏التفكير، وعبث في التقدير، ومنطو على ‏عقد تثير الهلع بين الديار، وتفجر الكره بين الأكوار، لأن توجيه أي خطاب ديني، أو فلسفي، لا يتم إلا في حدود ما وضع له بين رسوم الأفكار المحبرة للمقدمات، والغايات، وما ‏‏خط له بين عروش الأكنان من روافد، ومقاصد، لأن ما يقوم به من دور في بناء الكيان البشري على مقتضيات العقل السليم، والفعل القويم، هو الذي يربط بين ‏حدود الروابط التي ‏تصل بين العلاقات المتماثلة المعاني، وهو الذي يزيل هوج الاستفراد بالحقيقة المطلقة، والاستلذاذ بالذاتية المتضيقة، إذ ما يترتب عن ذلك من مخاض بين ‏الدوائر المهتمة بالثقافة، ‏والفكر، لن يحمل إلينا إلا طبقية صلدة، تتفاوت فيها نسب الاستقامة بين الكيانات المشكلة لنظام المجتمع، ومنتهى ماهيته بين الديار المشكلة لجوهره الروحي، والمادي، لأنه ولو ‏بدا لنا مترابطا، ومتماسكا، فإن ‏انفصاله عن بعضه، قد يكون مستساغا في النيات الرديئة، لاسيما إذا لم يكن هناك جامع يمكن له أن يجمع الشتات، ويمنع الافتراق. ‏
ولذا، فإن وجود هذه الطبقية في المجتمع المتفرع الأفنان، هي من ‏آثار هذه الذاتية المتألمة بآلامها الحادة، والمفرطة، لأنها تعبر عن كيانات متحدة في شكلها الظاهري، لكنها لا ‏يجمع بينها إلا النقيض الذي تمانع ذاتها منه بالمكابدة، والمجاهدة، إذ سياق بناء المجتمعات في النظام الكوني، يستلزم أن ‏ننظر إلى الحقيقة التي يتأسس عليها الكيان في بداية ‏تشكله،ثم نعرج على طرق تشكل محيطه في بنائه الماهوي، لأن درك ذلك بالاستقراء لمكامنه الخفية، هو الذي يضيف إلينا معرفة تفيدنا بطرق تكون الكيانات الجماعية من ‏الأفراد المتعارضة ‏الأهداف، والمتنابذة الأطياف، ويظهر لنا حدود العلاقات التي قام عليها العقدالمؤسس لآواصر المجتمع، ومقاصده التي تعين على استمراره، واستقراره. ومن هنا، ‏فإن ضياع تلك المعاني الأولى، والقيم التي تنبني عليها حقيقة الاجتماع في أصله الثابت، مما ‏يفقدنا طرق فهمنا لظاهرة المجتمعات في سياق ذاتيتها، وكينونتها، ويعرضنا للصراع ‏حول المتفق عليه من الحقائق الموجهة للفعل إلى ما فيه صلاح الكل، ورعايته.‏
وإذا كان الصراع المحتدم بين طبقات المجتمع، يدل على تجاوزه للمنطلقات المعرفية التي تقوم عليها حقيقة أساسه، فإن هذا النزاع الذي حدث بين حقوله المعرفية، لم يقد إلا ‏إلى شجار حول حدود ‏المصالح التي تُبتغى جواهرها لما فيها من رغبة، وشهوة. وكلاهما يوضح لنا كيفيات استواء القيم التي تربط بين الأفراد، والجماعات، ويبين لنا أنماط انحرافها ‏عن الخط الذي يضمن لكل واحد حصته من الوجود الأوفر المعاني، إذ هي التي تفسر لنا كيف نشأت الظواهر الفاسدة مما هو مهيأ طبيعة للصلاح، وكيف تنامت بين محيط قابل ‏باستعداداته لتطورها، ونمائها، لاسيما ‏عند توارد الإرادات على صياغة معنى واحد للحياة الكريمة ، يرجوه طالبه لما فيه من قوته، وشدته، أو لما فيه من ضمان لبقاء جرمه، وعينه، ‏وهو تحقيق ما يقيم في الذوات هرم الحرية، والعدالة، والمساواة. وإذا كان هذا ضروريا في جزئية بقاء النسق متسقا، ومتماسكا، لكي يتقوى سياق الخير على الشر بما فيه من ‏مكونات ‏معرفية، وثقافية، فإن إحداث الصراع في أنطولوجيا الحقائق التي مآلها الوحدة، هو المسبب بسوء العاقبة الجارية على الأفراد، والجماعات، لأنه يؤثر حتما على طريقة ‏تحديدنا لما هو مرغوب، وما ‏هو مكروه. وإذ ذاك، لن يكون المطلب الاجتماعي هو الساعي إلى تجسد المعنى في المجتمع، بل سيحدد ذلك ما يتولد عنه من الأنماط الفردية ‏المقرورة أنانيتها بين دروب الرزق، والكسب، ‏لأن أكبر معضلة تعانيها البشرية في راهنية وضعها المتألم، هي استئثار مجموعة من سكان هذا الكوكب بمبراته، ومسراته. ‏
ولا غرابة إذا كان ذلك مما يبدد مفاهيم السلم العالمي، ويفرز مظاهر سيئة في العلاقات الرابطة بين الشعوب، والأمم، ‏لأن استئساد بعض على مجموع من يعيش على ظهر الكرة ‏الأرضية، واستغلال ما هو مشترك بين الناس بحكم الطبيعة، لم يكن إلا إرادة في استثمار الصراعات التي أنتجت ‏بواقعها وضعا متشنجا بين مكوناته، وعلاقات مرتبكة بين ‏الأغنياء، والفقراء، إذ الشعور بالظلم، والهوان، وكلاهما يعاديه العاقل، ويستمرئ مقامه، لن يخلق بمنتهى عوارضه إلا قطيعا يساق إلى الموارد التي يترجاها العقل الطاغي. وهو في ‏رغبته، لا يريد إلا أن يكون ‏متبوعا في فضلاته التي يمحنها بشح، وتقتير. بل في كثير من الأحيان يهبها تحت لائحة مجموعة من الإصلاحات التي تخدم مصالح الإمبريالية، وتقوي ‏يد القابضين على زمام العالم ‏بما ينضاف إليهم من قوة التسلط على الأماكن المترعة بالموارد الطبعية، والبشرية، والتدخل في مصائر الشعوب المنهكة بالديون الخارجية، وتبعاتها ‏السياسية، والاقتصادية، لكي تكون متخلفة، ومتهدلة، وكأنها ما وجدت إلا لتشهد في وجودها بؤس هذا الكون، وشقاءه. ‏
وحقا، إن ما أنتجته الإمبريالية من فوضى عابثة بعلاقات المجتمعات البشرية، قد أوجد فراغا بين منظومة القيم التي تتحكم في المآلات الإنسانية المشتركة، ومناطا قابلا ‏للتحارب على الهوية الدالة على التعدد، والتنوع، لأنها ‏وبمقدار ما أفرغتها من جماعيتها التي تآلفت على مجموعة من صنائع المعروف المتبادلة بين الناس قديما، وحديثا، فإنها قد ‏ملأتها بأنانيات اجتمع صراعها على خلفية استكناز خيرات العالم، وبركاته، إذ ‏ما قام به العقل الطاغي بوساطة علمه، وحضارته، لم يكن إلا أسوأ منظر شهده الإنسان في ‏مرجعيته الأخلاقية منذ وجوده على هذا الكون، لأن ما قدم من أرواح في سبيل الحرية، والانعتاق، وعلى امتداد مراحل العمر الإنساني، لم يشهد تشويها لحقيقته في مرحلة أكثر ‏مما تدافعت إلى معرته مصائر المعاني بين دوافع زمن ينزف بخسة الحس البشري، وفساد الذوق الإنساني. ومن هنا، فإن إفراغ الحقائق من معانيها الحقيقية، وإلباسها لبوس الذوات ‏المتمردة على نظام السماء، وناموس الأرض، قد سبب ‏التباس المفاهيم المتداولة في التحاور الإيجابي بين أفراد الكون ، فصار ما يدل على شيء متحد مع ذاته، هو الدال بنفسه ‏على ضده. ‏
وعلى رغم ما شاب رسم هذا الابتذال الذي طال حقيقة الأشياء في منظومة القيم الإمبريالية، والامتهان الذي فاصل بين اللغات والكائنات المعبرة بها، فإن طبقة المحرومين من ‏كسب ما تجود به الطبيعة، ما زالت تصر على تحرير مدلولها، والدفاع عنه، والموت من أجله، إذ يمنحها ذلك مشروعية البقاء، وآليات الحماية، وهي في حوجاء إليه، ما دامت توقن ‏بوجود هذه اللحظة السارحة بين علل الزمان، وزلل المكان، وتجزم بأن ما تردى وضعه في الواقع البشري، لا بد أن تكون له نهضة في زمن قادم بين مغابن المجهول، إذ التضحية ‏من أجل ذلك عند التئام الحد على الممانعة، يغدو مع الجبروت مراما فريدا، ومعادا تليدا، يمكن له أن ‏يسعفها بحنان الطبيعة، ولطف الحقيقة، لأنها، ومهما أيقنت باسوداد ‏الأفق في نظرها الحاد، وانهيار جهة الأمام سيرها الكؤود، فإنها ما زالت تحن إلى تلك الصورة البريئة، والنظرة التي تبتسم بحنوها على وجه ‏ الإنسان، وهو يتلذذ بوردة الحياة الحانية، ‏إذ مبتغاه الذي يتجشم في طريقه المشاق، ويتحمل في وصله المتاعب، ولو مع ما يحصل في اقتحامه من بؤس، وشقاء، هو ما ينال به سعادته التي فطر على مودتها، وجبل على ‏محبتها، لأنه اضطرارا قد يظهر أشياء مخالفة لعهد الحرية فيه، لكنه يخفي بين عمقه ‏آمالا في الخلاص من مهانته، إذ العبودية التي تحتوي على سخافة الضعف في مكنون الذات، ‏وتتضمن جور الآخر بين مطلوب اللذات، ولو اعتبرها بعض من صناعة الإنسان الذي ذاب مراده، وزال مرتجاه، ليست إلا قبولا بما تخلص له العقل من نتائج مشوشة، ومرامات ‏مقلقة،لأنه لم يجد له سبيل الفكاك منها، فاختار الرضى بما هو كائن، والقناعة بما هو حاصل، لئلا يصطدم بما لا يطيق دفعه، ورده، إذ هو ‏الرغبة التي تحرك ذات الفقير بين الدروب ‏المعتركة، وتوجه سيره بين المعالم المختلفة، لكي يرضخ لما يبعد المسافات بين عينيه، ويطوي الآلام في واقعه، ويغريه بالآمال الكاذبة، والأماني الفارغة، لأنه بدون أن يحيى على ‏شيء متوهم في عقله، لن ‏يستحلي ما يرد عليه من أزمات الواقع، ونكباته. ‏
إن إحداث هذه الفجوة بين مالكي ثروة العالم، ومجموع الفقراء الذين يترنحون تحت وطأة الجوع، والمرض، والجهل، هو الذي يبني جدلية تلك العلاقة القائمة على ‏التعصب، والعنف، ‏والقابلة للانفجار في أي زمن قادم، يمكن له أن يكون مثارا للفتنة بين جشع الجاشعين، وحرص الطامعين، لأن صناعة جسر يربط بين الأغنياء، والفقراء، هو ‏ما استهدته الأديان ‏والفلسفات في كل نظرياتها المستندة إلى التحليل الدقيق لكل الظواهر البارزة بين المجتمعات الإنسانية، إذ تحتوي نسقيته على مضمون يفترض بناء جماعة تسودها قيم المحبة، ‏والتسامح. وإلا، فإن إصرار كل الأفكار النيرة في العالم على ضرورة سيادة نوع من ‏الأخلاق المؤسسة على العطف، والرضى، هو الدليل الأفصح على وجود مناط يجوز له أن يحدث ‏عند الانفلات عن قاعدته اختلافا له أثر على صيرورة العلاقات في الكون، لأن ما يثمر السلم ‏العالمي، ويفتق معاني الإخاء بين مخاض مفاهيم الكائن البشري، هو ما يربط بين ‏المجموعات من تعايش، وتراحم، وإذا فقد الفقراء أملهم في عدالة الأغنياء، ومساواة الأثرياء، فلا محالة، ستنتج عن ذلك حروب دامية، ومجازر رهيبة، ومآس ستحمل إلينا ضروبا ثرة ‏بالألم، وصنوفا غضة بالعناء، لأن ما يمكن له أن يكون همزة وصل بين المصاديق المعبرة عن كل الكيانات المشتركة بحد من الحدود، هو ما يحرك هذه الروابط من أخلاق ‏متسامية عن الأنانيات المريضة، والتأويلات المغرضة.‏
ومن ثم، لا يمكن أن ‏يكون الخطاب الموجه من الطرفين على مبلغ الكمال، ومنتهى من الآمال، ما لم يكن قابلا لمجموعة من المشتركات التي يلتزم فيها كل واحد بوظيفته، ودوره ‏في إصلاح ما يحصل من خلل بين العلاقات، والموارد، ولو في الاعتقاد الضمني بضرورة تصنيف العالم وفق تقسيمات تراعي البنية الوظيفية والأخلاقية لكل الشعوب، والأمم، لأن نشوء ‏هذه الصلة المسيجة بأخلاق ‏تواطأ الناس فيها على حدود عليا من المصلحة المشتركة، لم يكن إلا رافدا معرفيا لكل من ينادي بتخليق كسب العالم، وتنميته بشروط الاشتراك ‏في نتاج جهده، وإن تنافت ‏النسب، والرتب، وتعارضت المؤثرات التي تدعو إلى تبني خيار واحد، يكون القوي معه هو الأمثل في ظهور السلم، والأمان، لأن قيام مقتضى التسخير بدورٍ ‏معين في بقاء الكون، والإحساس بضرورته في ترتيب نظام الحياة وفاقا لمبدأ التعدد، والتنوع، هو الذي يؤهل أجسادا للكد العضلي، وعقولا للجهد الفكري، لكن ما يحدث في ‏ناموس الأخلاق من ‏تغيير، وتحوير، هو الذي ينزع إلى الصراع الموجه بوهم التفرد المستغرق في آسن موارد الكراهية، والضغينة، لأن تطور هذا النزاع بين الألوان المشكلة لمرآة العالم، ‏والمجسدة فيه لكل النظريات الروحية، والمادية، قد أغرى كل طرف بوضع ناموس يفصل بين القيم التي تؤطر كل البنى المحددة لمجالات التعامل، ومدارات التبادل.‏
إن الرغبة فيما يقتضيه الانفصال بين مكونات المجتمعات البشرية من صراعات ضارية، لن يكون إلا تبسيطا في التشخيص لأمنية كل الراغبين في تأثيل فضاء إنساني، يقبل ‏بواجب معرفته كل ثقافات الكون، وحضاراته، إذ لا شيء يدل على ضرورة إيجاد هذا المناط المحقق للهوية المشتركة أكثر مما رفعه الإنسان من شعار عريض، يهتف به بين ‏دروب أغاضها الوجع، والورم، ولم تجد لها من سبيل إلا هذا النزيف الصادح من صدرها، وهو لا يكون صوتا ناطقا بعناء الذات، وزفيرها، إلا وهو يبحث عن ملاذ يقيه من ألم ‏البؤس، والحرمان، لأن كتمان ذلك الصدى بين أعماق المجهول، لا يعني عدم وجوده في طبيعة العلاقات المتوقفة عليه، بل يضمر نظريات متعنفة، يمكن لها أن تظهر عند وجود ‏العامل المسبب لبروزها، لأن امتلاك القوة، ولو افضى إلى الإجبار على خيار واحد في التفكير، واستطاع أن يخضع كل المعاملات لمساره، فإن ما يتعالى عليه من واقع موجود، ‏ويخفيه بتجبره، هو الذي يصير مع تراكم التجارب مثارا للصراع، إذ ما ينزف به من غلظة، وقسوة، لا يعبر إلا عن تلك الفجاجة المستعرة في الذوات، والمستحرة في العلاقات التي ‏يظهر عليها ما تطمئن إليه الذوات من خيارات، أو ما تكرهه من سوآت، وسواء كان ذلك مبنيا على روابط المحبة، أو كان مترعا برداءة الكراهية، لأن شهود ذلك في ظاهر ‏المقامات، هو الذي يبين لنا بطريقة معقدة ما هو مجهور من الآراء، وما هو مهموس من الأهواء، إذ لا يتحرك أحدهما بين الدروب الملتوية، إلا وهو ينطوي على ما يغذي هاجس ‏الهلع، والرعب.‏
ومن هنا، فإن ما تهتف به الشعوب من شعارات، وما تنادي به من يافطات، وسواء ما يحمل نبضها المقرح، أو ما يصوِّت باسم المصالح، قد لا يراد منه لازم محتواه الذي يدل عليه بين ‏الأوضاع الطبعية للمعاني، وإنما يبتغى منه ما يفيده مجرد تكرار اسمه، وترداد رسمه، لأنه بفقدان هذه الحقائق الأخلاقية بين التنظيرات الاجتماعية، سيصاب الكائن البشري ‏بالفراغ، وانعدام ‏الجدوى، إذ مقتضى ضياع ذلك الحد الذي يسيج المعاني، ويحدد لها مدارات استفرادها، وتفاعلها، هو الذي يجعل لمعنى الأخلاق المشتركة مفهوما آخر، ورسوما ‏تغذي الصراع، لأن ظهورها بمظهر غير متفق عليه،ولا متآلف حوله، سيبرز رغبة الاحتياج إلى أنماطها المتنوعة، ولو كان ذلك بمنطق التباكي على ماضيها، وتشخيص المظلومية في ‏تاريخها، لأن اختفاءها من واقعها، وانهيارها من موضوعها، لن ينهي مساحات الماضي لبناء منطلقات الحاضر بمحددات جديدة، تخالف ما تآلف عليه الناس من صور المعاني، ‏وتراكب عندهم من ماهية المفاهيم، بل سيفصل بين تيارين عريضين يقوم عليها حراك المجتمع، ورغباته في صيانة الكيان معرفيا، وثقافيا، إذ التيار المتشبث بالقديم، لن يرى ‏وجوده إلا فيه، وذلك ما يدفعه إلى حمايته، والتحارب من أجله، وهكذا التيار الذي يتبنى الحديث، وينجذب إليه، لن يكون في تطرفه بوهم الفردانية إلا صوتا يهدم الآصرة التي تصل ‏بين الإنسان، وتاريخه، لكي يندمج في محيط تتحكم فيه آليات الاقتصاد بأبشع ما تخفيه من وأد له، وإبادة لمتكسباته المادية، والروحية. ‏
وهكذا، فإن الحرص على صناعة الأنموذج المثالي، هو المحل الذي تتوارد عليه كل الهمم المحركة بقوة التاريخ، وسواء هذا الذي اتصل به، واعتبره مفجِّر طاقته في الإبداع، أو هذا ‏الذي انفصل عنه، ورأى ذلك خروجا من عصر متخلف، ودخولا إلى عالم متمدن، لأن قيمة الفصل، أو الوصل، لا تظهر في كونها تجسد الإطار المعرفي لأحد التيارين، بل تعني ‏وجود علاقة سببية مع القديم، ولو في غلو القول بنفي تلك الصلة، إذ ضرورة قيام القديم في الحديث، هي التي تمنحنا إحدى الوسائل في التعامل مع الواقع سلبا، أو إيجابا، لأننا في ‏استثمارنا لخيرات العالم، لا نترجى إلا صناعة تلك الصورة التي نريد أن يكون بها الكون قابلا لما في تصوراتنا الباطنية، إذ هي المعربة عن مكامن القوة والضعف في أعماقنا، ‏والمظهرة لما ندافع عنه من أخلاقنا. ومن هنا، فإن إفراغ هذه العلاقات التي نشأت بين محاضنها الثقافية، والفكرية، قد يكون قائما على مثالية المعتقد الديني، أو على حتميات ‏العقل الفلسفي، لأنها تتضمن ببعدها المستقبلي، ذلك الوعي الذي يمهد لسبل التلاقي على حماية الأنماط المتسقة في سياقها الكوني، والطبعي. ‏
ولذا، فإن الحيدة عن مطلق الاتفاق على المشترك البشري، لا محالة، سيلزمنا بحروب تدور رحاها حول تحديد المفاهيم التي ترسم خطوطنا في الانطلاقة، وتحدد محال رجوعنا في ‏العودة. وذلك مشهود في عصرنا الحالي، ومعلوم لكل من اهتم بالقضايا المصيرية للإنسانية، إذ اختلفت التعريفات حول مفهوم الإرهاب، وغدا مع تداعيات الحرب عليه، وما ‏نشأ عنها من سلوك متخوف، وما نما في حضنها من انتظار متوجس، هو اللفظ القابل حقيقة لأن يؤول بتأويلات متباينة، وتخريجات متعاركة، تعبر كل واحد منها عن كنه العدو ‏المهدد للدائرة، وتعرب عن ماهيته في مرامات العدوانية، لأن لازم ذلك في تصور العقل القاهر، ليس هو لازمه في تصديق العقل المقهور، إذ ما نشأ بين الحضارات من صراعات ‏كاشحة، وأثرة كاسفة، وبقي أثره ناطقا بالعنف في العلاقات البشرية، وهامسا بالانتقام في الموارد المشتركة، هو الذي يمنحنا حدود معجمنا المفاهيمي، ويصبغنا بمدارات ‏قواميسنا التي تتحدد بها المعاني في المباني، لأن تحميل المفهوم ما ليس منه، وهو في الأصل ما يطلبه الإنسان من فروض قيام حياته على مبدأ الحرية، والكرامة، وملأه بما يخدم ‏النزاع القائم بين المجموعات المتعارضة الغايات، والمتنابذة المقامات، هو الذي يحدد المعنى المراد في الذات، ويجعله محلا للنزاع مع الآخر، وموئلا للصراع حول القيم التي يبنى بها ‏العمران، والحضارة. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آثار القصف الإسرائيلي على بلدة عيترون جنوبي لبنان


.. ما طبيعة القاعدة العسكرية التي استهدفت في محافظة بابل العراق




.. اللحظات الأولى بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا في حي السلط


.. مصادر أمنية عراقية: 3 جرحى في قصف استهدف مواقع للحشد الشعبي




.. شهداء ومفقودون في قصف إسرائيلي دمر منزلا شمال غربي غزة