الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محنة الفكر الأنساني(المعلم و المناهج التعليمية)

عزيز الخرزجي

2017 / 4 / 24
الادب والفن


مِحْنَةُ آلفكر ألأنسانيّ(10)
ألمٌكوّن ألرّابع للثقافة: ألمُعلم و ألمناهج التعليميّة
بعد تسع حلقات متواصلة عن محنة الفكر الأنساني, سنعرض لكم مُكوّناً آخر من المكونات الثقافية للفكر الأنسانيّ, بإسلوب علميّ رصين و سلس, مع أهداف و أساليب التربية و التعليم المتّبعة و التي سبّبتْ تدهوراً كبيرأً في وجود الأنسان المعاصر بحيث أبعدتهُ كثيراً عن الهدف الذي وجد لأجله في هذا الوجود, مع بيان سبل العلاج الكفيلة لأنقاذ الناس بوضعهم على جادة الصّواب لتحقيق رسالتهم الكونيّة.

تلعب ألمناهج التعليميّة و العملية التربوية و على رأسها المعلمون و المُدرّسون دوراً بارزاً لا تقلّ أهميّةً عن أدوار المكوّنات الثقافيّة ألسّابقة ألتي عرضناها لكم كدور الأمّ و آلأب في نشأة و تقويم سلوك و ثقافة و قيم آلفرد .. هذا إنْ لم تفوقها؛, فآلمتعلم منذ نعومة أضفاره و حتى الجامعة, يصرف أكثر وقته داخل صفوف و ساحات المدرسة من الصباح و حتى المساء مضحّياً بزهرة شبابه ليتعلّم من المعلمين و الأساتذة .. آلآداب و المعارف و القيم التي ليس بآلأمكان تعلّمها في مكان آخر ..

و بما أنّ الهيئات التعليمية ملتزمة بمناهج مُقرّر من الحكومة و الوزارات المعنية ألتي تعمل ضمن النهج السياسي الحاكم؛ لذلك لا بُدّ من الأنتباه عند رسم و تخطيط المناهج ألأدبية و العلمية بإنتخاب المناهج الموضوعية و المتون و الدّروس التي تخلق جيلاً إيجابياً مفيداً مسالماً صالحاً متواضعاً يُحبّ الأنسان و الوطن و يسعى لخدمة الناس بعد التخرج, و يحتاج هذا إلى التنسيق مع العلماء العرفاء لوضعها و تقريرها بحيث تُحقق الأهداف التربوية و الروحية و الأدبية و الدّينية و الأجتماعية بما يتناسب و المراحل الدراسية المختلفة و متطلبات العصر و تطور العقل.

لكنّ المشكلة و العقبة الكبرى هي أن الأنظمة في دول العالم ليس فقط تفتقد إلى الطاقات الفكرية العرفانية التي تعتمد على ما فوق العقل الظاهر في سيرتها و هو ما عبّر عنه بـ (الكوانتوم(, و التي تحتاج لمؤهلات عالية و دقيقة لرسم و بيان و تحديد مثل تلك المناهج.

و لو ألقينا نظرة سريعة على محتوى الدروس الأجتماعية و آلأدبية و الدّينية و حتى العلمية, لرأينا بوضوح طغيان حالة الجفاف و السطحية في موضوعاتها و خلوها من الرّوح و آلآفاق الكونية و منها دور الزمن في البحث العلمي, و لذلك لم يتخرّج خلال الحقب الزمنية الماضية سوى أجيالاً تميل للعنف و القسوة و التّمرد و آلأنا و عبادة الذات بعيدأً عن الله و حُبّ الوطن و الأنسان و بآلتالي فقدان الغاية و الهدف من منهج المتخرج المشوّه أساساً, لكونه درس تلك العلوم من أجل درجة النجاح و آلحصول على شهادة "علميّة" قد تؤهله لأن يكون مهندساً أو طبيباً يؤدي عملاً روتينياً محدوداً كي يبني بيته!

إنّ مسألة المناهج التعليمية لحساسيتها ودورها الكبير و إرتباطها بمصير المجتمع و الأمّة .. لا تُحلّ من خلال معالجاتٍ شكليّةٍ أو إصلاحاتٍ ترقيعية بتغيير أو سرد القصص ألتأريخية عن كيفية الغزوات و الفتوحات و الحضارات البالية و كما حاولت الوزارات المتعاقبة سابقا و لاحقاً بعد 2003م فعل ذلك؛ بل تحتاج إلى ثورة منهجية شاملة تعتمد العقل الظاهر بجانب العقل الباطن بدرجة كبيرة يقوم بتقريرها المفكرون الذين يدركون الفرق في ذلك, و يدركون معنى الحياة و الوجود و فلسفة السعادة و تأثير النظام على تحقيق ذلك, ليتمّ بموجبها تغيّر أسس المناهج المتراكمة السّابقة التي خرّجت أجيالاً من المخرّبين و النفعيين و الطفيليين و الأرهابيين و الأنتهازيين و الفاسدين و في مُقدّمتهم ؛ألسّياسيين و قادة الأحزاب و الأئتلافات الذين دمّروا العراق و الأمّة و نهبوا ما كان موجوداً فوق الأرض و تحته لفقدانهم إلى الفكر و آلضمير و الوجدان و خلو قلوبهم من الرّحمة و البصيرة نتيجة المناهج و العقائد التي تلقوها في المدارس أو الأحزاب السياسية و الدينية المتحجرة التي ضمّتهم و ربّتهم و التي لم تُعلّمهم .. و لم تمهدهم سوى للخيانة و الظلم و كيفية بيع الوطن و التسلط على الناس من أجل المناصب و الأموال و الرّواتب على حساب فقراء الوطن و هم الأكثرية الساحقة!

ربّما خرّجت المدارس و الكليات مهندسين و أطباء يتقنون إلى حدٍّ ما مِهنهم؛ لكن هل هذا كان كافياً لجعل المتخرج مواطناَ صالحاً و مفيداً و بآلتالي مبدعاً !؟

إنّ عمليّة التربية و التعليم إن لم تُرافقها برامج أخلاقيّة و عقائديّة و فكريّة سليمة جنباً إلى جنب دراسته التخصصيّة و كيفية أداء واجبه بآلشكل الأمثل و المطلوب لخدمة الوطن و المواطن و الأنسانية؛ فإن شهادته العلمية العالية لا تُحقّق الكثير و لا تعطي آلثمار المطلوبة!

يقول المفكر (مورو)؛ [ألمدرسة التي من شأنها أنْ تُكوِّن مُغيري ألعالم هي مدرسة آلفكر ..
هي العلوم الانسانيّة ألتي هجرها الإسلاميّون فهجرها الكثيرون من الناس.
مشايخ يعتنون بنواقض آلوضوء .. و آخرون يُجيّرون لحكام ظلمة يطلبون منهم فتاوى فيفتون و آخرون قابعون على ساحة الحياة يتكلمون عن آلجن "أنثى هو أم ذكر"!
مَنْ للشعوب اذا كان علماؤها يقبعون في وادي عَبْقَرْ عند الجن؟
و اذا كان مثقفوها لا ينظرون الى الواقع نظر المخالط له .. أقول لكم أيّها المثقفون يا صناع العقول؛ إصنعوا عقولاً في أمّة العرب، ألتّقدم لا يأتي بكثرة الأطباء و كثرة المُهندسين و إنّما يأتي بمن يدرك كيفية التغيير ثم البناء، لن تغيروا العالم بكتب فقهٍ ..
تُغيّرون العالم بعقول واعية مدركة تتبنّى القيم و تدرك إنّ القيم هي كرامة الإنسان].

و أضيف هنا مسألة أخرى أهمّ و أكبر أثراً على التربية و أعداد الجيل الأمثل, و هي العناية و ألاهتمام بتنشئة و بناء ما هو أهمّ من العقل .. و هي ألرّوح و تقويتها من خلال تغذيتها بآلأشعار و القصص العرفانية و الأنسانيّة و آلأدبيّة المفيدة و التي من شأنها فتح آلآفاق أمام المتعلم و تقوية الخيال و إغناء الرّوح التي تُشكّل مع الفكر أساس الوجود الأنسانيّ, ليعبر الطالب بعدها مدار العصبيات القبيلية و القومية و العنصرية و حتى الوطنية إلى مدار الأنسانيّة جمعاء وصولاً للمدار الكونيّ الذي يُحقق في وجوده الأبداع و الكمال و الأنتاج الوفير.

تصوّر إلى أين وصل الحال بآلأنسان المعاصر, بسبب تشوّه و أنحراف ليس فقط المناهج؛ بل التربويون و آلعملية آلتربوية و التعليمة برمتها ليس في العراق وحده .. بل و في العالم, حيث بات المدرس ليس فقط لا يهتم بآلجوانب الرّوحية و السّلوكية و العرفانية .. بل لا يعطي حتى حقّ الدَّرس و الحُصة المقررة كما يستوجب .. لكي يضطرّ الطالب إلى أخذ دروس التقوية الخصوصيّة ليكسب من وراء ذلك المال, و هذا لعمري هي الخيانة و الفساد بعينه, بل إنّ بعض التلاميذ حين يسألون المعلم أو المدّرس لإعادة شرح الموضوع, يمتنع عن ذلك مُتحججاً بآلقول: [الحكومة تعطيني راتبي مرّة واحدة, و أنا أعطي الدّرس مرة واحدة].

في الخارج – أعني الدول المدنية – و يجب علينا أن نُفرّق بين (المدنية) و (الحضارة), لاحظت بأنّ المعلم يؤديّ واجبه بآلشكل الأمثل لكنه أيضا لا يحقق المطلوب من فلسفة التربية و التعليم , لأن المناهج المقررة تؤكد و تسعى لتطبيق القوانين و خدمة النظام بآلدرجة الأولى, بل و إعتبارها النهج الوحيد للبقاء و العيش, و بدون ذلك يعني دخول السجن و الشقاء والموت, في حال السير بعكس هذا المقرر .. و بغض النظر عن صرامة و حدّية هذا النهج .. فأنه بآلتأكيد لا يحقق السعادة للطالب و بآلتالي للمجتمع الذي سيبني حياته فقط على الجانب المادي ضمن النهج المادي الرأسمالي ألذي يؤكد على الجانب المدني دون الحضاري, و هذا هو الأشكال الكبير الذي وقع فيه الغرب منذ عصر النهضة و إلى اليوم, و لم تفلح صيحات بعض المفكرين الذين نادوا بضرورة معالجة هذه القضية لتلافي وقوعنا قهرياً في مآسي (عصر ما بعد المعلومات) ألتي ستدمر .. بل بدأت تُدمّر العالم بإسلوب نووي مدنيّ!

وهكذا لم يعد بآلأمكان حتى في الغرب و للأسباب التي أشرنا لها .. تخريج الأجيال الأنسانيّة ألسّويّة المؤمنة بآلقيم العليا .. أجيالاً مسالمة تُؤمن بآلأنسانية و بآلعدالة و الأنصاف و الرّحمة و المحبة و الجّمال, خصوصاً و قد رآى و تَعَلَّمَ هذا المُتخرّج؛ بأنّ الهدف من العلم و من هذه الحياة تنحصر في إشباع الشهوات و الثراء و الماديات حتى لو كان على حساب قهر و سرقة الآخرين, بجانب شرعية الخداع و المكر و التزوير و الأجحاف لتحقيق ذلك .. و ربّما شرعنة الألفاظ البذيئة عملياً و من مُدّعىّ التربية و التعليم أنفسهم و بشكل مباشر!؟

هذا بآلنسبة لسلوك و تعامل روّاد و معلمي و أساتذة التربيّة و التّعليم في المدارس و الجامعات مع المتعلمين ..

أمّا (المناهج) التعليميّة .. فحقيقتها مُحزنة و مُبكية للغاية أيضاً .. وصلت حدّاً بدأت الجامعات تبيع الشهادات للناس مقابل مبلغ من المال!

فلو ألقينا نظرة سريعة على مُكوّنات و أسس المناهج التعليميّة في بلادنا و حتى بلاد العالم .. بدءاً بآلرّوضة و إنتهاءاً بآلجّامعة, لرأينا أنّ هناك خصوصيّة مشينة مشتركة بينها, تهدف في النهاية إلى خلق مواطن يتّصف بآلأنانيّة و آلعنف و الحدّيّة و القسوة و آلأنتهازية, بحيث تتجلّى في وجوده روح الأنتقام, لسببٍ واضح ينشعب لقسمين لم ينتبه لهما التربويون و السّاسة العراقيين و العرب, و هما:

أولاً: طبيعة المناهج ألأدبيّة و ألدّينية و التأريخيّة ألمُقرّرة, حيث إختاروا .. الجوانب البطولية و القتالية و الفروسية و الحروب و الغزوات و العنف و القتل و النهب و السلب و الحديّة التي إتّصف بها الحكام و القادة العرب على طول التأريخ بعيداً عن التسامح و العدل و المحبة و الرحمة بين الراعي و الرعية, بل يفتخرون و يُمجّدون بأسهم و صرامتهم و قساوة القيادات التي تزعمت الممالك و الدّول و يفتخرون بالحملات و الغزوات و قتل الشعوب بإعتبارها جوانب بطوليّة و حضاريّة و أنسانيّة مشرقة تفرّدوا بها على غيرهم من الأقوام و الأمم, و هكذا كان التعامل و التغني و التعاطي مع تأريخ الحضارات القديمة البالية التي نشأت على جماجم الفقراء و المعذبين, مُعتبرينها نماذج فريدة عُليا في نظام الحُكم و "العدالة" و "الحضارة" يجب تكرارها, بينما كانت جميعها نماذج للفساد و التسلط و الظلم و الخيانة و الشهوات و إستعباد الناس لأجل بناء قصورهم و تحقيق شهواتهم و ملّذاتهم و بطونهم, و كما بيّنا ذلك في مباحث سابقة.

و لا يمكن الخلاص من هذه المحنة الكبرة, إلا بثورة عكسية بمقدار 360 درجة, يتم خلالها إستبدال المناهج الأدبية و الإجتماعية بقصص و سِيَر العُرفاء و الأدباء و الشعراء أمثال حسين منصور الحلاج و حافظ الشيرازي و عطار النيشابوري و المولوي و العراقي و جبران خليل جبران و إيليا أبو ماضي و كوته و آينشتاين و أمثالهم من الذين سطروا ملاحم كبرى في تأريخ العلم و الفلسفة و الحياة الأنسانيّة, بحيث إن مؤسسات دوليّة كبرى كهيئة الأمم المتحدة إتخذت من آدابهم و أشعارهم و حكمهم عناوين تتصدر قاعاتهم و صالاتهم.

ثانياً: إهمال القصص الأنسانيّة التربويّة التعليميّة و اهدافها الأخلاقية العديدة في بيان الصّدق و الوفاء والرّحمة والعدل و تشمل كلّ قيم و مكارم الأخلاق, لزرعها في نفوس الأطفال, فآلتركيز كان و لا يزال خلال المناهج الدراسيّة في الابتدائيّة و حتى المتوسطة ثمّ الأعدادية و الجامعة على كيفية و عدد الغزوات و الجيوش و أنواع الأسلحة المستخدمة و الخطط العسكريّة و الحيلة و الغدر المستخدم و طبيعة الغزوات التي قام بها النبي(ص) أو الخلفاء(رض) أو من تبعهم خلال العصور المختلفة و بطولاتهم الكبرى في قتل أكبر عدد من الجيوش المقابلة!

بيد أن الواجب و المطلوب في مقابل ذلك .. خصوصاً في تلك المراحل الدّراسيّة؛ هي دراسة أخلاق و سلوك و تواضع و إنسانيّة نبي الرّحمة و الرأفة و المحبّة التي كان يُبديها لجميع الناس خصوصاً غير المسلمين لكسبهم, و كذلك بيان؛ كيف و لماذا حصل ألرّسول(ص) على شهادة حسن السلوك والأخلاق من رب الكون, بكونه صاحب الخلق العظيم, و لم يعطيه شهادة علمية في الحرب أو النزاع أو القوة,!
وكذلك حصوله قبل هذا على درجة الصّادق الأمين من قبل جميع الأقوام الجاهلية العربية قبل نزول الوحي عليه, لدوره و امانته في الحفاظ على أعراض و أموال الناس و بآلأخص في شراكته التجارية مع خديجة بنت خويلد .. و كيفية رفقه بالحيوان و أداء حقّ الجار و آلعطف على أهله و ذويه و إخلاصه و تعبده لله في الغار وحيداً ..

فآلأمانة و روح الأنسانيّة .. تُزرع في وجود الأنسان منذ الطفولة و تُحصد نتائجها عند الكبر .. و (العلم في الصّغر كآلنقش في الحجر), كما يقولون , حيث يترسخ في وجود الأنسان كما النقوش المرسومة في الأحجار للأبد, و لا تتغيير بسرعة!

هذا بجانب عرض الدّروس الكبيرة التي تركها العرفاء و الفلاسفة و الأنبياء و الخلفاء و على رأسهم الأمام علي(ع) الذي تعلّم أسرار ألنّبوة من أخيه رسول الله(ص) .. ذلك المعلم الكبير و الصّادق الأمين و المتواضع الحكيم .. ألذي جَسّد القيم و المعايير الأنسانيّة في سلوكهم و عملهم حين ساوى بين الغني و الفقير في العطاء, بل ساوى عليه السلام بين نفسه و هو خليفة المسلمين و رئيس إحدى عشرة دولة آنذاك .. و بين أفقر الناس في الرّعية, يعني كان راتبهُ من بيت المال بقدر راتب الفقير .. حتى لم يظلم في حكمه أنساناً و من كلّ الطوائف و الأديان .. بما فيهم الكفار و المنافقين المُسالمين, فقد تعامل مع الجّميع بآلتساوى, رافعاً شعاره الكونيّ:
[ألنّاس صنفان؛ إمّا أخٌ لكَ في آلدِّين أو نظيرٌ لك َفي الخلق].
و هكذا أسّس الأمام عليّ عليه السلام أسس الدولة ألمدنية العالمية العادلة و النظام الأنسانيّ المطلوب لكل الشعوب و في كلّ الأزمان و الأكوانّ, نتيجة التربية الصالحة التي تلقاها من كفيله رسول الله(ص) و مِنْ ربّ رسول الله جلّ تعالى, الذي قال في قرآنه المبين: [... و إتّقوا الله و يُعلّمكم اللهٍ], أيّ لو إتقى العبد ربّه فأنّ الله تعالى يكون بنفسه معلمهُ!

لقد أثبت الحقّ و العدالة عملياً في سلوكه في مواقف كثيرة و عديدة, و منها وقوفه في المحكمة أمام القاضي (شريح) الذي كان الأمام(ع) قد عيّنهُ بنفسهِ كقاضي للقضاة, حيث تجلّى عظمته حين أراد(ع) أن يُقاضي يهودياً كان قد سرق درع طلحة (غلولاً)(1) بعد معركة الجّمل, و حين حكمت المحكمة ضدّهُ – أيّ ضدّ عليّ - و بآلباطل بدعوى عدم إمتلاكه (ع) للشهود .. لكنه رغم ذلك و إحتراماً للنظام قَبِلَ آلحكم على مضضٍ لجهل القاضي بتفاصيل الحكم الشرعي ألصحيح و العادل في تلك القضية الواضحة, لأنّ المأخوذ (غلولاً)(1) في النظام الأسلاميّ لا يحتاج إلى شهود و كما طلب شريح من الأمام ذلك جهلاً!
بيد أنّ الأمام(ع) بيّن في ختام المحاكمة أخطاء القاضي و غفلته و جهله بتفاصيل القضية و الحكم, هذا مع أنّ الأمام علي(ع) كان خليفة المسلمين, و ألمُؤَمّنْ على أموال و مصير كلّ البلاد و آلعباد بجانب أنّهُ لم يَكنْ يطلب الدّرع لنفسهِ .. بل لأعادته إلى بيت المال, هذه القضية و غيرها من القضايا الكبيرة و الكثيرة المعروفة التي تُبيّن لنا حقيقة هذه الشخصيّات الكونيّة الفريدة التي تواضعت أمام الحقّ بأحلى صور التواضع و البساطة .. و كأنهُ إنسانٌ عاديّ كباقي الناس, رغم أنه كان رئيساً يحكم 11 دولة ضمن الأمبراطورية الأسلاميّة, و آلجميل أنّ خصمه اليهودي بعد ما رآى هذه المواقف العظيمة و أثناء خروجهم من باب المحكمة قَبَّلَ يديّ آلأمام (ع) و أرجع لهُ (الدّرع) و شهد الشهادتين و ختمها بآلثالثة.

إن ترك هذه القدوات و الدّروس الأخلاقيّة و الأدبيّة و العلميّة و السّياسيّة و الأداريّة العظيمة كمناهج و شهادات كونيّة خالدة في مناهجنا .. و إستبدالها بمناهج و قصص و دروس السّلاطين و الملوك و الحكام و الرؤوساء الذين أفسدوا في الأرض من أمثال حمورابي و نبوخذنصر و سرجون و فرعون و هامان و من بعدهم سلاطين الأمويين و آل مروان و آل عباس و آل عثمان و أخيراً خليفتهم صدام و أوردغان و أشباههم من الحكام الظالمين ألذين عفلقوا عن كلّ جرم و ظلم و فساد و إرهاب باسم القانون و آلمدنيّة؛ قد سبّب هذا الخيار الأسود .. تشوهاً كبيراً و إنحرافاَ في ذهنية المُتعلم العراقيّ و العربي و أفقدته بآلتالي معرفة الحقّ و الباطل و بآلتالي النموذج الأمثل و القدوة التي يُمكن الأقتداء بها, و لذلك تخرّجَتْ الأجيال العديدة .. و منها هذا الجيل الذي يعيش معنا و هو يعتقد بأنّ أؤلئك الحكام و الملوك عبر التأريخ - على ظلمهم المبين و أنحرافهم الواضح - هم العظماء و آلنماذج ألأنسانيّة التي يجب الأعتزار بهم و الأقتداء بنهجهم في الحكم و الحياة .. و لذلك كثرت الفوضى و الخيانات و الأنقلابات و المظالم و القسوة و الظلم و الفساد بحقّ الناس خصوصاً حقوق المرأة و العائلة و تربية الأبناء, و تشعبتْ المفاسد و الخيانات في أوساطهم .. إلى أنْ أصبح المُنكر معروفاً و المعروف منكراً .. بل بات الظلم و جهاً من أوجه العدالة!
و لذلك فإنّ ما نراهُ اليوم من أنحراف في سلوك المربين و المُدرسين و آلموظفين و آلمسؤولين و آلرؤوساء و الحكام ليس في دولنا فقط .. بل وفي العالم و حتى في أوساط رجال الفكر و آلدِّين؛ إنّما هو بسبب الموروث الثقافي و مناهج التعاليم و الدّروس التربوية الخاطئة و الفاسدة التي تلقاها خلال المراحل ألدّراسية المختلفة؟

و لذلك وصل السيل الزبى كما يقولون, بعد ما استشرى الفساد و تغلغل في كلّ مناحي الحياة, بل أصبحت بمثابة قوانين عامّة يعمل بها الرئيس و الوزير و المسؤول و النائب كما كان يعمل و يفعل حمورابي و نبوخذنصر و فرعون و صدام و نهيان و أوردغان .. و الناس على دين ملوكهم مبهوتين .. يَتَحَيّنون الفرصة تلو الأخرى ليحلوا على منصبٍ بَدَلَ ألرئيس أو المسؤول ألسّابق ليكرّروا نفس المظالم و ذات النهج بفخرٍ و شوق و إعتزازٍ!
كما إن اهمال القيم و الأقوال المأثورة و الأشعار العرفانية من مناهج التربية و التعليم بجانب تطبيقاتها العمليّة من قبل المعلمين و المدرسين و أساتذة الجامعة كنماذج حيّة أمام ألطلاب و المتعلمين؛ كان له الأثر السلبيّ البالغ في نشأة الأجيال المنحرفة و الحاقدة التي إنقلبتْ لديها موازين الحياة و قيم العدالة بحيث أصبح (الفساد إصلاحاً) و (الظلم عدلاً) و (النهب شرعاً) للأسف و كما نراه اليوم على سلوك و تعامل ألرّؤساء و الوزراء و المسؤوليين خصوصاً فيما يتعلق بالجانب و الحقوقي و المالي, للدّرجة التي باتت معها مسألة قانونية عاديّة قبلها الناس على مضض .. و هم يرون رئيس الجّمهورية أو رئيس الوزراء أو البرلمان و توابعهم مثلاً .. يتقاضون رواتب شهريّة مقدارها أضعاف أضعاف راتب الموظف أو المقاتل المضحي بدمه للوطن بمئات المرات!

هذه الثقافة المنحطة و هذا التباين الحقوقي الذي يعدّ المعيار الأهم في معرفة عدالة النظام .. إنّما نشأ بسبب التربية و التعليم الخاطئ و المخالف لمبادئ و أسس العدالة الأسلامية - الأنسانية, بسبب المناهج التدميرية التي تعلّمها خلال دراسته و تعليمه الأبتدائيّ و الجامعيّ, و التي إستنتج من خلالها بأنّ الهدف من الرّئاسة و الحكم و التعليم هو لبناء بيته على حساب الحقّ و الوطن و كل القيم, و إن (الغاية تبرر الوسيلة) هنا, و إن آلأمثلة الكونيّة التي عرضناها لكم كجانب من سيرة الرسول الكريم أو سيرة الأمام عليّ(ع) أو العرفاء و الحكماء, إنما هي روايات و قصص نقدسها فقط و نحييها كطقوس دينية كل عام أو أثناء الكلام و المحاضرات!
و هكذا مُحِقَتْ الأمانة و الصّدق و آلأخلاص و الأيثار و الرّحمة و آلتواضع .. من وجود الناس و من الجذور, و هي _ أي تلك المبادئ في حقيقتها - تُشكل الأسس الأخلاقيّة و الثقافيّة التي تفرضها الشرائع الإنسانيّة الأرضيّة و السّماويّة معاً, بل لا فائدة للعلم بدون الأخلاق, و بما أنّ [الدِّين و العِلم تؤأمان إن إفترقا إحترقا] كما ورد في الحديث, و أنّ الدِّين يعني (المعاملة) بآلحسنى و الأخلاق الطيبة؛ فأنّ الصحيح أيضاً, هو؛
[العلم و الأخلاق تؤأمان إن إفترقا إحترقا], و هذا ما حدث و يحدث في عالم اليوم للأسف, لتشكل أحدى أعمدة المحنة الأنسانية المعاصرة, التي تعيش الشّقاء و العذاب و الحروب و النزاع و الخصام بسبب أطماع الحكام و المستكبرين في العالم و على رأسهم المستكبر الأمريكي!

و لذلك لا محلّ للسعادة في نفوس الناس .. كلّ النّاس في العالم مع هذا الوضع؟

و اين أصبح اليوم موقع القيم و الأخلاق في مجتمعنا الذي أنهكه الفساد و الظلم و القتل و التفرقة الطائفية و الحزبية و العنصرية بسبب التربية و التعليم الخاطئ بشقيه (العلميّ و الأخلاقي) من سلم الفساد في العالم!؟

وأين التمهيد لظهور المنقذ الكبير .. و وضع العالم و العراق الذي هو مركز ظهوره بهذا الشكل؟
لقد أصبحنا في أدنى مرتبة من سلم الفساد ضمن أسوء و أفسد عشرة بلدان .. هي آلأكثر فساداً في العالم!

نختم كلامنا بخبرٍ عظيمٍ .. لم يَعُدْ اليوم غريباً أنبأنا به الرّسول الكريم محمد(ص) و هو يُؤشر لأحداث آخر الزمان و زمن ظهور المنقذ الكبير إن شاء الله, حين قال(ص):
[كيف بكُم إذا فسد نساؤكم، و فسق شبّانكم، و لم تأمروا بالمعروف و لم تنهوا عن المنكر؟ .. فقيل له : أ وَ يَكون ذلك يا رسول الله؟!.. قال: نعم، و شرٌّ مِنْ ذلك، كيف بكم إذا أَمرتُم بالمنكر، و نهيتم عن المعروف ؟.. قيل يا رسول الله؛ أ وَ يَكون ذلك؟ .. قال : نعم، و شرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتُم المعروف مُنكراً و المُنكر معروفاً؟].
و آلأشارة الأخيرة هذه .. تُدلّل على دمار الأنسانية؛ أيّ حالة المسخ و دمار الوجدان و الفكر الأنساني كليّاً!

و آلنّتيجة؛ هي تداعي الأمم علينا كما نشهد ذلك من خلال الأرهاب و الجيوش و الأحزاب العميلة التي تُنفّذ خطط المحتل لبلادنا, و كما حدّثنا(ص) عن ذلك رسول الله(ص) بقوله:
عن عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي, حدثنا بشر بن بكر, حدثنا ابن جابر حدثني أبو عبد السلام, عن ثوبان, قال:
[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تتداعى(2) الأكلة إلى قصعتها, فقال قائل؛ أ و من قلّة نحن يومئذ, قال: بل أنتم يومئذ كثير و لكنكم غثاء كغثاء السيل, و لينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم و ليقذفن الله في قلوبكم الوهن, فقال قائل؛ يا رسول الله: و ما الوهن؟ قال؛ (حُبّ الدُّنيا و كراهية الموت)].
و إنا لله و إنا إليه راجعون .. و لا حول ولا قوة إلا بآلله العلي العظيم
عزيز الخزرجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) معنى (الغلول), هو ما يؤخذ أو يُسرق من بيت مال المسلمين بغير حقّ.
(2) التداعي؛ الأجتماع و دعاء البعض بعضا، و المراد من الأمم فرق الكفر و الضلالة.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في