الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقالة تحريم التماثيل وفن النحت.. وقع الحافر على الحافر: سرقة أم توارد خواطر؟

سعيدي المولودي

2017 / 4 / 29
التربية والتعليم والبحث العلمي


مقالة:تحريم التماثيل وفن النحت باسم الإسلام السياسي
وقْع الحافر على الحافر: سرقة أم توارد خواطر؟؟
في جريدة أخبار اليوم ليوم الثلاثاء 25 أبريل 2017 ( عدد:2273) في صفحة الرأي (8) – وفي كثير من المواقع الإلكترونية كذلك- استدرجتنا مقالة تحت عنوان: تحريم التماثيل وفن النحت باسم الإسلام السياسي، للأستاذ محمد بوبكري، وهي مقالة تغري بالقراءة والإطلاع لما يتضمنها عنوانها من دلالات خاصة ومثيرة، ولما يطرحه من قضايا تهم موقع الفن في الثقافة العربية الإسلامية ومكانته، غير أنه للأسف بعد قراءة المقالة تصدمنا حقيقة مرة تكشف عنها المقالة،تتلخص في أنها من بدايتها إلى نهايتها هي نسخ ونقل حرفي بكل الصرامة التي تفرضها طقوس النقل والنسخ من كتاب للشاعر المصري: حسن طلب،تحت عنوان : مصادرة الفن باسم الدين والأخلاق والسياسة صدر سنة 2013 في طبعته الأولى عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، ويتضمن ثلاثة فصول أو محاور هي التي يتضمنها العنوان ذاته، الأول: تحت عنوان: مصادرة الفن باسم الدين، والثاني تحت عنوان: مصادرة الفن باسم الأخلاق، والثالث تحت عنوان: وباسم السياسة. وقد اختار الأستاذ محمد بوبكري المحور الأول، وسَطَا على القسط الأكبر منه ليشيد منه مقالته أو يعيد نشره باسمه على وجه التدقيق، وقد لجأ إلى التجاوز والقفز على مجموعات من الفقرات التي استهل بها حسن طلب موضوعه، ليواصل بعدها النسخ بكل حرية وأمان، إلى آخر الفصل أو المحور، مستغنيا فقط عن إحدى الفقرات، وهي الفقرة التي تلي مباشرة البيت الشعري الذي يتضمن كلمة "الجن" كقافية.
والحقيقة أن القاريء يقف مشدوها أمام هذا الالتباس، أو بمعنى أدق هذا الوضوح وهذه الجرأة في ممارسة النسخ والنقل، واعتمادهما بشكل صارخ بحيث لا مجال للافتراض أن الأمر طارئ أو عابر وعرضي،فثمة إصرار مضمر وبارز على تضليل القاريء والتمويه عليه وتأكيد قوي على إرادة الانتحال والسرقة والادعاء. ولذلك لا يمكن تفسير الحالة إلا باعتبارها سرقة واختلاسا صراحا، إذ من المستبعد أنْ تتوافق أو تتوارد الخواطر وتتطابق المضامين وتتحقق بهذا الشكل الدقيق والفريد، مهما كانت الظروف ومهما تشابهت الأحوال.
إن هذه الظاهرة بكل أسى بدأت تستغرق وتلوث مسار ومنجزات الثقافة المغربية في العقود الأخيرة، وبدون تردد نؤكد أنها على مستوى البحث العلمي ببلادنا أضحت وكأنها "طور ضروري ومحتوم"، ونعثر لها على نماذج "حية" وملموسة على مستوى الأبحاث والرسائل الجامعية والمقالات والمنشورات.. وتم ضبط وفضح كثير من الحالات في هذا الباب، مما يحملنا للقول إن الظاهرة أبعد من أن تكون "ظاهرة فردية ووحيدة" بل هي سلوك عملي خاضع لشروط وتطورات متواصلة تجد في سياق الأزمة التي تعاني منها منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي قابليات متعددة للتحقق تكتسب من خلالها صلاحيتها "الأكاديمية".

سعيدي المولودي (أستاذ باحث) . أحمد الفوحي (أستاذ باحث)
كلية الآداب والعلوم الإنسانية.مكناس.
تحريم التماثيل وفن النحت باسم الإسلام السياسي
محمد بوبكري
لا يخالجنا شك في أن كلمة (تمثال) كانت تدور على الألسن قبل الإسلام أكثر من دوران كلمة (صنم) فهذا "امرؤ القيس يقول:
ويا رب يوم قد لهوت وليلة
بآنسة كأنها خط تمثال
ويقول شارح الديوان "الأعلم الشنتمري" تفسير كلمة (تمثال): "خط تمثال، أي نقش صورة"، والتمثال والمثال: كل ما مثلته بشيء وإنما شبهها بالتمثال لأن الصانع له يتأنق في تحسينه ويمثله على أحسن ما يمكنه".
وربما تستطيع أن تشتم هنا رائحة فكرة (المحاكاة) اليونانية كما وردت عن "أفلاطون" بالذات، فالفنان عنده يحاكي الأشياء، أي يمثلها أو يمثل هيئتها في الواقع. غير أن كلمة تمثال بدأت تتراجع بعد مجيء الإسلام لصالح المصطلحات القرآنية المرادفة، مثل (صنم) و(وثن)، على ما بينهما من تباين في ظلال المعنى، فالصنم كما ورد في (اللسان) هو الصورة بلا جثة. أما الوثن ، فيطلق على (كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي، تعمل وتنصب فتعبد)، ومع هذا فقد كانت الكلمتان تتبادلان معنييها، وقد تستخدمان على أنهما مترادفتان. يقول "دعبل الخزاعي" مفتخرًا على النزارية بحضارة قومه القحطانيين التي تشهد بها آثارهم وأصنامهم الباقية، ومن بينها (صنم المغارب)
بأيلة والخليج لهم رسوم
وآثار قدمت وما محينا
وفي صنم المغارب فوق رمل
تسيل تلوله سيل السفينا
ويقصد الشاعر بصنم المغارب التمثالَ الذي يحكي أن أحد ملوك اليمن كان قد بناه قديمًا حين خرج غازيًا إلى المغرب فواجهته تلال الرمال المتحركة، فأمر قبل أن يعود أدراجه بصنع تمثال من النحاس على هيئة إنسان، ونصبه على صخرة، ونقش على صدره تحذيرًا حتى يحترس القادمون فلا تبتلعهم الرمال.
ولم تلبث كلمة (تمثال) أن عادت من جديد إلى معناها الأصلي الدال على الجمال الفني المتقن، متخلصة من الإيحاءات الدينية التي أكسبها إياها الإسلام بجعلها مرادفة تقريبًا لكلمتي (وثن) و(صنم) وينقل "القلقشندي" (ت 821 هـ) عن "ابن بنت الأعز" قوله:
ظريفة الشكل والتمثال قد صنعت
تحكي العروس ولكن ليس تغتلم
فالشاعر يستخدم الكلمة هنا بدلالتها الفنية (الجمالية) كما كان يستخدمها "امرؤ القيس" في الجاهلية، وقد يتأنق بعض المؤلفين فيزينون عناوين كتبهم بكلمة (تمثال) بدلالتها هذه كما فعل "العبدري") (ت837 هـ) حين جعل عنوان موسوعته عن الأمثال العربية (تمثال الأمثال)
وقد وردت الكلمة مرتين في القرآن، ولكن بصيغة الجمع فمرة بمعنى الأوثان، "إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عابدون) (الأنبياء52).:). أما المرة الأخيرة، فذات دلالة إيجابية لأنها جعلت من نحت التماثيل عملاً طيبًا مرغوبًا، ينتمي إلى دائرة الأعمال والأشياء الجميلة، وتتوافق الكلمة هنا مع دلالتها الفنية الجمالية التي كانت لها في الأصل (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) (سبأ: 13)، والحديث هنا عن الجن الذين سخرهم الله للملك "سليمان" فصنعوا له- من بين ما صنعوا من بدائع التماثيل، وربما كنا في حاجة إلى أن نقف عن تأويل هذه الآية على ضوء ما ذكرنا به "أبو العلاء المعري" من أن فصحاء العرب قد تعودوا أن ينسبوا إلى الجن كل ما تقع عليه أعينهم من صنائع جميلة يتجاوز حسنها قدرة البشر:
وقد كان أرباب الفصاحة كلما
رأوا حسنًا عدوه من صنعة الجن.
وما يهمنا هنا، هو أن هذه الدلالة الفنية لكلمة (تمثال) هي التي أوحت قديمًا لبعض علماء السنة العقلاء بأن يبيحوا التماثيل والصور قياسًا على ما أبيح للملك «سليمان". هكذا فعل "القرطبي" (ت 671 هـ) صاحب (الجامع لأحكام القرآن)، ولم يكلف – للأسف – أحد مشايخنا الكبار في هذه الأيام نفسه بأن يستهدي بهذا الرأي، لا سيما أن "القرطبي" ليس من فقهاء المعتزلة أو الشيعة مثلاً، بل هو فقيه سني مالكي المذهب. بل لقد مال هؤلاء المشايخ إلى حزب أعداء الفن وخصوم الإبداع، فلم تستوقفهم (تماثيل سليمان) وإنما استوقفتهم الآيات الأخرى التي ذكرت الأصنام والأوثان.
ولم ترد في القرآن كلمة "صنم" أو "وثن" على الإفراد، وإنما وردت الكلمتان بصيغة الجمع، ويحتاج الأمر هنا إلى إعمال العقل لكشف السبب، أي يحتاج إلى شيء من الاجتهاد، وهي كلمة أصبحت بغيضة في فقهنا المعاصر الذي قنع بالتقاليد والترديد، فالاجتهاد لا يقوم بغير قدرة على التأويل، لا تتأتى بدورها إلا لمن أحاط بعلوم اللغة وآدابها وصرفها ونحوها، وكان من أصحاب الخيال الخلاق والبصيرة الحية بضرورات الحضارة الخلاق والبصيرة الإنسانية وحاجات النفس البشرية، وكلها شروط لا تتوفر في أغلب من يعاصروننا ونعاصرهم من المشايخ الكبار.
وقد وردت كلمة (الأصنام) بصيغة الجمع خمس مرات في القرآن مرة منها تتعلق ببني إسرائيل بعد نجاتهم من مطاردة المصريين (فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) (الأعراف: 138) والمرات الأربع الأخرى تدور حول قصة "إبراهيم" المعروفة عن رفضه لعبادة الأصنام كما وجد عليها قومه: (الأنعام 74، إبراهيم: 35، الأنبياء: 57، الشعراء: 71) أما كلمة (الوثان)، فقد وردت ثلاث مرات منها مرة في سورة (الحج: 30)، والمرتان الأخريان في (سورة العنكبوت، 17و25) وكلها تنصرف إلى معنى الشرك والوثنية عند من يتخذون الأوثان من دون الله. ولنتذكر هنا كيف أن الإمام "محمد عبده" في فتواه التي أوردناها قد أشار إلى أن عصور الوثنية قد انقضت، فيزول التحريم بزوال علته، ولنتذكر أيضًا الفارق الدلالي بين (التمثال) و(الوثن) فليس كل تمثال وثنًا، وهذه تماثيل المصرين تملأ المتاحف، فنحن نرى تمثال الملك وشيخ البلد وحملة القرابين والعمال والموظفين وغيرهم من أمراء الشعب وعامته، أفكان كل هؤلاء آلهة يعبدون؟ !
إن تحريم نحت التماثيل لم يرد بصورة مباشرة ولا حتى غير مباشرة في الآيات القرآنية التي دارت حول هذا الموضوع، فهذه الآيات لم تستنكر الفعل نفسه، بل استنكرت ما قد يهدف إليه، وحتى كلمة (نحت) التي وردت بصيغة الفعل أربع مرات في القرآن، لا تفيد شيئًا من ذلك التحريم المزعوم، فثلاث من هذه المرات تذكر ما درجت عليه (ثمود) قوم (صالح) إذ ينحتون من الجبال بيوتًا: (الأعراف 74، الحجر:82، الشعراء: 49). أما المرة الرابعة، فقد وردت في سياق استنكار الهدف من النحت، أي نحت التماثيل لعبادتها: (قال أتعبدون ما تنحتون) (الصافات: 95)
ينصب التحريم إذن لا على التمثال نفسه، وإنما على التمثال إذا ما نحت بغرض العبادة، وقد رأينا كيف أن كلمة (تمثال) بدلالتها الفنية الخالصة كانت مألوفة قبل الإسلام، ولم تكن كلمة صنم بالمجهولة، فقد سميت بها وبمشتقاتها بعض القبائل والبطون مثل: (صنم وصنيم وصنامة). غير أن الكلمة لم تتخذ دلالتها النهائية باعتبارها اسمًا للتمثال المعبود، إلا مع الإسلام، وهكذا غلبت في ذيوعها على كلمة (تمثال)، لوقت طويل، وربما كان هذا هو السبب في أننا لا نجد كتبًا في التراث عن التماثيل، في حين نجد عن الأصنام، مثل كتاب ابن الكلبي (ت 204 هـ) المعنون: (الأصنام)، وكتاب "الجاحظ-( ت 255 ه)" حول الموضوع نفسه، ولم يصل إلينا للأسف إلا حديث صاحبه عن مضمونه. فهو يتناول جوانب دينية تتعلق بالأصنام وأخرى فنية تعلق بالتماثيل، فمن الجوانب الدينية الحديث عن الأصنام في الديانة "الهندوسية "وسبب عبادة العرب إياها وكيف اختلف الهنود عن العرب في جهة العلة مع اتفاقهما على جملة الديانة، وكيف صار عباد البوذيين المتمسكين بعبادة الأوثان المنحوتة والأصنام المنجورة، أشد الديانين إلا لما دانوا به وشغفًا بما تعبدوا له، وأشدهم على من خالفهم ضغنًا، وبما دانوا ضنا، وما الفرق بين الدمية والجثة، ولو صوروا في محاربيهم وبيوتهم عباداتهم صور عظمائهم ورجال دعوتهم"، أما عن الجوانب الفنية في هذا الكتاب النفيس الضائع فتشمل: ..لو تأنقوا في التصوير، وتجودوا في إقامة التركيب، وبالغوا في التحسين والتفخيم"، وما شابه هذا من قضايا جمالية الطابع.
وربما كان الدرس الذي ألقاه علينا (الجاحظ) هنا، صالحًا لإقناعنا بأن قضية فن النحت ليست ذات جانب أوحد هو التحليل أو التحريم، وإنما هي قضية ثقافية تتعلق في المقام الأول بطبيعة الفن ووظيفته ودوره في الحضارة الإنسانية، كغيره من الفنون.
وربما كان درس "محمد عبده"، قد نجح من جهة أخرى في إقناعنا بأن النحت شأنه شأن الرسم، هو ضرب من الرسم المسموع، فلا فرق من حيث الجوهر بين التمثال والقصيدة، اللهم إلا في أداة التصوير أو مادته، فالقصيدة تقدم لنا صورًا مجسدة للمجردات ولكن من خلال اللغة، وفي القرآن كثير من هذه الصور، مثل (وجه الله ويده وعرشه). ولكننا نقبلها ونتأولها دون أن نقع في التشبيه، وقد يقدم لنا التمثال هذه الصور نفسها، ولكن عن طريق وسيط آخر هو الحجر أو المعدن أو الخشب، فتثور ثائرتنا وتهيج انفعالاتنا دون سبب مفهوم، اللهم إلا أن نكون نحن المقصودين وحدنا- دون اليهود- بما ورد في (العهد القديم) من تحريم حاسم للصور والتماثيل.


المصدرالأصلي:

مصادرة الفن باسم الدين والأخلاق والسياسة
المؤلف: د.حسن طلب
دار النشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة. القاهرة
الطبعة الأولى : 2013
توطئة:
لم يكن مأمولاً أن بلدًا مثل مصر التي قادت شعوب الشرق إلى طريق النهضة الحديثة الشاملة منذ القرن التاسع عشر، ستعود لتنكص على عقبيه بعد أكثر من قرن ونصف فتتردى في هوة التخلف من جديد، وتتراجع بخطى حثيثة إلى عصور الظلام.
نعم، هذا هو حال مصر اليوم، ومنذ أكثر من عقود ثلاثة، رفعنا فيها شعار (العلم والإيمان)، ونحن أشد ما تكون عداء للعلم والعلماء، أما الإيمان فلم نعرف منه إلا قشوره الزائفة، حيث استغنينا بالمظهر عن الجوهر، وبالخرافة عن العقل، وراح فقهاؤنا وأصحاب الفضيلة من مشايخنا الكبار، يفتون فينا باسم الدين، بما يذهب بهيبة الدين ويحمل من قداسته، كحديثهم عن شرب بول الرسول والتقاط نخامته، أو كفتواهم عن جواز إرضاع الكبير.
وهكذا أصبحت مصر بين عشيو وضحاها، مهيأة لكل ما يشجع على التطرف ويذكي روح التعصب، كما أصبحت من جهة أخرى بيئة معادية لحرية التفكير والتعبير، مقاومة للأدب الحر والفنون الجميلة، أما التعصب فقد رأيناه رأي العيان وهو يطل علينا بوجهه القبيح الجهول في أحداث (الكشح) والإسكندرية) و(العياط)، واما مصادرة حرية المفكرين والمبدعين، فنحن نعاني منها كل يوم، فمحاولة استتابة الفنانان وإغرائهن بالاعتزال والتحجب تجرى على قدم وساق، وما يقوم به مجمع البحوث الإسلامية وغيره مين هيئات دينية لا يخفى على أحد، فكم صادر من كتاب، وكم منع من عمل أدبي أو فني، وكم تصدى لمبدع أو مفكر أو أديب!.
مصادرة الفن باسم الدين
ولعل الفتوى الرسمية بتحريم التماثيل، والتي صدرت في مصر منذ شهور فأثارت جدلاً واسعًا، هي التجسيد الأمثل لذلك المناخ الأصولي الذي لم يفتأ يشدنا إلى الخلف خطوة بخطة، منذ السبعينيات إلى اليوم، ومع أن صاحب الفتوى حاول أن يتراجع قليلاً في مواجهة الرفض الواسع لفتواه الغربية من قبل عموم المثقفين، فراح يميز بين التمثال الكامل والتمثال النصفي، أو بين إقامة التماثيل في الميادين، ووضعها في البيوت، إلا أن هذه المحاولة لم تنجح في إخفاء العداء المتأصل للفن والأدب في ظل المناخ الديني المتزمت الذي نعيشه.
إن الفكر الذي صدر عنه ذلك التحريم لفن النحت، وللفنون عامة، لجدير بأن يذكرنا بالكارثة الحضارية التي اقترفتها حركة (طالبان) الأفغانية على مرأى من العالم كله منذ بضع سنوات، حين أصرت على تدمير تمثال "بوذا" الشهير، في مشهد بائس لم ينجح إلا في تثبيت الصورة البشعة للأصولية الإسلامية المتطرفة في أذهان سائر البشر المنتمين إلى الأديان والحضارات الأخرى.
ولم يكن يستطيع أحد أن يلوم هؤلاء إذا ما عمموا تلك الصورة، لتنسحب على الإسلام والمسلمين كافة.
نعم، لا يكاد يختلف المفتي المصري عن المفتي الطالباني في هذا الموقف المعادي للفن، إلا أن الأخير كان يملك تنفيذ فتواه، لأنه مفت وحاكم معًا، وربما لو كانت الأمور عندما كذلك- لا قدر الله- لرأينا المدافع والمجنزرات وقد حملت على المتحف المصري والمعابد المصرية فتركتها أثرًا بعد عين، ثم استدارت إلى الميادين العامة فقصفت تماثيل "سعد زغلول" و"طلعت حرب" و"إبراهيم باشا" وشفت غليلها من سائر هذه الأوثان.
ولاشك في أن وراء مبدأ تحريم التماثيل عمومًا، فكرًا يجسد الروح الطالبانية خير تجسيد، إلا أن ما كانت تفعله طالبان عن عقيدة محددة واضحة مهما قيل في تصلبها وتخلفها عن روح العصر، نفعله نحن عن نفاق أحيانًا، وعن جهل في أحيان أخرى فقد أصبح مشايخنا وكأنهم لا يعرفون شيئًا عن ماضينا البعيد والقريب، ماضينا البعيد الذي كان من المنتظر أن يجعلنا نعتز- نحن المصريين- بأننا الأمة التي علمت البشرية كيف تبني وتنحت وتصور وتكتب وتبدع وتفكر، وماضينا القريب الذي حسم فيه الإمام "محمد عبده" الخلاف الديني حول قضية الصور والتماثيل، فكان مما كتبه في أثناء زيارته لمتاحف صقلية بأوروبا صيف 1902 ليصف فيه حرص الأوروبيين تراثهم الفني:
"...لهؤلاء القوم حرص غريب على حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج، ويوجد في دار الآثار عند الأمم الكبرى ما يوجد عند الأمم الصغرى كالصقليين مثلاً، يحققون تاريخ رسمها، واليد التي ترسمها، ولم تنافس في اقتناء ذلك غريب، حتى إن القطعة الواحدة من رسم "رفائيل" مثلاً، ربما تساوي مائتين من الآلاف من بعض المتاحف، وكذلك الحال في التماثيل، وكما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة وكذلك الحال في التماثيل، وكلما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة، وكان القوم عليه أشد حرصًا، هل تدريب لماذا؟ إذ كنت تدري السبب في حفظ "سلفك" للشعر وضبطه في دواوينه، والبالغة في تحريره، خصوصًا شعر الجاهلية، وما عنى الأوائل رحمهم الله بجمعه وترتيبه، أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل، فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى".
ويستمر الإمام "محمد عبده" في معالجة هذه القضية من منظور جمالي، يدرك طبيعة العلاقة المتبادلة بين الفنون على نحو ما يدركها علماء الجمال المعاصرون في الغرب، فيقول:
"إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة، ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية، يصورون الإنسان والحيوان ففي حال الفرح والرضى والطمأنينة والتسليم وهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ متقاربة، لا يسهل عليك تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرًا باهرًا: يصورونه مثلاً في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية. والجزع والفزع مختلفان في المعنى، ولم أجمعهما هنا طمعًا في جميع (عينين) في سطر واحد، بل لأنهما مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف والخشية، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع، وما الهيئة التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك، أو ما إذا نظرت إلى الرسم، وهو ذلك الشعر السكت، فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تتمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك، فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها".
ويستطيع القارئ هنا أن يقف على عمق النظرة العقلانية ورحابة الرؤية المتحضرة في الموقف من قضية الصور والتماثيل، عند أحد الأئمة والمفكرين الدينيين الكبار في مطلع نهضتنا المعاصرة، فالإمام "محمد عده" كما يبدو من هذا النصر، لا يقصر دور الفن في الحياة الإنسانية على وظيفته التوثيقية باعتباره حافظًا للعلم البشري ويدوانا للهيئات والأحوال البشرية فحسب، هذا كله لا يمثل – على أهميته- إلا الجانب النفعي المباشر، ولذا نجد الإمام حريصًا على تأكيد الجانب الأهم في دور الفنون، وهو ما يتمثل عنده في الوظيفة الجمالية التي تستمتع بها النفوس وتتلذذ الحواس.
فإذا ما جئنا إلى حكم الإسلام في هذه القضية، أحسسنا أولاً بفطنة الإمام وهو يؤخر الحديث حول الحكم الديني على الفن، إلى ما بعد الفراغ من الحديث عن قيمته الجمالية، وأحسسنا ثانيًا بالبون الشاسع الذي يفصل ما بين فتاوي الماضي القريب المثقفة المنتصرة للحياة، أو التي تنتصر للدين بأن تنتصر للحياة وبين فتاوي هذه الأيام المعادية للفن والحياة جميعًا، أي المعادلة للدين في جوهره الأسمى، يقول الإمام "محمد عبده" في فتواه العميقة المتواضعة في أن: "وربما تعرض لك المسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصورة في الشريعة الإسلامية، إذا كانت القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية وأوضاعهم الجثمانية؟ هل هذه حرام أو جائز أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك أن الرسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محى من الأذهان فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة. فإذا أوردت عليه حديث: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون"، أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقوم لك: إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك لسببين، الأول اللهو، والثاني التبرك بتمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء، مع أن الفائدة في نقش المصاحب موضوع النزاع، وأما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر.. ولا يمكنك أن تجيب المفتي بأن الصور على كل حال مظنة العبادة، فإني أظن أنه يقول لك: إن لسانك أيضًا مظنة الكذب، فهل يجب ربطه مع أنه يجوز أن يكذب؟ وبالجملة، إنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل.."
لقد أوردنا هذا النص على طوله، لكي نضع بين يدي القارئ صورة ناصعة لما أصاب حياتنا الفكرية والدينية من جمود وتصلب، فأصبحنا وقد نسينا – أو تناسينا- ما أشاعه فين الإمام "محمد عبده" وأعلام النهضة الآخرون، ومن تفتح واستنارة واحترام للعقل وإيمان بروح الإبداع وضرورة التحضير، لقد دون "محمد عبده" فتواه السابقة في مستهل القرن العشرين وبعد خمسة عقود تقريبًا أي من خمسينيات القرن، طلع علينا مفتي الديار المصرية آنذاك بفتوى مترددة محافظة في قضية الصور والتماثيل، يجب فيها عن حكم (الصورة)، أحلام هي أم حرام؟ وعن حكم التصوير شرعًا فيقول:
"أجمع الفقهاء على حرمة تصوير الحيوان مجسمًا كاملاً، لا نعلم لأحد في ذلك خلافًا، أما الصور غير الكاملة كالتماثيل النصفية، التي لا تمثل إنسانًا أو حيوانًا يستطيع أن يعيش، فإنها ليست من الصور المتوعد عليها بهذه العقوبة الشديدة، ومع ذلك فقد كرهها العلماء واستحسنوا تركها، وقد استثنى بعض العلماء من الصور المحرمة، التماثيل الصغيرة التي يتخذها الأطفال لعبة لهم، وحكى القاضي "عياض" عن الجمهور أنهم أجازوا بيع اللعب للبنات، لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن، أما الصور غي المجسمة التي لا ظل لها، كالصور الفوتوغرافية والصور الزيتية والصور المنقوشة في الثياب وعلى الجدران، فهي في مجال النظر عند الفقهاء، فمهم من حرمها ومنهم من أباحها، ونمثل إلى الرأي الثاني، عملاً بما صح عن النبي من استثناء الصور المرقومة في الثياب من الصور المحرمة، وأنه لم ينقل أن أمة عبدت صورة مرقومة غير مجسدة".
على أن هذه الفتوى، على ما فيها من تراجع كبير عن فتوى "محمد عبده" لم تشبع نهم الأصوليين لمحاربة الفنون والقضاء على الإبداع قضاء مبرمًا، وكانت كلمتهم قد أخذت تعلو شيئًا فشيئًا منذ ذلك الحين، ليعيدونا مرة أخرى إلى عصور الظلام والجهل، يقول أحدهم معلقًا على الفتوى السابقة:
"يظهر من إشارة حضرة المفتي هذه، أنه لم يحط إحاطة تامة بأحوال القبائل والشعوب في العالم، فإنه لا يزال فيها من يعبد المجسمة، والصورة المرقومة، والنار والشجر والحجر والنهر والشمس والكواكب وغيرها.
لم يرق لهم ميل المفتي، ولو بشيء من التردد، إلى إباحة ما لا ظل له من الصور فحسب، فهي إباحة لا تستند عندهم إلى الأدلة الشرعية، لم تكد تمر خمسة عقود أخرى، حتى بلغ التطرف أقصاه، فإذا بالمفتي يطلع علينا منذ شهور بتحريم التماثيل، وسط مناخ غلبت فيه الخرافة على العقل، والبداوة على الحضير، فذاع بين الناس أن المائكة لا تدخل بيتًا فيه تمثال، فالشياطين وحدها هي التي تألف أمثال هذه البيوت.
والحق أننا نحتاج إلى ما هو أبعد من مجرد الفتوى لكي نقف على معنى كلمة تمثال وتطور هذا المعنى في اللغة العربية، ثم الفرق بين التمثال والصنم والوثن، فالمبحث اللغوي ليس ترفًا زائدًا هنا، بل هو ضرورة تمليها علينا دقة البحث وما يتطلبه الأمر من إحاطة وشمول، وإذا كانت بضاعة المفتي محصورة في استدعاء ما يستظهر من آيات وأحاديث، وما يستذكره من أراء السلف، فما أفقر فتواه حينئذ، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقضية ثقافية كبرى هي الحكم على الفنون ودورها في حياة الإنسان.
ولا يخالجنا شك في أن كلمة (تمثال) كانت تدور على الألسن قبل الإسلام أكثر من دوران كلمة (صنم) فهذا "أمرؤ القيس يقول:
ويا رب يوم قد لهوت وليلة
بآنسة كأنها خط تمثال
ويقول شارح الديوان "الأعلم الشنتمري" تفسير كلمة (تمثال): "خط تمثال، أي نقش صورة"، والتمثال والمثال: كل ما مثلته بشيء وإنما شبهها بالتمثال لأن الصانع له يتأنق في تحسينه ويمثله على أحسن ما يمكنه".
وربما تستطيع أن نشتم هنا رائحة فكرة (المحاكاة) اليونانية كما وردت عن "أفلاطون" بالذات، فالفنان عنده يحاكي الأشياء، أي يمثلها أو يمثل هيئتها في الواقع. غير أن كلمة تمثال بدأت تتراجع بعد مجيء الإسلام لصالح المصطلحات القرآنية المرادفة، مثل (صنم) و(وثن)، على ما بينهما من تباين في ظلال المعنى، فالصنم كما ورد في (اللسان) هو الصورة بلا جثة، أما الوثن فيطلق على (كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي، تعمل وتنصب فتعبد)، ومع هذا فقد كانت الكلمتان تتبادلان معنييها، وقد تستخدمان على أنهما مترادفتان، يقول "دعبل الخزاعي" مفتخرًا على النزارية بحضارة قومه القحطانيين التي تشهد بها آثارهم وأصنامهم الباقية، ومن بينها (صنم المغارب).
بأيلة والخليج لهم رسوم
وآثار قدمت وما محينا
وفي صنم المغارب فوق رمل
تسيل تلوله سيل السفينا
ويقصد الشاعر بصنم المغارب، التمثال الذي يحكي أن أحد ملوك اليمن كان قد بناه قديمًا حين خرج غازيًا إلى المغرب فواجهته تلال الرمال المتحركة، فأمر قبل أن يعود أدراجه بصنع تمثال من النحاس على هيئة إنسان، ونصبه على صخرة، ونقش على صدره تحذيرًا حتى يحترس القادمون فلا تبتلعهم الرمال.
ولم تلبث كلمة (تمثال) ان عادت من جددي إلى معناها الأصلي الدال على الجمال الفني المتقن، متخلصة من الإيحاءات الدينية التي أكسبها إياها الإسلام بجعلها مرادفة تقريبًا لكلمتي (وثن) و(صنم) وينقل "القلقشندي" (ت 821 هـ) عن "ابن بنت الأعز" قوله.
ظريفة الشكل والتمثال قد صنعت
تحكي العروس ولكن ليس تغتلم
فالشاعر يستخدم الكلمة هنا بدلالتها الفنية (الجمالية) كما كان يستخدمها "امرؤ القيس" في الجاهلية، وقد يتأنق بعض المؤلفين فيزينون عناوين كتبهم بكلمة (تمثال) بدلالتها هذه كما فعل "العبدري) (ت837 هـ) حين جعل عنوان موسوعته عن الأمثال العربية (تمثال الأمثال)
وقد وردت الكلمة مرتين في القرآن، ولكن بصيغة الجمع فمر بمعنى الأوثان "إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عابدون) (الأنبياء: 52)، أما المرة الأخيرة فذات دلالة إيجابية لأنها جعلت من نحت التماثيل عملاً طيبًا مرغوبًا، ينتمي إلى دائرة الأعمال والأشياء الجميلة، وتتوافق الكلمة هنا مع دلالتها الفنية الجمالية التي كانت لها في الأصل (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) (سبا: 13)، والحديث هنا عن الجن الذين سخرهم الله للملك "سليمان" فصنعوا له- من بين ما صنعوا من بدائع التماثيل، وربما كنا في حاجة إلى أن نقف عن تأويل هذه الآية على ضوء ما ذكرنا به "أبو العلاء المعري" من أن فصحاء العرب قد تعودوا أن ينسبوا إلى الجن كل ما تقع عليه أعينهم من صنائع جميلة يتجاوز حسنها قدرة البشر:
وقد كان أرباب الفصاحة كلما
رأوا حسنًا عدوه من صنعة الجن.
ونحن على أية حال لم يصلنا شيء مما صنعته الجن للملك "سليمان" أو لغيره، لا تمثال ولا أية أعمال فنية أخرى، على حين بقيت لنا مئات التماثيل والصور مما أبدعه الإنس قبل عصر "سليمان" بآلاف السنين، سواء من الحضارة المصرية القديمة، أو من الحضارة السومرية، أو ما تلاهما من حضارات.
وما يهمنا هنا، هو أن هذه الدلالة الفنية لكلمة (تمثال) هي التي أوحت قديمًا لبعض علماء السنة العقلاء بأن يبيحوا التماثيل والصور قياسًا على ما أبيح للملك "ٍسليمان" هكذا فعل "القرطبي" (ت 671 هـ) صاحب (الجامع لأحكام القرآن) ولم يكلف – للأسف – أحد مشايخنا الكبار هذ الأيام نفسه بأن يستهدي بهذا الرأي، لا سيما أن "القرطبي" ليس من فقهاء المعتزلة أو الشيعة مثلاً، بل هو فقيه سني مالكي المذهب. بل لقد مال هؤلاء المشايخ إلى حزب أعداء الفن وخصوم الإبداع، فلم تستوقفهم (تماثيل سليمان) وإنما استوقفتهم الآيات الأخرى التي ذكرت الأصنام والأوثان.
ولم ترد في القرآن كلمة "صنم" أو "وثن" على الإفراد، وإنما وردت الكلمتان بصيغة الجمع، ويحتاج الأمر هنا إلى إعمال العقل لكشف السبب، أي يحتاج إلى شيء من الاجتهاد، وهي كلمة أصبحت بغيضة في فقهنا المعاصر الذي قنع بالتقاليد والترديد، فالاجتهاد لا يقوم بغير قدرة على التأويل، لا تتأتى بدورها إلا لمن أحاط بعلوم اللغة وآدابها وصرفها ونحوها، وكان من أصحاب الخيال الخلاق والبصيرة الحية بضرورات الحضارة الخلاق والبصيرة الحية بضرورات الحضارة الإنسانية وحاجات النفس البشرية، وكلها شروط لا تتوفر في أغلب من يعاصروننا ونعاصرهم من المشايخ الكبار.
وردت كلمة (الأصنام) بصيغة الجمع خمس مرات في القرآن مرة منها تتعلق ببني إسرائيل بعد نجاهم من مطاردة المصريين (فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) (الأعراف: 138) والمرات الأربع الأخرى تدور حول قصة "إبراهيم" المعروفة عن رفضه لعبادة الأصنام كما وجد عليها قومه: (الأنعام 74، إبراهيم: 35، الأنبياء: 57، الشعراء: 71) أما كلمة (الوثان) فقد وردت ثلاث مرات منها مرة في سورة (الحج: 30)، والمرتان الأخريان في (سورة العنكبوت، 17و25) وكلها تنصرف إلى معنى الشرك والوثنية عند من يتخذون الأوثان من دون الله، ولنتذكر هنا كيف أن الإمام "محمد عبده" في فتواه التي أوردناها، قد أشار إلى أن عصور الوثنية قد انقضت، فيزول التحريم بزوال علته، ولنتذكر أيضًا الفارق الدلالي بين (التمثال) و(الوثن) فليس كل تمثال وثنًا، وهذه تمايل المصرين تملأ المتاحف، فنحن نرى تمثال الملك وشيخ البلد وحملة القرابين والعمال والموظفين وغيرهم من أمراء الشعب وعامته، أفكان كل هؤلاء آلهة يعبدون.
إن تحريم نحت التماثيل لم يرد بصورة مباشرة ولا حتى غير مباشرة في الآيات القرآنية التي دارت حول هذه الموضوع، فهذه الآيات لم تستنكر الفعل نفسه، بل استنكرت ما قد يهدف إليه، وحتى كلمة (نحت) التي وردت بصيغة الفعل أربع مرات في القرآن، لا تفيد شيئًا من ذلك التحريم المزعوم، فثلاث من هذه المرات تذكر ما درجت عليه (ثمود) قوم (صالح) إذا ينحتون من الجبال بيوتًا: (الأعراف 74، الحجر:82، الشعراء: 49)، أما المرة الرابعة فقد وردت في سياق استنكار الهدف من النحت، أي نحت التماثيل لعبادتها: (قال أتعبدون ما تنحتون) (الصافات: 95)
ينصب التحريم إذن لا على التمثال نفسه، وإنما على التمثال إذا ما نحت بغرض العبادة، وقد رأينا كيف أن كلمة (تمثال) بدلالتها الفنية الخالصة كانت مألوفة قبل الإسلام، ولم تكن كلمة صنم بالمجهولة، فقد سميت بها وبمشتقاتها بعض القبائل والبطون مثل: (صنم وصنيم وصنامة). غير أن الكلمة لم تتخذ دلالتها النهائية باعتبارها اسمًا للتمثال المعبود، إلا مع الإسلام، وهكذا غلبت في ذيوعها على كلمة (تمثال)، لوقت طويل، وربما كان هذا هو السبب في أننا لا نجد كتبًا في التراث عن التماثيل، في حين نجد عن الأصنام، مثل كتاب ابن الكلبي (ت 204 هـ) المعنون: (الأصنام)، وكتاب "الجاحظ- ت 255 هـ" حول الموضوع نفسه، ولم يصل إلينا للأسف إلا حديث صاحبه عن مضمونه، فهو يتناول جوانب دينية تتعلق بالأصنام وأخرى فنية تعلق بالتماثيل، فمن الجوانب الدينية الحديث عن الأصنام في الديانة الهندوسية "وسبب عبادة العرب إياها وكيف اختلف الهنود عن العرب في جهة العلة مع اتفاقهما على جملة الديانة، وكيف صار عبادة البددة المتمسكون بعبادة الأوثان المنحوتة والأصنام المنجورة، أشد الديانين إلا لما دانوا به وشغفًا بما تعبدوا له، وأشدهم على من خالفهم ضغنًا، وبما دانوا ضنا، وما الفرق بين الدمية والجثة، ولم صوروا في محاربيهم وبيوتهم عباداتهم صور عظمائهم ورجال دعوتهم"، أما عن الجوانب الفنية في هذا الكتاب النفيس الضائع فتشمل: "..لم تأنقوا في التصوير، وتجودوا في إقامة التركيب، وبالغوا في التحسين والتفخيم"، وما شابه هذا من قضايا جمالية الطابع.
وربما كان الدرس الذي ألقاه علينا (الجاحظ) هنا، صالحًا لإقناعنا بأن قضية فن النحت ليست ذات جانب أوحد هو التحليل أو التجريم، وإنما هي قضية ثقافية تتعلق في المقام الأول بطبيعة الفن ووظيفته ودوره في الحضارة الإنسانية، كغيره من الفنون.
وربما كان درس "محمد عبده"، قد نجح من جهة أخرى في إقناعنا بأن النحت شأنه شأن الرسم، هو ضرب من الرسم المسموع، فلا فرق إين من حيث الجوهر بين التمثال والقصيدة، اللهم إلا في أداة التصوير أو مادته، فالقصيدة تقدم لنا صورًا مجسدة للمجردات ولكن من خلال اللغة، وفي القرآن كثير من هذه الصور، مثل (وجه الله ويده وعرشه). ولكننا نقبلها ونتأولها دون أن نقع في التشبيه، وقد يقدم لنا التمثال هذه الصور نفسها، ولكن عن طريق وسيط آخر هو الحجر أو المعدن أو الخشب، فتثور ثائرتنا وتهيج انفعالاتنا دون سبب مفهوم، اللهم إلا أن نكون نحن المقصودين وحدنا- دون اليهود- بما ورد في (العهد القديم) من تحريم حاسم للصور والتماثيل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تفرض عقوبات جديدة على طهران بعد الهجوم الإيراني الأخي


.. مصادر : إسرائيل نفذت ضربة محدودة في إيران |#عاجل




.. مسؤول أمريكي للجزيرة : نحن على علم بأنباء عن توجيه إسرائيل ض


.. شركة المطارات والملاحة الجوية الإيرانية: تعليق الرحلات الجوي




.. التلفزيون الإيراني: الدفاع الجوي يستهدف عدة مسيرات مجهولة في