الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب (جدلية نهج التنمية البشرية المستدامة ..منابع التكوين وموانع التمكين ) للدكتور باسل البستاني

جاسم الفارس

2017 / 4 / 30
الادارة و الاقتصاد


إن التنمية بكل تجلياتها الفكرية والعملية، إنما هي ابنة النسق الحضاري الذي تولد فيه، تحمل فلسفته وعقيدته ومنهجه ورؤيته للحياة والعالم.. ولقد كان أحد أسباب فشل التنمية في الوطن العربي بعد جهد ما يقارب نصف القرن، ابتدأ من خمسينيات القرن الماضي، هو أن منابع التكوين الفكري للتنمية كانت مستوردة بشكل فج، ولم تدخل آلية النسق الحضاري العربي الإسلامي بكفاءة، ولم يمتلك مستوردوها الرؤية النقدية التي تمكنهم من إخضاع تلك الآليات إلى مستلزمات النسق الحضاري العربي الإسلامي، لقد أدرك د. البستاني هذه القضية من خلال إعادة صياغة نهج التنمية البشرية المستدامة في كتابه (جدلية نهج التنمية البشرية المستدامة...) قيد الدراسة.
لقد رصد الدكتور باسل البستاني في كتابه هذا أهم المسارات والمفترقات التي تحددت في ضوء تفاعلها هيكلية الاقتصاد الدولي ، في رؤية فكرية ناضجة، ليحدد مكانة مشروعه الحضاري الذي تضمنه الكتاب الذي يعد إعادة إنتاج معرفي لمشروع التنمية البشرية الذي طرحته الأمم المتحدة عبر برنامجها الإنمائي من خلال إستراتيجية قراءة جديدة للمشروع .
أما المسارات التي يرصدها البستاني فهي : التحولات الهيكلية في الاقتصاد العالمي والأطر التنظيمية فيه ، والمرتكزات المؤسسية ، والتدفقات المالية الدولية .
في حين كانت المفترقات هي الثروة النفطية ، وأزمة المديونية الدولية ،وبرنامج الإصلاح الاقتصادي ،وانهيار المنظومة الاشتراكية .
فعلى صعيد التحولات الهيكلية يرى البستاني، أنها تشكل تغيرات جذرية في البناء الاقتصادي والاجتماعي في مسيرة التطور، وأن السمة البارزة في هذه التحولات وقوعها في صميم عملية التطور الاقتصادي والاجتماعي، لقد عبّرت عن هذه التحولات جملة من المؤشرات الأساسية، تمثلت في نسبة مشاركة القطاعات الاقتصادية الرئيسة، وهي الناتج المحلي الإجمالي والتوزيع النسبي للقوى العاملة على القطاعات الاقتصادية المختلفة: (الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات)، وكذلك التطور الحضري، وبناء على ذلك يرى البستاني أن هذه التحولات الهيكلية هي في النهاية ظاهرة ترقى إلى مستوى الحتمية .( ص 24)
أما في ميدان الأطر التنظيمية، فقد شهد العالم خلال المدة (1945 – 1990) ثلاثة أنظمة متباينة في الأهداف و الوسائل: الرأسمالي والاشتراكي والنامي. تقدمها النظام الرأسمالي بما يمتلك من قدرات ديناميكية احتوائية هائلة أكدت موقعه الأقوى، في حين كان النظام الاشتراكي نظاماً مستقلاً آثر الانكفاء كي يتفرغ للبناء الداخلي، حفاظاً على إنجازاته النابعة من محدودية ذاتية إمكانياته، أما الدول النامية فقد بقيت معتمدة على هذين النظامين في طبيعة أنظمتها ووجودها، حائرة تمزقها الفرقة التي يغذيها تباين فلسفة أنظمتها وتراجع قدراتها (ص16- 27).
أما في ميدان المرتكزات المؤسسية، فقد تحددت التحولات بعد الحرب العالمية الثانية على مستويين: الأول شمولي تمثل في منظومة الأمم المتحدة، و الثاني اقتصادي تخصصي ويتضمن صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي ثم الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة (ألغات).
أما على صعيد التدفقات المالية الدولية، فقد ارتفعت قيمة إجمالي التدفقات المالية الطويلة الأمد إلى الدول النامية خلال المدة (1971-1991)، من (19.5) مليار دولار إلى (205.3) مليار دولار في إطار جملة من التحولات المحسوسة في حركة الاقتصاد العالمي، على صعيد مساعدات التنمية الرسمية، وانحسار التمويل الائتماني المصرفي من المصارف الدولية المتعددة الجنسية خاصة، وبروز الاستثمار الأجنبي المباشر بوصفه مصدراً حيوياً في التدفقات، ليشكل قوة دافعة للاندماج المالي الدولي بزيادة الشركات المتعددة الجنسية، وتعاظم ضغوط حاجة الدول النامية المدينة – خاصة – إلى موارد مالية لدعم مجهودها التنموي.
أما المفترقات التي رافقت ولادة نهج التنمية البشرية المستدامة، فهي الثورة النفطية التي وقعت في تشرين الأول 1973م، إذ تمكنت من تحويل مصدر القرار النفطي في الأسعار والإنتاج، من القاعدة الاقتصادية إلى البعد السياسي ، وواقعياً اتخذت تلك الثورة صورة تدفقات سلعية ومالية بين الدول المنتجة والدول المستهلكة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمصارف التجارية الدولية بوصفهم الوسطاء بين المنتجين والمستهلكين.
وتعد أزمة المديونية الدولية مفترقاً ثانياً في مسيرة الاقتصاد الدولي، فقد كان لهذه الأزمة الأثر الكبير في تطويق قدرات التنمية، نظراً إلى فداحة عبء خدمة الدين القائم، الذي بات يستحوذ على الجزء الأعظم من الفوائض المالية والمدخرات التي كان يمكن استثمارها بكفاءة. (ص 33)
أما مفترق برامج الإصلاح الاقتصادي، فقد جاءت ردة فعل على التغييرات الاقتصادية التي حصلت على الصعيد الدولي منذ بداية السبعينيات ،الأمر الذي ولّد في بداية الثمانينيات، توجهاً جديداً هيمن على إستراتيجية التنمية الدولية ، تمثل في مذهب اقتصادي بات يعرف باسم (توافق واشنطن)، الذي صار الإطار الفلسفي لبرامج الإصلاح الاقتصادي التي اعتمدت في بداية الثمانينيات.
أما المفترق الأخير فهو انهيار المنظومة الاشتراكية، الذي يمثل أهم أحداث النصف الثاني من القرن الماضي، لقد ترتب على هذا الانهيار جملة من النتائج الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، الأمر الذي فتح المجال واسعاً أمام النظام الرأسمالي، ليزيد من تعظيم موارده البشرية والمادية والمالية من دون خوف أو تهديد، مهيمناً على مقدرات غالبية البشر، ليرسم صورة العصر، القطبية الأحادية، مسقطاً البديل المتوفر لدى غالبية دول العالم في تطورها المجتمعي والحضاري، فارضاً نظامه الاقتصادي والسياسي من دون أن ينتبه إلى الفجوة الكبيرة التي أحدثتها هذه الهيمنة، بين التطور المادي والافتقار إلى القيم الإنسانية والأخلاقية .(ص 35)
إن (جدلية نهج التنمية ...)، يعد مشروعا حضاريا بعمق اقتصادي، فهو أكبر من أن يكون برنامجا اقتصاديا وتنمويا لمرحلة زمنية معينة ، أو لبلد ما ، وأكبر من أن يكون قراءة لتقارير الأمم المتحدة كما تصوره بعض القرارات الصحفية الاعتيادية
إنه مشروع واضحةٌ مفاهيمه ومنهجه وفلسفته وأهدافه ووسائله، وهو نتاج وعي عميق بمعطيات تاريخ التنمية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وهو نتاج معاناة إنسانية وأخلاقية نبيلة، تولدت من معايشة المؤلف لمراكز القرار الاقتصادي في البنك الدولي، وغيرها من مراكز القرار الاقتصادي العربي والأجنبي، لكونه مستشارا اقتصاديا مرموقا، والمشروع نتاج حلم بالتغيير وبناء أوطان تحترم الإنسان، وتعده القيمة العليا في الحياة.
إن نهج التنمية البشرية المستدامة، يقدم نصاً معرفيا اقتصاديا، تفاعل مع معطى معرفي اقتصادي، تجلت نصوصه في تقارير التنمية البشرية المستدامة، التي أصدرها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، متفاعلا معها في إعادة إنتاج معرفي للمشروع في رؤية أعادت قراءة النص الأصلي، لينتج نصا جديدا لا يتجاوز الأصل، ولا ينطوي داخله.
يتشكل البعد الفلسفي للمشروع في الرؤية النقدية التي يُقيِّم بها د. البستاني معطيات نظرية النمو في صيرورتها وسيرورتها التاريخية، من خلال رصد دقيق لتلك السيرورة عبر العقود الخمسة الماضية، دون إغفال الإشارة إلى طبيعة نظرية النمو التقليدية (الكلاسيكية)، وعلى الرغم من أن رواد النظرية الأوائل لم يغفلوا البعد الاجتماعي البشري في النمو، فإن مجيء نظرية المنفعة الحدية في أواخر القرن التاسع عشر، أحدث تحولا نوعيا مهما في التوجه النظري الاقتصادي، شمل الاسم والمضمون، فلم يعد الاقتصاد السياسي الذي صاغته النظرية الكلاسيكية وأدواته التحليلية، حاضرا في العقل الاقتصادي، بل تحول إلى (اقتصاد) يركز على سلوك الفرد والمنشأة في بيئة تجريدية لوجوده. (صفحة 41)
يرى البستاني أن هذه النظرية أفرغت (علم الاقتصاد) من محتواه الاجتماعي، وأدى هذا العلم - ولاسيما بعد أن تبنت المدرسة الكلاسيكية الجديدة اتجاهاته التحليلية- إلى موجة من الانتقادات العنيفة من الاشتراكيين والعديد من علماء الاجتماع والمفكرين، التي ظلت تتسع وتتنوع لتسفر عن اتجاهات فكرية وتيارات اقتصادية جديدة.
في نقده لنظرية النمو التقليدية ، يرى البستاني أن المشكلة الأساسية التي احتوتها تلك النظرية هي أنها أخضعت رأس المال كلّه إلى الرأس المال المادي، فكان البعد البشري فيها ضحية عقلانيتها، والبشر فيها وسيلة إنتاج متجانسة كسلعة متوفرة بوصفها عنصرا إنتاجيا.
فضلا عن الرؤية النقدية التي طرحها د. البستاني وهو يعالج كليات نظريات النمو والتنمية التقليدية وما بعدها، فهو يرصد المواقف النقدية الأخرى من هذه النظريات، تلك المواقف التي أسهمت في الكشف عن العديد من المحددات والجوانب السلبية في بنائها، وتجلت في العديد من الأبعاد منها، البعد الاجتماعي (العدالة والتوزيع) وكيفية التعامل معه بعامة، والعامل البشري بخاصة. فضلا عن عدم قدرة تلك النظريات على إدامة عملية النمو والتنمية في جانبها البشري، وفي كيفية استغلالها لموارد الطبيعة على الصعيد التطبيقي .
وبغية أن لا تضيع جهود التنمية البشرية المستدامة، يرى د. البستاني أن الهدف المركزي هو ضرورة خلق بيئة اقتصادية واجتماعية وسياسية تمكن الناس من توسيع قدراتهم، ومن استعمالها بصورة مفيدة، الأمر الذي يترتب عليه توجه جديد للإستراتيجية والسياسة التنموية، يستهدف احتواء الجانبين الاقتصادي والاجتماعي في بوتقة واحدة متوازنة.
وترسيخاً للرؤية الفلسفية للدكتور البستاني ، وبغية تأصيلها يرى في هذا المضمار أن عالمية مطالب الحياة المتجسدة بالحق في الحياة للبشر كافة، لا يقبل التجزئة أو التمييز أو التفاوت، فالبشر كلهم سواء في التمتع بالرفاهية والبقاء، ولا فرق بين موقع أو انتماء، وانه بناء منسجم يحتوي على متطلبات التنمية البشرية مع حيوية استدامتها، وتلك هي (القيمة العليا) لنهج التنمية البشرية المستدامة (صفحة 57). إنها تنمية تنتصر للناس والطبيعة والمستقبل.
في هذا الإطار تأتي قراءة البستاني لمفهوم التنمية البشرية المستدامة وآلياتها، وبيان طبيعة العلاقة بين التنمية الوطنية والدولية وتفسير العلاقة بينهما لتهيئة مستلزمات الاجتهاد في المعالجة والانتقال إلى إبداع القرار التنموي المناسب الكفوء الفعال. فهو يؤكد دائما على حقيقة أن تطور آليات التنمية كما هي في التقارير الدولية والوطنية، وآلياتها وأدلتها ومقاييسها، إنما هي وسائل لتعميق التحليل وزيادة كفاءة المقارنات.
يمتلك نهج التنمية البشرية المستدامة بعداً معرفيا يتمثل في عمق المفاهيم التي يقوم عليها بناؤه الموحد، والتي تعطيه عمقا عقلانيا يحفظ وحدة البناء وتماسكه المنهجي والفلسفي والمعرفي والعملي .
لقد أفلح د. البستاني في اكتشاف طبيعة العلاقة بين النهج والتراث الإسلامي، الأمر الذي يعزز عمل مشروعه الحضاري ويدخله النسق الحضاري العربي الإسلامي، بشفافية وعمق، ليمارس دوره في التغيير والبناء . ويسجل نقده المهم لمشروع الأمم المتحدة الإنمائي الذي تجاهل العطاء الإسلامي في ميدان التنمية المستدامة .
إن مشروع التنمية البشرية الحضاري يبقى صاحب الريادة في إعادة تغيير مسارات التنمية والعولمة، حين نحافظ عليه شعوبا وحكومات. لذا بإمكاننا أن نعد ما قدمه د. البستاني الخطوة الأولى لخطوة لاحقة، تمثل نقطة انطلاق لبناء نظرية تنموية عربية شاملة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صندوق النقد الدولي: تحرير سعر الصرف عزز تدفق رؤوس الأموال لل


.. عقوبات أميركية على شخصيات بارزة وشركات إنتاج الطائرات المسيّ




.. متحدث مجلس الوزراء لـ خالد أبو بكر: الأزمة الاقتصادية لها عد


.. متصل زوجتي بتاكل كتير والشهية بتعلي بدرجة رهيبة وبقت تخينه و




.. كل يوم - فيه فرق بين الأزمة الاقتصادية والأزمة النقدية .. خا