الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين روما ومونبلييه: رحلة في الفكر والتاريخ

محمد السعدنى

2017 / 5 / 3
الادب والفن


"نحن نظن أن شمس حضارتنا قد قاربت أن تبلغ غاية ارتفاعها، والحقيقة أننا مازلنا منها إلى الآن في أوان آذان الديك ووقت مطلع نجم الصباح، ففي مجتمعنا الهمجي ما يزال نفوذ الأخلاق في طفولته"، هكذا تحدث الأديب الشاعر الفيلسوف الأمريكي "رالف إمرسون" منذ أكثر من مائة عام. وما إن استوت الطائرة غاية ارتفاعها في طريفي من روما إلى باريس حتى تذكرت كلماته، ويالها من كلمات أصابت عين الحقيقة، فما زال عالمنا رغم كل ما حققه من تقدم علمي وما أصابه من ذرا تكنولوجياته العبقرية يحبو صغيراً في عالم المثل والأخلاق، تتناوشه موروثات النشأة البدائية الأولى لإنسان الغاب، فيبدو كما إنسان ما قبل التاريخ يحارب من أجل كل شيء ولاشئ إلا بسط النفوذ والسطوة والهيمنة، يخاتل وينافق ويكذب ويتآمر ويغش ويدلس ويظلم، لكأنه لم يحظ من قيم العدالة والاستقامة والضمير والحق والخير والجمال إلا قبض الريح، فصار عالمنا مجتمعاً همجياً تضربه الفوضى إلا من رحم ربى. نعم صدق رالف إمرسون في مقولته وصدقت حتى اليوم رؤيته، فما زال الغرب يباهينا في معظم أدبياته بأنه قدم للعالم أهم إنجازاته: إعادة اكتشاف الإنسان وكتابة التاريخ، ونسى أننا أول من عرف التوحيد وان للعالم خالق عظيم وأن هناك بعث وسؤال وحساب وفى بلادنا كان فجر الضمير وضحى الإنسانية، نسى ذلك بينما راح يستنزف خراج الطبيعة ويلوث البيئة وينشر قيم الظلم والاستبداد والحروب والإرهاب، ويصم آذانه عن نداء الحق والضمير والقانون والأخلاق. نعم كتب التاريخ وأعاد للإنسان، ربما الغربي وحده، اعتباره بأنه مركز الكون والغاية منه، بينما فرض على عالمنا الثالث المنكوب بظواهره ونخبه وآفاته أن يكون سوقاً لمنتجاته ومورداً لاستنزاف خيراته وطاقاته ومسرحاً لعولمة ظالمة نحت لتشيئ الإنسان وابتلاع مصائره وتقيؤه سلعاً ومنتجات في سوق ظالمة كتب عليه أن يسرق فيها، وحالوا دون تحوله منتجاً ومشاركاً في خراج العالم وعطاياه. إنه عالم ظالم بلاضمير بل ربما لم يطلع عليه بعد "فجر الضمير". عدت بمقعدي للخلف ورحت أطالع ربما للمرة الثالثة كتاب "فجر الضمير" لمؤلفه جيمس هنري برستد الأثري والمؤرخ وعالم المصريات الأمريكي، في ترجمة النابغة المصري سليم حسن.


من مصر القديمة أشرق على العالم "فجر الضمير":
يقول سليم حسن في المقدمة: ولست مبالغًا إذا قررت هنا أن خير كتاب أخُرج للناس في هذا العصر هو كتاب “فجر الضمير” الذي وضعه الأستاذ “برستد” في عام 1934، وهو في الواقع مؤلف يدلل على أن مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول؛ حيث في مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنساني، وبها تكونت الأخلاق الإنسانية. وقد أخذ الأستاذ "برستد" يعالج تطور هذا الموضوع منذ أقدم العهود الإنسانية إلى أن انطفأ قبس الحضارة في مصر حوالي عام ٥٢٥ قبل الميلاد. فمصر في نظره حسب الوثائق التاريخية هي مهد حضارة العالم؛ وعن هذه الحضارة أخذ العبرانيون، ونقل الأوروبيون عن العبرانيين حضارتهم، وبذلك يكون الأستاذ "برستد" قد هدم بكتابه الخالد هذا، النظريات الراسخة في أذهان الكثيرين القائلة بأن الحضارة الأوروبية أخذت عن العبرانيين. وكأن هذا الأثري العظيم بكتابه هذا قد أظهر للعالم أجمع بأن المصدر الأصلي لكل حضارات الإنسانية، هي مصرنا العزيزة، وما كان لها من سيادة مطلقة في تكوين ثقافة العالم، وفي وضع أسس الأخلاق وانبثاق فجر الضمير الذي َّ شع على العالم أجمع.
والعظيم يقدر العظيم؛ فالأستاذ "برستد" قد شغف في بادئ حياته بدرس تاريخ الشرق القديم عامة، ولكن لما اشتد ساعده مال بكل نفسه وروحه لدرس تاريخ مصر وحضارتها، وأنفق في سبيل الوصول إلى معرفة مكانة مصر بين دول العالم القديم ما يربو على ألف ألف جنيه، جمعها من رجالات أمريكا الذين يشجعون العلم والبحوث القديمة. وقد انتهى به البحث بعد درس حضارات الأمم الشرقية القديمة كلها؛ إلى أن مصر أصل مدنيات العالم، ومنبت نشوء الضمير، والبيئة الأولى التي نمت فيها الأخلاق فهو إذن رجل عظيم كشف عن ماضي أمة عظيمة.
ولعمري لقد قضى الأستاذ "برستد" بكتابه "فجر الضمير" على الخرافات والترهات التي كانت شائعة بين السواد الأعظم من علماء التاريخ القديم والحديث قضاء مبرما، ففريق منهم ظن أن الصين والهند ثم بلاد اليونان كانت مهد الحضارة العالمية وعنها أخذ العالم الحديث، والواقع أن مصر، كما ذكرنا آنفًا، هي التي أخذ عنها العالم حضارته عن طريق فلسطين التي ليس لها فضل في ذلك سوى أنها كانت نقطة الاتصال بين الحضارة الأوروبية والحضارة المصرية.
على أن العبرانيين قد نقلوا الحضارة المصرية إلى أوروبا َّ مشوهة بعض الشيء، ثم صقلها الأوروبيون بطورهم حسب أمزجتهم وألبسوها ثوباً جديدًا كل نسجه من خيوط المدنية المصرية، فما نراه الآن من روائع المؤلفات اليونانية القديمة، وما نسَج على منواله الكتاب الأوروبيون قديمًا وحديثاً، يرجع في عنصره إلى أصل مصري قديم. كل ذلك قد شرحه الأستاذ "برستد" شرحًا فياضًا مستفيضًا تدعمه الوثائق الأصلية القديمة مما لا يترك مجالاً لأي ناقد يفهم الحقائق على وجهها الصحيح ولا يتعصب إلى فريق دون فريق. إن الذي يتصفح كتاب الأستاذ "برستد" وبخاصة الفصل الأول منه، يلحظ لأول وهلة أنه يريد أن يلفت نظر العالم إلى أهمية ضرورة البحث والتنقيب عن تاريخ الشرق القديم ووضعه أمام أعين العالم وتدوينه بصورة واضحة، حتى يكون وسيلة لمعرفة أصل الحضارة الحديثة. وفي الحق قد أفلح الأستاذ "برستد" فلاحًا منقطع النظير بقدر ما وصلت إليه معلوماته في تجديد الماضي القديم وجعله حيٍّا أمامنا يتكلم ويناقش، وسيجد القارئ أن الأستاذ هو أول من قسم تاريخ الإنسانية عصرين بارزين؛ الأول عصر كفاح الإنسان مع المادة والقوى الطبيعية والتغلب عليها نهائيٍّا، والعصر الثاني هو عصر الكفاح بينه وبين نفسه الباطنة، وذلك حينما أخذ ضميره يبزغ وأخلاقه َّ تتكون، ويقدر "برستد" زمن كفاحه المادي بنحو مليون سنة، أما عصر بزوغ ضميره فقد بدأ يحس به منذ أن عرف كيف يدون أفكاره بالكتابة، ويقدر عمره بنحو خمسة آلاف سنة تقريباً. ويعتقد الأستاذ "برستد" أننا لا نزال في مستهل عصر تكوين أخلاقنا، وأننا ما زلنا على أبواب مملكتها الشاسعة المترامية الأطراف، التي لم نرد مجالها بعدُ، وأنه بيننا وبين الوصول إلى نهاية حدود تلك المملكة أهوال ومصاعب شاقة ربما استغرق التغلب عليها مئات الآلاف من السنين، انتهى الاقتباس بتصرف، وهنا نعود من حيث بدأنا إلى رالف إمرسون، ولعله محق فيما قال.

من باريس إلى مونبلييه حيث التقيت طه حسين والبيروني:
"إن فضيلة الرجل هي أثره، فالرجل سيء الذكر منسي لا أثر له" كلمات حفرت على شاهد قبر مصري من القرن الثاني والعشرين ق.م." أما "الرجل العظيم هو من يترك الآخرين في حيرة بعد وفاته" كما قال بول فاليري، شاعر وكاتب وفيلسوف فرنسي، تحمل جامعة مونبلييه 3 الفرنسية اسمه. وهو الذي التقيت عميد الأدب العربي د. طه حسين في رحابه، حيث قضى سنته الأولى للبعثة 1914 في دراسة اللغة الفرنسية وعلم النفس والادب والتاريخ في مونبلييه 3 "بول فاليري". د. طه حسين كانت أهم فضائله في أثره من أفكار وكتب ورؤى ومواقف وتاريخ عريق لرجل عظيم تركنا في حيرة بعد وفاته، فلم نزل حتى اليوم أطفالاً يعبثون بآثاره، ولم نقدر لعطاياه حق قدرها، ولم نصغ سمعاً لما أوصانا به في "مستقبل الثقافة في مصر" فتعثر نظامنا التعليمي حتى صار علامة على السخرية والتخلف، ولا تعلمنا من "قادة الفكر" فرحنا ننظر للغرب بتوجس وخيفة، ولا "في الشعر الجاهلي"، ولا "أيام العمر" في حواراته مع توفيق الحكيم، ولا "الفتنة الكبرى" وغيرها مما لم نفيد منه حتى يومنا هذا. ناهيك عن مواقفه السياسية.
لم أمكث في باريس إلا سويعات قليلة توجهت منها مباشرة إلى مدينة مونبلييه العريقة في جنوب فرنسا، مدينة الشمس والثقافة، حيث مطارها الأنيق جزيرة على شاطئ المتوسط تطل غرباً على إسبانيا و شرقاً على إيطاليا، وهى عاصمة محافظة هيرولت ، تتوسط مدينتى نيم وبيزيه التاريخيتين، سكنها القديس يعقوب ، حيث اكتسبت شهرتها الدينية ، وفى القرن السادس عشر أشرقت فى سماء فرنسا مركزا تجارياً وثقافياً له معالمه التاريخية، مدينة تتميز بدفئ شوارعها و دقة بناء معالمها وقصورها التاريخية خاصة بعدما أقيمت بها جامعة كبيرة تهتم بشئون العلوم الطبيعية هي جامعة مونبلييه التي يرجع تاريخ إنشائها إلى 1289 بموجب مرسوم بابوي صدر عن البابا نيكولا الرابع. نشأت الجامعة عن اندماج عدد من المدارس التي كانت قائمة بالفعل من قبل. تتألق الموضة والاستايل شوارع المدينة بفضل مبدعى المعمار والفن أمثال كريستيان لاكروا ، وجان نويل، جان بول غوتييه الذى طور دار الأوبرا "عرس فيجارو" فيها لتصبح معلماً ثقافياً شهيراً، إضافة إلى عشرات المتاحف والمسارح ودور العرض الفنية والكاتدرائيات والكنائس التاريخية، يتوسطها بلاس دولا كوميدي بحديقته العامة يتوسطها مركز مؤتمرات لوكوروم، وحولها مطاعم وكافتيريات وأوتيلات تاريخية على الطراز القديم، وتطل على كاتدرائية مونبلييه التاريخية العتيقة التي تستضيف في باحتها أقدم كلية طب في أوروبا في مدخلها ثمثال لفرانسوا بيرونى وفى متحفها ثمثال آخر لإبن سينا. ويقال إن فرانسوا بيرونى ينتسب إلى جذور عربية ربما لأبو الريحان البيرونى الذى عرف بكثرة وتنوع أسفاره، من الطرائف أن مستشفى جامعة مونبلييه تسمى مستشفى البيرونى.

نور وبيجاد وسهرة في دو لاكوميدى:
هبطت الطائرة مطار مونبلييه قادمة من باريس، كنت على متنها، تأخرت بالمطار حيث مقالب شركة Air France وسوء خدماتها فقد تمزقت حقيبة ملابسى التي رحنا نجمعها من على السير ونقدم شكوى بسوء الخدمة، استفسر إبنى معز عنى فأدخلوه إلى صالة الوصول لممنا أغراضنا، أوصلني البيت تركني لزوجته نور وحفيدي ذو العامين ونصف بيجاد وذهب إلى أقرانه زملاء البعثة يعدوا تقاريرهم التي سوف يقدموها إلى، دعتنى نور على الغداء في أحد مطاعم ميدان الكوميدي الشهير، احتسينا الاسبرسو الشهيرة، ثم ذهبنا معاً لقاعة مجاورة لحضور إفتتاح عرض فنون التصوير "أناقة الفن تدوم" للفنان الفرنسي الشهير لويس داهل-ولف الذى توفى 1989 ولاتزال أعماله تجذب الجمهور الفرنسي العاشق للفن. تخوفت أن يمنعوا بجاد من الدخول للقاعة، إلا أنه بادر السيدة الأنيقة الشابة قوميسير القاعة قائلاً "بون سوار" رحبت به وسألت نور هل هو هادئ أم يمكن أن يسبب إزعاج لأحد؟ أخبرتها بأنه معتاد على حضور حفلات الكونسرفاتوار وارتياد المتاحف. دخلنا تجولنا واستمتعنا وطفرت من عيني دمعة إذ تذكرت والدى عبد المعز السعدني رحمه الله وهو يصحب أبنائي نضال وإسلام ومعز وجهاد وفادى إلى معارض سان مارك في الإسكندرية. يقول علماء الاجتماع أن السلوك لا يورث، وأشك كثيراً.

الحياة ليست أكواباً ملونة:
في صباح اليوم التالى، كان على أن ألتقى المبعوثين من جامعتى، جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا من دارسى الماجستير والدكتوراة، أطلع على تقاريرهم قبل أن ألتقى أساتذتهم الأجانب ومسئولى الجامعة لمناقشة إتفاقياتنا للتبادل العلمى، إذ لدينا برنامج إبتعاث أكثر من نشط، فلنا 81 مبعوثاً من جامعة مصر في كبريات الجامعات الأمريكية والأوروبية والروسية والصينية واليابانية. جلسنا وتناقشنا وأسعدنى تفوقهم وكيف أنهم يشعرون بأنهم يؤدون رسالة مهمة لوطن عزيز وأنهم يعتبرون أنفسهم سفراء فوق العادة لدولة عريقة. دعوتهم على فنجان قهوة فاختاروا مكاناً جميلاً بجوار الجامعة، به مكان مفتوح للتدخين فقد دام اجتماعنا طويلاً و"البايب" بين أصابعي يتشوق لإشعاله. ذهبنا في سيارة د. محمد عبد المرضى، توقفنا في المكان المخصص تعامداً على الرصيف، كان أمام عامود ماكينة تحصيل كارت الوقوف أحد الفرنسيين يحاول ختم بطاقته، انتظرناه حيث ذهب غاضباً "الماكينة دي باين عطلانه" انتهزها عبد المرضى فرصة وركن مكانه، قبل أن نطلب من النادل الأنيق طلباتنا، ذكره الباقون، على فاروق، عمر شعبان، حسام فرحات، معز السعدني، بأنه قد يدفع بدلاً من إثنين يورو رسم الوقوف غرامة مائة يورو إذا ثبت أن الماكينة تعمل، هرول عبد المرضى وعاد مبتسماً فقد أنقذ بالفعل المائة يورو، قائلاً "أنقذت سيادتك يا فندم من دفع الغرامة" ولما سألته وهل هو خطأي، رد الجميع مداعبين، هو سيادتك ما تعرفش مرضى كريم قد إيه". ضحكنا وسألتهم ماذا يطلبون؟، قالوا جميعا الاسبرسو اللي بتحبه سيادتك، فقلت ولماذا لا تطلبون مشروبات أخرى ربما حرمتكم منها قلة ذات اليد؟ ردوا ضاحكين: الحياة ليست أكواباً ملونة، إشارة إلى يومياتي الماضية حيث كتبت عن الخريجين الذين التقوا استاذهم وقدم لهم القهوة فتخير كل منهم أفضل وأجمل الأكواب الملونة ثم راحوا يشكون الحياة، فاجأهم الأستاذ بأن كل منهم تخير كوباً فخماً ملوناً هو مجرد وعاء بينما القهوة واحدة، وأخبرهم أننا نحتاج القهوة أكثر من حاجتنا للأكواب، هكذا خياراتنا فى الحياة، بينما الحياة نفسها ليست أكواباً ملونة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع