الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موارد العنف -6-

جميل حسين عبدالله

2017 / 5 / 5
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


موارد العنف
قراء لعقلية الكراهية
‏-6-‏
يتبع
إن بناء هذه التكتلات المحتوية على أسرار البقعة التي تنطق قوتها بمفاهيم ما تنتجه مصانعها من دمار في الإنسان، وخراب في الديار، قد سبب في ‏وجود مناط آخر للعلاقات الإنسانية، يتحقق به حد معين من الاتفاق على بنود عامة تحمي الملكية الخاصة للأقوياء، وتنفي عما عداهم من سكان هذا الكوكب ‏حق الاختيار، وواجب القرار. وهو كل ما تواطأ عليه الأغنياء من مصالح تجمع دوائرَها لغة الأرقام المتعالية في كبرى المعاملات البشرية، لأن وجود هذا المشترك ‏بين ملاك بسمة العالم، وبهجته، ومسرته، لم ينتج عنه إلا تغيير في جذور العلاقة القائمة بين كل الأطياف المكونة لمساحات الحركة في المجتمع الكوني، إذ ما حصل من ‏تغير في البنى التحتية للعلاقات الاجتماعية، ما هو إلا نتيجة حتمية لما اندفع إليه المال في كبرى دوائره من طغيان، واستعباد، واستغلال، لأن تحقيق الرفاهية على ‏حساب المحرومين، والمنكوبين، لن يجعل الواقع إلا مربادا، كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه. ‏
وهكذا، فإن مآل هذه العلاقات التي تدل نتائجها على مآلاتها الضرورية، لا يوحي بوجود أملِ الالتقاءِ على منزع يضمن حق الحرية في الحياة ‏الكريمة، لأن ما يعاديه الإنسان في استقراره النسبي، ليس هو ما يحس به من مخاوفَ معلولٍ أثرها بالبداهة، بل ما يعن له من خوض غمرات حربه بين ظلمات ‏المجهول الذي يأسر لبه بغموض كهف سره، وطلسم رمزه، والتفافِ جهده في عمقه على كثير من المعاني التي اختفت هندستها بين تضاريس واقعه المترع ‏بالتناقضات العجيبة، وهو لا يدري من شدة الذهول الذي دهمه، إلى أي نهاية سيصل في كده بين مسارب المصلحة المشتركة، ومشاعب المنفعة العامة، لأن ‏الانتصار على العامل الخارجي ممكن بالطبيعة التي وهبتنا سياجها للوقاية، والحماية، لكن ما هو عسر في عملية الترويض للمسالك التي تهبنا قدرتنا على العيش ‏الضروري، هو ما يتحكم في ذاتنا من أجهزة باطنية، تشكل سقفنا الثقافي، والفكري، والمعرفي، لأنها هي التي تعرب عن نوعية نظرنا إلى هموم العالم، ومشاكله، ‏وأزماته. ‏
ومن هنا، فإن انفصال الخارج عن الداخل في المواضعات التي تآلفت عليها حدود الأمم القوية، وانبثاق مركب ممزوج من عناصر متباينة، وأذواق ‏متفاوتة، قد أغرى الضعفاء بوجود سياقات أخرى، يمكن لها أن تعود بنفع نتيجتها على الإنسان، والأرض، والحياة، لأنها بقوتها المكتنزة لمعنى الاستلاب، ‏والاستبداد، لم تدع مجالا مفتوحا للتأمل في هدفها المستبطن لسر ما تظهره من تباكٍ على حقيقة ضياع الكائن البشري بين مهاد الكون. ولذا، كان هذا الأنموذج ‏الذي يستظهر الضعيفُ حقيقته مما هو موجود في ذاته بالإكراه، ومفروض عليه بالإلزام، هو السبب في اختلال يطال كل الثقافات والحضارات التي تنبذ تقديس ‏المادة الصماء، وترفض تشييء الإنسان، وتلويثه بما يخدم الآلة، ويثري عقل المتوغل في بركة الاستكبار، والاستعلاء، إذ الاغترار بهذا البرق الساطع من سماء ‏الحضارة الغازية بصناعتها المدنية، والعسكرية، قد أفضى إلى ضياع كثير من القيم التي يبحث عنها الإنسان في سعي عيشه اليومي، وهي كل القيود الأخلاقية التي ‏تضبط سير السلوك في الرغبات، والشهوات، وتيسر سبيل الإخاء، والوفاء. ‏
ولذا، فإن فصل الظاهر عن الباطن، قد انجرت إليه كل الحضارات المتصارعة بقيمها الروحية، والمادية، لأنها تنزع إلى أحد الطرفين المتعارضين ‏المقدمات، والنتائج، وسواء من صير هذا الأنموذج المغريَ وقاء له من كدورة العيش بين الديار المطلولة ببكاء الفقراء، وأنين المحرومين، وزفير المنكوبين، أو من ‏حارب أصول نظرياته، ومحددات فكره، وموجهات سلوكه، لأنهما معا يرتجيان حقيقة معينة، وهي زبدة ما يحرك الإنسان في تفاعله مع غيره، أو في إحجامه عن ‏ذلك، والاكتفاء بغربته، أو اغترابه. لكن رفض المساهمة بسهم في هذا الجدل القائم حواره، ونقاشه، ولو لم تصب الرمية المحز، ولم يفر السكين الودج، لن يكون إلا ‏إخلادا إلى الأرض، واتباعا للهوى، وربما قد يتجاوز ذلك حد القبول في المنطق الديني، والتأويلي، فيتحول إلى خيانة لضمير الاستقامة في العقيدة، والمعرفة، لأن ‏هذه الأمة تحتاج إلى لسان صادق يعبر عن همس كدها، ونبض كمدها، إذ لا تملك في قاموسها إلا مفردات كانت معانيها الأخلاقية محط إعجاب فيما توارى عنا ‏زمنه، ولم يهتف فينا إلا صوت نبله. ‏
وهكذا، فإن الفصل بين مادية الإنسان وروحيته، وعلى امتداد كل المدارات التي ينادى فيها باسم العودة إلى نقطة معينة في تاريخ الكون، لن يفيد ‏في مستقبل هذه الأمة التي أنهكتها الحروب، وأوجعتها الندوب، لأن التغريد بضرورة أن يعيش الإنسان سمو الحياة في عمقه، ولو انطفأت جذوة المنى في واقعه، لا ‏يأتي منه إلا ضمور لإحساسنا المشترك، وخفوت لرغبتنا في جعل هذا العالم موئلا للتسامح، والتراحم، إذ صناعة هذه العقدة المبنية على الخوف من الجسد، والحذر ‏من الآخر، وادعاء كونها عقيدة دينية، يقوم بها معنى الولاء، والبراء، هو الإجهاز على النواميس التي تمزج بين حقيقة الكليات، وجزئياتها، وتصل بين المعاني بناظم ‏رؤيتها الإلهية إلى كل ما يتحرك في بحر الوجود من نواميس، وقوانين، إذ ما هو ظاهر في الخارج الذي يبدي ملامح معالمنا النفسية، والاجتماعية، لم يكن مرئيا ‏للحكم إلا حين كان أثرا له حيز وجودي في الباطن، وسببا ظاهريا تتحدد به عوامل الالتقاء مع الغير، أو الافتراق عنه، وسواء كان مآخيا في الصورة الذهنية التي ‏نسعى إلى كسب تصديقها بين مخاض الواقع، أو كان مجافيا لنظرتنا الروحية إلى الطبيعة، والإنسان، لأن تلازم الداخل، والظاهر، هو الضابط الذي ينظم العلاقة بين ‏الذات الواعية بعقلها الفطري، والمجرب، وبين ما يتعالى في واقعها من أصوات تنادي باسم الحقيقة.‏
وحقا، قد تطيق مواعظ الزهد، والقناعة، لاسيما إذا اعتمدت على المفهوم السياسي للقضاء، والقدر، أن تحدث نوعا من التنفيس عن كرب الذات ‏المأزومة، ولواعجها المكبوتة، وأشجانها المزمومة، ولكنها لا تستطيع أن تنتشلها من بؤس الديار المؤثرة على الكيان بما يعيشه الإنسان بين غمرتها من صراع، واختلاف، ‏لأنه في صورته الفردية، ليس إلا جزئية متأثرة بما تحمله كليته الجماعية من معان، ومبان، إذ لا يمكن له أن يوجد جرمه في حيز مساحة خالية مما يطرأ على مجتمعه ‏من أعراض، وأمراض، لأنه صورة ينعكس عليها كل ما يعتريه من أحداث مؤثرة في وقائعه بالسلب، أو الإيجاب، ونسخة للمعنى الذي تطابقه حقيقته المثالية في ‏عالم الروح الفياضة على الأجرام والأشكال بظلالها الوارفة. ‏
وهكذا تكون كثير من الخطابات المتحدثة بلغة تخليق القيم التي تربط بين الإنسان، ومحيطه النفسي، وموقعه الاجتماعي، غير مستوعبة للشرط ‏الضروري الذي تقام به حقيقة الذات في الوجود، والجرم، والكيان، لأنها لا يمكن لها أن تستقل عن غيرها في كثير من مواردها الملتبسة بما تقتضيه معنى الجماعية ‏من علاقات، وروابط، إذ تطبيق ما يسري على المجتمع من نواميس تتوالى أفرادها المشكلة لمصاديقها في الواقع، لن يبعد أحدا عن المسؤولية التي تنزل عليه ‏بالثواب، أو العقاب، لأنها التكليف الذي يميز فيه بين ما هو ذاتي مرتبط بالهيكل، ومتكون من أعراضه الملازمة له، وبين ما هو جماعي متصف بالكينونة المتركبة مع ‏غيرها في ماهية الكل، إذ التمييز بين هذه المتحدات في كلية الذات، هو عين الوصل بين مراتب الحقوق في نظام التشريع الإلهي، والبشري، لأنها محل للمسؤولية ‏الشخصية، ومقام لما تقتضيه من التزامات في سياقها الفردي، والجماعي، إذ تعدد الحكم في المورد الواحد، لا يدل إلا على اختلاف الدافع بين الأحوال المتكاثرة.‏
‏ ومن هنا، فإن فقدان مناعة الذات بكل مكوناتها التي تتركب منها كليتها الجامعة لمعنويتها، وماديتها، وإرغامها على قبول ما يطرأ عليها في واقعها بين ‏الآحاد من تغير، وتبدل، لن يصنع ذلك القصد الذي يحفد إليه الأقوياء في عز صولتهم الشرسة، ولن يبدع ذلك الفضاء الذي يتفجر منه ينبوع الحب المتبادل، ‏والعطاء المتواصل، لأن تفسير مركب الإنسان بهذه البساطة، وشرح مضامينه بهذه اللغة الرديئة، هو فصل بين مكونات الذات الروحية، والمادية، إذ المزج بينهما ‏هو المبتغى الذي تتدافع إليه كل الخطابات المتنورة في واقعنا العربي الراهن، لأنها تعبر عن سياقاتها الإنسانية في التاريخ، والحضارة. ‏
إن السبة التي لازمت الدراسات النفسية والاجتماعية في تفسيرها المقتضب للإنسان، هي تأويل صيرورته بما صنعه الأقوياء لتشريح جواهر ذاتية ‏الضعفاء، واكتشاف كيفية فاعلية ما فيها من وظائف عضوية، ومادية، واستظهار كمية تفاعلها في محيطها الخاص، والعام، واستنباط علاقاتها التي لا تنتسب في ‏صورتها المادية البارزة إلى ما هو متصل بعالمه الغيبي، والروحي، لأن إلغاء ما في الذوات من وجدانيات مترعة بالعواطف، والأحاسيس، والمشاعر، والاتجاهات، ‏والميولات، هو طمس لجوهر الإنسان وهويته، وإفساد لضرورة دوره بين سوي الأفعال، ومنحرفها، وإهدار لحقه في كسب ما يحتاج إليه من مفعول الحرية، ‏والكرامة، لأن فصل ماديته عن روحيته، وإحداث الصراع في حدي ماهية تركيبه، وكنه تكوينه، لن يصيره إلا شبحا ينزف بالعناء، والشقاء، وسرابا يموج ‏بالكدر، والوضر، إذ النظر إلى ما فيه من مادة مشهودة للعين البصيرة، واعتبار ذلك كامل كليته، ومنتهى غايته، هو الذي يمنحه هوية الجسد المستقل عن حقيقته ‏الباطنية، والروحية، ويمتعه بخصائص غرائزه الباحثة عن واجب اللذة، ومنتهى المتعة، لأن حضارة البدن التي تدبر الظاهر بما تقتضيه رغبات شهواته، ونزواته، لا ‏تشهد على مرآته إلا ما تصطاده صناعتها الفاتكة بين الديار البائسة من قوة الاستغلال لأوده، وأربه، إذ اعتباره مجرد مادة مطلقة، وإبعاده عما فيه من مفاهيمه ‏الفطرية، والمكتسبة، ينفي عنه جزءه الأكبر الذي به قيام وجوده المستقل بين الكائنات الأخرى، وهو ما يسري فيه من روح الأزل الأبدية، وما يجري في عمقه من ‏معنى يستحوذ على جهازه العقلي الضابط لعنفوان حركته، وعنوان نشاطه.‏
‏ ولذا، فإن كل سياق يفصل بينهما في مسمى ذاته الجامعة لكليته المكلفة بتعقل الحدث، وتبصر الأثر، لن يفسره تفسيرا يوضح حقيقته بين أنواع ‏الكائنات التي يشاركها الوجود، ولن يعرفه بحدود ما تنطوي عليه طيات أنظمته المعقدة، لأنه كائن مزدوج الخلقة في كل عناصره المكونة لماديته المرئية، ومتعدد ‏القدرات الضابطة لحيوية اندفاعه بين جل المدارات المحددة لنوعية جهده، وكسبه، إذ لا يمكن له أن يكون مادة بدون حركة، أو آلة تعمل بلا إرادة، بل يلزم في ‏فيزيائية ماهيته أن يكون معبرا عن تاريخه البشري، وما يتفاعل فيه من سياقات تبني منحاه العقلي، ومتجهه العضوي، لأنه ليس جوهرا ماديا صرفا، ولا ماهية ‏عقلية محضة، بل هو مجموع ما فيه من روح، وفكر، وإرادة، وإحساس، إذ لا يمكن أن يصدر عنه أي فعل يكون محل المطارحة، والمساءلة، إلا في إطار شعوره ‏بالواجب الإيماني، والتزامه القيمي، لأن وجوده الذاتي بين الأعيان الخارجية، وفي صورته الميكانيكية الجماعية، يقتضي أن لا يشهد منه إلا فعله الذي يكشف عن ‏صيرورته في الإنجاز، والانتاج، والربح، إذ هو الصورة الجلية لما هو موجود في نقوش صفحة روحيته من سمو، أو دنو، لأنها بضميمة الظاهر البارز في سلوكه ‏المقصود بالإلزام، أو الالتزام، يكون محلا قابلا للتكليف بالوظيفة المحددة بالعقل المحض، والضمير المخلص، إذ لا يمكن أن يصير بدون حدود تحدد ماهية أقواله، ‏وهوية أفعاله، لأنها تجسد صوره التي تركبت في عمقه، وهي التي تدل على ما يظهرها من عقائد الديانات، والفلسفات.‏
‏ ومن ثم، فإن عقدة الفصل بين البارز والخفي في كينونة الإنسان، لن ترسخ إلا لنظرة تجزيئية، تقتضب حقيقته في ماديته، لكي تدرسه في إنتاجيته ‏التي تتقوم قيمتها بموازين القوى الاقتصادية، لا فيما يختزنه من انفعالات لها أثرها في خصوصيات فكره، وغايات سلوكه، لأن المفاصلة بين هذه المعاني المركبة فيه، ‏وهي التي ترسم خطه الوجودي بين محاضن حياته المستجِنة لكل النظم الضابطة لواقعها، وما فيه من علاقات، وروابط، لن ترسم لنا صورة حقيقية لهذا الكائن ‏الذي نريده أن يكون منفعلا بما يغزوه، ويثقله، لا فاعلا بما هو له في أصل وجوده الأزلي، والطبعي. وسواء في ذلك ما يؤدي إلى معرة احتقار الجسد، وجعله ‏موطن العار، والعيب، واللعنة، أو ما يقوم به نظر سادن هيكله، وعابد وثنه، وهو لا يترجى إلا أن يكون خادما لشهوته التي يدبر مصيرها بريقُ حضارة فارغة من ‏معناها الروحي، والمعنوي. ‏
وهكذا، فإن الغلو في روحيته، أو في ماديته، لن ينشئ إلا فراغا في طرق تحديدنا لما يحتاج إليه من نواميس تسير بحياته إلى الفاعلية الإيجابية، لأن ‏حبسه في قفص الروح، سيكون في كليته مقتضيا لرهبانية متبتلة، وزهادة متقشفة، لا تلامس واقعها بما يقتضيه تكليف الكيان بواجب الإصلاح للطبيعة، والرعاية ‏للحقيقة. وهكذا حصره في موضوعات المادة، وما تستلزمه من حركة عضوية، لن يكشف لنا إلا عن منحنيات سلوكه بين غرائزه المتنوعة، وما يستوجبه تمركزه ‏حولها من انفصام بين روحه، وبدنه، لأن قصر كل الأفعال البشرية على ما تحدثه في موضعها من أثر له علاقة بصيانة خارجه، هو الذي يوسع الهوة بين الإنسان ‏وانفعالاته الباطنية، إذ هدم ذلك بمقتضى ما يبرزه في مجال الحدث من صلات بمضمون القوة المتحكمة في مصائر المستضعفين، هو السبب في ارتباك تواصله مع ‏ذاته، لأنه لا يمكن له أن يدركها إلا في كليتها الجامعة لمضمونها الإلهي، والبشري، ولا أن يفهمها إلا في علاقتها بما تضمره من نيات، ولذات، إذ ليس كائنا غائيا إلا ‏لكونه محلا للاختيار الذي ينفعل بواجب عقائده، ولازم أنظاره الدينية، وأذواقه الفلسفية. ولذا يصير مرتبطا بألوهيته عن طريق سمو روحه، وأشواقها المتعالية، ‏وببشرية بوساطة رغبات جسده التي تخدم جزئه الطيني، وتحدد قيمته في البناء الكلي للوجود، والطبيعة . ‏
إن خطاب المفاصلة بين كلية الذات الروحية، وجزئياتها المادية، يخلق حدودا سميكة بين وظيفتي الإنسان في جونه، وبرانه، لأنه لا يجوز أن يُنظر ‏فيه بنظرة أحادية إلى ظاهر الأثر المجرد، وبارز الفعل المنحاز إلى الغاية المعتبرة في مقاييس القوة المتجبرة، إذ هو نتيجة تستوجب المساءلة بضرورة الإلزام بالتكليف ‏الجماعي، لأنه لا يمكن له أن ينصهر في بؤرة المجموع، إلا بالتزامه الموضوعي بالكليات العامة التي تحدد مناط الأفراد، والجماعات، كما لا يحق أن يُنظر فيه إلى باطن ‏السبب المطلق، وخفي علاقته بقيمه الإيمانية، والتصديقية، لأنه وعلى رغم تضمنه للدوافع الكامنة وراء الفعل المطلوب بالاختيار، والمضمرةِ في الإقدام عليه بالقدرة، لا ‏يجوز لنا أن نجعله وحده ضابطا في تحقيق المناط، وتقييده بما هو واجب في ذاته، وجائز في عرضه، إذ استقلاله بمحل المساءلة الشرعية، والقانونية، سيصرفنا عن ‏حقيقة تأثر الأشياء بمعنى الحدوث الذي يكتسبه فاعلها بالإرادة، لأنه لا يجوز في منطق بناء القضايا المركبة، أن يحدد السبب بدون النظر إلى عين مسببه، وموقِعه ‏في الوجود، والتكليف، ولا أن نفصل المسبب عما يكمن خلفه من نيات ترص الغاية في العقل بالتصور، وتوضح القصد في الفعل بالتصديق، لأن تمازج الموردين، ‏واختلاطهما في ذات واحدة؛ هي الفعل الروحي، وهي الأثر المادي، لا يمكن فصل وحداته إلا في تفسير ظاهري ينظر إلى تشكل وعي هذا الكائن الواعي بوساطة ‏مادته، لا بما أوجده الأزل فيه من نوازعه الروحية، والمعنوية. ‏
ومن هنا، فإن اعتبار الإنسان كائنا غريزيا، لا يقلقه إلا إشباع رغباته، وإرضاء شهواته، لن يفضي بنا إلا إلى رسم صورة غير متجانسة لحقيقته، ‏ووظيفته، لأن صياغة ضروراته فيما يضفي على الجسد غضارة، ونضارة، لا يلتحم مع ما هو موجود له في لوحة الوجود، إذ الغاية من صيرورته في التكوين، ‏والتركيب، والترتيب، والتشريع، هو ما يفيد به نظام الحياة من إدارة سوية لطبيعتها، وحقيقتها، لكي تصير أكنانها محضنا للفضيلة، والسعادة، لأن مهاد الكون، لن ‏تكون محلا للأمان، ما لم تصر حركتنا في كسب ضرورتنا الوجودية متسمة برعاية الواجب الدنيوي، والأخروي، إذ كل واحد منهما يستدرك نقص الإنسان الذاتي، ‏والخارجي، ويمنحه قوة التحليق في عالمه الروحي، ومناعة التفاعل مع مكونه المادي. وإلا، نزع الإنسان في عضويته بين الأسرة البشرية إلى الأنانية، والأثرة، وانحاز ‏إلى العنف، والقوة، وإذ ذاك، يفقد خصوصيته الإنسانية، ونوازعه التي تدفعه إلى صنائع المعروف. وهي الجزء المكسوب أثره للآخرة، لأن خدمة الإنسان، والسعي ‏في قضاء ضرورياته، وحمايته مما يصرفه عن حاجياته، هي الأعمال التي ندخرها ليوم الجزاء، إذ نفعها لا يرتبط بما تحققه من متعة طبيعية، ومادية، بل بما ينال بها من ‏وفاء لمقتضيات الدين، والتزام بوظيفته في إدامة الحياة، وإعمارها بالخير، والحب، والجمال.‏
وبناء على ما سبق من تحديدنا لبعض المكونات النفسية والاجتماعية للعنف، فإن إسكات صوت الحرية في الذات بمقتضى ما تُطمئن به حيل ‏الأقوياء لواعج المحرومين، وتهدئ به حدة غضب المنبوذين، لن يوجد في مركب الذات إلا تسويغ التكيف مع هزيمة تضعف الهمم عن بلوغ المرتجى من هذه الحياة التي ‏نبحث عن قيمة معناها، وجدواها، لأن نهايتها في الطلب محتوم للموت الذي يربك كل نظر ، وفكر، إذ ما عدا ما يطويه فناء حقيقتها من وجود حياة نسبية قائمة ‏في الأشياء الموصوفة بمعنى الحركة، فهو ما نقوم به من فعل متعقل لتأبيد صورة الحق في الكون، وتخليد معنى التكامل في الإنسان، وتأثيل مضمون الحقيقة في ‏الأجيال اللاحقة، لكي يكون خيط الصلاح موصولا بين الحاضر، والمستقبل، وحبل الخير ممتدا بين دورات الزمان، ومدارات المكان، إذ الانتصار الحقيقي الذي ‏يحتمي الإنسان بشدة مراسه، وحدة مرانه، هو ما يشهده في صيرورة واقعه من عهود راسخة، وعقود لا ترد عليها الخيانة في أصل حقيقتها الأخلاقية، ووضعيتها ‏الإنسانية.‏
‏ وسواء ما كان سببا يحقق بذاتيته موفور السعادة، والهناءة، أو ما كان علة متصلة بسيرته المفجوعة بحرمان الشقاء، والعناء، لأنهما يعبران معا عن ‏معنى الموقف الذي يعنيه الانتماء إلى دائرة معينة، تحكمها سياقات محددة، إذ مقتضى الاطمئنان إلى كمال المسرب، وجمال المشرب، هو ما يحس به الإنسان من ‏أمن يزيل عنه مخاوفه الخارجية، ويمرعه بأشواقه الباطنية، لأن تداخل ما غرس في الذات من خوف، وحرص، وألم، وما يستثيره وضع صورتها الظاهرية من هلع، ‏وضجر، وملل، هو الذي يؤدي بشهوة الفرد إلى الاختفاء وراء البزة المشهود نقاءها، والاحتماء خلف الصورة المطلوب صفاءها، لأنها هي التي تهبه صورته ‏الاجتماعية، وتفرض عليه التزامات يؤديها طيعا، أو مكرها، إذ هي التي يحمي باطنَها بما يدبره في عمقه من صراح النيات، ويدير ظاهرها بما يستر عورة عجزه عن ‏وصول الغايات، لأن تمامها فيما تمنحه من متعة يحس بها في ذاته، ويرضاها في كيانه، إذ هي التي يخشى فواتها، ويبذل نفيس أنفاسه في بقائها، لأنها هي المحددة لنوع ‏علاقته التي يبني سمو نظامها فيما يصله بغيره، ويرفع قيمتها بما يزرعه من فسائل الفضل، والنبل، إذ فقدان هذا المركب الذي يحتوي على كل خصائصه الفردية، لن ‏يصير إلا حربا على مسمى الجماعة، ورفضا لمركزيتها في التدبير للاختلاف بلازم الحكمة، والعدالة.‏
ولذا يكون مهيع العنف عصارة لما يحس به الخائف من لواعج متضرمة بآلامه المفجعة، وأوجاعه المزعجة، لأن مرجع ذلك إلى استلذاذه بما يرتجيه من ‏الآمال الوديعة، والأحلام اللطيفة. وإلا، فإن إحساسه بوجوده بين غابات موحشة، وموغلة في الظلمات المخيفة، لن يجعله إلا متألما بفرط ما يختبئ وراء أشجار ‏الحياة من غوائل فاتكة، وفوادح قاتلة، لأن درجات الخوف، ومراتبه في سياق المجتمع المحتدم النزاع، قد يتحول مع توالي الفواجع إلى ألم مزمن، وربما من شدة ‏الاحتياط الذي تندفع إليه الذات عند تخوفها من المجهول، سيفرض واقعا نازفا بأجواء نفسية معذبة، وأدواء اجتماعية مدنفة، يتألم فيها الإنسان بكل ما كان حقه أن ‏يكسب به الارتياح، والانشراح، لأن فقدان بوصلة الحياة بين موارد الفزع المهول، لن يأتي منه إلا جبن في الموارد، وهلع في المشارب، ولن يحدث معه إلا ألم يقلق ‏الأعصاب، ويقط الأوصال، ويشل الإرادة، ويرعش الجسد، ويجعل الكيان قابلا للموت، والانتحار.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات