الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جبر التنوير

السيد نصر الدين السيد

2017 / 5 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


أدى تأسيس علم الجبر على يد الخوارزمي في القرن التاسع الميلادي إلى نقله نوعية هائلة في الرياضيات ومن ثم في كافة فروع المعرفة البشرية التي تعتمد عليها بطريقة أو أخرى. فقد منح هذا العلم الجديد اﻹنسان أبجدية مكنته من صياغة ما يقابله من مشاكل بطريقة عامة ومجردة تتجاوز محدودية الموضوع وخصوصية المسألة، وما المجهول "س" عنا بالغريب. كما وفر الجبر للإنسان تقنيات وأدوات ذهنية تعاونه على ابتداع وإبداع الحلول المناسبة لها. واليوم وعقل الأمة يتعرض لهجمة شرسة طال امدها من إرهاب تتنوع صوره وتتعدد أشكاله من عنف دموي إلى ترهيب فكرى وتسلط معنوي، نستشعر الحاجة الملحة الى جبر جديد يضبط إيقاع المواجهة ويوفر لها أبجدية ولغة ومبادئ نعزز قدرتها على وضوح الصياغة ودقة التعبير وأصالة الحجة ... نشعر بالحاجة إلى جبر جديد ... جبرا التنوير.

وإذا كان كل ما يمكن قياسه هو موضوع جبر الرياضيات فإن فكر الإنسان وضميره وإرادته هي موضوعات جبر التنوير. فهو جبر يهدف إلى تحرير كل من فكر وضمير وإرادة الإنسان من كل ما يعوق انطلاقهم ويشل حركتهم. وهو بالإضافة إلى ذلك يسعى إلى تأسيس قواعد لشرعية ومشروعية تلك الحرية وإلى إبراز أهميتها الفائقة في رفاه بنى البشر. وهو في النهاية يزود الإنسان بمنظومة متكاملة من الأدوات الذهنية والمعنوية لمساعدته على تحقيق تلك الأهداف. وهي منظومة تتأسس على العقلانية الجديدة التي بدأت في الظهور منذ منتصف القرن العشرين انطلاقا من اكتشافات الإنسان في عالم المادة متمثلة في ظواهر “الانتظام الذاتي" Self-Organization وانتهاء بإنجازاته التقنية متمثلة في تكنولوجيا المعلومات واﻹاتصالات، وفى الهندسة الوراثية، ومرورا برؤاه العلمية متمثلة في "المنظوماتية"System Approach و"السيبرنيطيقا" Cybernetic، وبتوجهاته الفكرية مثل "المنطق الغائم" Fuzzy Logic (السيد, 2017).

فعلى سبيل المثال بينت دراسة سلوك منظومات المادة الصماء وهي في حالة غليان وفوران انها قادرة على تخليق الانتظام من الفوضى، والترتيب من العشوائية، وعلى ﺇنتاج أشكال وبنى جديدة أكثر رقيا وتعقيدا من تلك التي تكون قد أنتجتها أثناء تاريخها السابق مدفوعة في ذلك كله بقوى تنبع من داخلها هي ولا تفرض عليها من خارجها. وما ينطبق على منظومات المادة الصماء ينطبق بالضرورة على المنظومات الحية والمنظومات الاجتماعية. اما "السيبرنيطيقا"، كعلم موضوعه الرئيسي هو دراسة التحكم والاتصال في الكائنات الحية والكيانات الاجتماعية والآلات، فقد زودتنا بالعديد من القوانين التي تساعد الإنسان على التحكم في أحوال واقعه والسيطرة عليها. وحررنا "المنطق الغائم" من ثنائية الأبيض والأسود (الصواب المطلق والخطأ المطلق) وأخذنا الى فضاء الحقيقة الرمادية حيث يختلط الخطأ والصواب فيما نعتقده من أفكار.

مبادئ جبر التنوير
وأول مبادئ جبر التنوير هو أن "الانفتاح هو شرط البقاء". والانفتاح هنا هو الانفتاح على متغيرات الواقع والاستيعاب الواعي لمقتضيات العصر. فلا حياة ولا بقاء لأية منظومة، مادية آو معنوية، إن هي انغلقت على نفسها وانكفأت على ذاتها واكتفت باجترار تاريخها وإعادة انتاجه. وهو انفتاح يتم بالحوار مع فكر الآخر وبالتعلم من معرفته وبالاستفادة من خبرته انطلاقا من أنه لا يوجد احتكار للصواب ولا تأميم للحقيقة، فهكذا تعلمنا النظم المختلفة للمنطق الحديث. وهو انفتاح لا مفر أمامنا من قبوله في عالم حولته تكنولوجيا الإعلام والمعلومات إلى قرية كبيرة واختزلته إلى طبق لاستقبال البث التليفزيوني عبر الأقمار الصناعية.
أما ثاني تلك المبادئ فهو أن "الإبداع هو شرط التطور". فمجرد البقاء في واقع تتغير أحواله بإيقاعات متسارعة وغير مسبوقة هو التخلف بعينه. وبقدر تنوع الأفكار التي ينتجها الإنسان وبقدر أصالتها وجدتها بقدر ما يتمكن هذا الإنسان من السيطرة على مقدرات واقعه ومن تطويع هذا الواقع لصالحه. فهكذا تعلمنا السيبرنيطيقا وقانونها الشهير المعروف بـ “قانون آشبي للتنوع اللازم" Ashby Law of Requisite Variety الذى ينص على أن "إدارة أي كيان والقدرة على توجيه سلوكه تتطلب من” الكيان الحاكم “ (الدولة على سبيل المثال) امتلاك القدرة على إنتاج أفكار وابتداع أوضاع تفوق في تعددها وتنوعها تلك التي يقدر على إنتاجها وإبداعها” الكيان المحكوم “ (المجتمع على سبيل المثال). وتحقيق هذا المبدأ لا يتأتى إلا بتحرير فكر الإنسان من الخوف وبتخليص ضميره من القهر وبتنشيط إرادته للفعل والإنجاز.
أما ثالث تلك المبادئ فهو أن "الغد هو الأفضل دائما". فلقد علمتنا دراسة ظواهر "الانتظام الذاتي"، التي تحدث في المنظومات المادية غير الحية، أن للمادة الصماء تاريخا مبدعا وخلاقا إذ أن أحوالها ترتقي دوما من أوضاع بسيطة وساذجة إلى أوضاع أكثر تعقيدا وتطورا. فإذا كان هذا هو حال تاريخ المادة غير الحية، ترى إذن ما يكون عليه حال تاريخ الانسان. إن مغزى ظواهر الانتظام الذاتي يكمن في رؤيتها للمستقبل فهو في عرفها لا يمنح ولا يفرض ولكنه يخلق بوعي.
أما رابع هذه المبادئ فهو عن "مسئولية اﻹنسان الكاملة وغير المنقوصة عن تقرير مصيره". ومرة أخرى تخبرنا دراسة ظواهر "الانتظام الذاتي" بأن البداية الواحدة ليست شرطا لتشابه النهايات ...! ... فقد بينت تلك الدراسة أنه ليس من الضروري أن تتبع المنظومات المادية التي تتشابه أحوالها الابتدائية، في تطورها نفس المسارات. فعند لحظات التحول من وضع لآخر والانتقال من حال لحال تنفتح أمام تلك المنظومات طرق متعددة ويقع عليها هي وحدها عبئ الاختيار. وهكذا تلاشت جبرية مبدأ" السبب والنتيجة" واكتسب مبدأ "التحدي والاستجابة" شرعية جديدة مستمدة من عالم المادة. وبهذا ينتفي حتم المصير عن المنظومات المادية وبالأحرى عن منظومات الإنسان. وقد بيت تلك الدراسة، من ضمن ما بينته، أنه بقدر بعد المنظومة مخلوقة أو مصنوعة عن وضع التحجر والجمود (اﻹتزان) يكون ﺇتساع وتعدد الخيارات أمامها وتكون مقدرتها علي التطور والبقاء.

كانت هذه بعض مبادئ جبر التنوير ... خلاصة العقلانية الجديدة وما أحوجنا إليها في حل معادلات فترات التحول وأزمنة الاختيار.

المراجع
السيد, ا. ن. ا. 2017. الفتوحات المدنية لابن الانسان. الحوار المتمدن, 5496(19 ابريل): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=555718.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية للأستاذ للكاتب
أنور نور ( 2017 / 5 / 6 - 23:31 )

http://salah48freedom.blogspot.ca/2015/04/blog-post_20.html

اخر الافلام

.. ضربة إسرائيلية ضد إيران في أصفهان.. جيمس كلابر: سلم التصعيد


.. واشنطن تسقط بالفيتو مشروع قرار بمجلس الأمن لمنح فلسطين صفة ا




.. قصف أصفهان بمثابة رسالة إسرائيلية على قدرة الجيش على ضرب منا


.. وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير تعليقا على ما تعرضت له




.. فلسطيني: إسرائيل لم تترك بشرا أو حيوانا أو طيرا في غزة