الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سوريالية المقدس: حول التلامُس الجسدي

سامي عبد العال

2017 / 5 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هل الرب، المقدس، الرمز الديني موضوعات قابلة للمس؟! تُثار الفكرة بمناسبة تفضيل الأب فرنسيس (بابا الفاتيكان) لعدم وجود حواجز بينه وبين الجماهير. إذ يطلب من مضيفيه افساح المجال للالتقاء بالناس مباشرةً. وفي هذا لا تُطرح قضية التأمين لزياراته خارج محيطه الخاص إنما المفارقة أنَّه رغم قداسته الروحية يتيح "علاقةً حسيةً" بالآخر.

كأنَّ الروح يحقق وجودَّه غير الجوهري في أشكال تاليةٍ. ولم يمانع أنْ يصافح غيره لامساً راحتيه بكل حميميةٍ. وربما يدعو الناس للاجتماع حول مائدته بلا أوصاف، بلا أديان، بلا انتماء عقدي. على الأقل يمثل نقطة اشتراك مع نقاط إنسانية أخرى حتى وإنْ كان القصدُ ليس كذلك. فالنقل التليفزيوني يعتبر مضاعفاً بما يسمح بهذه الأحلام أو الكوابيس.

الاثنان موجودان في التو، أي بذات اللحظة المتداعية إلى درجة التعقيد. لأن التقاليد الدينية لن تغادر خشبة المسرح بسهولة. حتى في غياب الجمهور ستصعد ليلاً وتنخرط في عرض سري(مونولوج) يحضره المجهول الذي يظهر أثناء الشعائر والمناسبات. هل الرب- ومن يمثله- يسلم على المؤمنين كما ورد بالمسيحية والاسلام أو يختارهم كجماعةٍ بطريقة اليهودية؟!

من جانبٍ ثانٍ ترسم المفارقة – بالأسلوب نفسه- صورة سوريالية للرمز الديني في الحياة. وكيف يتصرف- إذا كان شخصاً- وبأي معني يخففُ حمولاته الثقيلة تاريخياً. فلم يكن معهوداً أنْ يختلط المقدس بالدنيوي.
وجه الغرابة أنه يوازي بين وجودين متناقضين لا ثالث أمامهما إلاَّ حينما يوجدا معاً. ذلك العنقود غير القابل للتحديد الفوري ولا للتصنيف. مثل الالتفاف الذي يطفر بكل اختلاف وتباين. وفوق ذلك يعيد طرح نفسه ضمن دلالة مغايرةٍ. تماماً كما تحقق الصور السوريالية امتدادها المتناقض والغامض. فالصورة تخرج عن السيناريوهات اللاهوتية. إنها تحمل قدراً فائقاً من التبسُط. وهذا الفعل له تاريخ يتشابك مع الواقع المتغير والنسبي. سيعاد على أثره تركيب دلالات الأشياء والموجودات لكن وفق سمات مختلفة. إنَّ تاريخ الآلهة يجمع تلك الأخلاط. فالوثنية تصور الإله على انحاء سوريالية ما بين الإنساني والحيواني والكوني والطبيعي. كانت الكائنات المقدسة خاضعة لهذا التنويع العجيب.

عناق دنيوي

رأينا عناق البابا فرنسيس مع الأشخاص العاديين ومع مجموعة أطفال أبان زيارته الأخيرة للقاهرة. عندما غادر سيارته المكشوفة- تلقائياً- ليحيط بهم ويلاصقهم. وكان حريصاً على مجاراة الناس والانخراط معهم أمام العدسات الإلكترونية وأضواء الاعلام مرئياً ومرقماً ومسموعاً. فحوّلته اللقطات من رمز مفارق إلى طقس مرئي له أبعاد دون التقديس. وربما جعلته شخصاً قريباً من معانقيه إلى حد التَّجسُد. فكل لمسة تفترض جسداً، تفتح علاقات مختلفة بين الأفكار والمادة كمعطى عام.

والبابا بهذا يستحضر رمزية ما خلافاً للقداسة بمعناها الشائع. فرغم أن اسمه البابوي يُسبق بألقاب تاريخية إلا أنه يتحلل منها. ولم يكن ذلك بمبررات لاهوتية بل بحسب الموقف. إنه أشبه بنجوم السينما والرياضة والسياسة. أخرجته الصور من كنيسته العصماء إلى مجال التداول الحركي. وبات موضعاً لنظرات الاندهاش تارة ولمحط الترقب غير الديني تارة أخرى. والنظر المتلون يأتي من مكان غير متوقع دوماً. لأنَّ دوافعه تختلط على التفكير المسبق. فالمفترض أنْ يمارس الرمز الديني وجوده بحسب ما هو معروف عنه. غير أنَّ افشال الدافع يعني أفشالاً لأي إطار يحدد الصورة. كيف تُرتب وتُفهرس موضوعها؟ هل تفهرسه على أساس اللاهوت أم العلاقات العامة؟ وبأي جسدٍ كان البابا عندئذ؟

لعل أهم اسباب اختيار البابا فرنسيس لكرسي البابوية هو انفتاحه الإنساني على الأخرين. ومشاركته في الاعمال الخيرية. كما أنه متواضع لدرجة اراقة ماء المهابة بلا عودة. فنظراته ولفتاته وتعبيراته الجسدية حوارية وليست لاهوتية كما أشرنا. كما أنَّ ابتسامته ليست ميتافيزيقية غير قابلة للتكرار. لكنها إنفراجة تستحضر الأخر ولو كان بعيداً. ويلفه الهدوء الذي يحوله إلى كائن ملئ بالمعاني والاشارات. وبخاصة تلك التي تكسر الصور النمطية لمضامين اللاهوت. مثل اختراق التوحد مع النفس، الاصطفاف مع المماثل عقيدياً، والانحياز المكاني والزماني للإله كحال مواقيت الصلوات والطقوس ومراسيمها.

وفي بعض المشاهد يظهر عناق البابا وشيخ الأزهر. الأول أعلى منصب ديني كاثوليكي والثاني أبرز الممثلين للإسلام السني. ولهما الصوت المسموع من جهة دراسة الديانتين والدعوة إليهما. ورغم هذه الغلالة اللاهوتية إلا أن التفاصيل تملأ الحواشي بأشياء جانبية. مثل طريقة المصافحة والمبادرة بين الرجلين وكذلك العلامات الجسدية التي صاحبت العناق. وهي علامات إنسانية تسقط من غربال الديانات بصرف النظر عن واقع الأنظار بوصفهما كذلك.

وقد حاول بعض المعلقين التأكيد على الرمزية الدينية للعناق لكن هناك شيئاً جديداً. فلربما تصرُف الطرفين بالجانب الإنساني جعلهما على هذا النحو. فالصورة تكتب ملابسات اللقاء كما تحمل الظروف والأحداث المحيطة. فلم تمض أيام على تفجيري طنطا والاسكندرية. الدماء لم تجف بعد والانتهاك لبيوت العبادة كان على أشده. وكل ذلك على اعتاب الاحتفال بعيد القيامة. بالتالي لن يكون هناك أجدى من التصافح الإنساني بكل مخرجاته الحية.

تراث اللمس

ماذا عن تراث اللمس في ساحة اللاهوت؟ وهل يتحول المقدس إلى مادة ملموسة؟ إنَّ المقدس بحكم طبيعته غير متاح للمس الاعتيادي. ومن هنا كانت مفارقته للأمور المرئية صورة تقليدية في الديانات فما بالنا بالأمور الملموسة. وربما المقدس لم يسم بذلك سوى لكونه خارج الحس. لأنّ وضعاً طريفاً أنْ يسمح المقدس بأن يكون مادة محسوسة. وقد يقال هو لا ينظر إلى نفسه ( كحال البابا) على أنَّه هكذا. لكن المشاهد بخلفيتها اللاهوتية تعبر عن بشريةٍ ما بخلاف الشائع الميتافيزيقي. بالضبط كما يسير الرب في الطرقات ويراه الناس رؤي العين. جميع الأسرار تصبح مكشوفة على الملأ حينما ينزل المقدس من أعلى.

ونحن نعرف أنَّ الديانة المسيحية مليئة بتاريخ اللمس. إنها ضرب من الاعتقادات اللمسية. بدءاً من خلق آدم والخطيئة نتيجة إغواء حواء له وانتهاء بالصلب والفداء. في كل ذلك الإحساس اللمسي موجود بصيغة أو بأخرى. " جَبَل الرب الإله آدم تراباً من الأرض. ونفخ في أنفه نسمة حياة: فصار آدم نفساً حية"( سفر التكوين/ الاصحاح الثاني ص5). فالتلامس بلا حائل بين الإله وآدم، لامس مخلوقه الأول من أجل الحياة. وبالتالي صارت الحياة لمسة قد تكون حباً أو علاقة أو شعوراً وجودياً أو مصافحة.
وقال الرب لآدم بعد أن اختبأ الأخير خلف أشجار الجنة خوفاً من عريه" هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها. فقال آدم المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت"( سفر التكوين/ الاصحاح الثالث ص6).

إن اللمس يمثل دراما الخلق الأول ما اكتنفه من تحولات وليس مجرد علاقة مادية. ومعجمياً اللمس قوة منبثة في العصب المخالط لأكثر البدن. من هنا يقال اللامسة وهي قوة العصب التي يدرك بها الحرارة والرطوبة والبرودة وخشونة الأشياء والاتصال بها.

اللمس ليس حاسة واحدة بل مجموعة حواس. سواء أكانت لوناً من الرؤية أم السمع أم الشم أم غيرها. فما هو قابل للمس يعني توفر شروط مادية تجعله كذلك. وبالتالي ما كان يمكن لمسه إلا بعدما يصبح مرئياً ومسموعاً ومشموماً. وهي أشياء متضمنة في تلك الحالة الفريدة. لأن جميع الحواس الحية للإنسان- كما يقول الباقلاني- تلخصها حاسة اللمس إذ يدرك بها الرخاوة والصلابة والليونة والحرارة والبرودة والصلابة. وهذه أشياء مختلفة لا حاسة واحدة مخصوصة بها. وعادة ما تكون نتيجتها عملية إدراك للملموس. بما يعني كون المدرَّك يعيش تجربة قابلة للتكرار.

بالنسبة للرب لا مشكلة هناك. لأن اللمس الالهي للشفاء وإظهار المعجزات كما ورد في المزامير: "يا رب طاطئ السموات وانزل. المس الجبال فتدخن ارسل يدك من العلو انقذني ونجني". وجاء أيضاً” أنا هو خبز الحياة … أنا هو الخبز الحى” ... وردت هاتان الآيتان في نص لإنجيل يوحنا اللاهوتي في نهاية حديث طويل للرب مع اليهود.

يبدو أن لغة اللمس كانت معروفة في نصوص المسيحية. على أساس هذا التصور الحي للإله. والمعجزات كانت متوقفة أيضاً على المعاني التي تنجم عنه. فبإمكانه النزول لمساً للجبال كما مر. ويتحول اللمس من قوة كونية إلى يد تنتشل الإنسان.
وعلى التنويع اللمسي جاء في العربية ما يلي: " لمس منه العفو: التمس، طلبه منه. له شعاع يكاد يلمس البصر: يذهب به. لمس استعداداً في كلامه: أحسَّ. لمس الحقيقة: اهتدى إلى الصواب. لمس المرأة : جامعها. لمس الحقائق بنفسه: اهتدى إليها". لمس المصحف مسه بيده" لا يمسه إلا المطهرون": ممنوع الاقتراب أو التصوير." وأنا لمسنا السماء فوجدناها مليئت حرساً شديداً وشهباً": طلبنا الوصول إليها لاستراق السمع. " ولو أنزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إنَّ هذا إلا سحر مبين".

ذكر القرآن أيضاً على لسان موسى: " رب أرني أنظر إليك، قال لن تراني. لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" ( الاعراف/ 143). فانحجاب الرؤية، تلك المساحة التي قد يوجد بها، يعتبر صنو التقديس. وكأن اللمس مستحيل بمنطق الاسلام. لأن هناك تفرقة واضحة بين وسيط الحس الملموس. وهو الجبل الذي لن يستقر مكانه ليصل احساس الرائي إلى تلك القدرة التي لا يتحملها.

والحوار المذكور بين موسى والرب أساسه ماهية اللمس حضوراً ورؤية. وذلك لا يمانع الرب من التلامس لكن السؤال هل يستطيع انسانه استيعابه؟! وكانت التجربة على المادة كفيله بإثبات العكس. اللمس في المسيحية من باب الحياة بينما في الإسلام من باب القدرة التي لا يطالها المسلم.
هل أدى ذلك في المسيحية إلى تحول الحياة إلى طاقة حب بينما ظل اعتقاد المسلم معلقاً في أهداب الميتافيزيقا؟ فاللمس في الاسلام مفارق لكل الوجود أما في المسيحية فهو انفاس حية. وعلى امتداد الآية " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين"(الاعراف/ 143).

إذن تُولد من العجز عن اللمس قناعةُ الايمان. ولن يكون لمسلم ذات القناعة إلا مع تلك الاستحالة السابقة. فإذا كان لا يرى ربه فلن يندفع بالأولى للتوحد به. وعليه فهناك طرف خفي عبارة عن ممارسة هذا التوحد اعتقادياً. ولعل هذا سبب ظهور مشكلة الاسلام السياسي الذي يرى إمكانية العنف لحمل الآخرين على نفس معتقداته. فاللمس مساحة كلية دينياً لا يمكن لإنسان تجاوزها ولا اختراقها إلا بأمر إلهي.

وتلك هي قضية ملامسة النساء بشهوة. فلم يأت اللمس هنا جزئياً إنما يعني المضاجعة والجماع. ويبدو ما هو مفقود ميتافيزيقياً تعوضه الحواس إذا كان مباحاً من عدمه. وبالتالي يدخل تحت بند "لن تراني". ولهذا حتى الملامسة تدخل تحت الأوامر والنواهي أيضاً. وتشكل علاقات الجنسين(الذكر والأنثى) في إطار ضوابط متشددة كما في المجتمعات الاسلامية. وهي ذات الفرصة التي استغلتها الجماعات الدينية لقمع المرأة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف


.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية




.. مراسلة الجزيرة: أكثر من 430 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في


.. آلاف المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى لأداء صلو




.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك