الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موارد العنف -8-

جميل حسين عبدالله

2017 / 5 / 7
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


موارد العنف ‏
قراءة في عقلية الكراهية ‏
‏-8- ‏
النهاية
ولذا يكون العنف مرضا عضالا عند بعض المدارس النفسية، والاجتماعية، لأنه يعبر عن حالة عدم التوازن بين ‏القوى المشكلة ‏للذات الفردية، وبين البنى المعرفية التي تحرك الجماعة، لكن ما يمكن استظهاره من ذلك؛ أن ‏العنف الذي نعنيه، هو ذلك العرضي الذي ‏ينشأ فعله من ارتباك الشعور بالانتماء إلى هوية معينة، يحكمها نظام ‏ديني، وأخلاقي، وينظمها عقد يحدد إطارها النظري في كل القضايا الكونية، ‏والإنسانية، لأن نهاية ما نقصده ‏بالعنف، هو تلك الأفعال التي تنزل على الآخر بعدوانيتها المفرطة، إذ هو في صوغ القضية من جزئيات، ‏يبتدئ ‏من الغلو في تقديس الذات، ثم يتطور إلى التوسط بكل فعل إجرامي ينزف بسوداوية خانقة، لأن تسويغ هذا الأثر ‏الذي يلحقه العنف ‏بالآخر، وقبوله في حركية المجتمع، وسيطرته على موارد الاكتساب، والامتلاك، لن يكون ‏مستحسن الصورة، إلا إذا كان منطلقه في الصيرورة، هو الرضى عن الذات، ومنتهى سيره، هو ما يظفر به ‏الإنسان من ‏مكاسب، ومجالب، إذ العنف هو في الحد الأدنى حماية للذات المغترة بغرور نظرها الشخصي، وفي ‏الحد الأعلى تدمير لحقيقتها الجماعية. ‏وسواء كانت ذات المتعنف الذي يتحقق تميزه بعدوانيته، أو ذات المتضرر ‏الذي تأذى بأفعال غيره المشينة، لأنهما لا ينفعلان في واقع حقيقتهما، ‏إلا إذا كان كل واحد متأثرا بما يفعله الآخر ‏في سياق ما هو مشترك بينهما، إذ عملية الامتزاج بين النيات، والغايات، هو الذي يشخصن عملية الالتفاف حول ‏السياق العام، ويشيء حقائق كليته، ويصبغها بطابع الأنانيات الفردية المستعلية، والمتجبرة. ‏
ومن هنا، يكون العنف تعبيرا عن ألم مكنون الذات، وخوفِ نزاعاتها الداخلية، وجشعِ نزوعها نحو تحقق عالمها ‏الخارجي بما ‏يكسبها صورة قوة كينونتها، وتفاعل صيرورتها، لأن أقسى ما في العنف من شقاء، هو ما يكظمه ‏من كمد، وغيظ، إذ هو الشرارة التي تتقد بها جمرة ‏الصراع في الذات العليلة، لأن إيثار رغباتها الذاتية على ‏مسمى الاتحاد في القصد، والاشتراك في النتيجة، هو الذي يحدد نوع وسائلها التي ‏تعرب عنها في حماية ‏حوزتها، والذود عن بقعتها، إذ تصلب هذا المبتغى في شرايين العقل المستوفز إلى كسب قضاياه الوجودية، ‏وتوقد حرارته في الحرص على صيانة هويته الشخصية، ‏هو الذي يخلق ثراء المورد في مصادر التخويف، ‏والترهيب، لأنه يحرك الأفعال في دائرة التنافس على كسب الحظ من بهجة الكون، ‏والسيادة على جمال الطبيعة، ‏إذ هي المبتغى في الصراع الذي تدبره أيد آثمة باسم المحافظة على الإنسان، ولو فقد خطابها كل خصوصياته ‏‏العقلية، والقيمية، لأن واقع العالم المرتبك، يبدي عكس ما يظهره الشعار، إذ هي لا تريد إلا السيطرة على خيرات ‏هذا الكوكب الأرضي، ووأد كل ‏معنى يجمع المجتمعات على فضيلة الحب، والإخاء، ويبني مهاد السلام بين ‏بقاعة المتحاربة، والمتقاتلة. وذلك ما يبعدنا عن قيم الإنسانية المشتركة، ‏ويفقدنا مسمى الحقيقة التي نبحث عنها ‏بين الحياة، والموت. ‏
ومن ثم، فإن العنف، ولو كمنت بوادره في الباطن المستعر الشهوات، والمختلط الأهواء، يصدق ظاهريا على ‏ألوان تحرفه عن ‏مقتضى الأخلاق في المسؤولية الفردية، والجماعية، لأن إدراك مناط الفرق بين صنوف العنف، ‏وضروبه، هو الذي يجعلنا نحس بوظيفتنا في ‏الكون، ودورنا في الطبيعة، لأن التمييز بين مداراتها، والفصل بين ‏متعلقاتها، هو الذي يصبغها بحكم عقلي، يمكن له أن يبين لنا معالم الذات في ‏بناء مركب حقيقتها، أو هدم ما فيها ‏من معاني السمو الروحي، والنفسي، والاجتماعي، إذ واجبه الذي يقوم به في صيرورة الأشياء المتعارضة، ‏‏والمتعاقبة، هو ما يفرق به بين قيمتي القبح، والجمال، وحكمي الخبيث، والطيب، لأن وضع كل شيء في حد ‏معين، وحصره عن التداخل مع ‏غيره، هو الذي يمنحنا القدرة على ترتيب المعاني في سياق متكامل، ومتناسق. ‏وهكذا، فإن محدودية تطبيقات المسؤولية في آحاد الأفراد، ‏هي التي تسبل علينا صفاتنا في الوظيفة الوجودية، ‏والكونية، لأنها توضح كامن القدرة في الذوات الواعية بالحياة على الطبيعة، إذ لا يكلف ‏ضعيف بما يثقله، ولا ‏يمنع قوي مما يطيقه، لأن استثقال العاجز لما ينوء به من عبء ثقيل الكد، والسعي، ولا ينال إلا بصفاء المورد، ‏ونقاء ‏المحتد، لن يجعل للفعل غير المكسوب له طبيعةً أيُّ روح عليا، ومثلى، لكي يكون أثره فاعلا في لغة ‏الأزل، إذ لا يطالب إلا بما في حوزته من حدود ‏الإرادة، وقدرة العزيمة، لأنه إن اتصف بوصفه الذي إذا لبسه، ‏كان حلية له، وزينة، وصار ذلك أكمل في إقامة واجب الأدب مع نظام الأشياء ‏القائم سببها على مقتضى الكفاءة، ‏والأهلية، إذ لا تقوم الأشياء بحقيقتها التي تكوِّن ماهيتها، ثم تكون واقعا يصدق عليها في الحياة البشرية، إلا ‏إذا ‏تضمنت كمال عقيدة فاعلها، وسَكَنَها جمال خُلق صانعها، لأنه لا فعل يستوجب حظ البقاء، إلا إذا صار أثره ‏نفسا رحموتيا في الكيان، ‏والآخر. ‏
ولذا يتولد العنف من عقدة النقص الخفية بين كنه الذات، لأنها تنطوي على حقيقة ما تركب فيها من تصورات، ‏وخيالات، ‏وتحتوي على كل الرسوم الضابطة للنظر، والسير، إذ لا يجوز لها أن تسم الأفعال بوسمها، وتشي ‏الأشياء بوشيها، إلا إذا نفخت فيها ما ‏استعر بين مراماتها من أسباب خوفها، وألمها، وحزنها، لأنها لا تنطبع ‏بمعنى الفعل، وتنفعل بلازم الأثر، إلا إذا كان الإدراك قوي التحديد، ‏والتعريف، والرغبة متوهجة في صناعة ‏عالم مطبوع بالرحمة، والمودة، إذ شعور مجتمع العقلاء بترتيب هذه الأدوار بين الطاقات، والمهارات، ‏وتنظيمها ‏بما تقتضيه وظيفتها في سلم الوجود، والاستفادة من حقيقتها بين مكامن الطبيعة، والاشتراك في غايتها الممتنعة ‏عن الظلم، والاستبداد، ‏هو الذي يجعل الأحكام سارية على مواقعها، ونازلة في منازلها، لأن معرفة حدود هذه ‏المنطلقات بمنطق الانفعال في القصود، والتفاعل في ‏المرامات، ودرك ما فيها من روابط متشابكة، وعلاقات ‏متداخلة، هو الذي يعبد الطريق إلى قبول التنوع بين الألوان التي تشكل وحدة المجتمع ‏النفسية، والاجتماعية، ‏ويرشد إلى النتائج التي تقيم موازين العدالة في الحريات الشخصية، والجماعية، إذ وعي هذه الصورة المنطبعة ‏بالكثرة، ‏ولو تمثلت لنا في سياق الوحدة، هو الذي يظهر ملامح الحقيقة بجلاء، ووضوح، ويبرز ما في السياقات ‏من أنماط التفكير، والتقدير، وهو ‏الذي يصنف عضويتنا في النسق العام القائم بفلسفته الأخلاقية، والقيمية، ‏ويرتب واقعنا بما تستلزمه عهودها من سعادة، ورخاء.‏
‏ وهكذا، فإن القول بتضمن كل عنف لخلل ذاتي، أو زلل عرضي، واحتوائه على أنانية الفرد في سياق الجماعة، ‏سيربك قرارنا في ‏قراءة الأبجديات المعرفية التي يجب أن يقوم عليها التنظيم الفردي، والاجتماعي، والأولويات ‏الأخلاقية التي نجهد جميعا من أجل الوصول إليها ‏في عالم متنوع، ومتنازع، لا يزفر فيه إلا صوت الحروب، ‏والخراب، لأننا إذا اعتبرنا العنف قصدا بالعدوان، والإضرار، فإننا سننفي عنه كثيرا ‏من الموارد التي يكون فيها ‏نوعه خفي الدلالة، لا يدركه إلا الملاحظ الدقيقُ النظر في ماهيته، إذ هو كما يكون عنوانا على الفرد، فإنه يغدو ‏‏مطلوبا لحماية الناموس في سياق الجماعة، ولو لم يكن موصوفا بوصفه، ومنعوتا بنعته، لأنه يدل على معنى ‏الحماية التي تسوغ السبل ‏المتناقضة. وذلك ما يضفي عليه اسما آخر، ولونا خاصا، ولو اتحدا في القصدية، ‏واختلفا في النتيجة. وعلى هذا يكون العنف نوعا من أنواع ‏المقاومة الذاتية، والجماعية، يبديه الفرد أو الجماعة ‏لحراسة السياق الذي يضمن الحياة، والبقاء، لكنه يلبس في صيغة الجمع لون النظام ‏المؤسس للكيان المحصور ‏بقيود أذواقه، وأنظاره، فيكون سالبا لحرية الفرد، ونازعا لإرادته، وزاريا بقدرته على حدس الحكم اللازم في ‏القضايا ‏التي يتألف منها مصيره بين المسارب البشرية. ‏
ولذا، فإن العنف الخفي الذي تنتجه الإيديولوجية المتحكمة في الكينونة، هو الذي يدبر كثيرا من مسارات الصراع ‏حول ‏الحدود المشتركة النتيجة في الصيرورة، لأنه لا يُدرك بما يبديه من حدث في الآخر، إذ يلتبس مع ضده في ‏الأثر، فيصيران متشابهين، أو ‏متقابلين، بل فيما يضمره من نيات تخفي غايته بين الجوانح، والسوانح، وسواء ما ‏كان ناتجا عن الفرد العاقل، أو ما كان واقعا في ظاهرة ‏الجماعة، إذ معناه لا يدل على عينه، ومبناه لا يتضمن ما ‏نتج عنه، لأن حيازته للأشياء بغير موجب حق مقبول، أو باستحقاق الملكية للعين ‏المجردة، دون الالتفاف حول ‏مطلق الروح، ولو لم يظهره شبحا عنيفا بين الموارد، لن يخلق في مقابله إلا عنفا مضادا، يصير هو المدان، لا ‏‏ما كان سببا في إنتاجه، وإبرازه. ومن هنا، فإن العنف الخفي، هو ذلك الفعل الذي يضطر إليه الإنسان، ولم يكن ‏مقصودا له إلا بالتبعية ‏للازمه، إذ ما تقوم به حقيقته في واقعه، لا ينظر فيها إلى سببه غير المنجلي، وإنما إلى ما ‏أفرزه في تداوله من صراع، ونزاع. ‏
ومن هنا، فإن العنف يتولد بعضه من بعض، وسواء ما كان سمة نفسية للمتعنف، ولو أخفاها بسبب من الأسباب، ‏أو ما أبرزه من ردود أفعال، ‏تحولت مع حدة الخلاف إلى تخويف، وترهيب، لأنها تتضمن حماية الذات من ‏الزوال، ووقايتها من الابتذال، إذ ما يؤدي إليه الظلم، والاستعباد، لن يكون إلا ‏عنفا بين موارد المفسدين، وصونا ‏للدائرة في سبيل المصلحين، لأنها لا ترى لها قيامة شأنها إلا في سيادتها على حظها من الوجود، والطبيعة. ولذا، ‏يكون كثير من ‏الصراع في الكون متسما بالعنف، ولو لبس جبة الطهر، والنقاء، لأنه تعبير حقيقي عن الذات ‏المستعرة باللذات المرغوبة، والممنوعة، وهي فيما تقي به حصونها، ‏وثغورها، لا تحس بعنفها، ولا تقبل أن تدان ‏به، لكونه ينطق برغبتها في الخلد، والبقاء، إذ لا يحق لها أن تستهين بما يهدد استقرارها، ويبدد استمرارها، لأنها ‏تعادل بين ‏وجودها، والتضحية ببعضها في صيانة كلها، إذ لا يجوز في منطق القضايا، أن تسمى الذات كيانا، إلا ‏إذا كانت متميزة بسماتها، وشياتها، لأنها هي التي تمنحها ‏ماهية في الطبيعة، وهوية في الحياة، وبها تطيق أن ‏تشارك بنصيب في عالم الإرادات، والأفكار، والقيم. ومن ثم، فإن القيود التي صاغتها العقود الدينية، ‏والعهود ‏الاجتماعية، لن تكون قابلة للتنفيذ بالإلزام، أو الالتزام، ما لم تكن اختيارا جماعيا، وعنوانا كليا، يقبل ما في ‏مجالها من حقول إنسانية، ‏وكونية، ويرفض ما في مدارها من رغبة الاستفراد بالملكية، والسلطة. ولهذا، يكون ‏العنف مربكا، ومحبطا، لأنه في ضرورته القائمة بألوانه، ‏وأشكاله، يتجسد في صور تدل على فقدان الذات لقوتها ‏على نيل رغباتها بطرقها المحدودة الطاقة، والإرادة، وضياعها بين السبل المترعة ‏بصراع المتناقضات، ‏والمتشابهات. ‏
فلا غرابة إذا تقوت الذات بوسيلة العنف لكسب لغة القوة، والمناعة، لكي تعبر بعنفوان عن صدامها مع ألم ذاتها ‏المكتنزة لصورة ‏حقيقة مطلقاتها في الفكر، والرأي، والموقف، لأن دلالة العنف على الحرمان المصحوب ‏بإحباط، وملل، وضجر، هو الذي يجعل العنف مسوغا بصورة ‏قصدية، وبمعنى ائتلافي بين الذات، ومطلوبها في ‏مجالها المادي، إذ كونه يرغب فيما يحمله من عداوة، وإذاية، هو الذي يجعله محلا للمساءلة، والمجازاة، لأن ما ‏يتلقاه الإنسان من ضغوطات حياتية، ‏تصير محلا لتوارد الخواطر التي تدفعه إلى تحصيل الغاية بكل الوسائل ‏الضامنة لها في حقيقة الامتلاك، ولو خرجت عن سياق العقود ‏السائدة، وانحرفت عن الضرورة التي تنظم سير ‏العلاقات الاجتماعية، لأن أساسها التي تربي عليها أجيالها، هو ما وضعته من أسس لحماية ‏الأمن، ورعاية ‏الأمان. وإلا، فإن تسميتها بالمواضعات الاجتماعية، لا قيمة لها في المعنى، ما لم تكن محل الحكم عليها ‏بالرفض، أو القبول، إذ لا ‏دليل عليها في الممارسات الجماعية، إلا فيما تبنيه من سيادة الحق، والنظام. ومن هنا ‏يكون للتربية على خلق اللطف، واللين، دور أساس في ‏تقوية هذه الروابط التي تعوق الأنانيات الفردية، وتكبح ‏جماع الرغبات الشخصية، لئلا تؤدي إلى فعل الإضرار بالآخر، ومهما كان الاختلاف ‏حاصلا معه في العرق، ‏واللغة، والدين، لأنها تمثل قواعد السلوك التي يجب أن يتحلى بها الأفراد، والجماعات، ويتزيى بها الواقع الذي ‏ننشد ‏عذوبة أذواقه، وليونة أخلاقه، إذ هي التي تزيل كل المعيقات التي تحد من فاعلية الأخلاق الإنسانية على ‏هذا الكوكب الأرضي. ولذا، تكون ‏هذه التربية علاجا، ووقاء، لأنها تدبر أمر الممنوع والمحروم بطرق متبصرة، ‏ومتعقلة، وتحمي الدائرة من كل ما يجوز له أن يصير حرمانا في الطبيعة ‏البشرية، يؤدي إلى تطلاب حقيقة ‏العنف، والإرهاب. ‏
وإذا كان العنف يضمر كثيرا من الأوجاع الذاتية، فإن منتهى ذلك في عمق المتعنف، هو ما يشعر به من خوف ‏يذود ذاته عنه، لأن فقدان الأمان ‏في الحوزة، هو الذي يدفع بها إلى أن تخشى ما هو مضمر من مجاهل بين ‏الموارد، إذ لا تفصح عن سلاسة قوتها إلا بصلابة في الكسب، وصلادة في القصد. وذلك ‏ما يصير سبلها عسرة ‏في الوصل، والاتصال، لأنها تتفاوت فيها الإرادات الضعيفة، والقدرات القوية، لكونها تتضمن كل السلوك ‏البشري الذي يرغب في حبكه حين يقاوم ‏حرمانه، ونسيانه، ويواجه كل الظروف التي تحدق به في محيطه، ‏وواقعه، لأن وجود روافد العنف في المحيط النفسي، والاجتماعي، لا يؤدي إلا إلى الاقتتال ‏حول حدود المصالح ‏المشتركة، والاحتراب حول مجالب العيش الحر الكريم. ومن هنا، يكون الخوف من حدوث الشيء غير المتوقع ‏سببا رئيسا في وجود نوازع ‏العنف في الذات، لأنها تحتمي به من مجهول حرصها على رفض كل المعيقات ‏الذهنية، والمثبطات الفكرية، لأن الخوف لا يكون فعلا ضروريا من الخائف فحسب، بل يصير ‏حاجة في ‏المخوف منه، إذ كلاهما لم يكن عذرا له، ولا قابلا للتحصن به، والاستتار بخفائه، إلا حين أحس كل واحد منهما ‏بأن الآخر سبب في زوال عينه، وإنهاء أمنه، لأنهما معا ينابذان ما يخشيان ظهوره ‏في العلاقات المشتركة ‏بالحتمية الجماعية، إلا أن ذا يستعمل عنفه في إثبات حقيقته، وذاك يتوسل بوسيلته إلى إرغام عدوه المنتظر ‏لنهاية طبيعته.‏
‏ وسواء كان ذلك العنف واقعا بأسباب مباشرة؛ كأن يضربه، أو أن يجرحه، أو أن يختطفه، أو أن يعذبه، أو أن ‏يقتله، أو كان نازلا بوسائل غير ‏مباشرة؛ وهو أن يفرض معانيه الذاتية في محيط الآخر، على اعتبارها كمالات ‏واجبة في بقاء السياق، أو صيانة الأيديولوجية. وذلك ما نعنيه بالعنف الرمزي، إذ ما ‏فيه من مقتضى الإرغام، ‏والإجبار، هو الذي يستكنه مسمى القهر الذي يمهد سبل التضييق لمجالات الحرية، والاستقلال. وهكذا، فإن عامل ‏الخوف علة كامنة في ‏العنف، ولو برزا في واقعيهما بمظهر القوة، والاستحواذ، لأنه إذا كان يختفي من ورائه ‏شخص غير متزن البنيات، ومستوي الآليات، فإن استدعاء القوة بتلك الوسيلة المتعسفة، هو ‏غرة في المتعنف ‏المغتر بجوهر عينه، لأن الاعتداد بخصائص الذات، والاعتزاز بشرعية مرجعيتها في الاستعلاء، هو الفعل الذي ‏يفضي بعنفه إلى إكراه الآخر، ‏وجبره على داعي الرضوخ، والخنوع، إذ هو نوع من أنواع مركب السادية التي ‏تُخضع الغير لآلام أمراضها الحسية، والباطنية، لأنها فرض لرأي واحد، وقرار محدد، ‏يحمل سمات المريض ‏بعقد ذاته، وخصوصياته النفسية، وميولاته الاجتماعية.‏
وإذا كان الاغترار بالذات محلا لولادة نشوز العلاقات الاجتماعية في تركيبة المجتمع البشري، فإن أجلى مظهر ‏فيها، وأظهر معلم منها، هو ما يعيشه ‏الفرد بين محاضنها من مثبطات تعطل السير نحو الأمل المنشود في الحياة ‏المطلوبة، إذ يخضع لمقتضيات الذات التي تتضمن مزاعم منتفشة في عمقها، ومنتشرة في ‏محيطها، وهي التي ‏يندفع إليها الظاهر في صورته المثلى، ويدافع عنها بغيرته المتمثلة في الترهيب، والتخويف، لأنها ومهما ظهرت ‏بزي الصلاح المزيف، أو تجسدت في بريق لونها ‏المفتن، فإن ما يختبئ فيها من أنانية مفرطة، وذاتية مغالية، ‏هو الذي يفسر مضمون حركيتها القائمة على تلبية ما فيها من حاجات، وضرورات، إذ صيرورتها التي ‏تكتمل ‏بها أدوار حركتها في مجالها الطبعي، والكوني، لا يمكن لها أن تتجاوز ما هو محدود في قعرها من رغبات ‏مكبوتة، وشهوات مكتومة، لأنها في ردود أفعالها تجاه ما هو متعسر ‏ومتمنع عنها، لا تتوسط إلا بهذه الوسيلة ‏المحتضنة لأسباب الحقد، وروافد الضغينة، لأن منطق الكراهية كمظهر متجسد في مجموعة من القيم المشكلة ‏لماهية العنف، ‏وألوانه، لا ينشأ عن المظلوم فقط، بل مورده الأول، هو الظالم الذي أطال ذيله في حقوق غيره، إذ ‏هو الذي أظهر في لحن السلوك العام نشازا، ونفورا، وأبرز ‏حذر الخوف بين الديار، والأدوار. ولولا ما ينبثق ‏عن واقعه من جراح في الذات، وأوجاع في الحياة، لانتكست كثير من الأفكار التي تثير الرعب، والهلع، لأن ‏غالب ‏أحوال المتعنف؛ وهو الذي يحتد صراعه مع خارجه حين تغيب عنه شمس الأخلاق، وتصير الروابط ‏هزيلة الاتصال في عمقه الممتحن، لا تميل إلى فضاء العدوان، إلا إذا كان ‏العنف سمة قائمة في تفاعل وظيفتها ‏مع باطنها، وظاهرها.‏
‏ ومن هنا، يكون الحقد دليلا على العنف، وقائدا إليه، لأنه تعلقٌ بشيء غير مكسوب للذات المتعنة، والمتحرجة، ‏ولا مقدور ‏لطاقتها الفاعلة، والمنفعلة. وهو ذلك المعنى الذي يحس المتعنف في فقده بخيبات أمله، وانكسار حظه، ‏لأنه في استحالة وجود علة ضرورته في ‏كبده الفردي ضمن بؤرة سياقه الجماعي، يكون مطلق العدوان مصدرا ‏لبلوغ المنى في كسبه، والوصول إلى ما يَطمئن إليه في حرزه، إذ ‏حزونة التكيف مع مقتضى طاقة الكيان في ‏خاصيته الفردية، وحدودها النسبية في وظائف الذات الجماعية، ومدارات حركتها في سبيل بقاء ‏مبادئها الجامعة ‏لكلية أنواعها المتعارضة، وألوانها المتقابلة، لا يفضي إلا إلى إبراز ما هو كامن فيها من عقد مغروسة في ‏أحشائها، ومزروعة ‏في أنحائها، وأعراض مرضية تكونت معها في مهد التربية، ثم تطورت عللها مع نشوء ‏القصد بين محاضن الحرمان، والفقر، والجهل، والمرض، لأن لهذا الأثر المستتر في ‏العمق مكونات عميقة ‏الدلالة، لا يرى نتاجها إلا في الأفعال الفاقدة لحاسة ذوقها الروحي، والأخلاقي، إذ فيها تظهر قيمة المعنى ‏المستتر بين ‏طيات الباطن، ومدى تعلقه بما يحكم الفرد من غرائز، ورغبات، وينظم علاقاته مع أعراضه ‏الخارجية، والظاهرية، لأنه هو الذي يضفي عليها ‏طاقة الحياة الفاعلة، ويجعلها أثرا بالغا إلى الغير، وقصدا ‏واصلا إلى الغاية، إذ فيها يظهر حرص الذات على الولاء لمقتضيات أنظمة الجماعة، ‏وسلوكها بين الموارد ‏المتشعبة البدايات، والنهايات. ‏
ولذا، فإن مطلق الإحساس بالحاجة، ليس فيما يمكن التجاوب معه نفيا، أو إثباتا، بل فيما يفرض على الذات من ‏كيفيات، ووضعيات، لم تحدث فيها ‏تواصلا، وتفاعلا، ولم تفرز فيها شبعا، ولا ريا، لأنها هي التي تجعل معنى ‏الاحتياج شقاء، وعناء، وتصيِّر رغبة الافتقار إلى استدراك ما ضاع من روحها بالعجز ‏والقصور مستعرة ‏بالعدوان، والإذاية، إذ الغاية في تحصيل الأشياء المغرية بالجبلة، والطبيعة، هو ما تضيفه من حياة وديعة إلى ‏الفرد، والجماعة. وذلك ما يبعد ‏النجعة، ويصير الفرصة مستحيلة، ويعلِّم الذات كيف تكون عنيفة في مواردها ‏التي تغشاها بهمومها، وكروبها، لأن الخوف على انفلات اللحظة من حرص الإنسان ‏الباحث عن متع الحياة ‏الطرية، والناعمة، والطالب لما يريح الذات من لذة بدنية، وسعادة عقلية، هو عنوان الحاجة في الرغبات التي ‏تسجن كثيرا من الإرادات ‏المتنوعة بين قفص كبدها، وجهدها، إذ توجيه الفعل إلى استكشاف تلك الغاية التي تحدد ‏الهوية الشخصية، وترسم معالم الذات الجماعية، هو الذي يخضع الكيان ‏لقوة الخوف المتجذر بين الموارد بأساليبه ‏المختلفة، لأن تمام ضغطه على حصر صوره المتجسدة في الواقع، وقصرها على ما خفيت فيه اللذة، والسعادة، ‏لا يُدبر وضع ‏سلوكه، وبلوغه، إلا بما يثيره الحاقد من عنف في طريق كل صراع يتوخى به نيل مزاعمه الكامنة ‏في بعده النفسي، والاجتماعي.‏
ومن المؤكد أن الحقد دليل على وجود العنف ضد شيء مرتقب الظهور، إذ هو الذي يعبر عن علاقة الذات ‏بمجموعة من ‏الخصائص التي تتمايز بها بين الكيانات البشرية، وإن لم تحصل لها بالحظ الأوفر، ولا بالاستقلال ‏الممرع بالحرية، والكرامة، لأن الحاقد شأنه ‏شأن الحاسد، ومرده معادٌ للجاهل، إذ تنطلي عليه صورة الخدعة ‏التي افتتن بانتقاء منظرها، أو الرضى عن خبيئة مظهرها، فيرى صلاح سربه فيما يسبله عليه يقينه بفساد ‏الموارد من إزار الطهارة، والعفة، ويشهد جمال ظاهره فيما يبرز من رياش عليه، ولو اقتضى تسويغ تسلطه ‏عليه بوساطة حيله، وخدعه، وإن طعَّمها بمقتضى العقيدة، والديانة، إذ ما يحدث من خلل في البنية ‏الوظيفية ‏للعقل الفاعل، هو الذي يقتضب المعاني الذاتية المتسامية في مسمى الأنانية، لكي يستولي بها على الممنوع عنه، ‏وهو مغر بطبيعته، ومفيد ظهوره على الخارج البارز بفتنته، وإغرائه، لما فيه من قوة تخلب البصر، وتسلب ‏العقول العليلة، لأنها لا تدل في كدحها على قبول التنوع في المظاهر العامة، بل ترشد ‏إلى ثراء المعجم الباطني ‏بتناقضات تشوه وجه المعنى، وتبدد كل صلة تربطها بعالم الحقيقة، إذ الجهل بمقادير الأشياء في نسبة انتسابها ‏إلى ‏سياق منتظم بناموس يتوخى سيادة الأخلاق، هو الذي يبعد المسافات بين الذات المتألمة بأعراضها الخارجية، ‏وبين ما تغرم به من مغريات، ومشتهيات، لأنها في قوة ‏استحواذ الحدود غير الجامعة على لازم الكشف العقلي، ‏تحاول أن تفجر فيما تسعى إليه برغبة مرتبكة قابلية في الذات، واستعدادا في الإرادات، إذ انفصام هذه ‏العلاقة ‏المتشنجة بين الشيء المقرور في العمق الباطني، وعنوانه في العرض الظاهري، هو الذي يصير البحث عن ‏تسويغها دنيئا، وحقيرا، لأنه ومهما بدا لنا دالا على شدة ‏الدهاء في نفخ نفَس الأنانية المختنق بين رسوم المعاني، ‏فإنه يتعرض آليا لتحريف يؤدي إليه تجويز الاستكبار، والاستعباد. وإذ ذاك يكون ‏العنف بكل أنواعه مسوغا عند ‏الحاسد، والحاقد، والجاهل، لأن نسبة الجهل في كل عنف كثيرة، وعنيدة، إذ لا يتأتى إلا بعد ضياع المعتنف بين ‏مهامه ‏العمه، والعماية، لأنه يتحول إلى قوة في ذات المغامر الذي أرسى سفنه على الرغبة الحارقة، ولو لم يدرك ‏ما فيها من معرات أثيمة، وعواقب ‏وخيمة، إذ هي عدم المعرفة بأقدار الأشياء في نظام جواهرها، والجهل بما ‏تشابك فيها من علاقات، وآليات، لأن وعينا بذلك، وفهمنا له، هو ‏الذي يبعدنا عن سبة الجهل الذي يزكي ببلادته ‏كل عوامل العنف، والكراهية.‏
وإذا كان الخوف والحقد والجهل أسبابا باطنية في فعل العنف، لأنها تتمخض في الذات المستعرة بصراعها، ‏وحربها، فتلد أوضاعا قابلة للعدوان، والطغيان، فإن عدم إدراكنا لقيمة الأشياء في لوحة الأزل، ومعناها في ‏لسان الكون، وحقيقتها في مهد الطبيعة، ودورها في الحياة، وجمالها على الإنسان، قد يسبب عداء بين المنحى ‏الروحي الذي تؤكده كثير من السياقات التي انبت عليها التجربة الدينية في المجتمعات المؤمنة، وبين الاتجاه ‏المادي الذي يعبر عن طاقة الشر، ومخزون الشيطان في النفوس، والعقول، إذ كثير من صراعاتنا في واقعنا ‏المعاصر، هي نتيجة حتمية للنزاع بين المادية، والروحية، لأن الأولى، ترد عليها نوبات الوجع، والفجع، فتخال ‏الثانية سببا رئيسا في فنائها، وزوالها. وهي في الحقيقة التي نوقن بها في حركية الحقائق مع بعضها، وتلازم ‏وظيفتها في مسار الإنسان، لا يمكن القضاء عليها، ولا إنهاء ما فيها من حياة متتالية مع دورات الزمان، ‏والمكان، وإنما تهذب أخلاقها، وتشذب سلوكها، لكي تتضمن معنى الألوهية في مجالها، وحقيقة الربوبية في ‏مسارها، إذ لا يمكن في منطق الأفكار الذي ندافع عنه، ونحن نجزم بقوة تصوره في الأذهان المتسمة بإشراقاتها ‏الروحية، والمعنوية، أن يموت الضد في الصراع، والنزاع، أو أن يفنى النقيض في التجاذب، والتقاطب. وإلا، ‏خرجنا عن الكثرة إلى الوحدة، ونفينا التنوع فيما حقه التعدد، والاختلاف. وفي ذلك خراب للمعنى، والمبنى، لأن ‏إنهاء ما في الحقائق من احتكاك، وانصهار، لن يكون مقبولا في النواميس الكونية، والطبعية، إذ الغاية من قبولها ‏للتنافر، أو التعارف، هو إحداث دينامية بين مفاهيم الخير، والشر، ومعاني القبح، والجمال، لأنهما يحددان نطاق ‏المسؤولية، ومناط الوظيفة التكليفية في الحياة البشرية. ومن هنا، فإن عدم فهم ما في بنى المجتمع من طاقات ‏روحية، وقدرات مادية، وما وجد في مقاماتها من تغييرات على مستوى الممارسة، والسلوك، قد يؤدي إلى ‏العنف، على اعتباره لغة في دعوى الإصلاح الذي يفرض توجها معينا، لا يراعي خصوصية القدر في التكوين، ‏والتشريع، لأنه لسان ينطق باسم حماية المجتمع، ورعاية مكوناته، ولكنه لا ينحو في مجاله التداولي منحى ‏الحوار، والنقاش، وكلاهما في صياغة القضايا بمنطق التدافع، يفضي إلى التسامح، والتراحم.‏
إن إقامة دعوى الإصلاح بما يعطل سير كل المكتسبات التاريخية، والحضارية، لن ينتج إلا حربا دائمة بين ‏أنصار القديم، والدعاة إلى الجديد، لأنهما لن يستقيما إلا بفهم ما هو ثابت في العلاقات، وما هو متغير فيها من ‏مهاد، ووسائل، وغايات، إذ معرفة الحدود في طي المسافات المتخيلة، أو المساحات المتوهمة، وكبسها بما هو ‏جامع، ومشترك، هو الذي يمتعنا بظلال الوحدة، والائتلاف، لأنهما يتولدان من معين المعرفة الدقيقة بأسرار الإله ‏في الكون، والطبيعة، والحياة، والإنسان. ومن هنا، فإن خطاب الإصلاح الذي تتبناه توجهات معينة، وسواء ما ‏أحدث في مساره الديني، أو السياسي، إن لم يكن واعيا بما يحقق مناط المشترك في المجتمعات البشرية، لن يخلق ‏إلا بؤرا متوترة بالصراع حول الحدود في المعاني، والمفاهيم، لأنه سيكون بما يعتريه من سبة الذاتيات المحكومة ‏لأنانيتها مهدا للطاعة العمياء، وحضنا للخنوع، والإذلال، لأن صناعة المجالات المغلقة بالمطلقات غير القابلة ‏للتجريد، لن يرسم صورة الغد بآمالها الوديعة، وأحلامها اللطيفة، إذ تكبيل حيوية الإنسان، واستغلال خصاصه، ‏واستعباده في حريته، لن يفضي بنا إلى عالم متنوع الإرادات، والقدرات، ومختلف النتائج، والغايات، لأن غاية ‏السلم في الوجود الإنساني، هي التي تجعل العالم فضاء للاختلاف، والتعدد، ومراحا لتحقيق مبتغى الحرية، ‏والعدالة، والمساواة.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام


.. حكومة طالبان تعدم أطنانا من المخدرات والكحول في إطار حملة أم




.. الرئيس التنفيذي لـ -تيك توك-: لن نذهب إلى أي مكان وسنواصل ال