الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلتي الى دير جون سانتا في هضاب مدينة هستن ....الجزء الاول

تيسير الفارس العفيشات

2017 / 5 / 9
سيرة ذاتية




كان القمر بدرا او ما يشبه البدر، أنى لي بالنوم والليل ساج والغاب الذي يلف تلة ( هاستن ) موحش ، القنوات الأنيقة التي تتلوى بين الصخور الداكنة يتصاعد منها الرذاذ اللطيف على هيئة النسيم الموشى بالنسيم ، كانت المدينة الغافية الى يمين البحر التي اتخذت التلة اسمها ورسمها، ساكنة لولا تلك الألحان العذبة ( سوناتا القمر )، التي تعزفها فرقة الموسيقى التابعة للمعهد الموسيقى العالي كعادتها كل ليلة ، الطريق الذي سلكته وصاحبي النوبي يخترق الغابة التي تفصل التلة عن دير منيف تربع في الأعلى كان هو مقصدنا، وأشعة القمر الفضية تعاور الأشجار الباسقة ، فحينا تزاور عن الدير ذات اليمين وحينا تقرضه ذات الشمال ، يتلاعب كل هذا بالنفس فتنثال فيها خواطر عذاب، فلما أعيانا المسير ولما نبلغ الدير رقدنا على العشب الكثيف ، هناك غشينا استسلام كبير لعبير الليل وحكايا القمر الذي أظلنا بجناحيه ، فلم نفق الا وقد تبلج الفجر، ومع راءدة الصبح الضاحي التمسنا طريقنا الصاعد الى الدير لنستشرف الوادي الذي أطلقوا عليه وادي لافانتين وهو يتلوى كالحية الرقطاء بين المنعرجات الشاهقة،
الدير هيكل مقدس في تمام جلاله وبهاءه كأنه ثريا رائعة من البِلوّر النبيل حين تبدى لنا من بعيد ، وما ان الفيناه حتى وجدناه بناء انيق غائر قليلا عن مستوى الفناء، وله طابقان متمايزان فوقهما سقف هرمي تبرز مفاصله بقوة في دعائم طولية تضفي عليه ما يشبه حجر المرجان، وكل زوج منهما تعلوه قوس فوقها اخرى مثلثة، والكل يتصاعد في وثبة واحدة ينهض بها السهم الراءع ذي الارتفاع المهيب فوق السقف ، وقد صنع من خشب التيك الصلب، ثم كسي بالرصاص وزين بالدمي التي تمثل الملاءكة وهم يحملون الأدوات التي عذب بها المسيح ومعهم الْحواريون ، ودخلنا الدير فوجدنا أنفسنا في جو رهيب من السحر، ظلمة مثيرة تتخللها الأسرار وترنق في ارجاءها الاشباح، وزرقة خاوية يناظرها لون ذهبي براق ، وكلاهما يملاء الفراغ بالتهاويل التي تستريح لها النفس، ويتخلل البهو صفان من الأعمدة الخشبية الداكنة التي ترتكز عليها عضلات القباب، وعلى الجدران تستقر أقواسا ثلاثية الفصوص ، وللاعمدة تيجان تزدان بأوراق شوكة اليهود، وفي رصفة الارض احجار قبور من بداية القرن التاسع عشر ترقد تحتها عظام الكهان والحراس، والسقف ذو المراوح المثلثة يفض صحاءفه الموشاة بأزهار الزنابق والعوسج ،
الزائرون والزاءرات يزحمون بالاكتاف، والدليل يستحث بصوته الجهوري ونكاته الثقيلة إخلاء المكان لافواج القادمين،
فصعدت وصاحبي النوبي متبرما، السلم اللولبي الضيق الذي يعلو الى الكابلة العليا0
اي جو عجيب يفيض بالنور في هذا المكان الساحر،فيض من الألوان والأضواء والشمس المتألقة تتلاعب أشعتها بالألواح الزجاجية لتضفي عليها زرقة عميقة ، أين ثم أين هم المتقون ليدخلوا الجنة التي حلموا بها وهم بعد احياء في هذه الدنيا،
نفسي تفر مني، ودموعي تنعقد لؤلؤا منثورا في بحر الخيال الذهبي هذا، ورفيقي غاءر العينين واجم الوجه يتمتم بشفتيه أية الحبور والسرور التي تلاها ألفونس لامارتين في شارتر عندما كان يناجي تمثال رودان واستغرق في مناجته تلك حتى غني عليه.
الكابلة العليا لا جدران لها، بل نوافذ عالية متوالية تشغل الصحن بشكل كامل ، وتتركب من زجاج ، والزجاج من قطع صغيرة من الزجاج الملون المقطع حسب نماذج متصل بخيوط من الرصاص الغليظ، وكلها تمثل مناظر محاطة بأنواع مشدودة في مسلح من الحديد متنوع الأشكال، والأساس اللوني فيها جميعا هو الأزرق، اما الموضوعات التي رسمت على هذه النوافذ فقد تعاورتها ثلاثة ألوان بسيطة هي الأحمر والازرق والأصفر، ثم خمسة ألوان مركبة اثنان لازورديان، واثنان اخضران ، والابيض المخضر0وفي البهو المستطيل ترحض من عينيك الدهشة وانت تتأمل حزم الأعمدة السامقة المرهفة تتواثب دفعة واحدة الى القباب ، ويستند الى الأعمدة تماثيل تنهض على قوائم ملطخة ذات نحت ورقي، ثم رحت أتأمل موضوعات الألواح الزجاجية فالنافذة الاساسية في المِحْراب رسم عليها اهم حدث في المسيحية عذاب المسيح وقيامته،وفي النوافذ المجاورة تتوالى الرسوم عن حياة العذراء وسيرة يوحنا ويحى الذي عمد المسيح ، وفي الجهة المقابلة صور للأنبياء الأربعة الكبار في العهد القديم اشعياء وحزقيال وارمياء ودانيال، وفي جهة الشمال سيرة آدم وحواء ، ونوح وسيفنته، ويعقوب وموسى، ويوشع وشمشون، وفي الجنوب سيرة طوبيا وايوب وداود وسليمان ، والرسم الذي ياسر الناظر مع كل ذلك هو موت البتول، التي وقف بين يدي جثمانها الْحَوَاريون ، ثم الملكان اللذان جاءا ليصعدا بروحها الى العرش، وفي أثرهما صفوف من الملاءكة أتوا يستخلصون بدنها الطاهر من القبر، وعلى وجوه الحواريون جميعا مسحة الحزن وفي مساحة ضيقة من القوس المنكسر الى أسفل ترى الابن الصغير وهو يتوج الام وهي تجلس عن يمينه ناعمة بالحضرة الابدية، وفي الباب الى الغرب يجلس القديس يوحنا الحبيب ذو التدين المشبوب والخيال المنطلق وصاحب الإنجيل الرابع، يجثو على ركبتيه عند قدمي العذراء، ومجامر البخور يحملها عدد من الحواريون فوق الجثمان المقدس ، وملكان احاطت بهما هالاتان من النور يحملان روح العذراء الى السماء، وروحها على هيئة طفل صغير مدثر بإقماطه وسرابيله.
وما ان ندع البهو قليلا الى الوراء، حتى نشاهد البرج الوحيد في كمال جلاله ورونقه ، أقيم على مرتفع هين من الصخر الداكن، على شكل طابقين، الاول قفص مثمن ضخم ولكنه ينطلق برشاقة بحيث لا يتردد لك الحس بثقل الحجارة التي تكونه، والطابق الثاني هرمي ذو أربعة أسطح ، وشى بزركشة وفيرة من رقائق الحجر الأملس، وثمة سهم يتصاعد بحدة من أسفل البرج الى أعلاه، هو أشبه بصرخة حادة تعزف بها كمان العشق الالهي المتقد الإحساس .
ان الجواهر الشفافة وحدها هي القادرة على المكث في هذا الدير ، وما انا منها في شيء، الان فهمت لماذا يعتزل الناس من شاركوا في تسابيح الروح، ولماذا امتلاءت نفوسهم بالصفاء البهي ، وعقولهم بالخيال الخصب .!
الذي ابتنى هذا الدير هو القديس ماركمان العامر القلب بالتقوى والزهد، كان ذلك في بدايات القرن التاسع عشر وهو اول دير يبنى في نيوزلندا بهذه الروعة والفخامة، وقد استقدم اليه عشرات المهندسين من لندن وروما وباريس ليقيموا هذه التحفة المعمارية الخالدة على هذا المرتفع الأشم. ولبناء الدير في هذه المنطقة التى كانت تخلوا تماما من السكان قصة طويلة وطريفة، كما انها بالغة الدلالة والهدف من امر احتلال هذا البلد من قبل الإنجليز والصراع الذي احتدم في هذا الوقت بالذات بين اليسوعيون والأنجليكان والكاثوليك حول مسالة التنصير للسكان الأصلين ( الماوريون ) ساءرويها في موضع اخر
رحلتي الى دير جون سانتا في هضاب هستن
الجزء الثاني
لقد قضينا وقتا عامرا بألوان شتى من الأحاسيس الغريبة المتناقضة في هذا المكان الذي كنت أزور لنفسي زيارته منذ وقت بعيد، وما ان هل المساء، حتى سرت وصاحبي بين الغابات الوثيرة فأطلنا السير . وسالت بأعناق أحاديثنا تلك المناظر الفاتنة في الدير، وسير القديسين والقديسات الذين قضوا حياتهم هنا، ولم يبق من ذكراهم شاهدا الا النواويس التي تقف شاخصة على قبورهم الحجرية ، وبعض آيات خطت الى جانب الصحن من اقوالهم وحكمهم التي سرت في هذه المدينة بين الناس مسير الأمثال .
كانت الشمس توءذن بالمغيب والضفادع تنق في الجداول ، والزنابير تطن بين الكروم المترامية على سفوح الروابي حيث الخماءل الظليلة تتراقص كلما تلاعب بها نسيم الغروب، ونحن نغذ السير نزلا الى مدينة هستن .
قلت لصاحبي النوبي محاولا دفعه للحديث بعد صمته الطويل : اما تذكر يوم قال ربك اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدو، ها نحن نهبط هذا المنحدر لكن من الفردوس الى النعيم المقيم ، من هنا وهناك ابتدات الخليقة بدأت في المنفى ،وأنت، يا من تموت مراراً وما يزال في فمك طعم الدخان، أما شبعت موتاً وصمتا ؟
قلت له أما اكتفيت تجوالاً من حانة تقرض ببطء عنان ذاكرتك المثخنة بالجراح ، إلى مدينة تصادر أحلامك وأوهامك إلى غرفة ترفع فيها قبضتك مهدّداً ثم تخرّ باكياً كل مساء ؟
أبسط لي صدرك الرخو ياصاحبي ، لانبش وشم تجربة الحياة لديك وغياهب ايامك وحاضر حلمك والغاز سفرك الداءم،
ماذا صنعت بدم غربتك يا غريب الحياة والأطوار والنهاية ؟ قال لي وقد بلغ به الاسى حده ،انا لازلت أقرع الضاحية الرطبة، شبه المهجورة، بكعب حذائي فيما أستنشق مخموراً بوح المسافة بين الله والنَّاس، انا مثل الكائنات الليلة التي تتسلل زاحفة من الفوهات لتحرق غفوة الناس وتسعّر لهم جهنم ، ومثل رذاذ المطر وهو ينقر رخام هذا الدير المستوحد ديرك الذي ضربنا له أكبادنا مسيرة يوم وليلة ، ومثل عازف الكمان المصاب بالربو، وهو ينشج مع الفرقة قبل قليل ، انا هو هذي الطريق المتورّمة من اثر المسير تزمجر تحت خطواتنا .خباءت القشعريرة التي نمت تحت ياقتي من اثر ثورته واحتميت بجدران كانت ترخي أسمالها المكسوة وتدفعني نحو سرور التحرش به على هذا النحو ، انقضت كوامن روحي كلما توغلت في خميرة المساء وكلما راحت الشمس تدنو من مغيبها.ولما ان بلغتُ مرفأ الشقراوات في هذه الجزيرة اللواتي سوف يقتلنني تحت سقف اله التمائم هذا .
علمت يا صاحبي انك حينها سأكون جثة مجهولة الهوية في مشرحة الوهم ، قال : عندها أفتح عيني، وأحلم بشخص غامض هو انت يطل في وجهي فيتعرّف عليّ ويعانقني منتحباً باكيا ، لكنه سيصنع لي اجنحة لأعود إلى بلادي التي أهرب منها ثانية فأبحر صوب شطآن لا تصون رؤاي ولا اجد فيها صديقا مجنونا مثلك، وسوف أصل الى مرفأ الشقراوات اللواتي يتجمهرن حولي يلثمن أنحائي، ويبللن صدري بالدمع مرة ثانية وثالثة ، وسوف يأخذنني إلى حدائق فيروزية محروسة بأزهار اللوتس، حيث أضطجع في مخدع من البهاء، اليك راحتي -التي رفعهما في وجهي- صاءحا اما تراهما تشفّ عن دمعتي الحزينة ونفسي المليئة بالفتن واللايقين، انا لا أحلم براهبات مصلوبات في فضاء ديرك هذا،او آلهة معجونة بالذهب والزمرد، او رسلا أوفدتهم العصور الحجرية كي يقتلوا كل موهبة ويقطعوا راس كل مفكر حر، ثم نحملهم على محفّة الخيال، ملطخين جدار التاريخ بالدم السفوح، انانظر لهذه العذراوات كيف يجهشن مضرّجات بالحنان ،الحلم ظل للأشياء التي لا تُرى لديهن ، وهن الغارقات في بحور الفتنة ، ولا تساءلني بعد كيف ايقضتني الحواس من هذا التداعي الذي يسمونه العقل، فشرعت روحي لكل الاحابيل، والأعنف التجارب كي أصير الى ما انا عليه وله .
اي سرور يملاء جوانحي فوق هذه الروابي التي تتصاعد حتى السماوات ، وكنت اتواثب فرحا بهذه العيد الحافل بعناصر الطبيعة، اقتطف الغصون الناتءة على طول الطريق، واتلاعب بالحصى واشتم اريج التقوى من الدير المتوحد كلما اشحت ببصري نحوه ، مرددا ما وسعني حفظه من الأناشيد الدينية المؤثرة التي برع في انشادها الحشد الممتاز من النسوة وهن يتلون صلاتهن هناك ، وكنا قد قضينا وقتا هانءا بالاستماع لهن .
وما ان وصلنا الى هستن، المدينة التي يحتضنها البحر من جهاتها الثلاث، حتى كان الليل قد اطبق بكله عليها وكساها بمسوح مثل مسوح الرهبان، وكانت جموع متواصلة من المارة تسير في رقة وتخطر في دلال وتيه ، فما يبدهك الا عيون الفتيات النجل السود والزرق، وشعور كستناءية او موشاة جفل ومسترسلة، وخدود متوردة علتها نضرة النعيم ، وبشرات ناعمة بضة تتفتح في براعمها البكارة والطهارة وابتسامات بريءة من كل عيب، لا لعوب ولا متكارهة او مصطنعة، بل تنبع من باطن زاخر بالجمال لغادات تند منهن رعدة الحياة الخصبة المليئة بالحب والحنان والزهو، وما ان التفت يمنة او يسرة ، حتى اسمع وجيب قلبي يصرخ باحداهن قائلا رويدك ايتها الحسناء، دعي عيوني تمتلىء بمفتنك الغر البهي، والفتاة تخطر في أنسها ورشاقتها وفرحها لا تلوي على شيء في موكب من سحر الليل والمدينة، وهمس الامواج التي تتراقص على حفافي الشاطئ ، وحفيف الأشجار المتناثرة في كل ركن وزاوية ودرب، فلا تكاد تحدق في هذه حتى تبدهك اخرى جمعت مفاتن اخرى ، فوج يلي فوج وركب من الحسن يتلوه ركب ، فعدت الى نفسي اضرب بقدم الحسرة واتمتم لخاطري مواسيا، وَيْل نفسي وويلي على ايام صباي ومغاني شبابي، التي قضيتها ارعى الغنم في هضاب ناعور الجافة الممحلة القاحلة التي لا ينبت فيها غير شجر البلان وشوك الغيصلان ، ووديانها الخرساء التي ينعق بها ولا يرتع فيها الا ابن اوى والكلاب الضالة، وحيث لا ثم عاصم من امر مجتمع قروي متخلف يرتع فيه الجهل والقبح وكل ما انحط من اخلاق الناس واتضع من سلوكهم ، في قرية يشقى بها الناس، كلهم ساخط، يموتون ولا يدرون لماذا تعذبوا ، ولا تلفي احدهم الا وتجد تلك التقطيبة الباءسة تعلوا جبينه ، ولات حين شفاء، من قلوبهم يتدفق ينبوع الماساة والحزن، عقولهم تخلولق يوما اثر يوم، وايادهم تهرم في وقت بالغ التبكير، فيهم يقبع الموت ويتخلل مسام جلودهم، يدبون في الحياة دبيب الأموات، لا يولون وجهوهم الا شطر القبور، حتى ثقافتهم ان جاز لي سميتها ثقافة القبور، فلا يعنيهم من الحياة مستقبل او حاضر ، بل الماضي والتراث الميت وكلما أعزبهم امر استخرجوا جثة هامدة من مدافنهم الباءسة وتقاليدهم العفنة وأسالوا عليها مساحيق التجميل ثم استكانوا لها وطوفوا حولها ورفعوا عقاءرهم بها ليسكتوا كل رايء يختلف اليهم او يختلف معهم .
نهايتهم مبكرة تلك التي جعلوها سفرا ممجدا الى الله، ومع ان نهايتهم تلك تجعل موتهم بمثابة اجهاض، فلا يلدون على فراش الحشرجة الا مسخا، مسخا ميتا، لموتهم الحق ، لذا يخرج الجنين يتلوى بعضه على بعض كالحلزون، يستر جفنيه بيديه كاءن شبحا رهيبا يتهدده ، وعلى جبين هذا المسخ الوليد ترتسم علائم الجزع والقنوط .
ما كرهت شيءا كرهي لهذا العجز والاستسلام والانقياد الأعمى لفكر مات واندثر وتقاليد باءسة وأعراف لازال الناس متمسكين بها، لا لشيء الا لكونها على ما يبدو ويظهر، تشعرهم بوجودهم وتمنحهم الإحساس باءنهم هنا وهناك احياء يدبون على هذه الارض .
لكن مالي ولهذه الخواطر السود من امر حماقات هذه القرية واهلها.
قطعنا الطريق الدائري وسط المدينة ، كانت وجهتنا الى مهد باب الشمس وهو احد اهم الأماكن التي يمكن للمرء ان يجد فيها السلوى والهدوء ، والطعام الفخم والشراب اللذيذ، وفي صدر المطعم مسرح تقام عليه حفلات الرقص والغناء والموسيقى، فاءي أنس وراحة بال وجسد، بعد يوم مضني، التزمت وصديق احدى الزوايا المشرفة تماما على المسرح ، وهو بهو واسع امتلىء عن بكرة أبية بالات الموسيقى المختلفة التي اتخذت شكل قوس من ثلاثة صفوف ، وانا وصاحبي مولعان بالموسيقى الرفيعة لموتسارت وبتهوفن وفجنر وباخ، وهم آلهتنا في عالم الصوت الرنان، ومنينا أنفسنا علنا نحظى هذه الأمسية بسماع واحدة من الاعمال الخالدة لاءي من هؤلاء العمالقة ، لكن خاب ظننا فقد تأخرنا كثيرا وكانت قد انتهت للتو الفرقة من عزفها للسمفونية التاسعة لبيتهوفن ،وكانت خسارة وأي خسارة لنا، وبتهوفن في هذا العمل الجبار ياسر الروح ويشيع فيها الأمل والتحدي والكبرياء خاصة في الشطر الثالث الذي يمجد فيه بروميثيوس اله الشياطين او شيطان الآلهة، وكم أزعجني الشاعر الألماني الكبير شيلر الذي الف المقطع الشعري الإيماني والذي احتفلت به الكنائس ايما احتفال وراحت تردده جوقاتها بغير فهم او وعي خصوصا مع هذا المقطع ( يا اخوتي فوق السماوات الزرقاءالمزدانة بالنجوم من المؤكد انه يوجد هناك أب حبيب يهفو إليكم بقلبه وعيناه تبسمان ) ثم وللاسف تحول هذا المقطع الى ثيمة استعادها تشايكوفسكي في سيمفونيته الرابعة، وبرامز في سيمفونيته الاولى وفاغنر في أعماله المبكرة، لكن بيتهوفن على امتداد هذه السمفونيه يذهب بك الى حالة من التتابع الشعوري لقدر يهاجم الانسان وانسان يتحدى القدر ، ينتصر الشاب في البداية ثم يقصف القدر عمره في النهاية ، ولطالما تمثلت بيتهوفن على نحو ذلك الشريد الوحيد في ليل عميق نفرت منه الافاق ، فاستشعر ان كل ما في الوجود يحتوشه ثم يستحيل لحنا، وخزته شائعة الالم ثم راح الالم يتعمق حتى حرر نفسه بالنهاية وأحالها لهذه الحساسية المشبوبة .
أعد المسرح بعازفيه بعد ذلك لغادة سمراء في الثلاثين من عمرها ،وفي سمرتها جاذبية تهز المشاعر هزا عنيفا، لعوب وفي تلعابها ما يكسر وقار الحليم ، مجدولة البدن،لها نظرة تتواثب من خلالها أشعة الفجر ، سوداء العيون الواسعةالبعيدة الغور، كأنها البحر المحيط، وقد احاطت براءسها المستدير غداءر قصيرة تلمع كما تلمع الفحمة البراقة في قوس (فولتا) ، وكاءني بها تستمد من شعرها قوة تسري في كل خلايا بدنها .
أقبلت ترقص وفي كفيها صناجتاها، وراحت تكشف عن ساقين مرمرين تتحلب منهما الشهوة الفاغمة وعبثا حاول فستانها الطويل الأبيض المرقش بالازاهر السوداء، ان يرد العيون عن هذه الفتنة المتجسدة، فما طال فستانها الا ليستطل ساقيها فيستطيل الاغراء، وراحت توقظ كوامن الفتنة بأهدابها المسترخية، ونظراتها الشبقة المذعورة من فرط هياجها، كل هذا على توقيع متقطع من صناجتين ترنان رنين البِلوّر.
وفي هذا الموكب المشبوب بمفاتن بدنها الناعم غنت أولى مقطوعاتها بعنوان الفتاة البغوم في أحسن ترجماتها، ثم غنت أغنية ماريا فيكتوريا على لحن الباسو الراقص، ثم أغنية على الشاطئ المهجور وهنا تبدت عن كل مفاتنها وروعتها ودلالها في إشارتها ونظراتها وحركات قوامها فأضفت على اللحن اطارا بديعا من الجمال وكأنها نفخت فيه من روحها فبدى اكثر سحرا ونعومة وصفاء وجلالا ورونقا ، ثم أغنية تلي أغنية في سياق متغير أبدا كان تكاءة للتنويع ولانتقال وأنهت احتفالها وباحتفالنا بها بأغنية مراثي العشق وكان القوم سكارى وما هم بالسكارى يدعونها من فرط فتنتهم الى اعادة هذه الاغنية ، وأجمل ما في فيها المقطع الأخير :
يال اشجان الشهوة والوجد،وشجون قلبي المتقد
يال مخارف الأشجار والنور الهزيل على الأفنان
وهذا النبع الزاهي يهمس في الأفق البعيد
في شفتيك دفء العطر وبوح النجوم
وأريج الشهوة
وفي انكسار عينييك اللعوب مهد لكل ماكان وما يكون
حبك يأخذني الى حافة الخلود ، الى نعمى المترفين حيث يتفتح برعم الشمس
خذني الى ينبوعك القاني كيما ازكوه بعبير يصاعد من قلبي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غرقُ مطارِ -دبي- بمياهِ الأمطارِ يتصدرُ الترند • فرانس 24 /


.. واقعة تفوق الخيال.. برازيلية تصطحب جثة عمها المتوفى إلى مصرف




.. حكايات ناجين من -مقبرة المتوسط-


.. نتنياهو يرفض الدعوات الغربية للتهدئة مع إيران.. وواشنطن مستع




.. مصادر يمنية: الحوثيون يستحدثون 20 معسكرا لتجنيد مقاتلين جدد