الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بقايا مدينة وآثار صلاة لم تكتمل

تيسير الفارس العفيشات

2017 / 5 / 9
الادب والفن



مدينة الرب كرايس جيرش، هذه المدينة التي زرتها قبل أيام، أحفن لكم حفنة من بقايا رمادها أرفعه الى شفاهكم، لكن حذار أن تقبلوه أو تلمسوه حتى بأناملكم فلا زالت أنفاس طرية تختلج قلبه وتئن في رئتيه ، ثم عليكم أن تتفادوا النظر اليه فهو بقايا أجساد مهشمة وأرواح متكسرة وأنفاس لا تني تلهث .. هي مدينة مثل رنين روح جريحة، اصعد إليها بجناح من خيال، على شفير الأحلام أواعدها، هي مدينة أكثر علوا من الكلام، وأكثر عمقا من الصمت، لحجرها عيون تسكب دموعها الحارة على الملاء الغادين إليها في كل آن، دموع تمسح الغبار الشفيف الذي يتساقط من الورد على وجناتها .. آن أن يصير الحجر درجا يثب الى أعلى حيث بابها الحجري، الذي عليك أن تطرقه لتدخل أكنافها بسلام متبتلا في جنباتها مصليا لقلبها الرحيم .. هي مدينة الرب في هذا البلد المثقل كثيرا بربه. كان عليّ أن أزورها بعد ستة أشهر من دمارها ساعة ضربها زلزال عنيف في ضحوة يوم كئيب ثم صار شاهدها الوحيد.. ليتني لم أقترف هذه الفعلة الحرام، لكنها لذة البحث في المكامن الخطرة مقرونة بشوق مؤجل صار مثل الخراب في قلب كسير جرحه سؤال الرجاء .. الرب يضرب مدينته بقسوة ..ما المعنى الخفي هنا ؟ لكن مالذي يعنيه أن نسأل ؟

وما جدوى أن نسأل إذا جاز لنا أن نسأل ؟ فالرب لا يُسأل عما يفعل .. وفي كل ما يفعل له حكمة وفي كل حكمة تختفي إرادة مطلقة والارادة المطلقة خير أسمى ولأنها خير أسمى فهي حب مطلق والحب المطلق شوق تنحل معه معاني الخير والشر ليختفي الخط الفاصل بينهما ثم تنعدم الحدود وهنا يبدو أن الرب لا يفعل سوى الخير لأنه خير مطلق .. لكن أي خير في هذا الخراب ؟ ولم كان على المعنى أن يختفي ويصبح السؤال عنه إثم ؟ كانت زيارة إذن الى ملاوة النعيم ومهاوي الجحيم وسياحة أثناء غروب منذر بليل وفاجعة . هذا نص أكتبه بمداد من دم هذه المدينة على صفحات روحها الناصعة.. نص لا سبيل الى تفاديه لأنه لا معنى لتفاديه .

ما أن تحط رحلك في مدينة النور والحبور حتى تلقاك غادة من غواديها تمد إليك كفيها تحتضنك بفرح، على صدرها تنسدلُ سماؤها القرمزية، ومن وجنتيها يتواثب واديها الفريد الشهيد، والغابات المتصلة بنوافذ السماء ومشارق الشمس، تهتف لك بفرح يتراقص على شفتيها، تلمح في عينيها أفقا يغري بالذهاب إليه، في صدرها دروبا تأخذك الى هنا وهناك ، فتقاطر حواليك أسراب رهيفة من البلوّشن الزاهي، تدسّ مناقيرها في ثنيات قميصك، تخدش جبينك بحنان مخالبها وبين كتفيك تبني جسوراً من البِلوّر ، تخوض في واد وثير من الزنابق الحالمة، فيما الشوق الغريب حد الوحشة يطغى على مقلتيك، يأخذك إلى حيث هفيف أجراس وأنغام و مطر خفيف يرش عطره حواليك في جنبات روحك .

وقبل أن تصحو من النثار الجميل الذي يغمر قلبك، تبدأك الفتاة بحديث الزلال، تقص عليك في أثناءه سيرة مدينتها على نحو مدهش...هي مدينة تناثرت من السماء وغفت مُذ ذاك على أيقونة من نغم الملاءكة والجن ، ترفعها التراتيل في بهو من السحر والخيال ،الى مجاهل اللانهاية حتى تصير نشيجا عذبا في سعتها فتتراقص النجوم والأفلاك على وقع ذياك النشيج الساحر الخلاّب . لا عليك من حزنها الشفيف الذي يقول كل شيء ، و تشبث بالوميض الذي يتوهج حينا، ثم يخبو ثم يتوهج ، لا تدع عينيك ترنوان بعيداً.. صوب أفق لن تدرك كنهه، هو مدى لا يُحد، هو مدى سيغفو بعد أن تدثر بالصمت ، وتوسّد على اطراف الزمن، تصمت الفتاة وتصير مثل حلم يغزوك قبل النعاس

أدرت وجهي إليها وتساءلت ....من أين جاءت هذه النساءم تتراكض كأشعة رهبة خفية، موغلة مثل الحقيقة، كأنها انبثقت من مفازات قلب جريح أثقله البحث عن الحقيقة في متاهات الوجود والعدم، وسوءال الشك واليقين ،انسابت من عينها ابتسامة تقول ها إنا ذَا مشرعة النوافذ التي لا تجلو عن النهايات ،أطل على السرير القصي حيث الأماني ليست غير الشك والريبة والرحيل والغياب، .. سألتك بافتراض..وانت التي طوًفتـ في ليل الرواية أما يزال طعم النبع الدافق يدلف من عينيك بعد كل هذه الجروح التي تمثلتها ؟ بعد اليوم لن تختزن روحك سوى النأي والأسى والجزع على ضياع الناس، عليك بعد هذا أن لا تتضرّعي إلى سيد الماء ليدفق قطرة الحياة من قلبك، كوني إذن كما تشاءين كوني لغة غير لغة المودة والاسى غير لغة المعنى، ومعنى المعنى، فمن أخافك .. من أخافك .. ؟حتى صرت هكذا توزّعين أحلامك كالوشيعة في حدود هذا الكون، كيف صرت أملا ومتكأ للأمل وانت التي عقدت اصابعها وشابكت أغصانها وفكت الرباط الأسود عن رأسها ثم قالت لنا هذا هو البيرق آن له أن يهوي، قالت هذا وأعطت أكتافها لنسائم البحراللجي، قالت لنا أوما ترون كأن الأرض صلصالها دمٌ يقطر دما ، ودمعك كلامٌ يرتدي عادة المحو التي علمنا إياها بروميثيوس ، .. كانت تضاريس الزمن المتعب تصهل من بعيد كيف من أين أتينا أين تركنا نساءم الذكرى؟ ولما هذه النجوم القصية مكتنزة بالأحلام وذكرى أشباحنا ومساقط أوهامنا ؟ من جعلنا صورا مكتظة بالأسى ؟ والجنون الذي ينز من أطراف الجلجلة ، من تلك الدروب التي أدمتها خطى المسيح . من سيحمل هودجنا عندما لا يحين وقتنا ..؟ هل هذه درب الآلام أم درب هزيمتنا الوجودية ؟ ايها السيدة القادمة من بوح الليل تتأتى مع كل انكساراتنا مثل صرخة تعلو الى الرب المحب .. هذا دمنا المسفوح منذورا للهدر لكن خذي بقايانا ارتقي بها ركب كلماتك الجريحة.

وتترك الفتاة لك لذة المرور في مدينتها على غير هدأة أو اتجاه . هذه بيوت ليست من حجارة. هي شجر هارب مثل أفق الله الذي لا تسعه العيون، بيوت مفتوحة نوافذها على بهو الروح، يلهو الهواء بها، تتراكض نحو الغيم، وترقص على وقع الرذاذ الشفيف، وتشهق بنسيمه، بيوت لها لغات تحاورها الأعماق ، ثم يستجيب لها نزف العاشقين، وواديها شاسع شاهق مؤثث من تراتيل العذارى و صلاة العجائز ودموع الشعراء وحزن الكهنة ، كأنه في هدأة الهيمنة والثواني الأخيرة قبل فجأة التوقع، كشهقة الوليد ، تصّلُ أمواهه من الأعالي، مثل عطر يجول في الروح ويتراكض في القلب، مزدان كهوادج الغاديات في مواكب الغيم ..يشف ماسه مثل النور، الوقت دربه المفتوحة السارية بين الوهاد، وخاتمته عبير مجنون في شاطىء اللازورد البهي ، ينثني هناك ويتلوى ، كأنه هارب من صدى هائل لا تسعه السماء، ماؤه تهدل من فم صخرة عاتيه تربعت على الركن القصي لذروة جبل اشم يسمونه شيخ المدينة وأحيانا حارسها ، ماوءه مثل المساء المجروح، يسوقه غيم البحر، هو ياقوتة روح منذورة لهذه المدينة، ثم لا عليك إلا أن تستحم بعبيره قبل أن يترنح جذلا في بحيرة أسكرها الجمال .

تعالت الآلهة .. نجتاز الأبعاد، ونعبر فوق إيقاعات الطبيعة، الأرض مسفوحة بين قدمي، أصير تخومها دونما وجل،أوغل في رئة زمنها، رويداً .. رويدا.. اشرب الصوت من صداهاالقادم كالشوق على محفة من اثيرها ..هنا التضاريس تهبك عتباتها وتحنو عليك ، وقطرات الندى تمسك برداءك زمنك التالف، تقودك كطفل ضل دربه، وأنا القادم أحمل معولي كي لا يصير دليلي الماء والحصى والبوح المنفلت من كنائسها على غير هدأة، على عجل امشي أهرق بدني ، أرهق الوقت حين تغادرني المسافات في المساء، وكي لا أغفو على حلم يرزح تحت أثقال الرؤى..... تمتد حقول العنب من قمم الهضاب حتى الشواطئ، حيث ينثر البحر زبده الوثير على العناقيد المدلاة مثل قلاءد الذهب، ومن بين الدروب المتعرّجة بين المنازل تنسل أشجارالكيوي والبرتقال والليمون والتفاح لتظلل الساحات والصبايا ....

فندق عائم على الماء اللجج، موغل في النوم لحظة أن أرسل الليل قناديله السوداء لتسرق كما هي العادة صخب النهار، الكل هجعوا، غافين الى حلم تتعدّد صوره واشكاله .. وما أن دلفت الى ساحه ، حتى أُخذتُ بأسراب من شجر الآجاص، وثمره الذي يتلألأ تحت ملمس أنامل القمر يتدلى .. كأثداء عذراوات إستحممن لتوهن في منهل عذب ونبع من ياسمين ، حيث بزغ نصفهن الأعلى منتشياً بالعبير ورحيق الليل وعزف النجوم ... مددت يدي لأقطف واحدة منهن فجفلت أصابعي. الغيوم التي تذرع الأفق ، تبدو كعناقيد أرجوانية دحرجتها الرياح العابثة في كل اتجاه هي أيضاً أخلدت للغفوة ولم تفزع حال يعبث بسكينتها هسيس البحر، ولا بتلك الترانيم الخافتة التي تطلقها في الأنحاء جوقة الكهول السكارى ،هذه مدينة أباحت جسدها للعابرين وغفت. هي ساعة متأخرة من ليالي الصيف، ويطيب للصيف أن يبتكر الليل يدثره بكوامن قلبه ويمنحه الشمس القليلة، يرسمها مثل قبلة في شفتيه.. حجارتها تثمر نبيذا الرب في كرمة تجنح بالخيال.. كطائر الكيوي يحمل ريشه الليل كالكتائب القادمة من الخرائط أخلاطا، يتلمس مكامن الزهر ورحيق الورد .. والكيوي طائر ليلي يكثر هنا تهجهج أغانية في هودج الليل يغتصب هدوءه ويسكر بخمره .

اهبطي يا مريم واجلسي أيتها العذراء على التراب الأحمر القاني، اجلسي على الأرض بلا عرش وتاج ، وبلا عطر وشذى، وبلا دموع ، خذي الرّحى واطحني الصخر دقيقاً لبنيك، اكشفي نقابك شمّري ثوبك، اكشفي عن ساقيك الرخاميتين، واحفني من الماء البكر في الوادي اللجوج حفنة من عبير، رشيها فوق الكنائس في مدينة الرب .. لا تجلسي صامتة تحدقين في الظلام.. أنت امرأءة مثل هذه المدينة تهندس العتمة على شكل أنشوطة تعلقها في هيكل يجس التراب بأنامله ... تسرحين في أبهة الحلم، لاهية عارية تسوقين بضفيرتيك قطيعاً من النُعاج و سرباً من طائر النورس، وبأناملك الموشّاة باليشْب، تحفرين آبار الشهوة، تتقافز أمواهها من نافورات رخامية في غمرة وابتهاج، حتى صرت كشحوب الجبل الذي بدا كمن يحتضر، ثم أمعنت في اللهو عابثة متخمة شقية ، حيناً تدغدغين لُحاء السوسنات العتيقة ، وحيناً تلوّحين كزفرة الطبيعة لتستدعي تلك الغيوم الملوّنة التي تمشي خببا في الأفق الموشى، كزائرات متشحات بروح البحر، ينفثن أقواس الشهوة ، ويمرقن بخفة فوق أدراج الريح. أيتها السيدة إذن هذه هي مدينتك التي باءت بآثامها .. كيف يمكن لهذه المدينة المتدثرة بالنهار والليل والشفاعة أن ترتاب أو تستنطق المكامن كل ساعة، لتعرف كيف يمكن أن تلحظ شحوب الوقت ؟ لو أنك استدرتي قليلاً ورفعت رأسك نحو ذروة الجبل، لأبصرت لهب ينهب الليل، ينهش مفازات اللحن، لهب يهطل على الرؤوس المذعورة، مثل سنابل تُقتلع من التربة وتطير في الهواء مشتعلة .
لو أنك رأيت مثلي الراهبات يخطرن كسيرات الروح والقلب ، من شروفات أعينهن ارى مهدوهن، ابصر غيابهن يلهجن بالدعاء الى الرب .. يا ربنا الرحيم فليكن الرحيل سفرا قصيرا لا فراقا ابديا...
في الركن المهجور من كنيسة الأم تيريزا.. راهبة تذرع الليل وحيدة بيدها شمعة تتلوى كلما داعبها النسيم، راهبة لا تهجع مثلما تفعل رفيقاتها .. من يراها يحسب أنها حارسة المدينة، لقد هجرها النوم وباتت تسامر الأرق كمن تتهيأ حضور روح القدس. هجرها النعاس وباتت تسامر الأرق حتى ضجرت....
مر طائر فوقها فرفعت رأسها لكنه كان قد ذرع الآفق مخلّفاً وراءه قوسا فضياً سرعان ما تلاشى، دنت من شجرة تتقلّد الأجراس نهاراً وفي الليل كانت تتوّج أغصانها بالفرح رغبةً في التمويه، جلست الى جانبها ووضعت الشمعة بقربها، ثم أسندت ظهرها إلى الجذع المرشوش بالأبيض. كانت تطرّز بخصلاتها كوخاً للنبوءات تسكن فيه، كانت النبوءات مجنحة ولا أحد يدري دروبها لهذا لا تستطيع أن تعلم بما سيحدث في آخر الليل، إنطفأت الشمعة وخلعت السنديانة قميص رغبتها، قيل لي كانت نائمة في حضن السهل حين باغتتها طعنات القدر، قيل لي أنها حلمت بموتها فاستغاثت بالرب ، ما كان على الرب أن يمسح بشعرها ويهدأ من روعها، قيل لي إنها هبّت مذعورة وخلعت قلبها، لم تكن تدري أن قلبها شفاف كالضوء رقيق كالنسيم . قيل لي أنها مجزرة تألّهت فيها حراب الليل ، يال قدرها.. بحثت عن شمعتها تحسستها بأصابعها لم تجدها، لملمت ثوبها المرتّق بخيوط الدم. وترانيم الرب التقطت سبحتها ومضت حافية صوب البحر ، ألفت البحر ناضباً من الرحمة ، جلست إلى الشاطئ وبكت.

فجأة تتساقط السماء، تهتز تتزلزل الأرض، بروق من نار أرسلت جيوشها المسلّحة باللهب تضرب مدينة الرب بغير رحمة، لقد بداء الله حربه على هذه المدينة وساد الهرج. الأهالي يخرجون من بيوتهم مذعورين لا يعلمون أيان يذهبون، يركضون في كل اتجاه، طرقات تصرخ، ..جثث تتساقط في كل مكان، تتناثر العيون تقفز من محاجرها. تتلاطم في فوضى وارتباك، ترتطم بحافات البيوت.. عجوز مشلولة الساقين تزحف ، كهل يرتجف . أطفال تنثرهم الريح على الأرض صرعى وفي أفواههم الحليب. عجائز مثل صرر تتكور وما ثم إلا الغبار يملأ المكان ...... أيادٍ بيضاء متشابكة تفكها العواصف، كل يد تذهب في إتجاه مغاير، منازل تتهدل أحشاؤها ومع أحجارها يمكن تمييز الاشلاء، أشياء تهرب هنا وهناك، أشجار تتكسر وتنسكب عصارتها، عجوز يبكي يتقاطر من جبينه الرعب، يجلس على قارعة الطريق واضعاً رأسه بين كفّيه.. اشبه بمن يلملم أفكاره، سيدة تركض مفزوعة حاملة بين ذراعيها مخدّة تحسب أنها تحمل طفلها. أفراد يقفزون من اسطح شاهقة . لهب يحاصر طفلة، يندفع نحوها، رجل يخترق اللهب بجسارة اللهب يحرق وجهه، ساق مبتورة .. عين مرمية على الشارع كهل يلوح بعصاه عيناه جاحظتان، صبية لم تذق الحياة شقت نصفين راهبة محترقة الوجه لا زالت تظن بالله خيرا، فترفع صلواتها إليه، يد من عروق تخرج من بين الردم والغبار متوعدة . امراءة يندلق من بطنها المبقور جنين بلا رأس، جثث تتناثر في كل مكان، وما ثم إلا صلوات خرساء تطير في كل اتجاه، لقد فتح الجحيم أبوابه وانهمرت حمم بمجانية تفصح عن حقد هائل ..

عذارى راحت تتغرغر بها مداخل الكنائس المحطمة، تنوح كالفيض المنهمر، تنظر المدنية مثل إرتعاشات الموت تحت السنابك واحتدام الخشب والطين ساعة التميمة . يا ملك القناديل البيضاء ليستدر وجهك المشرق بلون الدم المسفوح الى هنا وابصر كيف باتت هذي الخطى تنتعل خفَّ الموت، وقد انحرفت عن عادة التسبيح إليك وهامت. كيف لك أن تهدها وتسهر على فجيعتها؟ من زفير الحقل شهقتك الأخيرة، فلملم أصداء هذا النوح واستدر لتراهم يخرجون الآن من ثغر الحلم ويتزاحمون أفواجاً عند باب الغموض، عند مضايق المنفى، بلا مذبح ولا اسرار ولا قس كاذب وكاهن يكرز بإسمك الميمون .. هذه المدينة ضاعت علاماتها فأضاءت جدائلها بالنور، لعل شرفات القمر تبصرها لعل الأجراس الذهبية تمد نحوها سبابتها وتدلّها على مواطئ قدميك في البحر الذي صار بلون الشفق ، الدروب تجري خائفة مذعورة خلف قنديك، من تركها وحيدة مع بكاء النساء، وهن يخرجن من نفق النوم كي يدخلن ألف المنفى ولم يبق لهن غير غبار مدينتهن التائه في الأقاصي .
أدر وجهك إن استطعت شطر عويل يعلو، لتبصر الصبايا المتخمات بالجروح يركضن في كل مكان .. يرتعشن كالأرض ويرتجفن كالسماء.

من أين جاءت هذه الآهات تتراكض مع الخوف خفية مثل الريح ، موغلة مثل الحقيقة. آهات بلا مرشد ولا نبي ، كأنها انبثقت للتو من مغارة زمن غابر، عيونها كالحزن تدمع..وافواهها تتبلع الآفاق . يا بنات الأقاصي التائهات أنا الأرض التي ترتاح لوقع أحلامكن، أتباهى بكن بصدوركن المطرزة بحبات الرمان، لكن من أين لك كل هذا الدم والأشلاء أيها الرب الغريب كل هذه الغربة التي نتأتها في حين المساءات الوسيعة حتى توشح بك الغروب ثم صرت أردانه تقطر كل هذا الوجع ...!!

تعالي أيتها الراهبة المضرّجة بدم الذبيحة وهلع أمك سيدت المخادع ، أيتها الخالدة مثل الشك والرحيل. لن تكوني منذ اليوم في مأمن من اللعنة أيتها الطريدة الجميلة. انسابت عيونهاتقول إني مفتوحة لك أبواباً ليس لسعتها أقاليم، ولا تجلو عن النهاية، أني مفتوحة أحراشاً ومهاوي ومساقط للرغبة . هل دلّك عليّ الطير أم شناشيل قلبي ..؟ أنا المفتوحة الشرفات على السرير القصي حيث ليس لأمانيك غير الشوك والريبة والشرك و الغياب، ترابي لك سجادة لكن لا نافذة للنهار يشرق منها الأمل .. سألتها أما يزال طعم النبع يعرّشُ عينيك بعد هذه الجروح ؟ بعد اليوم لن تشربي ماء ربك العذب المبارك، ولن تختزن أحداقك سوى النأي والأسى والجزع عليك بعد هذا أن لا تتضرّعي إلى سيد الماء ليدفق القطرة في كبدك اليابسة وكونك الجاف، كوني عبدة للطين لتتعلمي لغة الشر . فمن أخافك .. من أخافك .. ؟

يا هاربة من صيادٍ لا يرحم لم كان عليك أن تصيري هكذا توزّعين دماءك كالوشيعة في حدود خرائب الرب ؟ كيف تصيرين حائطاً للبكاء ومتكأ للأمل وانت رعونة من غبار كفزع الكمائن ؟ عقدت اصابعها وشابكت أغصانها وفكت الرباط الأسود عن رأسها ثم قالت هذا هو البيرق آن له أن يهوي، قالت وأعطت أكتافها لنسائم البحر.. أوما ترى كأن الأرض صلصالها دمٌ يقطر، ودمها كلامٌ يرتدي عادة التشفي، سحبنا أعضاءنا ليس تعباً لكن حزنا .. كانت التضاريس تصهل من بعيد كيف من أين أتينا أين تركنا وسادة الذكرى؟ ولما هذه الليلة مكتنزة بالأحلام ؟ من جعلنا صورا مكتظة بالأسى ؟ والجنون ينز من أطراف الجلجلة. من سيحمل هودجنا عندما لا يحين وقتنا ..؟ هل هذه درب الآلام أم دروب هزيمتنا ؟ ايها الرجل القادم من بوح الليل تتأتى مع كل انكساراتي وهزائمي صرخة تعلو الى الرب المحب .. هذا دمي تركته منذورا للهدر لكن خذ بقاياي ارتق بها ركب كلماتك واذا مرت يداك على صدري انتحب .. فلم يعد تيهي صخرا صلدا ولا نشيجيا اباهي به خطاي ...

يا دهشة المدينة أأنت جثة أم جنين ؟.. لما كان عليك أن تفزعي خيالا من مكامنه الوثيره ؟ أنت امرأة مترعة بروح أجراسها وثلُ كنائس وخرائب. كان لي أن أكون فاتحة الآلام للقلبك فالصحراء ما علمتني غدر الأماني . أمراة ترتدي قماش المسالك تُرضعُ الأقاصي كعيالها. امراءة فتحت دارها للغريب فضاقت حكاياها بالضجيج.. يوماً ستصير حكاياك خرافة مثل أحجار المدنية. تقبّل شفاعتها يا نبيذ المساء وافتح لها باب الحنين، لا بأس أن تغلق ردهة الفضاء لكن اكتب لها أن تغوي كل من أغواها .. وأنا غوايتك كل هذا الليل.. أيها السيدة الواثقة بعذاباتها.. ما ثم إلا لحظة تتقافز مثل الجنون .. بكتْ و تحوّلت و صارت تهياً يخوض فيه البحر وانا ارصد غفوتها، ألملم يقظتها اعبث بخيالها.. وحزنها مر المذاق لكنه فاتح للشهية. فرفقاً بهذه السيدة التي ترفل بالحرائق وأخلاط الجوع أيها الكامن في داخلي لا تفتح أقواسها ولاتدخل الى حرائقها ولا تهيل عليها المراثي، هي فتاة ليس لاسمها ترجمة وليس لمسيحها معنى .. وليس لحزنها قيد . لها أن تهوي الى الذاكرة فقط و أن ننزل الى قعر المسرات والرضى..

لنترك المدينة ترفل في ترف قتلاها وعذراواتها اللواتي يتكاسرن خارجات من جحيم الرب المزدهر، رأيتها تصير مثل الوردة عطرا .. يختلط برغوة الرماد . والجرار تتدافع في فراغ عينيها ، ليس في النصل إلا فسحة لزفرة الدم والدم يرسم قوساً من طرقات والطرقات تتقطر أقداماً تنهال في شُعب الأسماء، وكان الله يراني أدفق ماؤه في ياقاتهم ليتدفأوا، وأمسد كسرة خبز ليشبعوا، يراني أفتح خرقة في صلاةٍ أروي إسراء الروح في شهوة الجوع وهبوب العطش .. تراءى أمام عينيها من بعيد رواقاً فسيح الأرجاء يفضي إلى مدخل له نافذة، والنافذة مفتوحة على قاع مبسوط بالأصفر، للقاع ثلاث قباب كل قبة تعلو الأخرى فلا تكاد العين أن تلمس باطن السقف، وعند نهاية القبة تتمدد بركة تفيض نبيذا، وخلف القبة من الجهة الأخرى درج يفضي إلى إيوان، في الإيوان يمتد نطع الرب، نطع ليس لأطرافه حد، وعلى النطع أصناف مما لذ وطاب، وكان الخبز ملك المائدة، فلما أدارت رأسها تبحث عن الناس لم تجد بشراً وإنما رأت كائنات أجمل من البشر، قالت لها نحن الملائك الذين ينتظرونك منذ الأزل، وهذه المائدة المنصوبة لك موجودة هنا منذ الأزل، كنا نعرف أنك ستأتين فأعددنا لك كل هذه المآكل التي لم تدر في بال أحد وكنا نعرف أنك تجوعين إلى هذا الحد، كان لنا أن نحتفي بجوعك وكنا نعرف أنك تعطشين إلى هذا الحد، كان لنا أن نحتفي بعطشك منذ الأزل، لم يبرد الطعام ومازالت رائحة الشواء طرية مثل عطر الياسمين، والفاكهة كأنها لم تزل في أغصانها والشراب المعصور يهذي يبحث عن رأس هي مائدة الشريدة الجاثمة تراءى لها هذا وكان الخبز والنبيذ وعينان تدلفان عطرالياسمين ..
طوت رجليها وركعت حتى مسّت باصابعها طرف رغيف التقدمة، علتها رجفة آسرة فقد كان الرغيف ساخناً يلسع برودة أطرافها، وعندما رفعت الرغيف انكشفت تحته هوة عميقة ليس لها قرار، وبغتة هاجت الهوة بدماء ساخنة أخذت تطفح وتفيض وبدأت تغرق، ثمة نجمة وحيدة ملأى بالنور راحت تسيل حتى غطى بريقها رخام المذبح وتتسرب تحت رجليها الراكعتين دون أن تقوى على النهوض كأن أعضاءها ليست لها، وكان الدم سيد المائدة والرغيف الذي في يدها استحال شريحة من لحم بشري ترتعش حيّة بين أناملها التي لم تقو على تركها وليس لها سلطان على الكلام وعندما أدارت رأسها لتنظر إلى الكائنات التي قالت أنها الملائك التي انتظرتها منذ الخليقة الأولى لم تبصر إلا أجساداً بلا رؤوس تتمايل ومن رقابها المقطوعة تنز ُ دماء غزيرة كجدول .

سأعود لا قبر هنا أو هناك يسعني قالت هذ ثم رمت بشالها الأسود. ـ أنت امرأة بلا قلب شظية من نار الجحيم كان لك البحر مدرجا، وهذه السهوب بهوا، وأنت تهدلين تتراكضين كالنسمة، كأهداب الكون، كعروس تتمايلين مع اردية المساء، أنت الأشهى بين الحمام والأبهى بين النجوم فهيأي لي الأمل قدحامملؤة .. ستصدح العذارى بالترانيم و بالأهازيج كلما مالت هوادج مواكبك لمّا أن عدّلتها النوارس التي تغفو على رمشيك، السماء لك فتوق تحضن زغاريد الجن تحتفي بك كالعروس وكل هذه الأفلاك تحمل لك الهدايا. ما جئت لأختطفك بل لأسكنك فسيح جناتي واسقيك من عبير الكوثر، ألا تسمعين مدينة الرب تتنادى جذلة بيوم مسرتها، شاهقة أكثر علواً من التضرّع.. تالله سوف أهيئ لك موقدا ً، وهذه الأنامل التي اخشوشنت إحتمالا ستكون أساور في معصميكي، وزنودي تصير لك بحرا، وسيكون قلبي لك قلادة توشي بها عنقك في الصباحات كلما تذرعين حقل العاصفير وتروّضين ايائل البحر وتسوقين الجداول الداجنة كيفما شئت وأنا شئت .افتح صندوقك الذهبي، واسكب الجرار على آخرها.

فلا ترخين تضرعات الزمن على أعطافك وأنا أهمس في مسمعيك يا رفيقة الجنون أرى انتظارك الغامر يذهب الى اليأس، ينتضي بوحا لحنايا روحي، أنت عالم يتجمّع في فسحة القلب وانا أتجمّع على حدودك، كأني النطفة الأولى أو الحنين الأول والأخير .. بلا رفيق بلا دليل تسافر نوارس البحر واقفة عند المشارف، كشجرة تتسامق فعجّل أيها العكاز، بي وجع من الحنين وفي صدري شوق، أنا الطاعن في الحزن، المارق في عروق المراثي، وأنت المطلّة على احتمالات الأرض وخبيئة الدهشة، منتصبة كغصن الغابات، كصخرة الأعالي نيرة نافرة تمتدين في ذاكرتي .

وأنا الفارس الذي تلويه اليابسة من مدامعها، ينثر المعاني حواليك، وخلفه إعصار يتأبط صخوره المائية ويرسل اللغات هدايا مع الريح الشديد، شمخت أحلامه كالطود الذي يهدهد ريشة الغيم، ما كان للوادي الغافي عند قدمي أن يحني رأسه ويمضي بعيداً كأنه لا يعرفني، ولماذا هو شاحب هكذا ووحيد..؟ إذن رجرجن أثداءكن يا بنات لئلا يقال أن الليل قد داهم المدينة دون حياء، أديري الرحى يا صديقة الرب، فمن دثارك تنبثق السخونة اللافحة وتصطفيني للحمّى، زندك وسادة وثيرة، ومن جدائلك تنطلق يمامة.. من جعلنا نهرق رحيقنا الموشى بالأمل في هذا الليل الحزين، لن نصير مثل الغواية عندما تهشل بصليل الوجد المشبوب..

عليك أن ترفعي شالك المخملي فقد جئتك بريش النعام من أرض ليست أرضا وبلاد لا تسعها الأحلام أنظري أحداقي نسور ما عبث بها الزمن بعد تراقبنا نتعانق في فصاحة الدم، نمتزج في رغبة الماء.. كان اللقاء الأول تحت الغصن المرصّع بالندف والحنان وحين غادرتُ سمعت حفيفك وأصغيت لشجرة الريحان، وما ثمّ إلا ظلك يسع مداي، ومداك البحر البعيد الذي أشاطئه في الرؤيا على أطراف العين، هل عليّ أن أسوي لك السهل بإبرة الذهب آنذاك وأنا أنسج مقبض الحلم وأبسط شفرته بساطاً تمشين فوقه باختيال بين بنات الجن الحاملات الجرار يتأودن، وكنت أنت الأشهى وكنت أنت الأبهى، لكن لماذا تدخلين ثدييك نفق القرابين عند كل سرادق منصوبة لطقوس النهب ؟ هل علينا أن دائما نبعث فيأحداق الكون هذا الوجل؟ فلماذا لا تكونين لي فيئاً يشاطرني ويشاطر كل عابر سبيل متوحّد مع حلمه ؟ ولم أسمع حين قلتِ خذ الحيطة ولا تذهب، وحين قلتِ تدرّع تقمّص لكن لا ترحل، وانت كلما اقتربت نأيتِ لماذا كلما أرخي قبضتي على العكاز أهفو إلى حضورك في المسامات، وأنتِ لا تصيخين إلى حشرجاتي الذائبة في الريح؟ اسمعيني لا تسدلي صدرك كي لا أضيّع الجبل و الدار، أنا لست سوى هائم وكل المسارات موصودة بالتيجان.

آن .. أن تكشفي النقاب عن عورة الجمال ومكرالملكات، أيتها المليكة خدعت الوقت خبأت البلابل المجنونة،أجيء إليك مأخوذاً باحتمالات الغموض ووعدا مدخراً شغف الخطوات بها أستطلع احتضار النجوم وقريباً يسطع الجبل في جبهتي لما هللت كالصدى، أسفحيني تحت إبطيك ثم أدخليني بحرالغرابة فلا وجل بعد الآن، سأجعلك دهشة الربيع ودهشة كل من رآنا ننتشل الحلم الصغير لما أن وقع في البئر كنت تضحكين بوضوح أراك الآن كالبحيرة ساعة انزلقنا فيها وسبحنا معاً بين جذل الشفق وخجل اللائي يرمقنني طافياً.. أجيء إليك راجياً أن تحكمي الشدّ على ساعدي مبتهلاً انتشليني كالعراء مشعث الشعر بلا سقيفة تظللني أو عريشة تضمّد سخونتي كي ابتهل كالنجوى مثلك ، انتشليني عندما تحتشد النوارس على شاطئ الأريج ، أنزاح عن وشيعة صدرك فتشهقين في ذروة الرغوة، نهبط معاً في جسد واحد وبقايانا تتشبث بنا لئلا نصير نثاراً في حقل العشب ،
أراك من بعيد كما كنت في الليلة الأولى تنظرين نحوي لكن لا تلوّحين فأسأل ما شأن هذه الشجن؟ ثم أهمس بي لوعة ووجد وأهمس من هنا مرّت الريح وكنت أقتفي آثارها خلف الهضبة، تختفي بغتة، وحال التقط الهضبة بيدي تنهمر الدموع اللاهبة، ثم لا أجد في قبضتي سوى ريشة قديمة كانت تحترق على مهل، يا كلّ مواعيدي التي صارت أحلاماً تتوالد منذورة لرياحي معتصمة بي، أيتها المعصومة يا ابنت المدينة المشتعل لماذا كان على أناملك أن تصير أشرعة لي؟ غير أني انتفضت حين التفت حولي وصرخت من جاء بهذه المسوخ المحدقة بي تنحر حواسي بلا رفق ، طلي فقد رأيت الله يهب منجله إلى قاتله قلتُ هذا شعب يدّخر دمه لأوردة الله، لن أخلع الخرقة لأرتدي عراءً يهادن الوقت الذي يحاذيني فأحاذيك، وتديرين لي ظهرك دون كلمة، فأعرف أن البؤبؤ نسر يفقؤ عينين حاسرات آنذاك أهتف ارفعي الشال كي أتمرأى في وميض بهاك المشع وأصير مائلاً مثل الانبهار وتميل المصبّات صوبي، ومن جدائل المطر أبني بيتاً لك أنسج الزمن ثوباً لك ،ولا أطلب شيئاً لنفسي، فمن أجلك جئت أسحب أهدابك السوداء غطاءً لجسدي البارد وجسدي المتعب غطّيه يا راهبة المدينة غطّيه فمن أجلك أرتعد كي لا أحتضر وينحسر عني الرداء، وما أن أهتف باسمك حتى أراك تقْبلين مبتسمة الآن الأحلى والأشهى والأبهى كما كنتِ وكما تكونين يا أنتِ دعيني ارحل إلى صدرك العامر كي لا تدمع مقلتاك .

هذا نشيجك الأخير أرفعي تراتيلك يا سيدة المدن فلانجاة من الموت إلا بالموت .. من قال أن الأمل يزهر لينزلق كالندى من فم الصبح الموشى بالعبير .. هل كنت لعنة أرسلها الرب لتدق ناقوس البكاء لتطل من طاقات قصورها بندفها الذي استحال كالنزوح الوديع وحواة الفجور وواكبته الفصول لقاء حفنة من الدم القاني. من عمذ جسدك الطاهر بالدم؟ من أسرج كواهلك بالغناء؟ ووهتف في درب المنفى تؤازره فصائل العصافير التي تبرز رؤوسها بين أوراق الشجر وتترقّب هذا الزحف المبهم .. مَنْ يستضيف موتك غيري؟ من يتعاطف مع أسمالك غيري؟.. تلجين الغامض المحصّن بلا نوازع ، تهندس مداراتك الوهمية، كعب في العقرب،كعب في السرطان، وأطرافك مشرّعة للغزو من كل صوب، يا سيدة المسافات زحفك ينأى فاحذري...... البقاء في هذه االزمن أيضاً له أحابيل ليس بوسعك تجنبها. ثمة أرائك رخامية خط عليها الخزّافون تسابيحهم واستغرقت أرواحهم إلى سهل تمرح فوقه الغزلان، أحدهم يشعل لفافة ويدخنها بنهم، آخر ينهض بعد برهة ويضع الفخار برفق على الأريكة يملؤه بالنبيذ ثم يستدير مخمورا... إنها المدينة المصقولة التي تفرش لك الآن عتباتها لتصعد درجك الأخير حيث دائرة من ماء قليل ترقص فيه الحوريات اللائي يرفعن أطراف تنانيرهن لإغواء ساعدك. أبوابها كانت مفتوحة فدخلناها وتشتتنا مرة أخرى يا أهل المدينة الخاوية جئنا نسألكم فهل لديكم خبر .... !

المدينة المسكونة المذعورة تفتح يديها للسماء، كان للسماء شريك شاهق يزهو بأشكال ليست للقوس ولا للقزح، وللأسرار الغائرة سرّ كفوهة الكون، يهبط إلى الأعالي ويصعد إلى أعماق مأهولة. لم يكن ضوءاً هذا الذي يأخذ شكل ابتسامة ونظرة من دهشة، يهندس الطبيعة على هواه، شالٌ تتشح به الأرض حيث له الحفائر وبراءة الغصون، طلوغٌ ترسله الأعالي في هيئةٍ من ماس المصادفات، أخيلته تملأ الأفق بآخر التوقعات مثل غياب الأيائل الحمراء في عتمة الجبل، حمائم الأرض تتقافز لتحضنه بحنو. انتظار هنا و توقّع هناك مثل الموج، آتٍ هذا الهيكل الذي من سديم البدايات تكون تنتهي عنده مشارفه الدروب وخفقة الأقدام فوق نشوة السبيل، آتٍ يضع أطرافه على مفازة شهقت من طينها من مداها هياكل النور . كل هذا الجمال هذا كل هذا الأنس يتشظى ببطء. يتهادى في اندياح كريشة في سلّم الهواء تنساب تهب تضارع العلوّ، تهيمن على المدى، تهندس الأفق، تنساب، تحلّق تصير لها هالات منمنة تكلّل الأرض التي صعدت في شغف ودهشة كريشة ترسم وتندفق في الضلال كل هذا والوقت لا يكاد ينمّ عن بدء أو نهاية، نهارأو ليلة، جحيم أو جنة، شك أو محبة . لكن الليل الذي يتجلى على هذا الشاطئ المسكون بالملائكة يتخلّق بين غموض الرؤيا وخصوبة المرايا...

عن هذه الراهبة.. قاتلها الشك وهمست مع النسيم لا أحد يسأل لا أحد يرى، لا أحد .. لا أحد .. إيماءات سيدة في صهوة الفراغ الذي تزرعه الخطوات كقلنسوة للفضاء هو طور ذهول بين وقعٍ ووهْمٍ، ووهم ووقع، ليس بينهما حدّ، كنت انظر إليها بأحداق تتسع كلما اقتربت، وهي تصير مشرّعة مثل كهف كلما مسّستها بنظراتي، اضعها على جبينها الحزين فتتصاعد منه طيور مائية مناقيرها نافورات ترسل شباكاً لأعالي السماء.

تتكسر ثم نفيض بكاء.. يلكز الفارس بطن حصانه يدنو من خيمة تتهلهل بفعل الريح، يغادر مهاميزه ويترجّل. تطاله الأرض فتحمله إلى داخل البهو، يجول بنظراته كمن يبحث عن فرائسه فيرى الفرائس غزالات تحاصرها النيران تلهو بها، هياكل ذائبة بلا مأوى ولا شعير. عيون غائبة يا عن النظر مشدوهة بالقادم الذي يملأ شواغر البهو. عظام ناتئة تتكسر عند ملامستها أحجار العتبة، كل هذا الهزيع في خرقة تكتب فيها الريح، من يقدر أن يأخذ شيئاً ليس موجوداً ؟ صوت هرم مثل صدى جرس حجري قديم..... أشكال ضعيفة تهزم الفارس الذي لا يتململ، يخرج من البهو. تطاوعه المعادن المتشابكة في مدى أكتافه، راس مثقوبة تطفر منها أشجار الريح حتى تصل منها أمواه كثيرة.... هذا شجار هرم مع الطين .. هذا صدى جرس حجري قديم هذا ريح يأخذ شكل الأشكال هذا مدى لا يسع السؤال هذا وقت تكتبه النساء في هامش المدينة هذا أزميل يجرح الثواكل ويحرّض الموج هذا شكل الأحياء الذين ظلوا كالأفق هذي لغة أنا لا تحسن المخاطبة فلما تجزع يا صديق كجنون هذا الليل .. قلت لها يداي لغة... انظري .. انظري كيف

تطفر منهما موجة بيضاء تتناسخ حمائم في رؤياك فدعيني اتمادى قليلا في وحل الله .. اشده الى الهاوية في هذا الخراب .. ـ اسمع يا صديقي .... مرة على كسرة من الكبرياء الموزع بين دار مهتوكة مثل هذه ودروب مجهولة مثل أحلامي مرة على كتف هذا البحر بلا قماط ولا علامة مشيت الى الله ..... فلا تلمني ولا تلمه .. فتصعقني أنفاسها الباردة ، رأسي الحاسرة لا تستطيع أن تصد حتى الرذاذ. تعالي معي لأريك سبب تعاستنا،هنا الوحل يترجرج من فرط الخوض فيه، أنظري ومن صلصاله يصنع الناس الدمى والدواجن، وتلك منازلنا التي تعرّي أجسادنا.. لا تشهق رجاءً ولا تتنفس لئلا يُقتلع قماشها الشفاف، في الداخل رجل يتحدث مع أمه الميتة، وثمة رجل مجنون يحرث الصخرة بمنقار عصفور، قصته محزنة لن ارويها لك.. قالت من هنا يا سيد ترى أحلى بنات المدينة الواتي كن يسابقن الظباء، أنظر إليهن الآن وتأمل شحوبهن كُنّ مثل الأيائل... اذن لنسترح بعض الوقت..جلسنا في ظل صخرة انحنى كائن وملأ كفه من الهواء ثم شرب منه قليلاً وقال بصوت مرتعش هذا دم... ! قالت ما الذي يقوله هذا الشيخ المطل من نافذة الأعالي .. أهو الرب ..؟

نعم آن لك أن تسمعيه ..هو مثل أعنق ممدودة في الفلاوات.. تفتح المرايا الكثيرة على مشهد البؤس المطمئن حين لم يعد هناك مطمئنون في خليفة الكوكب، مثل أرجل على خشبة التأمل الدامي لا ترى من هنا، من هذا الشحوب المتربع يأتي يجرّد ذؤابات المرايا يثقب الجرار المليئة بالغبن، يحفظ ملامح الوجوه واحداً اثر واحد، إصطفقت الامواه الرهيفة في البحر بفعل عصف الهواء المجنون الذي اجتاح البحر ، ولم أعد بعدها أسمع هسيس الخطوات تنتقل بين الشرفات، بين ذؤابات الأزهار المنتعشة وشراشف رحيقها، هكذا انزوى المشهد لم أعد أطلّ على شيء ولا يعنيني شيء.

سألتها ما بال الغيوم تتناثر ببلّوراتها في جذل وصخب ؟ وما بال الدرب مبلّلاً بآثار الحكايا ؟ ولما هذه الغيمة تعبر الساحة المكتظة بللقالق والوزّات التي لا أجنحة لها؟ ولما هذه الميازيب تسرّب الماء الذي يتقوس عند اندلاقه على الشارع ؟ ولما هذا الفتى تحت المطر يشبك كفّيه خلف ظهره ويرفع رأسه للسماء ؟ ولما هذه الصبية تطل من النافذة وهي تشمط شعرها؟ و لما تلك الطفلة تجري مغتبطة تحت المطر، تستحم برداذه الكثيف ثم تتجه إلى الرصيف المقابل؟ ولما صوت المطر المرتعش المرشوش بالحكمة يبدو عرضة للمباغتة ؟ نظرت إلي وعيناها تدمع اصمت قليلا .. ـ لا استطيع أن اسلك هذه الدروب المقفرة دون قرابين اقدمها على مذابح الأسئلة ـ آه إذن لماذا يفح صوتك بالنار ؟ من اين أتيت يا هذا ؟ ـ حسنا .. من مفازات وراء البحر حيث الرمال والشمس وأنامل القمر وعيون الليل المفتوحة على رجاء لم يحن أوانه بعد .. ـ نعم أنت من تلك البلاد التي مدت أصابعها في المهاوي التي صارت ينابيع انفجرت بالماء والحكمة . ـ نعم .. نعم .. أنا من هناك .. من بلاد جسّها الرب بقدميه وساعة إذ اقترف هذه الفعلة قتلناه ثم حفرنا له قبرا في جذع زيتونه لا شرقية ولا غربية زيتونة تضيئ فصار له خوار مشعشع اندلق في احداقنا الى هذا اليوم.

ستظل هذه المدينة مثل هضاب حاسرة، أشبه بكدمة على جبين الرب ، ترشح ملايين من الطيور. الصغيرة الملوّنة التي تتصاعد في الجو كالفقاعات وسرعان ما تتبدد مع الريح، وستظل تزحف الأعشاب في طوابير تتحرى مكامن تائهة في كل الأركان وستظل الطبيعة تنساب بزغبها بين النهود الكثيرة التي صقلتها أمواه البحر. وستظل أجنحة الهواء تخفق ليغسل الريش الأحلام الهائمة في أعالي الخيال. وبين التوقعات يتدفق هدوء يشبه الذهول تبدو فيه النهود الكثيرة في حالات من النشوة كما لو أنها تحتك بحرير قميص بارد. وستظل تنظر الطيور من خلل الريش فتمتزج بالرغبة الكامنة في الارتقاء حيث الرياح أسرّة تتصاعد كل الأحيان، والطبيعة ترقب ما يحدث وتشي بما يحدث. وسيظل هذا الوادي يرش السراب في الأرجاء ليغوي الهاربين الى جمال التوحد وسيظل خيال هذه المدينة في عيني رهابتها المسكينة خيالا مجنح مجنون لا يستدرجها الى اليأس ولا يتركها عارية على رمال الشواطئ .
.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا