الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مع قصيدة سميح وجه في المرآه

تيسير الفارس العفيشات

2017 / 5 / 9
الادب والفن



الشعر العالي الذي يأخذك إليه لا يقبل التفسير، ولا يتطلبه ولا يعنيه في شيء، إنه فعل عاطفة مشحونة بالتجربة. لا أزعم أني قادر على تفسير الشعر ولا الغوص في ملكات نفس الشاعر ، عندما أقرأ نصاً جميلا أحاول معايشته، فأنت لا تستطيع مثلاً، أن تفسر الحب، لكنك تستطيع أن تعيشه، ان تعيش جحيم القصيدة او نعيمها لا يجعل منك متلقي او قارئ بل شاعر آخر يعيد خلق النص ذاته بشكل مختلف .
نص سميح هذا نص عجيب يتكسر على سارية لغته، ويبقى لونه مثل ظل دافئ حميم .. واللغة كما الصورة تتشظى فهي ليست ما قاله الآخرون، وفي احيان كثيرة ما تصوروه، بقدر ما يتسنى الاقتراب من المعنى الذي بالكاد تقبض عليه هنا وهناك، بقدر ما يتفلت منك ، وإذا كان ثمة موضوعات ومعان، فإنها حتماً لن تكون مكتملة في القصيدة، بل هي قابلة لأن تتخلق في ذهن القارئ أثناء وبعد فعل القراءة، وهذه ميزة لا تتوفر إلا لدى الشعراء بالغي الحساسية تجاه الوجود، أي أن لديهم موقفاً فلسفيا، احيانا يجبرنا سميح عن قصد على محايثة نصه ، أن نسير الى جانبه دون أن يسمح لنا بأن ندلف الى عوالمة الداخلية، ومحايثة نص على هذا القبيل، أو هذا النحو أمر يستدعي دائما اشتباكا آسراً أخّاذْاً بين النص والقارئ، فهو يسمح بتدفق المعنى دون أن يفض أسراره، أو يبوح بكل عوالمة، مما يجعله على الدوام مساحة للتأمل الدائم والمستمر.
سميح .. شاعر خارج من موقد تجربة فريدة لهبها يتأجج باستمرار شاعر جرحه السؤال منذ بداية وعيه وصار الجرح رمز يقوده الى المفازات التي لم تطأها قدم...ذاهب في متاهات الحياة بلا دليل... لا يطمئن إلى جهة ولا يستقر الى مفهوم ، يتحصن ضد أوهام لا يراها سواه، لا يأخذك إلى نفسه ولا يتركك بعيداً عنها، تراه وحيدا شريداً في ليل نصه، تتهادى من حواليه مخلوقات ملائكية تتزين في هوادج اللغة الباذخة، هو شاعر يصنع أحجاراً كريمة من الماس يصقلها الشعراء دونه، أول نص قرأته له كانت قصيدة الذباب جاءت لغتها على نحو مواز، فبدلاً من الجزالة والكثافة والقوة والإحكام الجاهزة والإنشائية الوعظية، وجدت نفسي أمام لغة رقيقة هشة وآسرة بما هي كذلك. هي بين لغة الشعر ولغة الأنبياء .............
وأغلب قصائد سميح التي قرأتها بعد ذلك، نصوص يشحذها مثل نصل سيف يقطع بها رؤوس الأحلام المجنحة، ليس رغبة منه في العودة الى الواقع بكل أثقاله، ولا السباحة في شفافية الخيال، ولا هي بين هذا وذاك، لكنه الخيال لحظة تجسده، تماماً مثلما فعل الفيلسوف أفلاطون في كهفه المشهور..
نعم الخيال لديه غير الكتابة، والتعبير عن المعنى لا تتحمله اللغة بكل اتساعها ... هنا تتسق نظرته وتتوحد رؤيته ولهذا فكل نصوصه تأخذ شكل الانفجار الصوري متجهة نحو خلق حالة الحياة بتفاصيل صغيرة لحركة خيال تتحول أو يحولها الى واقع يوشك لفرط وجعه أن يلمس المعنى، ثم يجعل المعنى ذاته يتكور في مناخ يتصاعد مثل بخار الجحيم. وللمتلقي أن يكتشف جماليات هذه اللحظة التي تمتد في كل قصائده .. ولهذا فهو لا يحفل كثيراً بالبنية الدلالية فشعره شكل يتلبس ضلال المعاني، ومن هنا يصير الدال هو هو صورة تتفلت من بين يديه متجها صوب أمل برهافة أليفة تجاه اللغة التي يصنعها على نحو مغاير .

وللمتأمل في شعر سميح يكتشف أيضاً أنه مولع بإقاعه الشعري الخاص وهائم به. بل يمكن أن يلمس أنه خالق يحتفي بإيقاع الروح. روح الشعر والإنسان معاً. فإذا أنت لم تفهم حيلته الفائقة فسوف تقع في عسر الفهم . رغم تكرار الصور التي تتداعى أحياناً كأنها الأشلاء المتساقطة من جسد يحترق والتي تأخذك الى فهم مغاير .
أي جسد هذا الذي يخاطبه سميح بنوع من التدله في نصه ( وجه في المرآه ) كأنه يتمنى ناراً تحرقه وتدعه مثل هشيم تذروه ريح عاصف في مهب مجهول .. يتحول الى حريق بالغ القسوة على الزمن الذي مضى ولن يعود .. واذا كان ثمة خطيئة في اطلاق شهوة نار الجسد على هذا النحو فهو لا يأسى له ولا عليه، ولا يشد يده على الحياة إلا لأنه مشغول بنعمة الخطايا .. ويطيب له أن يمتحن غامضه المطمئن إمعانا في رهبة الكشف وخوف التعلق ... فلم يعد الواقع يحتمل عذابا من هذا النوع وكل هذا اللهب المستكين في روحه تستثيره الثواني الآثمة .. وجسده الذي يجرجر أثقاله يتقدم أمامه بصورة آثمة تراه عينه، كشهوة الصوت الذي لا يفهمه بقدر ما يسترعيه صداه .. روحه مكبوتة وكامنة وكل هذا يشير الى احتمالات غنية تستدعيها المهود وهي تتنقل في سجو وبقايا رماد .

إن سميح في كثيرة من نصوصه، يشير إلى انحراف تعبيري، يرحل بالمفردات من مستقرها الدلالي السابق، والشائع إلى اتجاهات مغايرة ومختلفة تماماً، هذا الانحراف هو ما يمكن الاشارة اليه باعتباره الخروج غير المتوقع للكلمات من معانيها المستقرة إلى مستويات جديدة من المعنى. انحراف من هذا النوع، يدفع بالصورة الشعرية إلى مهمات دلالية مركبة، وعلى اللغة في هذا السياق أن تقول ما لم تتعود على قوله، هذا ما يمكن تسميته بانحراف التعبير في أعلى تمثلاته الممكنة .
ولاشك أن مثل هذا الانحراف التعبيري و اللغوي ينطوي على قدر كبير من التخريب اللذيذ القائم على بذر الفتنة الجليلة داخل النص. من يقدر على هذا ؟!!
ليست الفتنة فقط على صعيد المعاني، حيث حرية الفعل والبوح والمجابهات، ولكنها الفتنة على صعيد اللغة كذلك، حيث هندسة الشكل وحريات العلاقات اللغوية وتدفق الكلمات والمعاني المتناثرة بما يكفل توالد الصور الشعرية المباغتة وغير المتوقعة، وهيام سميح بالشكل والدلالة جعل للفتنة طابعاً من السحر والجلال ، ولعل ما يثير الفتنة دوماً - حسب تعبير الناقدة كريستين وكسمان : هو ما يكسر نظاماً ويدفع إلى اختراق الحدود . لكننا ينبغي أن نتحلى بالحذر تجاه هذا الإغواء أو الدلال ، فليس كل اختراق للحدود، أو نقض لقاعدة هو بمثابة حق وجدارة بإنجاز القصيدة الجديدة قالبا ورداء . لأن شرط الجمال الشعري هو الذي يمنحنا فرصة اكتشاف نجاح هذا النص أو فشله. في الشعر ليس للمنطق سلطة التفسير أبدا ، وليس للصورة معنى منجز مسبقاً في ذهن الشاعر ، إن النظام الذي تكتسبه علاقات الكلمات والصور في الجملة الشعرية هو الذي يمنح الصورة الشعرية منطقها الخاص بحيث يظل المعنى يتناسل .. هذا ما نقصده بفعل تداعي المعاني، هذا الاحتمال لم يصدر عن برهانية عقلانية اعتمدها بناء الصورة، ولكنه التجاور العفوي بين الكلمة والأخرى الذي أنشأ سيلاً من الصور المنطوية على احتمالات المعنى وضلال المعنى .
قصيدة بديعة يا سميح ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/