الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأخلاق حرية

هيثم بن محمد شطورو

2017 / 5 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قال السيد المسيح : " الخالي فيكم من الخطيئة فاليرمها بحجر". و يتجوهر مفهوم الخطيئة دينيا في النوايا قبل الأفعال. فمن منكم من لم يشتهي مضاجعة المرأة فاليرمها بحجر. من منكم لا تؤرقه الشهوات ليدعي انه الاه أو حارس لمملكة السماء التي تعلو جميع شهواتـنا بما فيها شهوة الانـتـقام؟
فالسيد المسيح الأقـرب إلى الله فيهم و هو الله متجسدا لحما و دما في المسيحية، رحيم عطوف لا ينظر إلى الزانية بمنظار الرغبة في الانـتـقام لأنه لم يزني بها شخصيا...
و المعنى يتصل بالعمق الأخلاقي المنافي للاخلاقوية كقواعد جامدة في مساواتها المجردة الامساوية في الواقع و حساب النوايا المختلفة. و لعل الفيلسوف الألماني "امانويل كانط" قد أوجز هذه المسالة بكل إيجاز و وضوح حين قال:
" إفعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك و في شخص كل إنسان سواك بوصفها دائما و في نفس الوقت غاية في ذاتها، و لا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة."
في هذا المعنى نجد حديثا للرسول محمد بمعنى أن المسلم هو الذي يحب لأخيه ما يحبه لنفـسه.
و مثلما أوضح "كانط"، فان الأخلاقية تتعلق بالعقلي في الإنسان الذي يجد نفسه في تـناقض مع الحسي أو الرغبات الحسية.
و من هنا فان الأخلاق مرتبطة بالنمو العقلي بواسطة المعرفة بما هي ثـقافة حية أي مؤثرة بالفعل في الوعي الذي لا يكون إلا حرا. فالثـقافة القائمة على الجبر ليست مؤثرة في الوعي لأنها ليست عقلانية و العقل حر في ذاته. فثـقافة الأجر في الآخرة و الخطيئة التي لا تغتـفر هي بالضرورة ثقافة ميتة.
يمكننا أن نقرأ أزمة أخلاقية في مجتمع من المجتمعات بمجرد الالتـقاء بحالة عامة تراوح نفسها في هوة التـناقض بين العقلي و الحسي، بحيث تحتـفظ بحسيتها فيما بينها و ما بين نفسها بقدر ما تحاكم الآخرين على أساس المعقول الأخلاقي في ذاته.
هذا ما يطلق عليه بمجتمع النفاق الذي يأبى رؤية خزيه و يتـلذذ بالتسرع في الحكم على الآخرين انطلاقا من الظاهر أو الإشاعة أو القيل و القال دون تـثبت. مصدر اللذة طبعا هو تبرير داخلي لخطيئته أو لإحساسه بخزيه الذاتي. الحكم على الآخرين ما هو إلا حكم على الذات في الآخر لان ذاته بالنسبة له ما هي إلا جحيم يخشى مجرد التـفكير فيها أو الاستماع إلى أي كلمة انتـقاد لها.
و لنا مثل شائع في ذلك يقول: "الجمل ما يشوفش عوج كرومته". و لكن الأصح بالنسبة للإنسان انه لا يريد رؤية اعوجاجه و يكره من يؤشر إلى أي عيب فيه. و من هنا فالمجتمع غير الأخلاقي هو مجتمع النفاق و انعدام الصراحة و المصارحة. أي حسب المثل الشعبي التونسي كذلك : " في الوجه مرايا و في القـفا مقص".
هذا المجتمع ضعيف و غير متماسك و غير سعيد و مفتـقد لحياة روحية حقيقية و بالتالي مفتـقد لأي وجود جماعي راقي و حضاري. مجتمع متـفكك آيل إلى الانهيار و الفناء. الفناء بما هو فقر و استغلال من الإنسان الأرقى منه كحالة اجتماعية متضامنة و حالة حضارية بما هي مادية و ثقافية منيعة و متطورة..
فالمعيار الجوهري للأخلاق الحقيقية بما هي ذاتية أنها اجتماعية في نفس الوقت تحقـق رابطا أساسيا بين أفراد المجتمع هو رابط المحبة. المحبة تعني تبادل الثـقة و التآزر و بتعبير محمدي رائع أن المجتمع يكون " كالبنيان المرصوص إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد"..
و بالتالي فالقوة الفردية أو العائلية أو الطائفية هي مجرد هراء من الناحية الأخلاقية لأنها متأسسة على رابطة الدم أو المذهب و هي تجزيئية و تـقـزيمية و تحصر الفردية كتابع ذليل لتلك المجموعة و تكون الأخلاق مجرد استـنساخ بشري عديم الروح لان الروحي حر بما هو عقلي إنساني. فالأخلاق الحقيقية التي هي روحية عقلانية هي إنسانية. إنها تـقوم على محبة الإنسانية و محبة الله فيها و بها و يكون الله هنا محبة و ليس مصدر رعب و ارتهاب متأتي من ثـقافة الجن و السحرة و الشياطين القديمة..
فلا كرامة إنسانية دون حرية منبعها ذاتي. لا تكون إلا ارتـقاء للعقلي و التـزام به كرابطة مع الإنساني و الكون و روح الكون..
و مع أن الفيلسوف الألماني "هيغل" يتعمق أكثر فيقر أن تمثل المعقول في ذاته يتحول إلى معقول لذاته في الفعل الأخلاقي الذي يظهر بشكل اعتباطي وفق معرفة معينة في وضعية معينة متأسسة على الوعي الفردي، بحيث تغادر الأخلاقية بما هي "هو" منفصل عن الذات في ذاته إلى ذاتية فردية لذاتها تكون مختلفة عن الهو في ذاته. بذلك يكون الأخلاقي صادق و حقيقي و هو الذي يغادر "ما يجب أن يكون في ذاته" كتجريد أجوف و الذي يقـتصر دوره في انتـشال الفردية من فرديتها فقط ليصلها بالكلي. بذلك يكون الفرد أخلاقي يشرع لنفسه انطلاقا من ذاته بحرية. و لا تكون أخلاق صادقة و حقيقية إلا بالحرية.
إنها النظرة التي تصبغ حيوية في تجادل المعقول مع الواقعي، و بالتالي فالفعل الأخلاقي نسبي مرتبط بالفرد كوعي بمثل ما أن الأخلاقي كمعقول أي كجملة من الواجبات في ذاتها.
يعبر المعقول عن الكل بما هو جملة اتـفاقات عقلانية مشتركة تؤسس لوحدة اجتماعية. هذه الوحدة لا تكون صميمية و حية و أخلاقية بحق إن لم تكن متصلة في نفس الوقت بالفردي الحر في ذاته بأخلاقيته الذاتية النسبية و ليس بالسلوكيات الظاهرة. فالمفاهيم الفردية مختلفة حسب وضعياتها و معارفها، و بالنسبة للمجتمع ككل يجب أن يقبل بتعدديته الحرة على أساس الاحترام المتبادل مثلما يفرض قواعده العامة كواجبات عامة هي لا تـقوم فعليا إلا على أساس الفردانية الحرة. الفرد يكون متمازجا بالكلي الاجتماعي مثلما أن هذا الكلي يصهر أفراده في بنية متراصة تحفظ وجودها الحر في داخله ككل..
هنا تعم المجتمع ككل قيم المحبة و الصدق و المصارحة و انحجاب الحجب بين أفراده و انعزالية أفراده بعضهم عن بعض. هذا هو المجتمع الصحي السعيد المتآزر و المتحابب. هذا هو المجتمع الراقي المتكون من جملة فرد راقي في ذاته فعليا بما انه حر و ليس مجرد خاضع لقيم لا يتمثلها فعليا في وعيه و ذاته و إنما يجاهر في العلن بعكس ما يبطن مثلما نجد في المجتمعات التعيسة التي يخاف فيها بعضهم بعضا و يغدر بعضهم بعضا و يكره بعضه بعضا، و بالتالي مجتمع مفكك يعمه الخزي و الهزال الروحي و المادي و الذي ينحدر مباشرة إلى التوحش بكل أشكاله ما أن يغيب الرادع القائم على الإرهاب. انه مجتمع العبيد..
فالواقعية الهيغلية لا تنفي المثالية الكانطية جملة و تفصيلا و إنما تعتبرها لحظة البداية التي تـنـتـشل الفردية من فرديتها لتضعها في الكلي بصفة تجريدية. اللحظة الكانطية هي التي تـقول "انه يجب عليك أن تـقوم بالفعل الأخلاقي كواجب محض بغض الطرف عن المنفعة أو الألم".
الواقعية لا تعني التـنازل الأخلاقي عن المبادئ الأخلاقية العامة، و إنما الأخلاق في الواقع كوعي ذاتي فردي متجادل مع المعقول معرفيا و سلوكيا كفعل أخلاقي صادق حقيقي لا يكون إلا قائما على الحرية الفردية. فالفرد هنا يشرع لنفسه كما لو انه يشرع بإطلاق للناس أجمعين.
فمثل ذلك حين تكون في آخر وقت من المساء لاقـتـناء الخبز من المخبزة، و ورائك صف طويل من الناس. الأخلاقية تـتـطلب منك التـفكير في الآخرين. قد تجعلك تـقـتـني ما يلزمك فقط من الخبز، و قد تجعلك تضحي قليلا بان تـقـتـني أقـل مما تحتاج،و إذا كان لديك المال الكافي فقد تـقـتـني الخبز الرفيع الأرفع سعرا دون أن تـشتري خبزا عاديا لأجل فكرة أخلاقية تـقـتضي أن تتصرف على نحو توفر فرصة ممكنة لأحدهم قبل نفاذ الكمية الموجودة من الخبز..
انك تتصرف هنا كانسان الذي هو ليس أنت فقط بما أن الإنسان هو آنت و الآخرين. من هو في مرتبة أدنى من الإنسان هو الذي لا يفكر في الناس أجمعين كما هم هو..
و تجد ذاك التـزحلق الاخلاقوي المراوغ الذي ينفي الأخلاق و الأخلاقية في الآخرين لكي يعفي نفسه من وخز الضمير. الضمير بما هو مؤشر الروح الكلية و الحضور الالاهي في الذات الفردية..
قال الشاعر المصري " احمد شوقي ":
" الأمم أخلاق أو لا تكون ... إن ذهبت أخلاقهم ذهبوا "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قبل عمليتها البرية المحتملة في رفح: إسرائيل تحشد وحدتين إضاف


.. -بيتزا المنسف- تثير سجالا بين الأردنيين




.. أحدها ملطخ بدماء.. خيول عسكرية تعدو طليقة بدون فرسان في وسط


.. سفينة التجسس بهشاد كلمة السر لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر




.. صراع شامل بين إسرائيل وحزب الله على الأبواب.. من يملك مفاتيح