الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نقد الخطاب الإسلامي ح 5 .. إشكالية الدين والمجتمع

سليم سوزه

2017 / 5 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ثمّة معضلة يعيشها بعض رجال الدين ، وهي معضلة التوفيق بين ما هو ديني وما هو إجتماعي ، فلكل منهما دور محدد لا ينتهي الى هدفٍ واحد بالضرورة. مهما أظهر رجل الدين إنسجاماً بينهما في خطابه ، تفضحه الممارسة ولو بعد حين.

ثنائية الدين / المجتمع حاضرة في سياقات الخطاب الديني ومحاولة رجل الدين التسوية بينهما لا تنجح إلّا بإنتصار أحدهما على الآخر ، وبالتالي إنتصار إحدى وظيفتيه ، وظيفته الدينية أو وظيفته الإجتماعية.

مازال الكثير من رجال الدين المسلمين (ربما جميعهم) يؤمن بأحكام فقهية قاسية تجاه أبناء الديانات الأخرى ، أحكام مثل ثلاثية "الإسلام ، الجزية ، السيف" كخيار أساس في التعاطي مع مشكلة الأقليات غير المسلمة في البلدان الإسلامية ، لكنه في ذات الوقت يزور دور عبادة هؤلاء الأقليات ويرحب بالتسامح والتعايش معهم ، ربما على قاعدة الضرورة المجتمعية. هذا التناقض الواضح بين الوظيفة الدينية لرجل الدين وبين وظيفته الإجتماعية ليست نفاقاً كما يعتقد بعضنا ، بل إرتباكاً نفسياً سببه صراع عنيف بين الذات والموضوع لا يستطيع الإعتراف به صاحبه لئلّا يفقد ذاته في مواجهة ذلك الموضوع ، إن إعتبرنا هنا أن "الذات" هو الإيمان بتلك الأحكام الفقهية و"الموضوع" هو التعايش المجتمعي مع الأقليات غير المسلمة التي تشملها تلك الأحكام.
بعبارة فرويد ، هذا التناقض في السلوك البشري هو غرابة مألوفة uncanny (ليست هناك ترجمة دقيقة للكلمة في العربية). غرابة لكنها مألوفة جداً في طبائعنا دون التفكير بعدم الإنسجام الحاصل بين الخطاب والممارسة أو الذات والموضوع ، إذ أن مجرد التأمل في هذه الغرابة ومحاولة تبريرها ستطيح بواحدٍ من إثنين في لاشعور الفرد ، إما الذات او الموضوع وإن لم يُعتَرف علناً بذلك. في حين يرى نيتشه تلك الغرابة في " في جينالوجيا الأخلاق " عدمية ، حيث يتساوى الذات والموضوع ويتحولان الى هامش واحد لا قيمة له عند مَن يمارس تلك الغرابة. فعند نيتشه "الرغبة للحقيقة" The Will to Truth تطيح بالميتافيزيقيا حين تكتشف تلك الرغبة حقيقة لا تستطيع الميتافيزيقيا تبريرها أو تفسيرها ، وأي محاولة تبرير او تفسير ميتافيزيقية لها ستجعل الإثنين ، الذات والموضوع ، عدماً بلا قيمة.

ليس هناك حل امام عدم الإنسجام هذا بين الذات والموضوع(أي بين تلك الاحكام الفقهية ضد غير المسلمين وبين التعايش الاجتماعي معهم) سوى رفض أحدهما أو محاولة إيجاد تسوية مقبولة بينهما.

بناءً على هذا التحليل الفرويدي/النيتشوي ، لدينا ثلاثة أصناف من رجال الدين ، الأول يتمسك "بالذات" على حساب "الموضوع" ، أي يقبل بتلك الأحكام الفقهية وينتظر تطبيقها في اللحظة المناسبة ، وهو نموذج للمتطرف الإسلامي. الثاني يتخلى عن "ذاته" تماماً ويتماهى مع "الموضوع" فيرفض كل تلك الأحكام الفقهية برمتها ويعتبرها جزءاً من سياق تاريخي محدد لا علاقة له بواقعنا الحالي. هذا النوع يذهب مع وظيفته الإجتماعية نحو التعايش المجتمعي السليم على حساب وظيفته الدينية فيراه النوع الأول كافراً بالجزء وفق قاعدة "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" على إعتبار أن تلك الأحكام هي من القرآن صراحةً. أما النوع الثالث والأخير هو رجل الدين الذي يحاول إيجاد تسوية بين "الذات" و"الموضوع" حيث يتمسك بالإثنين معاً فيمارس وظيفته الدينية التبشيرية من خلال القبول المطلق لتلك الأحكام الفقهية ويبلّغ لها في محاضراته ودروسه الخاصة ، وفي نفس الوقت لا يجد مانعاً من إداء وظيفته الإجتماعية في زيارة الكنائس ودور العبادة للأديان الأخرى وتقديم التهنئات لهم في مناسباتهم الدينية.

ليس النوع الثالث منافقاً كما يتصور بعضنا ، بل هو يعيش حالة عدم إنسجام مع نفسه ونصوصه الشرعية فيذعن للسياق الإجتماعي الذي يعيش فيه رغم أنف الإيمان بتلك النصوص ، لكنه لا يستطيع الإعتراف بهذا الإذعان علناً.
أن مجرد القول بالنسبة له أن الظروف الإجتماعية اليوم مختلفة عن الظروف التي نزلت فيها تلك الأحكام يعني الإعتراف منه بتاريخانية تلك النصوص وثباتها على مجتمع واحد في زمن واحد وليس صلاحها لكل الأزمنة والأمكنة كما تقول أدبياته الدينية ، بعبارة أخرى سيفقد "ذاته" في مواجهة "الموضوع" إن إعترف بالإذعان للظروف الإجتماعية الجديدة وأقرّ بإختلافها عن ظروف مجتمع التنزيل قبل 1400 عاماً ، وهو ما لا يريده حتماً طالما سيحرج مثل هذا الإعتراف مدونته الفقهية ويهدم جزءاً مهماً من عقيدته الدينية.

ما لا يعرفه هذا الصنف من رجال الدين المسلمين أو يتغاضون عنه هو التفريق بين النص وروح النص. اذا كان النص يمثل الفقه/الدين ، فروح النص يمثل السياق الاجتماعي الذي يستوعب ويحوي ذلك الفقه/الدين. ان كان الاول ثابتاً فالثاني متغيراً دائماً وأبداً. ممارسة رجل الدين (خصوصاً الصنف الثالث) لوظيفته الإجتماعية ، التي هي غالباً ما تناقض وظيفته الدينية ، هي إعتراف فعلي منه أن "الاجتماعي" يحدد في كثير من الاحايين فعل "الديني" في المجتمع ، وان ثمة سياق إجتماعي يفرض نفسه على النص رغماً عنّا. لا أدري لمَ لا يأخذ رجل الدين هذا الأمر بعين الاعتبار حين يمر على كل نصوص الدين التاريخية وليس في موضوعة الأحكام الإسلامية تجاه غير المسلمين فقط. التفريق بين النص وروح النص يعطي مرونة كبيرة لنصوص الدين وشروحاتها ، وبغير هذا التفريق سيصبح رجل الدين متناقضاً وغير منسجم مع نفسه اذا ظل يصر على ان النص ثابت ، جسداً وروحاً ، لكل سياق إجتماعي بينما يمارس في ذات الوقت فعلاً إجتماعياً في الواقع مخالفاً لذلك النص احياناً ، اذ كيف يكون النص ثابتاً ونحن لا نستطيع الافلات من السياق الاجتماعي الذي يفرض علينا دوراً اجتماعياً/سياسياً محدداً يخالف نصّنا القرآني في كثير من الاحيان!

أما أن يكون الخلل في النص القرآني حيث لم يستقرأ المستقبل جيداً ليعرف إستحالة تطبيق بعض الأحكام القرآنية يوماً ما ، أو أن هذه الأحكام القرآنية لم تقصد زماناً ومكاناً غير زمان التنزيل ومجتمعه ، ففَهَمَ رجل الدين خطأً أنها صالحة لكل الأزمنة والأمكنة ، ومع فهمه هذا ، ظل يناقض هذه التفصيلة العقائدية في كثير من ممارساته الإجتماعية.

كيركيغارد (الوجودي المسيحي) كان يشير لمثل هذا التناقض بين ما تريده النفس في الواقع وما ترفضه تلك النفس في المبادئ. كان يعتقد ان عدم انسجام النفس مع نفسها مشكلة وجودية تؤدي بالفرد لليأس وبالتالي المرض حتى الموت ، يقصد طبعا الموت الوجودي وليس المادي.

The self does not relate to "the self" which will lead to despair and to the sickness unto death

هذا الصراع بين الديني والاجتماعي ليس جديداً بل مشكلة لا يستطيع حلها أي رجل دين لانها غير خاضعة لشروط الدين وحده بل للعلاقة الإشكالية بين الدين والمجتمع سويةً ، ولأنها علاقة معقدة ومتغيرة دوماً ، لا يستطيع رجل الدين الانتصار لواحد من الاثنين ، دينه او مجتمعه ، بل يعمد أحياناً الى تسوية مرتبكة بينهما لا تصمد كثيراً في الواقع. غالباً ما تكون هذه التسوية تبريراً إيديولوجياً فاضحاً يعبّر عنها آباؤنا بالمثل العراقي الشعبي الشهير "يردوها صغار تصير صغار ويردوها كبار تصير كبار".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. VODCAST الميادين | مع وئام وهاب - رئيس حزب التوحيد العربي |


.. 12345




.. لابيد: كل ما بقي هو عنف إرهابيين يهود خرجوا عن السيطرة وضياع


.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #




.. خالد الجندي: المساجد تحولت إلى لوحة متناغمة من الإخلاص والدع