الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قُصاصة ورق . . نص سردي يعرّي قسوة السلطة السورية

عدنان حسين أحمد

2017 / 5 / 16
الادب والفن


يُصنَّف كتاب "قُصاصة ورق من داخل السجون السورية" لمحمد أبو أحمد كشهادة واقعية حيّة تكشف عن قسوة النظام السوري ووحشية عناصره الأمنية في التعامل مع الضحايا الأبرياء الذين وجدوا أنفسهم في ظروف مُلتبسة داخل الأقبية والدهاليز المظلمة لسجون النظام السوري خصوصًا بعد اندلاع المظاهرات الاحتجاجية عام 2011 ولما تزل هذه المظاهر القمعية المُمنهجة قائمة حتى الوقت الراهن.
ينتمي فن "الشهادة" إلى نمط الكتابة الحميمة مثل المذكّرات، واليوميّات، والرسائل، وأدب الاعتراف، والسيرة الذاتية التي يجب أن يتطابق فيها المؤلف والراوي في أقل تقدير، كما يُستعمل فيها ضمير المتكلم الذي يركِّز غالبًا على الذات الساردة مُصوِّرًا انفعالاتها النفسية، ومُستبطِنًا مشاعرها الداخلية العميقة وهي تستقرئ الأحداث بعين محايدة لا تتكئ على المخيّلة، ولا تعوِّل على الغلوّ والمبالغات المُفرطة التي تجرّد الشهادة من مصداقيتها. فالقارئ السوري أو العربي تحديدًا يستطيع أن يميّز بين الحقائق والافتراءات، بل أن الذاكرة الجمعية للشعوب العربية تعرف سلفًا فيما إذا كانت الشهادة التي يدوّنها السجين حقيقية أم مزوّرة وذلك بسبب شيوع ظاهرة السجن بين ظهرانيها ومعرفة غالبية الناس ما يدور في زنازين السجون السريّة والعلنية. وعلى كاتب الشهادة سواء أكان أديبًا أم إنسانًا عاديًا أن يتوخى الدقّة ويتفادى الكذب أو التهويل، ويضع في نُصْب عينيه القارئ المُلِمّ بأسرار السجون التي تحفل بها البلدان العربية مع الأسف الشديد.
يقسِّم محمد أبو أحمد في مقدمة كتابه الشعبَ السوري إلى أربع فئات رئيسة وهي فئة الشهداء، والنازحين، والمُرابطين، والمُعتقَلين وهو معنيٌ بالفئة الرابعة التي انتمى إليها لمدة ثمانية عشر شهرًا وكتب عنها هذه الشهادة الحقيقية التي تكشف عن عنف السلطة السورية، وتعرّي قسوة الجلاديين البعثيّين الذين يمعنون في تعذيب الضحايا، وينتهكون حقوقهم الإنسانية، ويقتلونهم بدم بارد في الفروع الأمنية والسجون سيئة الصيت والسمعة مثل المزّة وتدمر وصيدنايا وسواها من السجون الموزّعة على خارطة الوطن المستباح.
يمكن لملمة الثيمة المبعثرة في متن الكتاب بالشكل الآتي: "قُصاصة ورق كتبها حاقد أو جبان تُفضي براوي الشهادة إلى الاعتقال لمدة عام ونصف العام في سجون السلطة السورية بتهمٍ مُلفّقة أبرزها "العمالة والخيانة"، وأقلّها تهريب السلاح، وتمويل المتمردين، وتخريب الممتلكات العامة. وحينما تُبرّئه المحكمة من التُهم الموجهة إليه يغادر إلى لبنان لبدء حياة جديدة لكنه يكتشف أن صراخ الأطفال والنساء السجينات ما يزال يتردد في أذنيه، وأن أي صوت قوي يصدر حتى من شاشة التلفاز يعيده إلى زنزانته المُرعبة، وأن مرور أي سيارة شرطة يمكن أن يضاعف من دقّات قلبه. فمتى يتخلّص من هذه المخاوف التي تكلّست في أعماقه؟". تقع خلفية الأحداث أو زمكانها في ستة أماكن معظمها فروع أو شُعَب أمنية باستثناء السجن المركزي العام. وقد استغرقت الأحداث برمتها داخل السجون 18 شهرًا كما أشرنا سلفًا لكنها تواصلت في سجن "البيت" عشرة أشهر إضافية قبل أن يسافر إلى لبنان مُثقلاً بانكساراته وخيباته الشخصية والأُسَرية. ومن الطبيعي أن يركز الراوي أول الأمر على سيرته ومعاناته الفردية ثم ينتقل إلى معاناة بقية السجناء الذين تعرّف إليهم، وصادق بعضهم داخل الفروع الأمنية ليقدّم للقارئ صورة موضوعيةعن حياة النزلاء وآرائهم السياسية أو الفكرية المناهضة للقمع والتعسّف والاستعباد.
يبدو أن الراوي قد اكتفى بضمير المتكلم ولم يمنح نفسه اسمًا صريحًا ربما لأنه سيحمل قريبًا رقم 12 وسوف يُنادى به طوال مدة بقائه في السجون الستة التي لم يسمِّ السارد المُعتقلَين الأول والثاني مُكتفيًا بكلمة "فرع" التي لا تفي بالغرض المطلوب في عمل توثيقي مثل الشهادة. كما امتدّت هذه النواقص الجوهرية إلى تفادي ذِكر المدينة التي يسكن فيها الراوي أو القسم الذي يدرس فيه بالجامعة. فالقارئ بحاجة ماسة لمعرفة هذه المعلومات وسواها من الآراء والمواقف الفكرية التي يستدلّ بواسطتها على هذه الضحية التي أمست صامتة وخائفة ومعزولة عن العالم الخارجي. ولو كان محمد أبو أحمد كاتبًا مُحترفًا لأحاطنا علمًا باختصاصه، ونوعية الكتب التي يقرأها، وهواياته المفضلة، وعلاقاته الاجتماعية والعاطفية التي تكسّر رتابة الوضع المأساوي الذي كان يعيشه داخل السجن أو في خارجه على حدٍ سواء.
يبدأ مسلسل التعذيب في الفروع الأمنية من "حفلات الاستقبال"، ويمرّ بتحطيم الإرادة، وينتهي غالبًا بالإعاقة، أو الحطّ بالكرامة الإنسانية، أو الموت وقد أورد الراوي في بعض هذه الفروع التابعة لأمن الدولة (أو المخابرات) والأمن السياسي عددًا من أنواع التعذيب المعروفة في السجون السورية نورد منها الضرب بالأيدي والأرجل والعصي والهراوات والأسواط، و "الشبح"، وصعق الأعضاء الحساسة بالكهرباء، وإجبار السجناء على النباح والنهيق وتقليد أصوات الحيوانات التي قد تخطر ببال الجلاد. كما يُعدّ الاكتظاظ، والاختناق، والحرمان من الماء والطعام والنوم والجلوس لساعات طويلة في الليل والنهار نوعًا من طرق التعذيب التي يتبعها السجّانون في الفروع الأمنية.
يشير الراوي إلى أن التعذيب لا يقتصر على الرجال حسب وإنما يمتد إلى النساء من مختلف الأعمار حيث يقول:"صرخات النساء الشيء الوحيد الذي لن ينساه المعتقَل حتى تفارق الروح الجسد"(33) وفي موضع آخر يُصدَم الراوي حينما يرى طفلاً في التاسعة من العمر يدخل الزنزانة باكيًا مرددًا:"أريد أمي، أريد أن أعود لمنزلي، أمي تنتظرني"(36).
يخرج الراوي من أناه المتمركزة على الذات لينفتح على سجناء آخرين مثل الرجل الشجاع الذي كان يصرخ بوجه مُعذبيه: "فكّوني يا جبناء"، والعم أبو ماهر الذي كان يصلّي بصمت لأنهم يمنعون الأصوات المسموعة، وسوف يموت هذا الرجل اختناقًا بسبب شحّة الهواء. كما نتعرف على العم "أبو فيصل" الذي سوف يساعد الراوي على الإتصال بأهله، ومحمود الذي غاب سنتين ونصف السنة لأنه كان "يفكر بالانشقاق"، وأبو محمد الذي دهموا منزله في منتصف الليل وأخذوا معه زوجته وابنه الوحيد لأنه "إرهابي" فكيف ترضى زوجته أن تعيش مع "إرهابي" وقائد مجموعة مسلحة؟ وخالد الذي أُعتقل حينما كان عمره 16 سنة لكنه وصل إلى السجن المركزي بعد 25 شهرًا من التنقّل بين الفروع الأمنية بتهمة الاغتصاب والقتل مع أنه لم يكن يعرف معنى الاغتصاب في حينه لينتهي به الأمر في سجن صيدنايا الذي تقشعِّر لذِكره الأبدان.
يزوِّدنا الراوي بمعلومات دقيقة عن الوجبات العذائية الشحيحة للسجناء والتي تقتصر على بضع حبّات زيتون صباحًا، وحفنة من الرز البارد ظهرًا، وكمية من البطاطا المسلوقة مساءً. أما الوجبة الساخنة، أو كأس الشاي أو حتى "رأس" البصل فيغدو حلمًا يراود السجناء جميعًا.
تنعدم الرعاية الصحيّة في السجون الأمنية وغالباً ما يعاني السجناء من الحكّة والجرب والتقيّح. أما الأطباء والممرضات في المستشفيات الأمنية فهم أكثر قسوة من ضباط المخابرات على حدّ وصف الراوي. وهذه القسوة والفظاظة سوف نلمسها عند "السُخرات" و "رؤساء المهاجع" الذين يكونون غالبًا من المهرّبين أو تجّار المخدرات الذين تُناط بهم مسؤولية تنظيم السجناء في الزنازين وتوزيع الغذاء عليهم. خلاصة القول إنها شهادة صادقة تهزّ القارئ على الرغم من بساطة التقنيات الأدبية والمقاربات الفكرية المتواضعة التي يمكن تلمّسها بين تضاعيف هذا النص السردي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا