الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نيتشه - ومفهوم العدمية

تيسير الفارس العفيشات

2017 / 5 / 17
مواضيع وابحاث سياسية



يقول نيتشة في الرسالة الثالثة من رسائله إلى فاغنر ( ينطوي الكون على هوة سحيقة هي هوة العدم اذ لا يمكن أن يجتازها إلا الانسان المتفوق الذي ينظر الى أعماقها فيجدها تتلاشى .
كيف لك أن تكون هناك بعيدا ويكون حضورك هو بمثابة العدم ؟ لكنك لن تفعل فالرياح لم تأتي بعد معلنة مولد العاصفة التي لا ترحم الضعفاء ... ها أنا ذا استمطر لعناتي عليكم يا من لا تزالون بشرا .....).
لا وجود للعدم ماديا و لكن تاثيره واضح و ملموس في العقول التي دمرتها خرافة ..... الفناء .....إن تحول صور المادة هو عين العدم ... كيف يعرف العدم انه عدم ! أو انه موجود دون ان يعي ذاته ؟ وهو لا يعي ذاته الا من خلال نقيضه الذي هو الوجود ! لاتعرّف هنا الأشياء بإضدادها ، لأنه لا يمكن أن يستوي الوجود والعدم على مبدأ النقيضين . ذلك أن الوجود هو موجود وكونه موجودا لايمكن أن يتصور العدم بالمطلق ...هنا تتجسد العدمية في الوجود كما تتجسد في الكون ..
قبيل بداية القرن العشرين تقريبا ، كتب نيتشه في مؤلّفه الشهير (إرادة التفوّق) يقول: إنّي أروي تاريخ القرنين القادمين أصف ما سيأتي وما لا يمكن أن يتأخّر في المجيء: انبثاق العدمية، هذا التاريخ قابل للرواية منذ الآن، لأنّ الضرورة نفسها، سوف تعمل عملها، ويتحدّث هذا المستقبل بمائة لسان، وقد أمسى هذا المصير يُعبّر عن نفسه في كلّ مكان.ها هو العدم يطل برأسه العنيف بعد أن توارى الى الاف السنين في العقل كما روته الفلسفة بشكل مقيت ....
يعتبر نيتشه العدمية حالة انتقالية ، انتهت إليها الحضارة المعاصرة، بعد أن أدركت بأنّ الوجود في أساسه، بلا غاية، بلا وحدة، وبلا حقيقة ، وقد قدّر للبشرية أن تدرك هذا الفراغ المروّع، عقب حقب طويلة من اليقين السعيد بأنّ هناك دائماً، ما يبرّر وجود الإنسان ووجود الكون ، كان الاعتقاد الرّاسخ لدى البشر، أنّ الوجود يحمل معناه في ذاته، وأنّ مهمتنا هي أن نكتشف هذا المعنى ونتصرّف على ضوئه.هكذا ضللنا سقراط بمبدأ الغاية والقيمة سيئي الذكر ...كما رواهما تلميذه افلاطون في محاوراته ثم عمقها ارسطو واضاف عليها منطقة الصوري حتى سجن العقل الذي كان يسبح في ملكوت الحرية الصافية مع انكسمارس وفايتغورس ..
ربّما تكون العدمية محطّة إجبارية، نظراً إلى العهود الطويلة من اعتقاد الناس بوجود معنى وغاية للحياة، غير أنّ ما يعيبه نيتشه على الأنظمة والأنساق السياسية والفكرية الحديثة، أنها ترسّخ في النفوس، التعلّق بالأمل والمعنى، وتساهم في تبرير العدمية وإغلاق منافذ الخروج منها، بعد كل مرّة يتبدّد فيها وهم الأمل. كل ذلك على حساب الأنطلاق في فضاء الحرية بحدودها الواسعة الشاملة
إنّ العقلانية ، لم تقدّم، حسب نيتشه، أيّة إمكانية للنّجاة من العدمية، بل إنّ العدمية نفسها، لا تبدو حسب النقد النيتشوي، سوى باعتبارها الأفق الأخير لقيم االحضارة . فكيف أمكن لنيتشه أن ينظر إلى مشروع الحضارة هذا، باعتباره باباً مشرعاً على الأفق العدمي؟ وهل يكون نيتشه، بذلك التشخيص القاسي، قد منح المرور لكافة الموجات المعادية للعقلانية وللحداثة لكي تثور من داخل الفلسفة ؟ ثم تكون نبؤته تلك صادقة ؟
قال فوكو، ان أعظم إنجاز قدمه نتتشه هو تحطيم هذا الصنم صنم العقل وتحرير الفلسفة من قبضته .الأمر الذي أدى بانهاية الى تحطيم الخلاق وتدمير القيم ..
أنّ نيتشه مثلا كان يرى بأنّ الاعتراف بالتساوي المتبادل والمتكافئ للجميع ، من شأنه أن يقتل كلّ رغبة في الاعتراف، ذلك أنّ الاعتراف هذا لا يكون مبرّراً إلاّ حيثما نسمح للناس بإمكانية أن يتفوّق بعضهم على بعض. إذ لا بد من تدمير مبدأ المساوة الكاذب .....
وبكلمة أخرى، فإنّ نهاية جدل العبد والسيد، بانتصار مبدأ الاعتراف بالحقّ في المساواة الكاملة، من شأنه أن يشلّ رغبة الأفراد في الاعتراف، وهي رغبة لن يكون لها أيّ معنى داخل مجتمع يحرم أعضاءه من الحقّ في أن يتفوّق بعضهم على البعض الآخر، فالرّغبة في الاعتراف هي أساس التفوّق؟ وهل بوسعنا أن نربّي أطفالنا على المساواة إذا كنّا لا نريد أن نسلبهم الرّغبة في التنافس وإرادة التفوّق على بعضهم البعض، بمعنى أن لا نحرمهم تلك الطاقة الحيوية والتي تمنحهم الاندفاع نحو الإبداع والذي هو أساس تطوّر الحضارة؟ ألا تقتل المساواة إمكانية تطوّر الحياة نحو الأفضل، ومن ثمّة تحوّل الناس إلى مجرّد كائنات بلا طموح ولا مبرّر؟ أليس ثمّة خطر يهدّد البشرية بالانحطاط والنزول إلى المنحدر، حين يتحوّل الناس إلى كائنات برّية من دون أيّ طموح؟
اِنّ المُساواة تقضي على إرادة التفوّق، وتقتل من ثمّة كلّ دافع إلى الإبداع، إلى الابتكار، إلى المُبادرة وروح المغامرة، بمعنى أنّها تقتل الشرط الإنساني، حيث يعود الإنسان إلى الانحطاط ثانية، وهذا هو السبب الذي جعل نيتشه يمقت مبدأ المساواة والإخاء، المحبة، الرّحمة …الخ.
ربّما يتجلّى هذا إلانجاز الذي خققته هذه النظرة هي في تجريم العقل، الذي أقر هذه القيم وجعلها تسود عبر التاريخ ، إن تجريم مبدأ المساواة، والذي بات الكثيرون ينظرون إليه باعتباره مسوّغا للاستبداد وقمع حريات الأفراد، وهو الأمر الذي ساهم في تقلص مبدأ المساواة داخل مساحة الوعي المُعاصر، وسينحسر مطلب المساواة، داخل مطلب المُساواة بين الجنسين، أمّا المساواة بين المواطنين، فلقد تمّت الاستعاضة عنها بمبدأ الحقّ في الاختلاف وهنا تشتد حملة نيتشة على هذا المبدأ وعلى كل منظومة القيم التي استقرت في الوعي الزائف .
ولكن إذا كانت المساواة المطلقة والاعتراف المتبادل والمُتكافئ للجميع قد يشلاّن مسألة الاعتراف المتبادل ذاتها، ممّا يؤدّي إلى توقّف كلّ اندفاع وطموح للأفراد، وسيادة سلام أبديّ، لكنّه سلام عقيم لا ينتج أحداثاً ولا يصنع صيرورة، أليس ذلك أقرب إلى سلام السلاحف،؟ إلاّ أنّ إرادة التفوّق، كما نادى بها نيتشه، قد تكون في المقابل، مسوّغاً لحروب لا طائل من ورائها سوى إرادة التفوق، بمعنى أنّنا قد ندخل في مرحلة عنف جديد، هو العنف المجاني، العنف العبثيّ والعنف الذي لا غاية له سوى العنف ذاته؟ لكن هذا المفكر الذي سقط من كوكب آخر يعلم أن هذا لا يكون ولن يكون متى ساد مبدأ الاعتراف ليس بصيغته المثالية ولكن بصيغته البنيوية ـ هذا المصطلح الذي عاد اشتراوس يؤسس عليه منهجيته في التوازن الخلاّق في المجتمع الوحشي الذي يصوغ عقلانيته الخاصة ...
لكن نزعة إغتيال العقل أو تدميره أواقصائه الى الجانب البعيد تبدو مروّعة بمعناها العام .. نحن مع نيتشة ومع كل تلاميذه الذين أوقد فيهم نار المعرفة وجحيم الثورة، في أن العقلانية كما تم تأسيسها وتأليهها فيما بعد لم تعد هي الملاذ الآمن للإنسان القلق الذي الذي يبحث عن المعنى العام لوجوده المروع في هذا الكون .. ولم تعد أسئلة الوجود هي مبرر الوجود فقط ـ هكذا تكلم زارا ـ
إذا كانت إحدى أبرز خصائص الجدل الهيجلي، تتجلّى في أنّه مفتوح على إمكانية الحلّ التركيبيّ بين القضية ونقيضها،.هذا يعني أننا أمام مأساة كبرى لم تتخلص منها الحضارة الغربية الى هذا الوقت الراهن والتي لا تزال تضغط على الوعي بشكل مقيت . لا يزال هذا الإمكان ويا للأسف مستمرا ..
إننا نعيش اليوم، في عصر نقيض القضية، إذ يتحدّث غاستون باشلار عن فلسفة النفي، كما يتحدّث جاك ديريدا عن التفكيك، و هيدجر عن التقويض، ويتحدث كامي عن التمرّد وعن النفي المنهجي. لكننا مع ذلك لا نشهد هذا التطور الذي يجب أن يعاش في مستوى الصيرورة التاريخية أو الانتقال الشامل على مستوى التفكير العام .
إن الأمر يتعلق بعصر من عصور الفلسفة، عصر يتّسم بمفاهيم النفي والرّفض والتقويض، وإذا كان العقل هو الأطروحة الأصلية للفلسفة الغربية، فيبدو وكأنّ الأطروحة المُضادّة خرجت هي الأخرى من رحم الفلسفة الغربية أو من عباءتها . إنها اطروحة التقويض المنهجي المستمر ولآخذ في التمدد والاتساع حتى يأتي فيدمر كل شيء .....
ما هي حكاية الأطروحة المُضادّة؟
بزغ العقل عقب عقود طويلة من سطوة الأسطورة وسيادتها ، جاء هذا العقل حاملاً رسالة تحرير الإنسان من عبودية المعبد ومن سلطة المُقدّس، بيد أنّ النتيجة كانت بخلاف الهدف المعلن، فبدل تحرير الإنسان من العبودية المقدّسة، تحوّل العقل إلى اقنوم يعبد الى إله .
حين نتحدّث إذن عن نزعة اغتيال العقل داخل الحضارة الغربية المعاصرة، فإنّنا نحكي عن ملحمة جدلية القتل والتأليه، كما لو أنّ التأليه هو الذي يمنح المعنى للقتل ذاته؛ أعلنت البنيوية موت الإنسان، لكن فقط بعد تأليهه من طرف النزعة الإنسانية.
موت العقل إذن، مشهد جديد من مشاهد دراما يتمثّلها الوعي على الدّوام، امتداد لموت الآلهة، أو موت الأشياء المؤلهة، الموت الذي يعقب التأليه، بخلاف جدليّة الحضارات الأخرى. وهنا يكمن عنصر المأساة ، منذ أعلن هيراقليطس الحرب الأبدية بين الآلهة والبشر.
عندما ينام العقل تستيقظ الأشباح؛ يقول غويا، لكنّ الأشباح كان عليها أن تستيقظ هذه المرّة، قبل إعلان العقل عن نومه، قبل الإعلان عن وفاته، وبغاية المشاركة في عملية التنويم أو الاغتيال.
هكذا بدأ العمل على إثارة كلّ الهوامش المُضادّة للعقل، من قبيل الدفاع عن ، عن المجانين وحقوقهم، عن المُدمنين وأهوائهم، عن العبث، الوهم، اللاّمعنى، الرّوحانيات، عن كل الحماقات، والخرافات، ومرّة أخرى، تحت عنوان أصبح قليلاً ما يعني ما يقول حين يقول: حقوق البشر .............
ولرُبّما لا يكمن جوهر المشكلة في الدفاع عن الهوامش، فتلك مهمّة ممكنة من داخل الرهان الحداثي التنويري نفسه، وليست المشكلة في المُراهنة على نقيض القضية، أي على الهوامش المُضادّة للعقل، فتلك مهمّة لا تنزاح عن الجدل العقلانيّ، غير أنّ ما يُثير الانزعاج، هو أنّ المراهنة جاءت جذرية، وبالنحو الذي يجهض أية محاولة للتسوية بين العقل والنقد.
هكذا بدا العقل لأوّل مرّة في التاريخ، ماثلا في قفص الاتهام، وكان صكّ الاتهام يتضمّن لائحة ادعاء تاريخية طويلة ... فجرها هذا الكائن في نهاية المطاف
ارتأت التيارات المعادية للحداثة، الدّعوة إلى التمسك بمفاهيم العقل، التقدّم، الحقيقة، المعنى…والتي جرى الاعتقاد بأنها مفاهيم مُنتجة للوعي والحقيقة ، ولكن ماذا عن المفاهييم المضادة من قبيل الاختلاف، التأويل، التنوّع، ضلال المعاني وإحلال المسكوت عنه في فضاء الواقع … إلخ.
هذا هو القرن الواحد والعشرون، والذي تنبّأ نيتشه بأنّه سيكون هو الآخر قرناً عدمياً، وتوقّع أندريه مارلو بأنّه سيكون قرناً دينياً، ووسمه مشيل أونفراي بأنّه عصر عدميّ، وعلى الأرجح فإنّه هذا وذاك، عصر دينيّ وعدميّ في نفس الآن، إنّه العصر الذي التقى فيه العدم بالمطلق، والعبث بالمُقدّس.
هنا يكمن الإخفاق الكبير لفلسفات العقل ، بيد أنّنا أمام إخفاق لا يُبرّر لنا عدم الإصغاء إلى تلك الفلسفات، طالما أنّ العقلانية مشروع لا يكتمل إلاّ بفعل الإنصات الدّائم للأصوات الخارجة عنه. وذلك الصوت القادم من بعيد هو صوت المطرودين وأنا قد أكون واحد منهم.......
إن نيتشة يريد أن يوصل لنا رسالة نبوية تقول لا تريد، لا تقرّر، لا تطلب ولا تطالب، إن الكائنات لا طموح لها، لا رغبة ولا إرادة لها، مُجرّد صيرورة بلا مشروع أو مشروع حضور لا يكتمل ولن يكتمل من أجل غياب مُدمّر. ....

تيسير الفارس
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله اللبناني يوسع عملياته داخل إسرائيل ويستهدف قواعد عس


.. حزب الله يعلن استهداف -مقر قيادة لواء غولاني- الإسرائيلي شما




.. تونس.. شبان ضحايا لوعود وهمية للعمل في السوق الأوروبية


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية.. وطلاب معهد




.. #الأوروبيون يستفزون #بوتين.. فكيف سيرد وأين قد يدور النزال ا