الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إحباط مخطط لإحراق الجزائر في1962

رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)

2017 / 5 / 22
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني



كثيرا ما يتداول البعض أن إتفاقيات إيفيان تنازلت كثيرا عن مصالح الجزائر، لكن لم يكن هدف هؤلاء في الحقيقة إلا تصفية حسابات مع خصومهم وإيجاد مبررات لبعض السياسات فيما بعد، كما يعود أيضا لعدم معرفة دقيقة للوضع الصعب آنذاك بعد ما دفع الجزائريون ملايين الشهداء من أجل إسترجاع إستقلالهم وبناء دولتهم الوطنية.
يجهل الكثير من المؤرخين وما بالك بعامة الناس بأنه توجد إلى حد اليوم 14 دولة أفريقية تدفع لفرنسا جزء من ميزانيتها كضريبة لما يسمى ب"ضريبة الإستعمار والرق"، وقد وضعت هذه الضريبة عندما طالبت هذه الدول بالإستقلال عن فرنسا، وكانت أول ضحية لذلك هي غينيا، فعندما طالب الزعيم الوطني الغيني أحمد سيكوتوري بإستقلال بلاده، وضغط بذلك بوسائل عدة لجأت فرنسا الإستعمارية في1958 إلى تدمير الكثير من المنشآت في غينيا بدعوى أنها هي التي أنجزتها، مما دفع سيكوتوري إلى التنازل نوعا ما عن بعض مطالبه، فمنذئذ أصبح ذلك شرطا فرضته فرنسا على مستعمراتها، فمن أرادت الإستقلال من مستعمراتها فعليها إما تدميرها أو تدفع ما تسميه "ضريبة الإستعمار والرق" كمقابل أو تعويض لما أنفقته ما تراه فرنسا الإستعمارية منجزاتها ومنشآتها في هذه البلدان، فمنذ تلك الفترة كلما حاول رئيس أفريقي لهذه الدول 14 التخلص من دفع هذه الضريبة المهينة تعرض لإنقلاب عليه من ضباط صغار نصبتهم فرنسا الإستعمارية، ويعد ذلك أحد الأسباب لحوالي 26 إنقلابا عرفتها هذه الدول في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
لعل الجزائريون لا يسمعون بذلك لأن المفاوضين في إيفيان رفضو هذه الضريبة المهينة جملة وتفصيلا، وقاموا بالضغط أكثر على دوغول بوسائل شتى، لكن تنازلت قيادة الثورة لفرنسا ببعض المصالح التي تعد تنازلات تكتيكية، ومنها مسألة المحروقات في الصحراء، والذي كان في الحقيقة في صالح الجزائر آنذاك لأنها لم تكن قادرة على تسيير شؤون المحروقات حتى حظرت نفسها جيدا بفضل الإطارات التي كونتهم سوناطراك التي تأسست في1963، وكان بلعيد عبدالسلام أول مسؤول عليها، وعندما أصبحت الظروف مواتية أممت الجزائر المحروقات في 1971، كما أممت البنوك والمناجم في 1966 إضافة إلى إنهاء غير منتظر لكل تلك الإلتزامات التي فرضتها إتفاقيات إيفيان على الجزائر.
لكن كانت منظمة الجيش السري على علاقة غير مباشرة بعناصر من السلطة الفرنسية في باريس، وكانت تضغط بطريقة غير مباشرة على الجزائر بالقبول بذلك الشرط المهين الذي يسميه ب"ضريبة الإستعمار والرق"، وذلك عندما لجأت هذه المنظمة الإرهابية إلى تدمير العديد من المنشآت منطلقة من أكذوبة أن الجزائر هي من صنع فرنسي، وأنها كانت لاشيء قبل مجيئها و إحتلالها في 1830، ولهذا فلن تتركها حتى تدمر كل شيء، أي نفس الفكرة التي دفعت إلى ما وقع في غينيا من تدمير فرنسي للمنشآت في 1958.
ولهذا كله يعد توقيع إتفاقيات إيفيان في 18مارس1962 إنتصارا كبيرا للثورة الجزائرية، مادام أنها حققت الهدف الإستراتيجي للثورة المتمثل في "الإعتراف الفرنسي التام بالسيادة الجزائرية على كل التراب الوطني"، والذي نص عليه بوضوح بيان أول نوفمبر1954 ثم كرسته أرضية الصومام في أوت1956، لكن هذا لايعني أن إتفاقيات إيفيان حققت كل شيء للجزائر، بل ضمت تنازلات تكتيكية من جبهة التحرير الوطني مقابل تحقيق الأهداف الإستراتيجية للثورة، لأنه من المستحيل تحقيق كل شيء في أي مفاوضات كانت.
لكن بعد إعلان وقف إطلاق النار في 19مارس1962 ظهرت تحديات أخرى أمام قيادة الثورة، وأولها كيفية التعامل مع منظمة الجيش السري التي أسسها غلاة المعمرين بهدف الحفاظ على ما يعتبرونه "الجزائر الفرنسية"، والتي سعت إلى إفشال تطبيق إتفاقيات إيفيان، وأستخدمت أساليب إرهابية بشعة ضد جزائريين وكذلك أوروبيين كانت تراهم مؤيدين لجبهة التحرير الوطني، وقامت بعمليات أيضا ضد الجيش الفرنسي، كما عمدت إلى تدمير كل ما تعتقده أن فرنسا الإستعمارية هي التي بنته، وينطلقون في ذلك من طرح عنصري يقول بأن الجزائر كانت صحراء قاحلة قبيل مجيء الفرنسيين، ويجب إعادتها كما كانت قبل1830.
ففي هذه الظروف أرسلت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كل من عمر أوصديق والكومندان عزالدين لمواجهة جرائم هذه المنظمة الإرهابية، خاصة في العاصمة، لكن بشكل سري، وقد روى الكومندان عزالدين الكثير من هذه الأعمال في كتابه "الجزائر لن تحترق"، وساعدهم في ذلك المواجهة التي وقعت بين الجيش الفرنسي مع هذه المنظمة التي كانت تستهدفه أيضا، لأنها ترى أنها تنازلت لجبهة التحرير الوطني، ومادام الأمر كذلك، فستقوم بأعمال تراها شبيهة بأعمال جبهة وجيش التحرير الوطني للضغط على دوغول كي يتنازل لغلاة المعمرين.
أمام هذه الأعمال الإرهابية عملت الهيئة التنفيذية المؤقتة بقيادة عبدالرحمان فارس من أجل إيقاف هذه الأعمال الإرهابية، تشكلت هذه الهيئة بموجب إتفاقيات إيفيان، وأتخذت بومرداس مقرا لها لصعوبة الإقامة في العاصمة بحكم الأعمال الإرهابية لمنظمة الجيش السري في العاصمة، وتضم الهيئة عناصر من جبهة التحرير الوطني إلى جانب عناصر فرنسية لتسيير المرحلة الإنتقالية وتنظيم الإستفتاء حول إسترجاع الجزائر إستقلالها..
تمكنت الهيئة بواسطة أحد أعضائها وهو المناضل شوقي مصطفاي من التوصل إلى إتفاق مع منظمة الجيش السري، وهو ما يسمى بإتفاق مصطفاي-سوزيني في 17جوان1962، وهذا الأخير كان عضوا قياديا بارزا في منظمة الجيش السري، ونص الإتفاق على وقف هذه المنظمة الإرهابية أعمالها مقابل ضمان حقوق للأوروبيين، لكن في الحقيقة ما سمي بالضمانات، قد نصت عليها إتفاقيات إيفيان، ولهذا نقول أن المنظمة قد أوقفت أعمالها الإرهابية بسبب الضربات التي تلقتها على يد مجموعات أوصديق-عزالدين، وكذلك إلقاء الجيش الفرنسي القبض على قائدها العسكري الجنرال سالان في وهران التي كانت مسرحا كبيرا لأعمالها الإرهابية بحكم العدد الكبير للأوروبيين فيها.
لكن رفض كل أعضاء الحكومة المؤقتة إعطاء الضوء الأخضر للتوقيع على هذا الإتفاق لأسباب تعود إلى تحد آخر عرفته الجزائر آنذاك، وهو بدايات الصراع حول السلطة، وخشيت هذه الحكومة من إستغلال خصومها الممثلين في بن بلة وقيادة الأركان العامة بقيادة هواري بومدين، فيتهمونها بالتفاوض مع جماعات إرهابية والتنازل لها، لكن أخذ كل من كريم بلقاسم ومحند ولحاج قائد الولاية الثالثة مسؤولية إعطاء الضوء الأخضر لمصطفاي بالتوقيع متحملين كل الإتهامات الموجهة لهم من خصومهم آنذاك، وكان مبررهم حقن الدماء وإنجاح تنفيذ إتفاقيات إيفيان التي وقع عليها كريم بلقاسم.
عاشت الجزائر في هذه المرحلة الإنتقالية صراعا حول السلطة بدأ في مؤتمر طرابلس بعد الخلاف حول من سيقود الجزائر بعد إسترجاع الإستقلال، فبقي المؤتمر مفتوحا إلى حد اليوم، ولم يغلق، وعرف أحداثا مؤسفة بين أعضاء المجلس الوطني للثورة، فشكل بن بلة مكتبا سياسيا يراه أنه شرعي ومنبثق عن المؤتمر، وهو ليس صحيح، واعتبرت الحكومة المؤقتة نفسها أنها المؤسسة الشرعية التي يجب أن تستمر في مهامها حتى يتم إنتقال السلطة نهائيا إلى المجلس التأسيسي الجزائري، الذي سيأتي بعد إنتخابات تعددية، كما نصت على ذلك إتفاقيات إيفيان، وهو ما لا يشير إليه الكثير للأسف.
انقسمت الجزائر إلى مجموعتين متصارعتين من أجل السلطة، أحدها مدعومة من قيادة الأركان العامة المتمثلة في الجيش الرابض وراء الحدود مدعوم بقيادات الولايات الأولى والخامسة والسادسة، فعندما أقول القيادات معناه أن الكثير من مجاهدي هذه الولايات، لم يقبلوا بذلك، لكنهم قبلوا بالأمر الواقع والإلتزام بأوامر قائد أو قيادة تلك الولايات، فهذا أمر معروف في مجتمعاتنا أين يلتزم الجميع بما يقرره المسؤول الأكبر، حتى ولو كنا غير راضين عنه.
أما المجموعة الثانية، فتتكون من أعضاء الحكومة المؤقتة ومعها الولايات الثالثة والولاية الثانية قبل أن يحدث إنقلاب بداخلها ضد قائدها صالح بوبنيدر، أما الولاية الرابعة فرفضت دخول أي كان للعاصمة، ودخلت في إشتباكات مع قوات ياسف سعدي الذي دعم مجموعة بن بلة- بومدين، فخرج الشعب يصيح سبع سنين بركات.
فقد كان الشعب الجزائري رافضا لكل تلك الصراعات، فقد صفق وهتف بحياة بن خدة وكريم بلقاسم، كما هتف بحياة بن بلة، فقد كان منهكا من جراء ثورة دامت سبع سنوات، ووظفت مجموعة بن بلة-بومدين ذلك الإنهاك لصالحها بنفس الطريقة التي أستغل فيها الأمويون إنهاك المسلمين بعد الفتنة الكبرى لصالحهم، ليأخذو السلطة ويفعلون ما يريدونه، خاصة وأن جيش الحدود كان قويا على عكس مجاهدي الداخل الذين أنهكتهم الحرب ضد الجيش الإستعماري.
لكن بعد أكثر من 50سنة من سيطرة ما يسمى ب"مجموعة وجدة" على السلطة عادت الجزائر إلى نقطة البداية، فعاد الكلولون بطريقة أخرى بعد ما سيطر المال الفاسد على دواليب الدولة، وبدأت تبرز بجلاء مظاهر الولاء لفرنسا من خلال الإرتباط بها، فما نخشاه هو عودة فرض هذه الضريبة المهينة التي تحدثنا عنها في بداية مقالتنا، فتطبق على الجزائر، هذا إن لم تكن تطبق الآن بأشكال أخرى، وإلا كيف نفسر إعطاء فرنسا كل المشاريع الإقتصادية على حساب مصالح الجزائر اليوم ومساعدتها عند كل أزمة إقتصادية تلم بها؟، فكلما أفلست شركة فرنسية سارعت عناصر من السلطة في الجزائر إلى إنقاذها بإعطائها إستثمارات أو أسواق، بل لوحظ أثناء الإنتخابات الأخيرة إبعاد بأساليب ملتوية للكثير من المترشحين المرتبطين بروح الثورة الجزائرية، ويحملون خطابا حريصا على مشروعها، ويعمل من أجل تحرير الجزائر من أصحاب المال الفاسد الذين يزحفون على دواليب الدولة للسيطرة عليها، والذيين لاتختلف ممارساتهم عن ممارسات الكولون في الماضي الإستعماري البغيض، فسيربط هؤلاء الجزائر أكثر بباريس كما ربطها الكولون الأوروبيون في الماضي.

البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإنفاق العسكري العالمي يصل لأعلى مستوياته! | الأخبار


.. لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م




.. ألفارو غونزاليس يعبر عن انبهاره بالأمان بعد استعادته لمحفظته


.. إجراءات إسرائيلية استعدادا لاجتياح رفح رغم التحذيرات




.. توسيع العقوبات الأوروبية على إيران