الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دماء على كرسي الخلافة -25-

علي مقلد

2017 / 5 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مرة أخرى ، نعود إلى قصة "الخلافة الإسلامية" ، لسرد تاريخ المعارك التي دارت بسببها ، وكم الدماء التي سالت على أعتابها ، والرقاب التي ذبحت ، والأجساد التي صلبت ، والأرواح التي أزهقت ، بسبب الصراع بين أمراء الحرب المسلمين ، على أيهم أحق بالجلوس على " كرسي الخلافة " .
كنا في آخر مقال ، قد توقفنا عند ثورة القائد العسكري يزيد بن الملهب بن أبي صفرة ، وخروجه على بني أمية والمعارك التي دارت بين الفريقين حتى قتل ، واليوم نحن أمام شخص مختلف ، فهو رجل دين ، وإمام في زمنه ، يذكره المؤرخون من السنة والشيعة ، بكل خير ويؤكدون أنه كان أهل علم وورع وتقوى ، لكن بريق السلطة يعمي العيون ويصم الآذان ، إنه زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكانت ثورته ومطالبته بالخلافة في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وذلك في 122 هـ ، وزيد هذا هو الذي تنسب إليه " الزيدية" إحدى فرق الشيعة ، وإن كانت تختلف عن بقية الفرق في أنها تجيز وجود أكثر من إمام في وقت واحد في قطرين مختلفين، كما أن الإمامة "السلطة والخلافة" لدى الزيدية ليست وراثية بل تقوم على البيعة من أهل الحل والعقد.

معلوم أن ذرية علي بن أبي طالب ، كانوا على كراهية كبيرة لسلطة بني أمية ، وفكرة الخروج على الخلافة الأموية راودت الكثيرين منهم ، ولكن المصاب الكبير الذي لحق بالطالبيين عام 61 هـ ، وما جرى في معركة كربلاء من مقتل الحسين بن علي وذريته في مشهد بشع ، كان يمنعهم من الخروج المسلح ، حتى جاء زيد بن علي ، المولود في المدينة المنورة " يثرب" سنة 80 هـ عند الرأي الأرجح من المؤرخين ، وهو كان يجمع بين فقه التشيع الذي تلقاه على يد أخيه الأكبر محمد الباقر، أحد الأئمة الاثني عشر عند الشيعة الإمامية، كما اتصل بواصل بن عطاء مؤسس فرقة المعتزلة وتأثر به وبأفكاره التي انعكست على فكر الشيعة الزيدية في العقائد، كما كرس واصل بن عطاء عند زيد بن علي ، فكرة الخروج على الحاكم .
لكن كاد العمر أن يمر دون أن يخرج زيد شاهرا سيفه مطالبا بالسلطة لقلة الأنصار ، وإن كانت الفكرة موجودة والنية لديه معقودة، حتى لاحت الفرصة له على حين غرة ، عندما غضب الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك على والي العراق خالد بن عبد الله القسري ، بسبب وشايات من خصومه ، فقام بعزله وكلف مكانه يوسف بن عمر الثقفي والي اليمن ، فكان أول ما فعله يوسف عندما دخل العراق ، هو القبض على خالد القسري والتحفظ على كل أمواله ومحاسبته عليها ، وأثناء المحاسبة ادعى البعض على خالد ، أنه قد أودع جزءًا من ماله وديعة عند زيد بن علي، فأمر الخليفة زيدا ، بالتوجه إلى الكوفة ليتحقق من هذه التهمة، وبالفعل ذهب زيد للكوفة واستبانت براءته من تلك التهمة، ولكنه ظل مقيمًا بالكوفة لبعض الوقت لما رأى أنصاره هناك كثر ، ويطالبونه ليل نهار بالثورة حتى استقر بينهم وتزوج منهم .

لكن من يقرأ سيرة زيد بن علي ، ربما يفطن إلى أن الأمويين استدرجوه للكوفة ، ليختبروا مدى عزمه على الخروج على سلطتهم ، فهشام بن عبد الملك كان يعلم أن زيد يطلب الخلافة ، وأنه يذكر ذلك دائما في مجلسه وبين أنصاره ، بل أن هشام واجه زيدا بذلك ، وقال له على مرأى ومسمع من الشاميين في بلاط الخلافة : لقد بلغني يا زيد أنك تؤهل نفسك للخلافة ، وما أنت بأهل لها، فأنت ابن أمة " يقصد أن والدة زيد من الإماء وليست من الحرائر " فقال له زيد " إني لا أعلم أحدا أعظم منزلة عند الله من نبي بعثه ، وهو ابن أمة ، وهو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، فالنبوة أعظم منزلة عند الله أم الخلافة يا هشام ، كما لا يقصر برجل " يقصد نفسه" أبوه رسول الله وهو ابن علي بن أبي طالب .
الحوار السابق والذي أغضب الخليفة الأموي ، يؤكد أن بني أمية كانوا على علم بتحركات زيد وطلبه للخلافة ، فربما قرروا أن يضعوه في بيئة مناسبة للخروج عليهم للتخلص منه ومن دعوته خاصة أنه كان صاحب فكر وفقه وجرأة ، وهو ما كان فقد ابتلع زيد الطعم كما يقال ، ولما وجد نفسه في العراق حيث الأغلبية الكارهة لحكم بني أمية والمؤيدة لذرية علي بن أبي طالب ، حتى أغرته الظروف والملابسات بإعلان الخروج على هشام بن عبد الملك .
وبالفعل انهال عليه الناس من كل حدب وصوب بالآلاف يبايعونه ويقسمون بين يديه بالقتال حتى الموت ، وزينوا له الخروج حتى اجتمع عنده ديوان به أسماء أربعين ألف مقاتل، واستغل زيد انشغال والي الكوفة يوسف بن عمر بمحاسبة الوالي السابق خالد القسري ، فأخذ يتنقل بين أهل الكوفة وضواحيها يؤلب الناس على الثورة ويطلب البيعة لنفسه ، حتى وصل الأمر إلى هشام بن عبد الملك فأرسل ليوسف بن عمر يوبخه ويعلمه بحركة زيد بن علي، فأخذ يوسف في البحث عن زيد والتضييف عليه بشتى الوسائل.
لما علم زيد ، أن أمره انكشف للأمويين تعجل في الخروج وإعلان الثورة المسلحة ، وفي هذه اللحظة التي يتأهب فيها للمواجهة نشب خلاف عقائدي في صفوف جيشه ، فقد سأله بعض الشيعة من مؤيديه عن رأيه في أبو بكر وعمر فرفض أن يذكرهما بسوء ، فانشقوا عنه ورفضوا القتال معه ، وكانت هذه أول ضربة يتلقاه زيد في المعركة ، أما الضربة الثانية فجاءت من فشله في إخفاء سر عسكري مهم هو موعد الخروج المسلح ، وهو ما جعل جند بني أمية يتعقبونه تارة ويفرضون حظر التجول في شوارع الكوفة تارة أخرى ، حتى إذا حانت لحظة المواجهة ، لم يجد زيد حوله إلا نحو ثلاثمائة وثمانية عشر رجلاً فقط لا غير من أصل أربعين ألفًا ، كانوا قد بايعوه للقتال ، ومع ذلك أصر على مواصلة الثورة المسلحة والخروج على بني أمية.
بدأت رحى المعركة ، بين فريقين غير متكافئين ، فجيش الأمويين بالآلاف في مواجهة بضع مئات ، ولأن الحال كما يقولون "الكثرة تغلب الشجاعة " فقد لاحت الهزيمة مبكرا لجيش زيد ، ولم تغن عنهم شجاعتهم ولا بسالتهم شيئا ، في هذا الموقف العصيب ، صحيح أن زيد ورجاله ألحقوا خسائر بشرية بجيش الأمويين أثناء حرب الشوارع في الكوفة ، لكن مع اقتراب ليل اليوم الأول من المعركة ، قرر قادة جيش بني أمية أنه لا رجعة عن سحق تلك "القلة المتمردة " على سلطتهم ، فأمطروا بقايا معسكر زيد بالسهام ، حتى أصاب أحدها رأسه ، فمات من فوره ، ليكتب سطرا جديدا في مأساة الطالبيين وصراعهم مع بني أمية على "كرسي الخلافة".
لما قُتل زيد اختلف أصحابه في دفنه ومواراته بصورة تخفي جسده عن خصومه حتى لا يمثل بجثته ،على عادة ما كان يفعل الأمويون بخصومهم ، فقال بعض أصحاب زيد : نُلبسه درعه ونطرحه في الماء ، وأشار بعضهم بدفنه ، وارتأى آخرون حز رأسه وإلقاءه بين القتلى ، حتّى لا يعرف، فلم يوافق ابنه يحيى على هذا الرأي وقال: لا والله، لا تأكل لحم أبي الكلاب .
بعد شد وجذب ،والخوف يلاحقهم من وصول جيش بني أمية ، تم الاتفاق في النهاية على دفنه ، وإراقة الماء على مكان الدفن ، ووضع بعض الحطب والحشائش على القبر كنوع من التمويه ، لكن فشلت الخطة ، كما فشلت الثورة المسلحة من قبل ، فقد أعلن يوسف بن عمر والي الكوفة عن جائزة، كبرى لمن يدل على جسد قائد الثورة ، فجاءه الطبيب الذي أخرج السهم من رأس زيد ، وكان حاضراً دفنه فاعلمه بمكانه ، وقيل أن غيره من أخبر على حسب الروايات ، لكن خلاصة القول أنه استبان لوالي الكوفة موضع دفن زيد ، فأمر بنبش القبر وإخراج الجثة ، وتم حملها إلى مقر الحكم وهناك ،أمر بحز الرأس ، وقام بإرسالها إلى الخليفة هشام بن عبد الملك في الكوفة ، والذي بدوره قام بتعليقها في شوارع دمشق ،وقيل أنه أرسال الرأس إلى المدينة ووضعها على قبر النبي ، ثم أرسلها إلى مصر ، وذلك لترويهع وترهيب من يفكر في الخروج على سلطته ، وكأنه يقول للعامة أنه مثل بجثة حفيد النبي ، فلن يتوانى عن فعل ذلك مع غيره ، فيما تم صلب الجسد منكسا بأحد أسواق الكوفة ، كما صلب مع زيد عدد من أصحابه .
لم يختلف المؤرخون في بقاء جسد زيد مرفوعاً على خشبة الصلب زمناً طويلاً ، وإنما كان الخلاف في تحديد تلك المدة، ما بين سنة وعدة أشهر ، إلى ست سنوات ، كما اختلفوا فيمن أمر بحرقه هل هو الخليفة هشام الذي حدث الخروج عليه ، أم صدر الأمر من الخليفة الذي جاء بعده ، وهو يزيد بن عبد الملك ، والرأي الراجح أن الأخير هو من أمر بحرق الجسد ، عندما ثار يحيى بن زيد "القتيل" مطالبا بالثأر لأبيه سنة 125ھ ، فكتب الخليفة يزيد ، إلى والي الكوفة يوسف بن عمر: إذا آتاك كتابي فأنزل "عجل أهل العراق" وانسفه في اليمّ نسفا، فلما وقف على الكتاب ، أنزل والي الكوفة الجسد من فوق جذعه وأحرقه بالنار ، وقيل طحن بقايا العظم ونثرها في نهر الفرات.
كل هذه البشاعة والإجرام والفجور في الخصومة ،تم تحت راية الصراع على السلطة في العصور الأولى للإسلام ، وفي المقال القادم نواصل تتبع مسرة الدماء التي سالت من أجل كرسي الخلافة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س