الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيدة المعبد اليهودية

سارة بيصر

2017 / 5 / 24
حقوق الانسان


في ممر ضيق تمر فيه بين أروقة الكنائس الأثرية العتيقة، تصل أخيرا إلى معبد بن عزرا اليهودي.
هناك تجلس راعية المعبد سيدة تكاد تتجاوز الخمسين من عمرها، يتدلى شعرها القصير المصبوغ باللون الأصفر، فوق وجهها ذو التعبيرات الصارمة، تضع هاتفها الذي وضعت فوق غطائه نجمة داود جانبا، وتراقب تحركات وتصرفات كل من يدخل إلى المعبد، بطريقة قد تشعرك أنها تعد أنفاسك.

على عكس ماقد تزوره في هذا المكان من مصر القديمة من كنائس، أو مساجد كمسجد عمرو بن العاص،التي تتصف بكونها رحبة، مليئة بالتفاصيل، والنقوش، والأيقونات، والزخارف، تجد هذا المعبد ذو حجم صغير نسبياً إذا ما قورن بدور العبادة الإسلامية أو المسيحية في هذا المكان، يتكون من طابقين، الطابق الأول الذي يحتوي على تابوت العهد، والهيكل، مخصص لصلاة الرجال، والطابق الثاني هو مصلى للسيدات.

لكنه، يبدو ذو أهمية تاريخية كبيرة لوجود (الجنيزا) فيه، وهي مجموعة الأوراق والوثائق التي لا يجوز إبادتها أو إهمالها وفقاً للديانة اليهودية، وخصوصاً إذا ضمت اسم الله بين ثناياها، وإنما يتم تخزينها في غرفة معزولة في الكنيس أو المعبد لأجيال عديدة، ولقد اشتقت من هذه الكلمة كلمة (جنازة) بالعربية، أي الدفن أو الدفينة؛ لأنه يجب بعد كل مدة جمع هذه الوثائق ودفنها في المقابر، و قد عثر في معبد "بن عزرا" على مجموعة من الوثائق غاية في الندرة، والتي يمكن منها تأريخ أوضاع اليهود المعيشية لقرون طويلة، وأحوال مجتمعهم ككل.

لكن، ما قد تجده من ود حين تزور مثلاً الكنيسة المعلقة، أو كنيسة مارجرجس، أو كنيسة بئر السيدة العذراء، حيث تجد تلك الوجوه الباسمة، التي تستقبلك بترحاب، وتجيب عن تساؤلاتك ، أو تصحبك لمغارة وبئر السيدة العذراء، وتهديك كوباً من مياهه، أو تعطيك شمعة لتضيئها في النذور ، وقد تجد الأطفال يجرون حولك في كل مكان، دون أن يزجرهم أحد، أو تجد مثلا من يهدي لك وأنت تدخل إلى مسجد عمرو بن العاص سترة إذا كانت ملابسك غير ملائمة لدخول المصلى في المسجد، حسب تعاليم الديانة الإسلامية.

فكل تلك المشاعر المفعمة بالود، وتلك الابتسامات الصافية تتلاشى حين تدخل المعبد، لتكون في حضرة راعية المعبد العابثة، التي ستجعلك تفر منه بعد دقائق معدودة، بعدما سترمقك بنظراتها، وبصوتها الحاد ستقول لك، وصاياها اللائية: لا تصور شيء، لا تلمس شيء، لا تتحدث بصوت عالي.
مما يجعلك تخرج من هذا المكان سريعا، الذي فقد كل لون من ألوان البهجة، وقد تهرع لأول شخص تقابله في طريقك لتشكو له سلوك سيدة المعبد. الذي غالبا سيكون حارس المعبد، الذي سيحاول مواساتك بقوله: أن شريعتها اليهودية تحرم التصوير، وممكن أن تصور خارج المعبد، وقد يطلعك على بئر جفت مياهه بجوار المعبد، ويخبرك أنه يقال : أنه كان البئر الذي كان بجوار منزل أم موسى عليه السلام، ومن هنا ألقته في النيل ليصل إلى فرعون.

لكن، دعونا نتصور كم المعاناة، وعدم التقبل التي قد تكون واجهتها هذه السيدة، في مجتمع لم يستطع غالبيته التفريق بين كيان صهيوني معتدي، وبين مواطن مصري يعتنق اليهودية.
وسلطة سياسية قررت أن تلفظ أبناء الوطن من اليهود خارج وطنهم، لتلقيهم في أحضان ذلك الكيان.

شحاتة هارون، يهودي مصري، ذو أيدلوجية يسارية، درس الحقوق في جامعة فؤاد الأول، وعمل بعدها بالمحاماة، ورفض الرحيل إلى إسرائيل بعد صدور قرار جامعة الدول العربية بترحيل اليهود العرب إليها، وتمسك بالجنسية المصرية.
وعندما خرج الشاعر الفلسطيني "محمود درويش" من حيفا، بعث له برسالة، يقول له فيها: (تحية من القاهرة، صخرتي التي لن أبيعها باللآلئ، حبيبتي التي لن أهجرها، أنت وأنا الأمل، لو عدت أنت لحيفا، وصمدت أنا في القاهرة).

كان " لشحاتة هارون" ثلاث بنات: (منى، ونادية، وماجدة)، ولم تعرف نادية وماجدة بحكاية أختهن الكبرى إلا بعد أن كانت صغراهما في الخامسة عشرة؛ لأن منى ماتت وهي صغيرة، فقد أصيبت في الخمسينيات بمرض خطير في الدم، وكان لا بد أن يتوجه لباريس لعلاجها، ولقد تقدم لطلب التأشيرة، لكن السلطات أصرت إن سافر، ألا يعود إلى الوطن أبدًا. لكنه، قرر أن يبقى في مصر؛ حتى لو كان هذا يعني أن يفقد ابنته الكبرى، وهذا ما حدث ، فقد ماتت ابنته الكبرى.

في اعتقادي أن عبارة الوحدة بين عنصري الأمة ، التي أصبحت شعاراً سياسياً ذائعاً الصيت، هي أكثر العبارات التي تحمل عنصرية في طياتها، لأنها تختزل الأمة المصرية في عنصرين فقط (مسلمين، ومسيحيين) ، بشكل يمثل تجاهلاً لمفهوم الدولة المدنية التي تحترم التعددات الفكرية والدينية والمذهبية لمواطنيها، مانحةً حقوق المواطنة لكل المنتمين لها، ولنسيجها الوطني، بغض النظر عن اتجاهاتهم الدينية والفكرية، ودون أن تكون حكراً لعنصراً أو عنصرين دون الآخرين، مما يمثل تعدياً واضحاً، وتجاهلاً لحقوق الباقيين.

فالمواطنة أن لا يحدث كل هذا، أن لا يُهجر أو يضطهد، أو ينتقص من حقوق أحد، على أساس دينه، أو عرقه، أو جنسه، أو معتقداته السياسية أو الفكرية.
أن يتمتع الفرد بعضوية وطنه، ويستحق بذلك ما ترتبه تلك العضوية من امتيازات، وما تكفلها من حقوق، وما تفرضها من التزامات، بشكلٍ يتيح له المشاركة في أمور وطنه، والارتواء من معين انتمائه له.
المواطنة هي أن يتم إشباع الحاجات الأساسية للأفراد، بحيث لا تشغلهم هموم الذات عن أمور الصالح العام، بما يؤسس للتعاون والتكامل والعمل الجماعي المشترك لصالح الوطن.
المواطنة أن تتماهى كل الأعضاء المختلفة والمتباينة داخل جسد الوطن، تستمد الحياة من نبض قلبه، وتؤدي كل منها وظيفته التي تختلف كل واحدة منها عن الآخر. لكن، لا يمكن الاستغناء عن واحدةً منها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأمم المتحدة تدعو بريطانيا لمراجعة قرار ترحيل المهاجرين إلى


.. هل واشنطن جادة بشأن حل الدولتين بعد رفضها عضوية فلسطين بالأم




.. وزير الخارجية الأيرلندي: 100% من الفلسطينيين بغزة يواجهون شب


.. ثورات في الجامعات الأمريكية.. اعتقالات وإغلاقات وسط تصاعد ال




.. French authorities must respect and protect the right to fre