الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التيه، رواية، الجزء الرابع

محمد شودان

2017 / 5 / 25
الادب والفن


دق عليه أحمد الباب، فوجده منهمكا في غسل الأحذية البالية التي اشتراها أمس، أو ملء ما جف منها بأوراق الجرائد، والعرق ينز من جبينه.
ذلك أنه خلال عودة بعض المهاجرين المغاربة المقيمين بأوروبا، فإنهم يجلبون معهم سلعا، والتي تتضمن ـ في الغالب ـ متلاشيات وأحذية، فيتصيدهم الباعة في السوق ليشتروا كل ما عندهم، أو أقلها انتقاء الجيد منها، وحصل أن اشترى إدريس في حين غفلة من الباعة سلعة جيدة من مهاجر، وبثمن بخس. وبعد غسلها وتجفيفها كان يملؤها بأوراق الجرائد حتى تأخذ شكل الرجل في الحذاء فيستقيم بذلك ما كان معوجا منها. أما الجرائد فقد كانت تضمنها فاطمة مجانا، حيث كانت تجمع له كل ليلة جرائد اليوم الرائجة في المقهى.
ولهذه الجرائد وقع كبير في حياة إدريس؛ فأكثر من دورها في حشو الأحذية، قد علمته القراءة، وعرفته على أحمد، هذا الذي دخل بعد أن استأذن رغم أن الباب كان مشرعا، ولعلمك عزيزي القارئ، فأحمد أيضا من النازلين عند مي طامو.
حين يعرض إدريس سلعته في السوق نهارا، فإنه يضع فردات الأحذية على بساط مشمع أبيض، ويترك زوج كل منها في العلبة الكارتونية قرب الكرسي الذي يجلس عليه، ولتجنب تبادل الحديث أو النظر إلى الباعة جواره أو أمامه، كان يخبئ وجهه في الجريدة اتقاء وترفعا، ولأنه كان قد تعلم هجاء الحروف وتدوينها في السجن، فإنه قد بدأ في ضم الحروف إلى بعضها أولا، ثم مع مرور وقت قصير، أتقن قراءة الكلمات دون صعوبة، وما هي إلا أيام معدودات حتى كان يفهم المقال من قراءة واحدة، فأدمن القراءة.
وهو اليوم يقرأ الكتب إلى جانب الجرائد، وليس له صديق في السوق إلا أحمد، بائع الكتب القديمة، وهذا الأخير من محبي القراءة أيضا، ومن أجل ذلك فإنه قد تخصص في تجارة الكتب القديمة. ولما اطمأن إلى أن إدريس لا يخالط الآخرين، فقد تقرب منه.
دخل الكتبي فوجد إدريس غارقا في عمله، والعرق يتصبب من جبينه رغم جو الخريف، ولكنه، مع ذلك، كان سعيدا، للغاية، فجلس على طرف اللحاف ثم بادر بالقول:
ــ أراك منهكا في العمل،
التفت إليه من فوق كرسيه القصير، ثم مسح جبينه بظهر كفه ورد باسما:
ــ كيف كان أدائي؟ لقد اختطفت السلعة من بين فكوك القردة، إنها رائعة، لاحظ معي، لا اعوجاج مؤثر، ولا تمزيق أو غيره من العيوب، بعضها يحتاج قليلا من السائل المنظف، والبعض لا يحتاج إلا تقويما بسيطا بواسطة أوراق الجريدة التي تعمل كالقالب.
ــ إنك محسود، سمعتهم يتحدثون عنك، هل تعلم ما كانوا يقولون؟
"إن هذا الغريب يضيق علينا رزقنا" يعتبرون أنهم وحدهم أبناء هذا البلد، وأنهم أحق بما أخذت، يحلمون. التفت نحو إدريس فلاحظ منه فتورا وعدم اهتمام، ثم أضاف،
ــ لم تدعوك مي طامو بالفاسي؟ أ لأنك من فاس؟ لا بد أنك أنت من أخبرها بذلك، حقا إنها كثير التساؤل، ثم، ها إنك بطبيعتك الغامضة قد جعلتني مثلها.
التفت نحو إدريس ثانية، في زاوية نظر أقرب إلى المقابلة، منتظرا منه جوابا، ولما أبطأ عليه في الرد سأله إن كان مشغولا، فأجابه بسؤال خارج الموضوع.
ــ هل أحببت يوما يا أخي أحمد؟
ما إن سمع أحمد السؤال حتى قام من مكانه خارجا لولا أن إدريس قد ترك الحذاء الرياضي الذي كان يفركه بالفرشاة، وتشبث به بكلتي يديه، تماما كما يتشبث الطفل بجلباب أبيه. رجاه وحزره، وأقسم بأغلظ الأيمان أنه لم يقصد ما قد فهمه منه، مهما كان.
وبعد قرابة الخمس دقائق من الشرح تمكن من إعادته إلى مكانه هادئا.
ولما كان قد شارف على الانتهاء من عمله ذاك، فقد التمس من أحمد أن يعد الشاي بينما يجمع هو سلعته ويوضبها في الصندوق الكارتوني، وسأله إن كان يدرك سر وضعه الأحذية في الكرتون القوي بدل الكيس أو غيره، ثم أجاب بسرعة وهو يكشف له السر المهني:
انظر، إن الحذاء مهما كان نقيا، إن وضعته في كيس فإنه سيحتك ببعض، وينتج عن التزاحم طي واعوجاج، في حين أن هذه الصناديق تسمح للأحذية بأن تبقى على هيأتها.
وبعد أن عبر أحمد عن إعجابه بمهارات إدريس، وضع الكؤوس والإبريق على الصينية الصغيرة، وشرع يصب الشاي في الكؤوس ويعيدها إلى الإبريق إلى أن تشكلت رغوة عالية، تماما كما يفعل أهل الصحراء.
لما انتهى إدريس مما كان فيه، وجلس إلى جانب صديقه، كانت الساعة حينها تشير إلى الثالثة بعد الزوال، وأخبره أنه انشغل بالسلعة منذ عودته من السوق فلم يتغذى، ولذلك فإنه سيخرج ليجلب خبزا وبيضا، أو جبنا، أو ما إلى ذلك، لكن أحمد أصر على أن يأتيه بنصف ما تبقى له من الطاجين، الذي أكل نصفه في وقت الغذاء، على أن يمتنع عن الأكل ليلا، وأحمد في الغالب يكتفي بطبخة واحدة، يقسمها بين وجبتي النهار والليل، كما أنه لا يتناول في فطوره غير كأس شاي وسيجارة، ولا يأخذهما إلا إن يصل إلى السوق ويفرش كتبه.
أما الشاي فإنه من المدمنين عليه؛ يشربه في البيت وفي السوق، فلا تراه إلا وكأس الشاي معه، ما جعله ضعيف العود، هزيل البنية.
قبِل إدريس عرضه مرغما؛ إذ ما إن أنهى أحمد كلامه، ذلك حتى قام خارجا، ثم عاد بطبقه سريعا، فوضعه أمام إدريس وغادر متعللا بدخول المرحاض.
أكل إدريس من الطاجين، وشرب الشاي، ثم أخذ دشا، ولما انتهى من ارتداء ثيابه وهمَّ بالخروج كان صوت آذان العصر يتردد في الأرجاء.
مرَّ في طريقه بغرفة صديقه أحمد، وهي أضيق قليلا من البيت الذي يسكنه؛ ليس في سقفها إلا صفيحتي قصدير، وحائطها هو الآخر قصير نسبيا، ولما وقف بالباب، بدا له أحمد من جلسته كأنه ضائع في بحر من الهم.
أقبل عليه مستفسرا عما همه وغمه، وقد تجرأ على ذلك رغم إدراكه صعوبة مزاج صديقه، خاصة حين يقتحم شخص ما خصوصياته، أو لحظات سكينته، لكنه كان في رده غير أحمد الذي عرفه، إذ رفع رأسه وقال بهدوء:
ــ أحتاج خمسمائة درهم، وفي الحقيقة، كنت قاصدا إياك في شأنها، لكنني وجدتك وقد اشتريت السلعة، فلم أسألك، حتى لا أدفعك إلى ردي خائبا، ولا إلى خنقك.
ثم أردف وهو يخط بسبابته على الحصير ساهما:
ــ لا بأس، لا تحمل هما، لست في أمس الحاجة إليها، فقط، لا بأس، يعني، كل ما في الأمر، طيب، هناك رجل، سمِّه صديقي إن شئت، أخبرني أن شخصا ما، ربما لا تعرفه أنت؛ إنه يبيع المتلاشيات هناك، في الرحبة التي تشرف على أبي رقراق، والتي تسميها أنت هاوية الجحيم، وأنه كما بلغني، قد ساعد شخصا مهما، يدعى الدكتور، ساعده في تنظيف مرآب له، وقد عثر فيه على كمية مهمة من الكتب، وهي في حالة جيدة.
وقد قيل لي: بأن ذلك الدكتور ما كان يشتري الكتب لقراءتها، بل فقط كان يقتنيها للوجاهة، وأنا أريد الوصول إليها، إذ لا بد أنها في حالة حسنة، أقلها أفضل مما يروج في... ثم بامتعاض: سوق الكلب هذا.
ــ حسن، لا بأس، نخرج أخي أحمد؟
ــ نعم، فلنفعل، لقد وجدتني في أمس الحاجة للخروج من هذه الزنزانة، ولكن، أين نقصد؟
ــ إلى الرباط، ألا نستحق نزهة في الشوارع المبلطة؟ أم إنها حكر على أصحاب الياقات والمترفين؟ لطالما اختنقنا في هذا الصفيح؛ من السوق إلى الدار إلى السوق، أو في أحسن الأحوال إلى المقهى.
ــ فليكن وصولنا إليها عبر المراكب التقليدية إذن، نعبرها على طريقة القدامى، فقد قرأت في كتاب الموريسكي أن سلا سبقت الرباط في الوجود، وفي كتاب آخر أن العدوتين كانتا تتصلان بالعبارات والمراكب.
وذلك ما حصل،
لم ينس في الطريق أن يهاتف فاطمة، ويخبرها شارحا ومفسرا بأنه ربما لن يلتقيا ليلا، وهي بدورها تفهمت الأمر ببساطة.
في الطريق إلى حافة الوادي، تحدثا بشأن الكتب والقراءة؛ فاعترف له إدريس بفضله عليه، وأنه حمد لله معرفته، وما كان ليصدقه أحمد إلا لما أقسم له أنه تعلم القراءة من مطالعة الجرائد، وأن الأمر لم يتطلب منه أزيد من أسبوعين.
أبدى عجبه أولا، ثم أثنى عليه ذلك وهو يؤكد أن ذلك ما كان ليحصل لولا خفة بديهته، وأن قضاء الوقت الفارغ في مطالعة الكتب أفضل من قتله فيما لا فائدة منه، وأخبره هو الآخر أنه لم يتقرب منه إلا لما عرف خلوه من أي علاقة مع أولائك الضائعين في جحيم السوق، فلا يتقنون شيئا، سوى السرقة والنشل والنصب والاحتيال وتعاطي المخدرات والمسكرات، والدعارة. ثم اتجه إليه بالسؤال:
ــ وأنت يا إدريس أين تقصد؟
لم يفهم مرمى السؤال في البداية فظل صامتا، لكنه ما إن علم أن أحمد الوقور يريد منه تعيين دار الدعارة التي يتردد إليها حتى انتابته موجة من الضحك لفتت انتباه المارة، ثم حاول وهو يكبح ضحكته أن يفهمه أنه لم يتوقع منه مثل ذاك السؤال، وأنه لا يعرف ولا واحدة منها، ثم أضاف:
ــ ربما أنا واقع في الحب.
التفت أحمد مستغربا، ثم قال وكأنه لم يسمعه:
ــ الليلة، سوف آخذك معي إلى حيث تضيع دراهمي، ثم غمغم بكلمات غير مسموعة، لكن الواضح من ملامحه أنه كان جذلا.
بعد مضي لحظات من الصمت والترقب، قال إدريس:
ــ هل تعلم يا أحمد؟ لقد جعلتني أتشوق لهبوط الليل.
وضحكا عاليا.
دار بينهما حديث لذيذ أنساهما طول الطريق الذي قطعاه مشيا على الأقدام، ولما بلغا مصب النهر ركبا مركبا صغيرا.
اتخذا مكانهما في المركب إلى جانب ثلاث شابات، كان واضحا أنهن زائرات جديدات للمدينة، ذلك أنهن كن منشغلات بالتقاط الصور، الأمر الذي أزعج أحمد، ما اضطره إلى خفض مقدمة قبعته حتى غطت وجهه.
مساء، في ساعات الأصيل الأخيرة، خاصة قبيل المغرب، يخلق التقاء نهر أبي رقراق ببحر الظلمات مشهدا تعجز اللغة عن وصفه، فتتجمع طيور النورس لتشكل في طيرانها ما يشبه رقصة الوداع، كأنها تودع الشمس، ولكن الشمس المتيقنة بعودتها تلوح للطيور من الأفق الغربي وقد احمرت وجنتاها استحياء وخجلا، ولو كان لها الخيار لما فارقت سماء النوارس.
عدَّل أحمد قبعته لما كانوا نازلين من المركب جميعا، ثم قصدا الطريق عبر الكورنيش المحاذي للنهر والبحر، كانت المقاهي التي لا يدخلها إلا سمين الجيب متناثرة عبر مياه النهر، فترى المحظوظين منغرزين في مقاعدها، وهم يرشفون مشروبات ربما لا يعرفها هو، ولأنه لا يعرف إلا عصير بعض الفواكه والصودا والقهوة السوداء، فقد انشغل عنها بروعة العمران وضخامة البنية التحتية.
وما هي إلا دقائق حتى كانا قبالة باب الرحبة، فبادر هو بدعوة صديقه إلى زيارة المكان، وقبل أن يصعدا الدرجات، أخبر إدريسُ صديقَه أنهما قادمان لأخذ الكتب، وأن معه مالا كافيا وأكثر.
تمَنَّعَ أحمد في البداية، لكنه استسلم لإصرار صديقه الذي كان قد أخرج المبلغ المتفق عليه من جيبه، ودسه في جيب صدرية أحمد، ثم تحركا صعودا في الدرب الضيق.
كان بعض الباعة في وضع يخطئ من يصفه بالمزري؛ ملابس رثة، ووجوه محقها القهر والفقر، هي شفاه تدلت، وعيون ذبلت، وأجساد بريت...
أول واحد ممن بدا لهم بعد الالتفاف في الدرجات الأخيرة، كان شابا مكدد الوجه، يجلس خلف بساط نُشِرت فوقه بعض الأسمال، لمح بين يديه كيسا بلاستيكيا كان ينفخ فيه بين الفينة والأخرى، وبداخل الكيس قد وضعت مادة هلامية تستعمل كلاصق لإصلاح ما في إطار العجلات المطاطية من ثقوب.
اكتفى إدريس بالمراقبة من بعيد، وبين الفينة والأخرى كان يغض من بصره حتى لا يثير انتباه ذلك الشاب الضائع أو غيره، بدا من ملامحه أنه لا يتجاوز الثلاثين من عمره لكنه كان فاقدا لبعض أسنانه، وبعدما تجاوزاه، التفت نحو صديقه، فوجده يلهث وهو يجد في المشي، وقد اكتسى وجهه وضاءة، وبرزت سمات المسرة على ملامحه.
في المكان الذي تتسع فيه الساحة، تقف دكاكين سوداء، ضيقة، بعضها يعرض مأكولات شعبية أغلبها قطاني وسمك مقلي، وبعضها الآخر تتكدس فيه سلع لا يمكن فرزها، وعلى الأطراف انتشر أصحاب البسط، وباعة السجائر.
في الساحة أيضا بنات وأولاد، كبارا كانوا وصغارا، من مختلف الأعمار، ربما يظن البعض أن أسرا بكاملها تعيش في تلك الساحة، وفيها تتناسل.
اقتربت من إدريس فتاة مراهقة، ملابسها متسخة، وشعرها لم ير المشط منذ مدة، كانت تحك أنفها بينما تقول أشياء لا معنى لها، فصرفها أحمد ناهرا إياها، فانصرفت وهي تغني أو تسب، لم يكن واضحا منها لا الكلام ولا الملامح.
قصد أحمدُ أحدَهم، فلزم إدريس مكانه إلى جانب بسطة وُضِعت فيها أجهزة معطلة، وقد سمح له موقعه ذاك من رؤية الكثير؛ وكانت دهشته كبيرة لما رأى في ذلك السوق، رغم بؤسه، تجارة رائجة، ربما أفضل من سوق ساعة، حيث يسوِّق هو سلعته، وقد حدثته نفسه بتجريبه يوما ما.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا