الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسألة المثقف عند بيير بورديو

محمد بقوح

2017 / 5 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1 – المثقف والنضال المعرفي

إذا كان بيير بورديو في نظريته عن الثقافة والمثقف، قد اختار مفهوم "المثقف الجماعي" الذي اعتبره ضمير الإنسان والمتكلم الرسمي باسم المجتمع، فثمة مفاهيم أخرى كانت سائدة قبله، بل وحتى معاصرة له، كان يناقشها بورديو ويجادل حولها غيره من الكتاب والمثقفين فكريا وسلوكيا. نذكر منها مفهوم "المثقف الكوني أو الكلي" لصاحبه الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر، الذي حظي من طرف بورديو نفسه بنقد لاذع معروف في الأوساط الفلسفية والسوسيولوجية. ومفهوم "المثقف الخصوصي أو النوعي" لصاحبه ومواطنه الفيلسوف الجينيالوجي ميشيل فوكو الذي اعتبره بورديو نموذجه العملي ومثله الأعلى في الممارسة النقدية للمثقف، كرجل علم يجب أن يمتد حضوره الثقافي عموديا إلى قاعدة الممارسة الفعلية المؤسسة لحقيقة وقائع الفضاء الشعبي، المنفتحة على الحقل الاجتماعي المركب والقريب من حياة الإنسان في حركته العادية واليومية.
بالإضافة إلى أن هناك من يتحدث، من المثقفين الآخرين، عن عدة مفاهيم أخرى قد تتفاوت في معانيها السطحية، إلا أنها جميعها في عمقها تصبّ في معنيي موقفين فكريين متعارضين: موقف تغييري وتقدمي تنويري حداثي. وهو الموقف الفكري الذي أنتجته الوقائع التاريخية والحضارية في الغرب الأوربي، لسياق عصر النهضة ولحظة التنوير، إبان أزمنة القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. وضدّه ساد الموقف التقليدي الماضوي والمحافظ الذي كان مهيمنا قبل شروق شمس الفكر النقدي الحداثي. نعني به الفكر الثابت في رؤيته بجميع تجلياته الفلسفية والأدبية والفنية والسياسية.
فبالنسبة للفكر التنويري الأول نذكر على سبيل المثال لا الحصر: مفهوم "المثقف المشاكس"، ومفهوم "المثقف العضوي" لغرامشي، الذي جاءت تنظيراته لهذا المفهوم في كتاباته المتعددة والمعروفة، وخاصة في رسائل سجنه. ومفهوم "المثقف الشجاع" لجوليان باندا، ومفهوم "المثقف الملتزم أو المثال" لبورديو الذي نحن بصدد قراءته، ومفهوم "المثقف الفطين التفكير الواضح الرؤية" لمحمد عابد الجابري.
في المقابل هذا النوع من المثقفين الذين غالبا ما ينعتون أنفسهم بالتقدميين والثوريين الطامحين إلى التنوير والتغيير، يوجد نوع آخر من المثقفين المضادين يمكن نعتهم بالمثقفين الرسوليين النقديين، وهم مثقفين سلبيين يطمحون إلى فرض رؤية التكرار والثبات وتبني الأفكار الماضوية، ضدّ تغيير الواقع والاعتناء بإنسانية الإنسان. نذكر من بين مفاهيمهم الأساسية: "مثقف السلطة"، ومفهوم "مثقف فقهاء السلطة"، و"المثقف التقليدي"، ومفهوم "المثقف الإيديولوجي"، ومفهوم "المثقف السطحي".
إين هو بورديو الآن في خضم ما قدمناه من طروحات فكرية حول مفهوم المثقف وعلاقته بالمجتمع ؟؟
لعل السلوك المعرفي للمثقف عند بيير بورديو، يكتمل شكله النضالي كموقف فكري قوي وعميق حين يلتزم عمليا واجتماعيا بقضية راهنة من القضايا الحيّة في مجتمعه، مساندا صاحبها ومدافعا عنها قلبا وقالبا. وهذا الموقف الفكري والمعرفي والفني الواضح والصريح، رغم اختلافه، بل وحتى تناقضه مع الرأي المتداول الرسمي وغير الرسمي السائد والمهيمن في حقله المجتمعي، هو الذي طرحه المثقفون الذين نعتناهم أعلاه بالتنويريين والثوريين. بل هو الموقف النقدي الذي يميز نخبة أصحاب الفكر والأدباء والفلاسفة والشعراء وغيرهم من مثقفين النخبة، عن الناس البسطاء والأفراد والجماعات العادية. حيث أن مهمة المثقف هنا هي التدخل الفكري والمعرفي المناسب، وفي الوقت المناسب، حفاظا على سلطة واستقلالية المثقف، ولإنتاج الموقف المؤسس والإيجابي القوي السليم، واختراق الموقف الزائف الضعيف المهيمن، ومناصرة الحق والعدالة. يقول غرامشي بهذا الصدد : " جميع الناس مثقفون (..) لكن وظيفة "المثقف" في المجتمع لا يقوم بها كل الناس "1.
ويمكننا أن نستحضر بهذا الصدد مجموعة من المثقفين الغربيين والعرب الذين انتصروا في بعض مواقفهم الفكرية لقضايا حيوية تهمّ معاناة الأفراد والشعوب الضعيفة والأقليات المهمشة، ضدّ المؤسسات المتحكمة الكبرى في المجتمع، وضدّ الأنظمة السياسية المستبدة والسلط الاجتماعية القاهرة. نذكر من بينهم مثلا موقف العالم اللغوي الأمريكي نعوم تشومسكي من العديد من القضايا الإنسانية التي يعيشها عالمنا اليوم كقضية الشعب الفلسطيني المحتل. وقبله تاريخيا، موقف الفيلسوف الألماني نيتشه من الصراع السياسي والحرب الباردة بين الألمان وفرنسا. كما يمكننا التوقف عند موقف الأديب والكاتب الروائي الفرنسي إميل زولا من قضية "دريفوس" التي أسست، حسب الباحثين المختصين والنقاد المتتبعين للشأن الفكري والثقافي والفلسفي، لمسألة "مفهوم المثقف" بصفة رسمية في القرن التاسع عشر. وقد انتصر زولا من خلال هذه القضية، بشكل واضح وصريح، بجانب ثلة من أصدقائه المثقفين التقدميين والمتنورين آنذاك، لموقف الجندي الفرنسي واليهودي العقيدة "دريفوس" الذي تعرض لقهر قضائي سياسي تعسّفي، وسجن بسبب تهمة "خيانة الوطن"، المتمثلة حسب زعم سلطة الدولة الفرنسية، في تسريب معلومات سرية خطيرة للخصم الحربي والعسكري ( ألمانيا ) حينذاك. فكان موقف زولا في هذه الحال بمثابة تدخل المثقف، معرفيا وفكريا وعمليا، في القضية التي زلزلت كيان الفرنسيين آنذاك، وقسمت المجتمع الفرنسي إلى مؤيد للقضية ومعارض لها، ليس فقط من الناحية الكتابية الأدبية والفكرية والصحفية، بل أيضا من الناحية الحركية الاجتماعية، في إطار انخراط المثقف زولا والعديد من المثقفين الموالين للقضية في تنظيمات حركية اجتماعية احتجاجية، متواجدة، مخترقة، في عمق فضاء الشارع العام، بشعارات نقدية تستنكر وقائع القضية، وتندد بالظلم الذي مورس على صاحب الحق "دريفوس". لهذا خرج زولا كمثقف مع جميع من ساندوا هذه القضية، كحركة اجتماعية من أجل رد الحق لمستحقيه، وأيضا ضدّ الرجعية الفكرية والسياسية التي حركت القضية ضدّ المجتمع الفرنسي ككل، وبالخصوص ضدّ مولد القيصرية الذي كان يحضّر له. فكسبت بذلك هذه الحركات الاحتجاجية الشعبية السلمية، ذات النزعة الوطنية والانسانية، رهان الاستجابة الفكرية والتجاوب الإيجابي الشعبي الذي منح الحرية لدريفوس وأنصف قضيته، من خلال الكتابات الفلسفية والثقافية والأدبية التي أنتجها عقل المثقف التنويري. كما كسبت رهان تأييد الكثير من جماهير الفلاحين والطبقات الاجتماعية في شعوب المدن والقرى الفرنسية، بل في العالم كله. حيث أنه كان لتدخل المثقف هنا دون شك الدور الأساسي التنويري الكبير بفكره ومعرفته في التعريف بقضية "دريفوس"، وتبليغ حقيقتها كما هي، وليس كما أرادت لها الجهات الرسمية أن تكون، وبالتالي توصيل حيثيات هذه القضية للرأي العام الفرنسي والدولي الذي كان قبل تدخل هذا المثقف، تحت رحمة مظلة الموقف المسيّس للسلطة الحاكمة، وهو الموقف السائد والمهيمن حتى في عمق المجتمع آنذاك.
فالمثقف هنا إذن، حسب بورديو، هو بمثابة الآلية البشرية الواعية التي تجمع بين الفكر بمعناه المعرفي والنظري، وبين الاختراق الحركي الاجتماعي الممتد إلى فضاء الشارع العام. ومن تمّ، تحقق لها نتيجة لذلك التركيب الحاسم الناجح في القضية، بإنتاجها لفعل فكري نقدي وحركي اجتماعي نضالي في عمقه الأعمق. هكذا، يبدو أن الموقف الفكري والكتابي للمثقف هو موقف سياسي وسلوك حقوقي مجتمعي في صميمه. نستحضر في هذا الصدد المهمة النقدية للمثقف الحداثي، كما آمن بها بورديو باعتبارها مهمة مصيرية، تعكس الدور الجديد الذي أصبح يقوم به المثقف الحداثي، وكما أسسها موقف زولا من خلال قضية "دريفوس" التي تحدثنا عنها قبلا.
كما أن المثقف بمعناه الحداثي عند بورديو دائما، لم يعد مثقفا في مواجهة وصراعه ضدّ شرور تسييس الظواهر الاجتماعية، وأدلجة القضايا الثقافية لاستعمالها لصالح السلطة الحاكمة، واغتصاب حقوق المواطنين من قبل سلطة الدولة المخزنية، سواء بمعناها المادي أو الاجتماعي الرمزي، بل أصبح هذا المثقف في مواجهة يومية مباشرة وعنيفة مع شرور من الدرجة القصوى لحركة العولمة المتوحشة المخربة لكل ما هو حي في المجتمعات، بأبعادها السياسية وغاياتها الاقتصادية المدمرة التي تقودها القوى المضللة للفكر الليبرالي الجديد في جميع مناطق العالم.
كما أن هذا المثقف الحداثي وجد نفسه وجها لوجه في صراع شديد لا يقل خطورة وشراسة من صراعه التقليدي مع سلطة الدولة المستبدة، ومع سلطة العولمة المتوحشة الجديدة، ضدّ حتى بعض المثقفين والمفكرين الذين كانوا يحسبون أنفسهم سابقا على التيار الحداثي والفكر اليساري المتنور، سواء في شقه الديمقراطي أو الاشتراكي، غير أنهم أصبحوا مع رياح الفكر النيوليبرالي المعولَم الذي بات يفترس الأخضر واليابس، يسمون أنفسهم بمثقفي صوت مرحلة "ما بعد الحداثة"، معلنين بذلك موت المثقف بمعناه الحداثي، كما تمّ إعلان من قبل موت الإنسان، وموت التاريخ، وموت الفلسفة .. !! إلخ.
يكمن الدور الجديد للمثقف الحداثي إذن حسب بورديو في مواجهة والتصدي لهذه القوى الجوفاء من مثقفي المؤسسات النيوليبرالية المقنعة بأقنعة الحداثة والديمقراطية والحرية والمساواة .. إلخ. هذه القوى / الأدوات التي تنظر وتبرر في كتاباتها الفكرية والأدبية والفلسفية معطيات الواقع الجديد للعالم المعولَم. وهو خطاب تبريري يدافع مثقفوه الذين يسمون أنفسهم ب"ما بعد الحداثيين" عن المبادئ الفكرية والأبعاد السياسية لحركة العولمة النيوليبرالية الجديدة، كالدفاع عن منطق التبادل الحر، وتبرير انسحاب الدولة وبيع ثروات القطاع العام، وفرض نظام المرونة في الشغل، وتشجيع الاستثمار ونظام الخوصصة .. إلخ.
من هنا جاءت دعوة بورديو إلى استنكار البؤس الاجتماعي الذي تنتجه العولمة المتوحشة بمساعدة آلياتها الإعلامية والثقافية والفكرية، ومنها قوى المثقفين "ما بعد الحداثيين" الذين تحدثنا عنهم.
بالإضافة إلى نجاح بورديو في إبداع مفهوم جديد منسجم مع الأدوار والمهام الجديدة للمثقف الحداثي سماه: "المثقف يسار اليساري"، وليس المثقف اليساري الذي انقلب على مبادئه الحداثية واليسارية القحة مع انبطاحه أمام مغريات العولمة، وتهافته المتسرع على منتجات الفكر الليبرالي الجديد.
2 – المفهوم الجديد للمثقف
هكذا أعاد بورديو صياغة مفهوم جديد للمثقف، وفق دلالته الأصلية التي كتب عنها غرامشي عن المثقف العضوي في رسائل سجنه، باعتباره مثقف "يختار إما مناصرة الأضعف، والأسوأ تمثيلا، وإما الانحياز إلى الأكثر قوة"2. وبالتالي، اختار هنا بورديو كمثقف جماعي ملتزم بالمشروع الحداثي الذي يصارع من أجل استكمال رؤيته الانسانية، بقضايا الشعب الضعيف طريق يسار اليسار، في حين اختار المثقف "ما بعد الحداثي" طريق القوة الذي هو طريق العولمة المتوحشة بوجهها الليبرالي المزيف، وفق منظور بورديو طبعا.
وقبل أن ينتقد المثقف "ما بعد الحداثي"، سبق لبورديو أن فعل نفس الشيء لتجربة سارتر الذي اعتبره صاحب إعادة الإنتاج مثقفا فارغا ومستلبا من قبل الفكر الطوباوي الماركسي، باعتباره "الوجه المظلم للمثقف. لقد مثل سارتر المثال الأكثر دلالة على استلاب المثقف. هذا الاستلاب، نسبة لبورديو، لم يكن من فرط فقدانه وعي العالم، إنما من فرط ادعائه وعيه به. هذا الوعي الأقصى الذي حمله سارتر أفقد المثقف عموما وأفقده هو بصيرته فكانت عمياء أمام شروط تحققها الاجتماعي والتاريخي. لقد تبرم سارتر من شروط وجود الذات لكي يطرح سؤال وجود يدرك وعيا من ومن دون وسائط"3.
في المقابل، حين تكتفي المعرفة النقدية، بجميع تجلياتها الفكرية والفلسفية والثقافية والفنية، بأن تكون نقاشا نظريا أفقيا عاما، يروم فقط التأثير على الجماهير وتوجيه فكرهم واستمالتهم لإقناعهم بأطروحتها الثقافية والفكرية بطريقة نظرية وسطحية من فوق برج عاج، ومن تمّ، تفرغ من الفعل العملي لحركية الحياة الاجتماعية، تصبح مجرد خطاب طوباوي "مثالي"، غارق في غربته المشينة، للسلطة المهيمنة الجوفاء في الحقل المجتمعي. في هذه الحال، نكون أمام خطاب معرفي لمثقف تقليدي وسطحي يخدم السلطة بالدرجة الأولى، ويموقع نفسه بعيدا كل البعد عن خدمة الإنسان كفرد وكمجتمع. المثقف هنا يعني الموقف الفكري والفلسفي الذي يمتد ويخترق الواقع السائد المحيط به، وليس المثقف المستلب والمجاور والمسكّن والمتفرج، والمهادِن الذي يطبل لكل ما هو سائد، سواء بكتاباته النظرية أو بمحاضراته الشفوية أو بصمته النكوصي المنفعِل.
يسمي بورديو هذا الصنف من المثقفين ب"بالمثقفين التلفزيين" السطحيين، بمن فيهم الاشتراكيين والديمقراطيين اليساريين الذين أشرنا إليهم قبلا. ويمكن اعتبار الكاتب علي حرب من هؤلاء المثقفين العرب الذين يعنيهم بورديو، والذي أصدر كتابا عنونه ب"أوهام النخبة أو نقد المثقف"4، أعلن فيه تجاوز المثقف الحداثي بمعناه الغرامشي.
من هنا يؤكد بورديو على ضرورة بقاء المثقف النقدي الملتزم فاعلا ونشيطا ومخترقا للحقل الاجتماعي، لأنه ينتج المعنى الذي يحتاج إليه الناس حاجتهم إلى الماء والهواء. والمعنى هنا يعني ممارسة النقد البناء والمؤسس، والكشف عن الحقيقة، وفضح خروقات المفسدين وأخطاء المستبدين وزيف وجه المدعين والكاذبين .
هكذا يأتي دور المثقف لربط معرفته النظرية بفعل حركي يمتد داخل تناقضات واقع المجتمع، بملامحه الصراعية والتاريخية والحضارية. أي بفعل نضالي فكري وسياسي في عمق ما هو فكري، يكون له مؤيديه أو معارضيه أو هما معا.
فيبدو لنا مفهوم المثقف عند بورديو مؤسسا ذاته انطلاقا من مفهوم المعرفة غير المفصولة عن الفعل التجريبي الحركي النقدي الذي يترجم باللغة العادية إلى الفعل النضالي السياسي، في إطار الموقف الفكري والفلسفي التأملي والشمولي. المثقف إذن يناضل بالمعرفة النقدية، سواء في مستواها النظري الكتابي أو في مستواها العملي السياسي والمدني، من أجل تغيير ما هو مُهيمِن وحاكم و ثابت ومتحجر وسائد في الواقع المجتمعي، أو يناضل بهما معا، أي ببعد المعرفة النظري وببعدها العملي، كحالة العالم الفرنسي بيار بورديو الذي جمع بين الدورين معا. أما من يكتفون من المثقفين بالمعرفة المدرسية والأكاديمية الصامتة، أو بالثقافة الفولكلورية التابعة المُكرّسة للمجتمع السائد التقليدي المكرور والبائد، انطلاقا من معرفة بحثية نظرية، مجردة من الفعل العملي والحركي الممتد والمخترق لسكنات وتعفنات المجتمع القائم، فمثل هؤلاء لا يعدون مثقفين بالمعنى الحقيقي والفعلي عند بورديو. إنهم المثقفين المطبّلون للأداة التي تساعد آليات السلطة على المزيد من بسط هيمنتها، وتعاكس تغيير الإنسان وتعيق تطوير المجتمع وتقدم الحضارة البشرية.
من هنا يقدم بورديو نموذجه المفضل كمثال، عن المثقف النقدي المناضل، الذي يسميه غرامشي بالمثقف العضوي، بمعرفته العلمية والفلسفية سعيا لتغيير عوالم مجتمعه، كواقع ذهني مكرور وعلاقات فكرية جامدة. نقصد به الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، المفكر والمثقف المتنور الذي كثيرا ما ناضل وصارع وحارب بمطرقة معرفته الفلسفية النقدية كل أنماط التقليد السائدة وأشكال السلطة المادية والرمزية. وفي المقابل، انتصر لواقع معرفة الهامش الإنساني المقموع والمجتمعي الأكثر فعالية وقوة حياة وتفاعلا في حركية المجتمع.
لهذا، كثيرا ما اهتم بورديو بقضايا المجتمع وعالج ظواهره السائدة، باعتبارها جزء من كلية نسق هذا المجتمع، وبالتالي، فالمثقف عنده هو الضمير الحي للمجتمع العميق الذي يعبر عن واقع حقيقة هوية المجتمع الفعلي. ومن طبيعة الحال فبورديو هنا يتحدث عن مدى أهمية دور المثقف كأداة حرة ومستقلة، فكريا، وفعالة، عمليا، لإحداث التغيير وإنجاح التحديث في المجتمع، من خلال فعله المعرفي والنضالي. وبالتالي فالمثقف عنده بمثابة الحارس الأمني الخاص المسؤول عن سلامة فكر وثقافة وقيم إنسانية الإنسان ومجتمعه، أينما كان وأينما وجد.
لقد استفاد بورديو كعالم اجتماع من أفكار غيره من علماء السوسيولوجيا الذين سبقوه إلى التحليل الاجتماعي، مثل دوركايم الذي اعتمد في منهجه الاجتماعي العلمي على مفهوم ضرورة الفعل الحاضرة عند بورديو بقوة. لهذا، تبقى الأعمال والتحاليل الاجتماعية التي أنجزها بورديو كعالم اجتماع وكمثقف نقدي، جدّ رائدة و مميزة وهامة، من الناحية العلمية والإجرائية الشمولية الهادفة والواقعية، باعتبارها أعمال وتحاليل تصورية شمولية تراهن على تفكيك وتعرية آليات السلطة الرمزية المهيمنة، وتكشف بالفعل والنقد والحركة المخترقة للفضاء العام عن كيفيات اشتغال السلطة المسيطرة بنوعيها المادي والمتواري، في إطار المشروع العلمي والفكري الاجتماعي الشامل لبورديو.
لكن، بعد كل هذا العرض والتحليل يمكننا طرح التساؤل التالي: هل المثقف العربي على الأقل في زمننا الراهن يؤدي دوره كاملا، كما تطلب منه ذلك واجبه العملي والأخلاقي تجاه مجتمعه الوطني والإنساني والحضاري، واستنادا إلى المرجعية المعرفية والعلمية التي يقوم على أساسها التصور النظري لعالمنا ومثقفنا بيير بورديو ؟
____________________
هوامش
1 – أنطوني غرامشي، كراسات السجن، ترجمة عادل غنيم، دار المستقبل العربي، 1994، ص 24 – 25
2 – إدوارد سعيد، ترجمة غسان غصن، دار النهار للنشر، بيروت، 1996، ص 45
3 – بيار بورديو وجان كلود باسرون، إعادة الانتاج ( في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم)، ترجمة د ماهر تريمش، المنظمة العربية للنشر، ط1، بيروت، 2007، ص 28- 29
4 – علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، ط3 ، 2004، الدار البيضاء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل بدأ العد العكسي لعملية رفح؟ | #التاسعة


.. إيران وإسرائيل .. روسيا تدخل على خط التهدئة | #غرفة_الأخبار




.. فيتو أميركي .. وتنديد وخيبة أمل فلسطينية | #غرفة_الأخبار


.. بعد غلقه بسبب الحرب الإسرائيلية.. مخبز العجور إلى العمل في غ




.. تعرف على أصفهان الإيرانية وأهم مواقعها النووية والعسكرية