الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التيه الجزء الأخير

محمد شودان

2017 / 5 / 30
الادب والفن


مذكرات
إن صح أن القراءة وسيلة لفهم العالم، فالكتابة أكثر من ذلك؛ إنها أداة لصناعة العالم وتشكيله، من هذا المنطلق، ورغبة مني في تشكيل عالمي، أو أقلها وصفه بدقة، فإني أقف الآن، على سنوات حياتي كاملة، وأتساءل باحثا عما يجب ــ أو بالأحرى يمكن ــ كتابته؛ فيتراكم الماضي عبر الأيام، ثم يمر منفلتا خلال الذاكرة في لحظات الصفاء كالشريط السينمائي، أو كومضات يستحيل إمساكها. لم أجد إلى حد الساعة خيطا ناظما لكل الأحداث التي مررت بها، اللهم الصدفة والعناية الإلهية.
نعم؛ فمصادفة التقى حيوان منوي من جدي الذي لا أعرفه، والذي ــ بالتأكيد ــ لم يكن راغبا في معرفتي، ببويضة امرأة، في لحظة محددة بدقة، ولكن بالصدفة، أما العناية الربانية فهي التي أنجتني من حادث الحافلة.
ثم مصادفة أكلت المعجون، والتخطيط الرباني المحكم قادني إلى مساري؛ وإلا كيف سأُرَحَّل إلى السجن سيئ الذكر الذي ألقاني بين أحضان السوق الشعبي وفاطمة؟ أوليس مصادفة وجدت نفسي أتاجر وأنا الذي كنت عازما على معانقة البحر؟.
إن الصدف هي المجاديف التي توجه مركبي في بحر قضاء الله وقدره، ولكن ليس لوحدها طبعا، فأنا أيضا قد أجدت الاختيار؛ فتعلمت التنازل وتحمل المسؤولية، كما أني قد أحسنت إلى نفسي بتثقيفها، لاسيما حين اتخذت من الكتاب ولي أمري وصديق عمري وأمين سري، هذا، وإن كان للصدف دخل في اختيار هذا التوجه أيضا.
ولولا الكتاب! لولا الكتاب لما كنت كما أنا الآن، لولاه ما تعلمت القراءة والكتابة، وبالتالي مخاطبتك وأنا لا أعرفك؛ ذلك أن السارد لم يخبرك عزيزي القارئ بكل شيء، والعيب فيَّ أنا الذي كلفته بالحديث عني.
وحتى أطمئنك، فإن كل ما قرأت عني صحيح، لكنه مبتور، ولذلك، فسأتمم، بإذن الله، ما غفل عنه السارد. وقبله؛ اعلم أعزك الله أني أحسست بأخطائي، فقومت الصراط الذي اتخذت لمساري، أعترف أني كنت مخطئا لما انغمست في بِركَةِ الضَّلال الآسنة، وربما ما كنت لأسلك تلك الطريق إلا احتجاجا غبيا على قدري، ورفضا لواقعي، ولكني أرى ــ الآن ــ أن على الإنسان ألا يرفض ما لم يكن له يد في اختياره، وأن يتقبل الأقدار التي كتبها الله عليه، نعم، علينا قَبُولها كخطوة أولى لتطهير ذواتنا، ثم تغييرها في حدود الإمكان دون ادخار جهد من بعد، أقسم ــ بما أني قد فتحت صفحة الاعتراف ــ أني لم أرتح إلا يوم سلمت أمري لله، واعترفت بأخطائي معلنا توبتي، وقد أيقنت أن قدر الله مهما كان قاسيا في أعيننا فإن وراءه خيرا، ومهما كتبت هنا، فلن أتمكن من وصف ما ألت إليه.
وأنا أكتب الآن هذه الحاشية، أجد نفسي ملزما بترك الكتابة أحيانا لأستجيب لصرخات أحمد، ابني الصغير الذي سميته لذكرى صديقي الكتبي، ولكن، الذي لا يشبهه في شيء؛ هذا أكول يبكي الآن من الجوع، أما ذلك المرحوم فما كان يأكل إلا ليبقى على قيد الحياة، صديقي كان دائم الصمت، أما هذا المشاغب فلا يعرف معناه.
طيب، حتى أساير الحكاية، وأجعلك قادرا على مسايرتي أنت أيضا، عزيزي القارئ، سأبدأ من حيث تركَنا السارد:
في صباح ذلك اليوم، اتفقنا على إعداد ما يلزم لتوثيق زواجنا، والحق أن الأمور قد سارت على ما يرام، اللهم أني قد واجهت بعض المشاكل الإدارية؛ فقد كان لزاما علي أن أعود إلى فاس لاستخراج عقود الازدياد وما إلى ذلك من الوثائق الشخصية الأصلية، ما فرض علي مواجهة ماضيّ، وهناك التقيت بعضا ممن أعرف، ومنهم علمت أن جدتي قد توفيت ـ رحمها الله ـ في دار العجزة، وأن أخوالي قد باعوا الفرن وهلم جرا.
استغرق استعدادنا زهاء العشرة أيام، ويوم كتبنا العقد حضر بعض الأصدقاء حفلا بسيطا أقمناه في سطح العمارة، وهناك أقمنا.
وطيلة تلك الأيام الأولى، غطتنا السعادة بملاءتها، إلى أن أخبرتني فاطمة ذلك الصباح أن العادة الشهرية قد تأخرت عليها؛ رأيت في عينيها بريق الفرحة وهي تضع جهاز اختبار الحمل أمامي، فرأيت بعيني خطين أحمرين.
ولكَمْ كان الحزن باديا على محياها لما عبرت لها عن عدم استعدادنا لاستقبال أطفال، من وجهة نظري، ولا زلت إلى يومي هذا مقتنعا بفكرتي تلك، حسب تلك الظروف طبعا، فأنت ترى عزيزي، أننا قد كنا في حال غير مستقرة، ولم يكن لاستقدام إنسان إلى عالم كله مآسي ومعاناة أي معنى، فما الفائدة من تعذيب شخص لا ذنب له؟ وأنا قد مررت بمثل هذه التجربة، وعانيت خبايا الإحساس بقهر الوجود، ولو سألتني لأخبرتك أنها بدأت بأخذ حبوب منع الحمل منذ تزوجنا، ولكن تلك الليلة التي سبق ذكرها كانت كافية ليستقر أحمد في رحم أمه.
كل ما قلته لها، وكل الحجج التي دافعت بها عن رأيي كانت تصبها جميعا في الرمل، ومن حقها ذلك هي الأخرى؛ فقد مرت بتجارب حزينة، ولم ترِد إعادة مأساة صديقتها مع الإجهاض. لم نتفق على أي قرار؛ كان كل منا مصرا على ما يراه؛ أما أنا فأردت التخلص منه، في حين عزمت هي على الاحتفاظ به مهما حصل. وفي غمرة الطيش والجنون، تبرأت منها وخرجت مغاضبا، عزمت على قتل نفسي ودفنها في الحياة، إلى أن يأتي وعد الله.
لم آخذ معي أي شيء، ولا السنتيم الأحمر، قلت: أتيه في أرض الله، أجعل من نفسي واحدا من أقزام اللوحة، وأتبع الدنيا إلى المجهول، وقد قادتني السبل إلى مدينة أغادير.
دخلت محطة القامرة بالرباط مساء، وركبت أول حافلة مغادرة؛ رجوت العامل المسؤول عليها، والذي ندعوه المُشَحِّم أن يشغلني معه؛ فأقوم بكل الأعمال الشاقة على طول الطريق، على أن يأخذني معه مجانا فقبل العرض، وكانت الحافلة متجهة بي نحو قدري بأغادير.
تحملت عملي رغم أنه كان شاقا؛ فعلى طول الطريق، كلما توقفت الحافلة في محطة ما، كنت أتكلف بإعطاء الناس حقائبهم والصياح باسم المدن التي ستمر منها الرحلة، ومراقبة عدد الركاب وما إلى ذلك...وهكذا إلى أن وصلنا مدينة إنزكان حيث توقفت الرحلة، وهي قريبة جدا من أغادير.
واعترافا بالجميل؛ كان المشحم رجل كريما ونبيلا، فقد دفع ثمن عشائي في محطة توقفنا عندها ليلا في منطقة شيشاوة، وأعطاني، فوق ذلك، خمسين درهما عند وصولنا، وهي التي قضيت بها يومي الأول.
قادني بحثي عن عمل أسد به حاجياتي إلى سوق كبير للخضر، يدعونه سوق الثلاثاء، وقد اشتغلت من يومي الأول؛ أحمل صناديق الخضر إلى الخارج، فآخد درهمين مقابل كل صندوق، ولم أجد في منافستي للحمالين أي مشاكل، بل إنهم من ألطف خلق الله؛ فقد علموني أصول المهنة واكتريت مع ثلاثة منهم بحي تاراست، كانوا ثلاثتهم من قبائل الشياظمة، وبنيتهم الجسمية قوية.
لأن العمل في الحمالة الشاق والمُرهِق، قد برى عظمي، وأنساني الكتب والقراءة، ثم لأني تشبعت بروح التجارة في سلا، فقد انقطعت عن الحمالة بعد ما تحصل عندي من المال ما كفاني لشراء عربة بعجلتين وإطار خشبي وضعته فوقها.
السلاوي مول الديسير، اللقب الذي حصلت عليه؛ أشتري الخضر أو الفواكه من السوق، لاسيما الفواكه الموسمية، ثم أعرضها في بوابة السوق صباحا، وفي الساحة مساء، فأجني من ذلك أضعاف ما كان يتحصل عندي من الحِمالة.
وبالصدفة دوما، لن أقول عثرت على كتاب، بل التقيت به صدفة، ويا لها من صدفة خير من ألف ميعاد كما يتردد على لسان الناس، لأنه أكثر من مجرد أوراق مكتوبة، إنه روح مكسوة بغلاف من ورق، سيغير حياتي، إن لم نقل عصف بها؛ ذلك أني في يوم أربعاء مشهود، ويوم الأربعاء هنا، في إنزكان، هو شبه يوم عطلة، نرتاح فيه؛ فتقفل فيه الأسواق وكثير من المحلات أبوابها، اشتريت الكتاب لما أغراني بثمنه البخس ولونه الأحمر، ولاسيما أني كنت قد افتقدت الكتب والطمأنينة في عالمي الجديد.
والكتاب رواية تحت عنوان "الحي اللاتيني"، راقني أسلوب صاحبه في الحكي فاقتحمت عوالمه، وسرعان ما وجدت نفسي ذلك البطل التائه بين دروب الحي اللاتيني، وإن اختلفتْ غاياتنا؛ فهو يريد العودة بدكتوراه، أما أنا فلا أرجو إلا السلام والسكينة، كما تعددت أوجه الشبه بين فاطمة وجانين، وإن كان الفرق بينهما ظاهرا جليا.
سمرت مع الكتاب ليلتين، وفي الثالثة كنت أنفض صفحاته الأخيرة.
نسيت أن أخبركم أني كنت عازما على قَصدِ مدينة الداخلة، أنا وصديقي الخضار"علال"، الذي أشاركه السكن في غرفة واحدة، ذلك أن الأخبار القادمة من هناك كثيرا ما كانت تغرينا؛ فالمعيشة رخيصة، والحياة طيبة، والتجارة ميسرة، والسياح بالأفواج...
أتممت الرواية ليلة الجمعة، في آخر الليل. كان علال غاطا في نومه، فأطفأت نور المصباح وأسلمت رأسي للوسادة استعدادا لاستقبال يوم عمل جديد.
غلبني السهاد، فتقلبت في فراشي مرارا، كأني كنت مفترشا شوك سدرة، استرجعت أحداث الرواية فآلمني مصير جانين؛ "ما كان على بطل الحكاية أن يتخلى على مسؤوليته تجاهها"، هكذا فكرت، وعلى إثرها قمت كالمسجى عليه لما سمعت:
ــ"وماذا عنك أنت؟"
ــ أقلت شيئا؟
سألت علال، لكني انتبهت إلى أن الصوت قد جاء من مصدر عميق وخافت، ثم إنه كان طفولي النبرة، فراودني الشك حينا، ثم زاد يقيني لما سمعت نَفَسَ صديقي العميق يشق هدوء الصمت، فقمت من مكاني أتحسس الحائط باحثا عن مفتاح الضوء.
ــ ما بك؟ ألن تنام؟ دعنا نرتاح قليلا، فأمامنا شقاء يوم كامل.
هكذا زعق علال في وجهي وهو يحمي عينيه من نور المصباح بساعده.
ــ قد كان حلما، لا، بل رؤيا، فأنا لم أنم حتى أحلم أو أرى كوابيس.
لم يفهم من قولي شيئا، فغطى رأسه وهو يغمغم بكلمات متذمرا، أما أنا، فشرعت توا في لمّ حقيبتي؛ جمعت القليل من ملابسي، وكل مالي.
قام من نومه متعجبا لمَّا رأى ذلك، حدست من عينيه ما كان يجول في خاطره فجلست قربه وطمأنته أني بخير، وبكامل قواي العقلية، ثم سردت عليه ما كان مني قبل أزيد من ثمانية أشهر.
رافقني إلى محطة الحافلات، وهو يوصيني خيرا ويسرا، ولما تحركت الحافلة المتجهة إلى سلا ودعني داعيا لي بما حفظه من عبارات الدعاء، ثم دس في جيبي وريقات مالية زرقاء، ما أكرمه!
لم أنم طيلة ليلة الرحلة؛ بتُّ سارحا في آفاق الغد، محاولا حصر حدود الإمكان وتبين مراسم المستحيل، ولما علمت أن الله كفيل بتيسير قضائه حسب علمه بأقدار الناس وقدراتهم فقد اطمأن قلبي، ولم يضع رجائي بربي، فلم أكف لحظة عن الدعاء والتبتل والاعتراف بالخطأ، ولاسيما الخطيئة، فقد أسأت التصرف بحريتي في لحظة ضعف عاطفي أولا، وكان بإمكاني ألا أقع في الخطيئة، وبعد الانزلاق فيها، وعوض أن... وقعت في الخطيئة الثانية فتخليت عن مسؤوليتي.
صباح السبت، نزلت من الحافلة فلم أستطع فتح عيني أمام الشمس المشرقة. تخيل كما تشاء، لكنك لن تصل إلى الحالة التي كنت فيها وأنا في طريقي من المحطة إلى البيت الذي ساهمت في بنائه، ثم خربته بزلة لسان وصلابة رأس؛ كل المخاوف اجتاحتني، فددت لو طوى سائق التاكسي تلك الطريق في طرفة عين.
وقفتُ في باب العمارة لما نزلت من سيارة الاجرة، فلم استطع تثبيت ركبتي المرتجفتين، لقد جف حلقي، وتسارع نبض قلبي إلى أن انفلت من صدري أو كاد، وضعت كل الاحتمالات، وتسلحت بعزيمتي على تحمل المسؤولية، فخضت السلالم صعودا.
توقفت قليلا عند باب الدار، حيث كانت تقطن مع صديقاتها الثلاث أيام عرفتها، ثم تابعت صعودي.
كانت غرفة السطح مقفلة بقفل خارجي، وكذلك باب المطبخ، لكن باب المرحاض كان مشرعا فدخلته وتشممت به رائحة عطن حديث، ما جعلني أتأكد أن أحدا ما يسكن هناك ورجوت أن تكون هي، عدت نازلا إلى بيتها القديم، فطرقته ووقفت منتظرا، كررت وثلثت، ولما لم يأتني أي صوت من الداخل ارتعدت فرائصي خوفا وفقدت الرجاء، فقفلت نازلا وقد ابتلعتني الحيرة. سمعت صوت صرير الباب فالتفتت، فلمحت شابة كأنها أفاقت لتوها من نوم عميق، لكنها لم تكن من صديقات فاطمة، فاعتذرت منها وسألتها إن كانت تعرفها.
ــ فاطمة؟ تقصد تلك الحلاقة، فوق؟ لقد أخذتها صديقاتي أمس إلى المستشفى، هل أنت من عائلتها؟
ــ أي مستشفى؟ ولم أخذوها؟ هل هي بخير؟
علمت منها أن المخاض قد فاجأها ليلا فقصدوا بها مستشفى الليمون، وما إن أتمت كلامها حتى تركتها مبهورة ونزلت السلالم جريا أقفز ثلاث درجات أو أكثر، وسأعرف بعد ذلك أن الفتاة التي استقبلتني أخت التي أجهضت سابقا.
في المستشفى، وكأن عناية إلهية كانت توجهني، قصدت جناح الولادة، ودون أن أسأل الممرضة في الاستقبال وجدت نفسي أقتحم الغرفة الثانية.
كان الباب مفتوحا، وفاطمة ممددة على السرير في أقصى الغرفة، وإلى جنبها لفافة بيضاء يطل منها ملاك صغير، لم استطع تبين الوجوه حولهما لما تغرغرت عيناي بالدموع، وما هي إلا خطوة تقدمتها حتى خارت قواي، فجثوت على ركبتي قبل بلوغ سريرها.
كان الذنب أثقل من أن أتحمل الوقوف به، الآن، وأنا أسجل تلك اللحظات بالحبر، قد تغرغرت عيناي بالدموع أيضا، فما استطعت كفكفتها، إني أستحيي من نفسي، ومن قلب فاطمة المتسامح الفسيح.
أقسم بأغلظ الأيمان أنها لملاك في صورة إنسان؛ فما كان ليخطر ببالي أبدا أنها ستقوم من سريرها وترفعني من كتفي، ثم تجرني بكل حنان أهل الأرض إلى طرف السرير، رغم وجعها، ورغم أن الممرضة قد تدخلت وهي تنهرها عن ذلك.
احتضنتني وهي تبكي وتقول:
ــ كنت أعلم أنك ستعود يوما، لا عليك يا مجنون لا عليك.
لم أستطع النطق، حُبِسَت الكلمات في الحلق فكادت تخنقني، فلم أقو إلا على البكاء والنحيب، بكيت وبكيت إلى أن تخفَّفتْ نفسي من أرذانها وارتاح خاطري، فقبلتها من جبينها ومددت يدي لأتحسس المولود.
لم أستطع الكشف عن وجهه كله، كأني خشيت أن يعاتبني، فحَمَلَتْه هي برفق ووضعته بين يدي، رفعته فوق، إلى أن حاذى وجهه الصغير وجهي، فقبلته في خده وعاودتني الدموع، وكانت عيناي أجود من حاتم هذه المرة فأعدت الرضيع إلى موضعه وقمت من مقامي.
رفعت وجهي نحو السقف ويدي بمحاذاة كتفي أو يزيد، مستسلما، كأني يسوع مصلوبا، أو كأني مركب مهترئ ضائع في ظلمات بحر لا يحده بر، ولوهلة تذكرت اللوحة؛ لقد كنت واحدا من أولائك الذين قد طمست ملامحهم ولم يصلهم من شمس الحقيقة إلا ظلال السحب وشكل المرأة/الدنيا، وما علي الآن إلا أن أتحول من ذلك الهائم في ظلال الضلال وظلماته، إلى الباحث عن شمس الحقيقة، حقيقة الضعف؛ ضعف هذا المولود/الإنسان/المخلوق، الذي يذكر بقوة الخالق، وضعف النفس الذي لا يتحقق معه أمن إلا بالارتكان إلى كهف متين وقوة مطلقة؛ تلك آيات الله التي زرعها لنا في طريق حياتنا لتنمو بها معرفتنا له.
لا أذكر كم مر علي من الوقت وأنا على تلك الحال، لكني أذكر أني صحوت من تيهي ذاك، فانتبهت إلى الوجوه حولي؛ ممرضة تأخذ قياسات من سيدة معها مولودها على سرير آخر، وصديقتَيْ فاطمة، وأسرتي الصغيرة طبعا.
حييت الفتاتين على استحياء، وجدت صعوبة بالغة في صياغة عبارات الاعتذار للجميع، وعدت رأسا لأحتضن صغيري، لكنه لم يكن سمينا كما هو اليوم، بل كان صغيرا جدا، وضعيف البنية حتى خشيت أن أحمله فأكسر ضلوعه.
وحتى أقلل الطول، وابتغاء الإيجاز، فقد عمت الفرحة البيت من جديد، فاحتفلنا بولادة هذا المشاغب وعقيقته سبعة أيام تباعا، ومن الصدف مجددا أن حصل اختلاف حول اختيار الاسم؛ أما أنا فطالبت أن أحيي ذكرى صديقي القديم، وأيدتني في ذلك مي طامو، ولم تعارضني فاطمة، لكن صديقاتها رفضن الاسم رفضا مطلقا، ولذلك التجأنا إلى القرعة، وكان ما كان.
بعد أيام قليلة، عبرت فاطمة عن رغبتها في العودة إلى الصالون الذي تدربت فيه مدة، لكن، كعاملة هذه المرة. كنا متحلقين حول طاولة الغذاء في المطبخ حينها، وكنت مكتفيا بالإنصات، تاركا للقدر والصدف أن يفعلا ما يجب، فمدبرها حكيم.
قامت فاطمة من مكانها، ودخلت البيت، لاحظت أنها قد انحنت كأنها تخرج شيئا من تحت السرير، ثم عادت إلي بلفافة وصندوق صغير.
ــ هذه لوحتك، هل تذكرها؟، وهذا المال الذي خلّفته.
فتحت اللفافة؛ فكانت القماش الذي رُسِمت فيه لوحة التيه، أما الصندوق فقد ضم المال الذي تركته بعد خروجي ذلك اليوم المشهود.
ــ ولكن، لم لففتها؟ وهذا المال؟ يا مجنونة! لقد تركته لأجلك أنت، ومن كان ببطنك.
ــ ما كنت قادرة على مواجهة اللوحة في غيابك، أما المال فكنت في غنى عنه.
هكذا أوجزت ردها ثم أخبرتي أنها كانت مدخرة مالا من عملها بالمقهى، وأنها كانت تشتغل في صالون متدربة فتحصل على ما يكفيها، وحكيت لها عن كل ما مررت به، وقد رأيت منها حماسا لما وصفت لها الحياة في إنزكان، وما هي إلا أيام حتى كنا نلم ما لدينا استعدادا للرحيل، نحو الجنوب.
وصلنا، نحن الثلاثة، إلى إنزكان مساء، وكان علال بانتظارنا هناك، فقادنا ـ جزاه الله خيرا ـ إلى البيت الذي كنت قد كلفته بتدبيره، وهو بيت متوسط بصالة ضيافة وغرفتين ومطبخ صغير ومرحاض، أما الحمام فهو المرحاض نفسه.
عدت إلى عربتي بعد ثلاثة أيام، واشتغلت هي في صالون حلاقة راق، وهو مملوك لسيدة أجنبية تدعى إيزابيل، وكانت فاطمة سعيدة بعملها الجديد، فقد تضاعف مدخولها عما كان عليه في سلا، كما كسبت ود مادام إيزابيل، فلم تبدِ السيدة تذمرا من وجود أحمد الصغير في مقر العمل، بل تطورت علاقتهما فصارت تزورنا في البيت أحيانا.
ذلك الأربعاء، كنت منشغلا بإعداد طبق الطاجين الذي أتقنه، وأحمد يحبو في الأرجاء إذ سمعت صوت صرير المفتاح، ثم تلاه صوت فاطمة مُرَحِّبة، خرجت من المطبخ لأستجلي الأمر فأبصرتها مع صاحبة الصالون، ومعهما نسوة أوربيات، كن أربع نساء يبدو أنهن كبيرات السن، وقد تكلفت أنا بإعداد الشاي للجميع دون أن أعرف سر الزيارة.
دار الحديث بينهن بالفرنسية، وعلمتُ من فاطمة أن إحداهن فنانة وربة متحف، وهي من صديقات مادام إيزابيل، ولأن صاحبة الصالون كانت قد نشرت على صفحتها في أحد مواقع التواصل الاجتماعي صورة لها في صالة بيتنا إلى جانب اللوحة، فقد أعجبت بها هذه الفنانة وجاءت من فرنسا خصيصا لشراء اللوحة المعلقة بحائط الصالة.
رفضت فكرة بيعها بداية، لكن، لما سمعت الثمن المعروض، لا تسخر مني، فقد سال ريقي فعلا، أقسم أنه قد سال، لا تحمل كلامي على سبيل المجاز، ولو كنتَ مكاني، أخذا بعين الاعتبار تلك الوضعية المادية التي كنا فيها، والخوف من المستقبل غير المؤمن وغيرها، أما كنت لتبيع لوحة كانت يوما ما مجرد قطعة مهملة في بيت ديوث، لو عرضت عليك أربع مائة ألف درهم مقابلها؟.
أربعون مليون سنتيم مغربي، اشترينا بها محلين تجاريين صغيرين ومتجاورين، فضممناهما عبر هدم الجدار الفاصل ليصيرا محلا كبيرا، وجهزناه صالون حلاقة من الدرجة الممتازة؛ بأربعة مقاعد وغيرها من الأجهزة، وهو الآن يشغل ثلاث بنات رسميا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما