الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البناء النفسي والبناء الثقافي

محمد طه حسين
أكاديمي وكاتب

(Mohammad Taha Hussein)

2017 / 5 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الثقافة الواهنة وغير المقاومة أمام مهبّات الثقافات الأخرى، هي المبنية على البُنِيّات النفسية الضعيفة لأفرادها وعلى التربية الثقافية المؤطرة في تنشئتها الأجتماعية التي تنتقل تقليدياً من جيل الى جيل ومن حقبة زمنية الى أخرى.
البناء النفسي للفرد هو الأساس لبناء الفكر والوعي لديه، ان كان هذا البناء هشاً أو بالأحرى غير مؤسَّساً على أعمدة راسخة على أرضيات تربوية وسايكولوجية وأجتماعية وأقتصادية منسجمة مع بعضها، فأن الثقافة لا تجد لها ضماناً للأستمرارية والنمو ولا تتسلَّح بمقومات البقاء والمحافظة على نفسها أولاً ومن ثم على الكيانات النفسية السليمة لأفرادها ثانياً.
لكلِّ فرد مجال نفسي خاص به هو بمثابة البيئة النفسية له، كما يملك كل مجتمع بيئة مجتمعية مكونة من كلّ هذه المجالات الخاصة، حيث تنعكس هذه البيئة شبكة علاقات واسعة مبنية في مجالها الحيوي وزاخرة بمؤثرات آنية يواجهها الافراد يومياً وباشكال عادية، وهناك أهداف ستراتيجية ضمن هذا المجال على الفرد بذل جهود لعبور المحطات كي يصل الى الأهداف المرسومة داخل المجال.
الحياة الحقيقية والسعيدة التي يدركها الأفراد ويَعِيَها تمضي وفق هذه الدايناميكية السلسة والمرنة وتتحرك ضمن هذه المجالات المتعددة والمختلفة، نحن لا نعرض نمطاً من الحياة يدور ميكانيكياً من دون روح، بل يجيز الفرد الواعي لنفسه داخل بيئته النفسية والمجال الأكبر التمتع بالأعتباطية والترفع على الذات كي يجد المتعة الروحية في الحياة ويسد حاجاته اللاعقلانية أيضاً.
نحن لم نعش واعين بمجالنا النفسي لا كأفراد ولا كجماعات، لم ندرك يوماً من الأيام بأن كلَّ واحدٍ منّا يملك كوناً نفسياً يسبح فيه ويضم كل وجوده، نحن لا نمتلك بيئات نفسية بقدر ما تتملكنا البيئات بكل وجودنا النفسي والروحي وحتى الجسدي.
أفرادنا هم أعتماديّوا المجال Field Dependence كما يصنف العالم النفسي الأجتماعي كيرت ليفين الأفراد وفق بيئاتهم النفسية وثقافاتهم. ثابتون بمرور الزمن على أنماطهم السلوكية وسماتهم النفسية المؤطرة، ينسجمون قدريّاً مع السياقات دوماً وليس لهم تأثير لا على السياق ولا على أنفسهم، هم كلّانيون حيث يرون الاشياء بمنظار شامل وعيون محيَّرة ولا يركزون على التفاصيل والجزئيات، أنهم حدسيّون لا بالمعنى الجشتلطي للمفهوم بل بالمعنى الميتافيزيقي حيث لا ينتظرون نتائج الأمور والمواقف وسرعان ما يهلهلون على نغم الاصداء الخارجة من مراكز أخرى لا أنفسهم هم.
البناء النفسي الهزيل هو من نتاج الأعراف(لا الأنظمة) التربوية التي سادت والى الآن حياتنا بكل مجالاتها، العرف أوالتقليد التربوي الموجود لا يؤسس فرداً واعياً ومنفتحاً لا على ذاته ولا على خارجه، أنه يؤهله فقط كي يتعلم العبر والأنماط السلوكية التي يحتاجها الوجود الفيزيقي والبيولوجي لا الوجود العقلي والواعي، ولهذا لا تفيد أفراده القوانين والأنظمة بقدر ما يرتوي الفرد هنا باللانظام والقدرية التي بنيت عليها الأعراف.
نحن من مجتمعات مقولبة عرفياً، لم ننتقل من العرف الى النظام، ولهذا لم نشعر بكياننا ومجالنا النفسي المستقل والمختلف، سادت الأعراف كل مجالات الحياة منها: السياسية والأجتماعية والأقتصادية والثقافية والتربوية وفي النهاية النفسية، التحول من العرف الى النظام ليس بالسهولة تلك التي بنيت عليها مسميات الحداثة بالمقلوب لدينا.
التحول النوعي من الأعراف الى الأنظمة عمليات تأريخية متسلسلة نحن لم نعشها الى الآن، الشخص أعتمادي المجال عندنا لا يتحول هكذا الى أستقلالي المجالField Independence ، فالأعتمادي هو في حالة فطام ورضاعة أزلية لا ينفصل عن الأم المجازي(الطبيعة والخارج) ألّا أذا شَعَرَ ووعيَ بأن الاستقلال هو الصراع والأعتماد على النفس وعلى الذات، وليس الاعتماد الكلّي على الآخرين والخارج.
هذين المفهومين لكيرت ليفين يقابلهما مفهومان آخران للعالم النفسي (جوليان روتر) وهما (مراكز السيطرة الداخلية والخارجية)، حيث الخارجية تقابل أعتماديّ المجال، والداخلية تقابل استقلالي المجال. وهناك مترادفات أصطلاحية ومفاهيمية سايكولوجية أخرى كثيرة لعلماء نفس آخرين تقابل هذا التصنيف الليفيني، منه أريك فروم في تصنيفه الهايدغري للذات الاصيلة والذات المزيفة، وكذلك تصنيفه الخاص للحرية السلبية والأيجابية، والشخص المتوجه نحو الآخرين مقابل الأبتعاد وضد الآخرين ل(كارين هورناي).
تبقى الثقافة واهنة والبناء النفسي لأفرادنا أوهن الى أن تعي مراكز السلطة بيننا أهمية هذا الموضوع الذي هو فكري وسايكوفلسفي بأمتياز، افكار بحاجة الى خطوات عملية وضمن أطر منهجية تربوية وسياسية وكذلك ثقافية وأجتماعية، أفكار تحولية وصدمية في نفس الوقت ولكن عقلانية وبحاجة الى الجرئة والعناد من لدن ذوي الشأن كي تتأطر قانونياً وسياسياً وذلك بغية الخلاص والنجاة من الوحل الثقافي والأجتماعي العفن الذي طالت عفونته الأدمغة والكيانات النفسية لكائناتنا النفسية. السعي لاستقلال الذوات من خلال برامج طويلة الأمد هو الأكثر عقلانية من كل أنواع الأستقلالات الأخرى. الفرد غير المتحرر نفسياً وروحياً من أغلال وقيود التأريخ الطويل لعبوديته لايحافظ على وطنه ودينه ومجتمعه فحسب بل لا يقدر السيطرة على ذاته وحمايتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأرجنتين تلاحق وزيرا إيرانيا بتهمة تفجير مركز يهودي


.. وفاة زعيم الإخوان في اليمن.. إرث من الجدل والدجل




.. بحجة الأعياد اليهودية.. الاحتلال يغلق الحرم الإبراهيمي لمدة


.. المسلمون في بنغلاديش يصلون صلاة الاستسقاء طلبا للمطر




.. بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري