الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظام العلامات في القرآن - ج1

تيسير الفارس العفيشات

2017 / 5 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


صاغ المفكرون المسلمون مفهوم اللغة بوصفها نظاما من العلامات شأنها شأن أنظمة العلامات الأخرى كالحركات والإشارات، وذهب الجرجاني على سبيل المثال الى أن الألفاظ لا تدل على المعاني بذاتها بل بالإتفاق، فاللفظ علامة تدل على الحدث وكان يمكن أن تدل عليه علامة لفظية أخرى لو كان قد حدث اتفاق عليها .
وظل الفكر اللغوي يرى العلاقة بين اللفظ والمعنى علاقة اصطلاح مباشرة حتى جاء الفريد دي سوسير، واضاف الى مفهوم العلامات بعدا جديدا، حيث ذهب الى أن العلاقة بين اللفظ الدال .. والمعنى المدلول .. علاقة اصطلاح لكنه عمق مفهوم الدال ومفهوم المدلول، بعيدا عن مسألة اللفظ والمعنى على النحو التالي :
إن الوحدة اللغوية التي تسمى اللفظ ظاهرة مزدوجة، ليس من جهة أنها تدل على ارتباط بين ملفوظ أو مكتوب من جهة، وبين موجود خارجي من جهة أخرى ـ اي بين اللفظ والشيء ـ بل هي ظاهرة مزدوجة بشكل أكثر تعقيدا من جهتي الدال والمدلول، هنا يتجنب دي سوسير استخدام مصطلحي اللفظ والمعنى ليحل محلهما الدال والمدلول، لأنهما أكثر دقة في التعبيرعن تعقد الوحدة اللغوية، والدال والمدلول يمثلان جانبي العلامة اللغوية أو الوحدة اللغوية التي لا تدل على شيء، بل تحيل الى مفهوم ذهني هو بمثابة المدلول دون الشيء، وكذلك الدال ليس هو الصوت الملفوظ أو الرمز المكتوب، بل هو الصورة السمعية، وليس المقصود بالصورة السمعية الصوت المسموع، أي الجانب المادي البحت منه، ولكن المقصود هو الأثر النفسي الذي يتركه الصوت المسموع أو الرمز المكتوب، بعبارة أخرى ليس الاثر النفسي إلا التصور الذي تنقله لنا حواسنا للصوت، تصور الصوت في الذهن.
وعندما نتفحص كلامنا بدقة أكثر تبدو الخاصية النفسية لصورنا السمعية واضحة، فبإمكاننا دون أن نحرك شفاهنا أن نتكلم مع أنفسنا، والنتيجة أن العلامة اللغوية عبارة عن وحدة نفسية مزدوجة يترابط فيها العنصران: المفهوم، والصورة السمعية، ارتباطا وثيقا بحيث يتطلب وجود أحدهما وجود الآخر، هذا التصور أنهى والى الأبد التصور الكلاسيكي عن علاقة اللغة بالعالم بوصفها تعبيرا مباشرا عن هذا العالم، لقد صارت العلاقة بين اللغة والعالم محكومة بأفق المفاهيم والتصورات الذهنية الثقافية، إنها لا تعبر عن العالم الخارجي الموضوعي القائم لأن مثل هذا العالم إن كان له وجود يعاد إنتاجه في مجال التصورات والمفاهيم، وقد أحدث هذا التصور ثورة كبيرة في علاقة اللغة بالفكر وفي طبيعة النظام الرمزي للغة، والفرق بينه وبين الأنظمة الرمزية الأخرى داخل النظام الثقافي نفسه، هذه الثورة غائبة عن كل وعي اللذين يتوهمون أن اللغة نظاما ساكنا بسيطا يدل على الأشياء ويستدعيها ويتصورون بالتالي أنها نظام إشاري .
واذا كانت العلامات اللغوية لا تحيل الى الواقع الخارجي الموضوعي إحالة مباشرة، ولكنها تحيل الى التصورات والمفاهيم القارة في وعي الجماعة وفي لاوعيها، فمعنى ذلك أننا مع اللغة في قلب المنتج الثقافي، وهذا المنتج وإن كان يتجلى في أكثر من مظهر كالأعراف والتقاليد والفنون وأنماط السلوك والشعائر الدينية وغير الدينية، فإن اللغة تمثل النظام المركزي الذي يعبر عن كل هذا المنتج الثقافي، من هذا المنطلق يرى علم العلامات أو السميوطيقا أن الثقافة هي عبارة عن أنظمة متعددة مركبة من العلامات، يقع في المركز منها نظام العلامات اللغوية لأنه هو النظام الذي تنحل إليه تعبيريا باقي الأنظمة.
هل يمكن بناء على ذلك القول أن اللغة تمثل الرحم الذي ينبثق عنه الوعي بكل أبعادة ؟ نعم دونما تردد، خاصة اذا ادركنا أنها ليست معطى ثابتا، بل هي في حالة سيرورة مستمرة وحيوية متدفقة نابعة من قوانينها الخاصة، بدء من المستوى الصوتي وصولا الى المستوى الدلالي، إن اللغة نظام من العلامات، لا تشير العلامة فيه كما قلنا الى الخارج الموضوعي بشكل مباشر، بل تشير الى الصورة السمعية التي هي الدال وهذا الدال يحيل بدوره الى الصورة الذهنية أو المفهوم الذي هو المدلول، هذا على مستوى العلامة المفردة، لكن اللغة نظام من العلامات التي تدخل في علامات أكثر تعقيدا على مستوى نظام النحو، وتزداد درجة التعقيد حدة حين نتجاوز حدود الجملة الى النص،
ولكي تتضح ملامح استقلال قوانين اللغة عن قوانين الواقع والحياة نضرب مثالين يكشف أولهما عن هذا الاستقلال من زاوية عدم التماثل، ويكشف الثاني عن قدرة اللغة على خلق واقعها الخاص، الأول جملة ( مات الخليفة ابو بكر) وهي جملة تشير الى واقعة حدثت خارج اللغة، لكن النظر الى الجملة من خلال قوانين اللغة يكشف عن عدم التماثل، الجملة تقول أن هناك فعلا .. مات ـ وتقول أن الفاعل هو ابو بكر وهذا ليس صحيحا على مستوى الواقعة الخارجية، فالخليفة لم يفعل موته، ثم أن الفاعل نحويا هو كلمة الخليفة، وهي تمثل في الواقع الخارجي وصفا للشخص. وتقول الجملة ثالثا من خلال تحليلها نحويا، أن كلمة أبو بكر بدل من كلمة ( الخليفة) مع أن الحقيقة الخارجية غير ذلك، ولكي تتضح المسألة فلو حدث تقديم وتأخير في التركيب فصارت الجملة مثلا ( مات ابوبكر الصديق الخليفة الأول، لتوهم متوهم أن الجملة الآن تماثل العلاقات الخارجية بين الإسم ابو بكر وصفاته الصديق ، والخليفة الأول، لكن الحقيقة تظل غير ذلك فالإسم ابو بكر وصفاته علامات كما سبقت الإشارة، ومن جهة ثانية يظل الفاعل النحوي في الجملة اللغوية فاعلا مع أنه لم يفعل شيئا في الواقعة موضوع التعبير اللغوي .
المثال الثاني الذي يكشف عن قدرة اللغة في خلق واقعها الخاص، تقول ( غابة الحياة تمتلئ بالأشجار الميتة) فالمركب ـ غابة الحياة ـ لا يشير الى مدرك ذهني سابق، بقدر ما يصنع هذا المدرك، وذلك رغم أن كل جزء في هذا المركب يشير وحده الى مدرك ذهني مستقل، فالغابة مدرك مستقل وكذلك الحياة ولكن غابة الحياة مدرك تركيبي جديد في النظام اللغوي، الجدة طبعا مسألة يحددها إطار وعي المخاطب بالجملة وليست مسألة مطلقة، والسؤال الآن : كيف أمكن للغة من خلال قوانينها أن تفعل ذلك ؟ الإجابة عن هذا السؤال تكشف لنا عن البُعد الإستبدالي في قوانين اللغة ، ذلك أن الذي حدث أن المتكلم قائل الجملة السابقة، لم يكن يشيرالى واقع خارجي بقدر ما كان يعبر عن تجربة، عاطفية أو وجدانية أو فلسفية ... الخ . وفي ذلك التعبير الذي ساعدته قدرة اللغة الإستبدالية ، ذلك أن كلمة غابة تستدعي ذهنيا مجموعة من المفردات اللغوية التي تنتمي الى الحقل الدلالي المرتبط بها مثل الجبل، أفريقيا ، خط الإستواء ، الوحوش .. الخ. ولو كانت الجملة مثلا ( غابة الجبل تمتلئ بالإشجار الميتة ) لكانت الجملة وصفية عادية لا تحمل شحنة كتلك التي تحملها الجملة السابقة، إن استبدال كلمة الحياة بالكلمة المفترضة الجبل، لم يؤثر في دلالة العلامة ـ الغابة ـ وحدها، بل أثر كذلك في دلالة كلمة الأشجار وفي دلالة الصفة ميتة. إنها ليست إذن مجرد عملية استبدال علامة بعلامة أخرى، بل هي عملية تحويل كامل في الدلالة.
وهكذا يمكن القول أن للغة قوانين خاصة في إنتاج الدلالة تعتمد على تفاعل مستوياتها الصوتية والصرفية والنحوية من خلال علاقتي التركيب والاستبدال، فالتقديم والتأخير والحذف والذكر والتكرار والوصل والقطع والعطف والاستئناف، كلها ظواهر تركيبية على مستوى الجملة تمثل قوانين انتاج الدلالة على هذا المحور، كما تمثل عملية الأستبدال محورا آخر. ويتفاعل المحوران مع المستويات الصوتية والصرفية والنحوية ليشكل هذا التفاعل المعقد قانون إنتاج الدلالة على مستوى الجملة، ناهيك بمستوى النص مع تعدد أنماط النصوص وأنواعها من التاريخي والديني والفلسفي والمنطقي والشعري والروائي والمسرحي، وكذلك النصوص المركبة.... الخ .
لكن النصوص مهما تعددت أنماطها وتنوعت تستمد مرجعيتها من اللغة ومن قوانينها وبما أن اللغة تمثل الدال في النظام الثقافي، فكل النصوص تستمد مرجعيتها من الثقافة التي تنتمي إليها. هذا جانب من المسألة، أما جانبها الآخر فإن النصوص قادرة على استثمار قوانين الدلالة المشار إليها فيما سبق للتأثير في الدلالة، أي لتأثير في الثقافة، هذا بالطبع مع استثناء النصوص الدعائية الفجة التي تكرر ما سبق قوله ملايين المرات، ذلك أنها ليست في الحقيقة نصوصا بل هي لغة في ثباتها وتحجرها مقاومتها للتطور، إن اللغة تقاوم التغيير وتسعى للثبات بما هي ظاهرة اجتماعية، لكن الكلام الذي هو الاستخدام الفردي للغة هو الذي يجدد اللغة ويطورها وهكذا يمكن من خلال التفرقة بين اللغة والكلام أو بين الإجتماعي والفردي في اللغة تتبدى عناصر الصراع الايديولوجي في الحياة الاجتماعية على أرض اللغة. فهناك نصوص تنطقها اللغة وهي تلك التي تسمى نصوصا على سبيل المجاز وهناك نصوصا لديها كلام تريد أن تقوله من خلال اللغة.
القرآن بما هو كلام الله فهو بامتياز نص يمتلك كلاما وليس نصا تنطقه اللغة، وإن كان يستمد مقدرته القولية أساسا من اللغة. والمقصود بمقدرته القولية من حيث هو نص موجها للناس في سياق ثقافة معينة، وليس المقصود مقدرته من حيث طبيعة المتشكل به، النص القرآني يستمد مرجعيتته من اللغة ، لكنه كلام في اللغة وقادر على تغيرها. واذا انتقلنا الى الثقافة مدلول اللغة ، يصبح القرآن منتج ثقافي، لكنه منتج قادر على الإنتاج، لذلك فهو منتج يتشكل في الوقت نفسه من خلال استثمار قوانين الدلالة ويساهم في التغيير وإعادة التشكيل في مجال الثقافة واللغة أيضا.
هذا هو مفهوم التاريخية على العموم في مجال النصوص، إن القول بأن النص منتج ثقافي يكون في هذه الحالة قضية بديهية لا تحتاج الى اثبات، ومع ذلك فإن هذه المسألة تحتاج في ثقافتنا الى تأكيد متواصل، اذ ان القول ان النص بما هوكذلك منتج ثقافي يمثل بالنسبة للقرآن مرحلة التكوين والاكتمال، وهي مرحلة صار النص بعدها منتجا للثقافة بمعنى أنه صار النص المهيمن المسيطر الذي ترتد اليه باقي النصوص بل وتتحدد به مشروعيتها إن الفارق بين المرحلتين في تاريخ النص هو الفارق بين استمداده من الثقافة وتعبيره عنها ، وبين امداده للثقافة وتغيره لها.
هذا يحيلنا الى اشكالية السياق التي يجب أن نتوقف عندها قليلا لما لها من أهمية بالغة في هذا المبحث، إن كلمة السياق وإن كانت مفردة من حيث الصيغة اللغوية فإنها تدل على تعددية كبيرة جدا لايمكن حصرها في مجال دراسة النصوص، إن النصوص ذاتها تتنوع تنوعا هائلا في بنى اللغة وتزداد ثراء وتنوعا اذا انتقلنا الى مجال النصوص الثقافية، لذا نكتفي هنا على الأقل بالتوقف عند مستويات السياق المشتركة والعامة جدا مثل السياق الثقافي الاجتماعي، والسياق الخارجي الذي هو سياق التخاطب، والسياق الداخلي أي سياق الأجزاء والسياق اللغوي أي تركيب الجملة والعلاقات بين الجمل، ثم سياق القراءة.
ومن الضروري التوقف عند تلك المستويات العامة جدا للسياق، وهي المستويات التي تتعلق بأي نص لغوي لا يعني إغفال الطبيعة النوعية الخاصة لكل نوع من النصوص، ذلك لأن النوع في ذاته، النص الأدبي مثلا وما يتفرع عنه من أنواع أدبية ، النص الشعري ، النص الروائي .. الخ، يمثل مستوى من مستويات السياق على درجة عالية من التعقيد والإشكال. إننا لا نكتفي بالتوقف هنا عند بعض المستويات العامة للنص اللغوي لأننا معنيون بصفة بالنص القرآني وبتحديد مستويات السياق التي يتجاهلها، ثم يتجاهلها الخطاب الديني في تأويلاته.
واذا كنا ننطلق في هذا البحث في تعاملنا مع النص الديني من حقيقة كونه نصا لغويا بامتيا،ز فلن نغفل قضية أخرى في غاية الأهمية، تلك التي تتعلق بالخصائص النصية، لا أقصد الوقوف عند مستوى المرسل قائل النص، فالنص القرآني يستمد خصائصه النصية من حقائق بشرية دنيوية، اجتماعية ثقافية لغوية في المقام الأول. إن الكلام الإلهي لا يعنينا إلا في اللحظة التي تموضع فيها بشريا، وهي اللحظة التي نطق بها محمد و قد نطق باللغة العربية. ومن هنا تركيزنا على مستويات السياق العامة جدا في النصوص اللغوية يستهدف في الحقيقة تقديم محاولة لاكتشاف مستويات السياق الخاص بالنص القرآني .
الثقافي يستدعي الاجتماعي بما هو مؤسس عليه، وإن كان استقلاله وسياقه وقوانينه مستقلة نسبيا عنه، ونقصد بالسياق الثقافي للنصوص اللغوية كل ما يمثل مرجعية معرفية لامكانية التواصل اللغوي، وبعبارة أخرى اذا كانت اللغة تمثل مجموعة من القوانين المعرفية الاجتماعية بدءا من المستوى الصوتي وانتهاء بالمستوى الدلالي فإن هذه القوانين تستمد قدرتها على القيام بوضيفتها من الإطار الثقافي الأوسع بالمعنى الذي شرحناه، لذلك لا يكفي المتكلم وكذلك المتلقي معرفة قوانين اللغة لضمان نجاح عملية التواصل، فلا بد بالإضافة الى ذلك من أن يكون كلاهما منخرطين في إطار حياتي يمثل لهما مرجعية التواصل، هذه المرجعية المعرفية هي الثقافة بكل مواضعاتها، وهي التي تتجلى في اللغة وقوانينها بطريقة لم يتمكن علم اللغة الاجتماعي رغم انجازاته الهامة من رصدها رصدا دقيقا.
لن نتحدث عن الصورة الذهنية بوصفها وسائط بين الدال اللغوي وما يشير إليه في الواقع الخارجي، ذلك أن الحديث هنا ينصب على اللغة بوصفها نظاما من العلامات، ورغم أن التصورات والمفاهيم جزء من منظومة الثقافة، فإن اللغة تشير إليهما بطريقة رمزية ، آلياتها الخاصة تنفي عنها صورة الشفافية، وتزداد درجة كثافة الإحالة الرمزية في اللغة إذا انتقلنا من مستوى الألفاظ المفردة الى مستوى التركيب المنتج للدلالة، الدلالة على مستوى التركيب هي التي تجد اطارها المرجعي والتفسيري في نفس الوقت في مجمل منظومة الحياة الثقافية، وإن كانت الاتصالية لاتتحقق في الأدب اللغوي على مستوى الجملة إلا من خلال ذلك المشترك الثقافي بين المرسل والمستقبل، فإن دلالة النصوص أولى ألا تفصح عن نفسها إلا من خلال السياق الثقافي.
ومن الضروري جدا التفرقة في الثقافة بين المعرفي والايديولوجي حيث يمس مستوى الاتفاق العام، مستوى الحقائق اليقينية في الثقافة المعنية في مرحلة تاريخية محددة ، وليس مهما أن تكون تلك الحقائق من النوع العلمي التجريبي أي القابل للتثبت منه بصرف النظر عن المكان والزمان فحديثنا هنا هو عن حقائق ثقافية نسبية بالضرورة ومتغيرة بتغير وعي الجماعة.
المعرفي بالمعنى الثقافي إذن هو الوعي الاجتماعي العام، بصرف النظر عن اختلاف الجماعات الناتج عن اختلاف المواقع المنطلق منها، في حين أن الأيديولوجي هو وعي الجماعات المرتهن بمصالحها، في تعارضها مع مصالح جماعات أخرى ، اذا صحت هذه التفرقة الإجرائية الى حد كبير، يمكن القول أن المعرفي يمثل المشترك في عملية التفاهم المتضمنة في اتصال لغوي، أي الذي يجعل الاتصال ممكنا، وعنه تتولد الدلالة، إنه قناة الاتصال الساكنة والسابقة على وجود أطراف الاتصال . أما الايديولوجي فيمثل عصب الرسالة المتضمنة في اتصال لغوي في مجال النصوص نستثني بالطبع النصوص العلمية التي تستدعي استبدال معرفة جديدة مبرهن على مصداقيتها بالمعرفة السائدة، وليس معنى أن الأيديولوجي سيمثل عصب الرسالة لانه يطغى طغيانا حادا على المعرفي فقط، اذ يظل المعرفي بمثابة محور الفاعلية لتحقيق الأيديولوجي في النص، واذا كان المعرفي في النصوص العلمية يهيمن على الأيديولوجي حتى يكاد يتلاشى تماما عن طريق استبدال نظام رمزي آخر به، في حين تعتمد نصوص الدعاية على استثمار كل أو معظم الجوانب المعرفية الوظعية للنظام اللغوي .
الفرق بين النظام اللغوي ونظام النص هو المحدد للرسالة، وهو نابع أساسا من أيديولوجية المرسل، ومن ناحية المتلقي يمثل النظام اللغوي ما يمكن أن نطلق عليه الإطار التفسيري للرسالة في حين يمثل نظام النص أعني دلالة هذا النظام ما يمكن أن نطلق عليه حيث تتداخل أيديولوجيا المتلقي للحكم والتقييم .
والسؤال: هل يمكن فهم النصوص الدينية والقرآن بصفة خاصة خارج إطار السياق الثقافي المعرفي للوعي العربي في القرن السابع ؟ اللغة التي تمثل شفرة الرسالة في النصوص الدينية هي التي تمثل الإجابة على هذا السؤال، بشرط الوعي بأنها ليست وعاء خاليا، أو مجرد أداة توصيل محايدة، لكن للنصوص لغتها الخاصة، أو شيفرتها الثانوية داخل نظام اللغة العام، ومن خلال هذه اللغة الثانوية تطرح النصوص الدينية العقيدة الايديولوجية الجديدة وهي العقيدة التي يحاول بها النص إعادة تشكيل وعي المتلقي، لكن حتى هذه العقيدة الجديدة لا تكون عقيدة جديدة تماما، فالنص ينحاز بالنهاية الى ايديولوجيا لها بذورها وارهاصاتها الجنينية في الثقافة.
لا يمكن في حالة النص القرآني مثلا تجاهل الحنفية بوصفها وعيا مضادا للوعي الديني الوثني الذي كان سائدا ومسيطرا، ومعنى ذلك أن النص يمثل في جانب منه جزءا من بنية الثقافة سياق ايديولوجي متأصل .
إذا انتقلنا من المجال الثقافي العام الى مجال علاقة النص الديني بالنصوص الأخرىالسابقة عليه والمعاصرة له نجد أن النص قد انخرط في علاقات سجالبة مع تلك النصوص، واعتمدت هذه السجالية على آليات تناصية على درجة عالية من التعقيد، نذكر على سبيل المثال لا الحصر الرفض فيما يخص الكهانة والسحر والشعر مع بعض استثناءات فيما يتعلق بالشعر، لكن هذا الرفض لم يمنع النص من توضيف آليات تعبيرية واسلوبية تنتمي الى تلك النصوص خاصة في مجال الإيقاع . وفيما يتعلق بالنصوص القصصية الشفاهية يمكن القول أن التناص معها اعتمد على آليات الاستيعاب وإعادة التوظيف، من خلال سياق يعيد تأويلها تأويلا ناطقا بأيديولوجية النص، أما الموقف من النصوص الدينية فقد اعتمد على آلية الانتقائية التي تقبل الأجزاء وتعيد توظيفها وتأويلها، أما الأجزاء المرفوضة فتم تصنيفها في خانة الإنحراف أو التحريف الناتج عن الضلال، ومن السهل على النص أن يقوم بالتأويل والتصنيف اعتمادا على أنه نص نابع من المصدر نفسه، وأن إحدى مهامه من ثم تصويب الإنحرافات التي أحدثها البشر في أصوله السابقة.
وإذا كا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53


.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن




.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص