الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفتنة نائمة تستيقظ قبل كل عيد.. قصة قصيرة

عبد المجيد طعام

2017 / 6 / 1
الادب والفن


لازلت أتذكرُ حال أمي خلال شهر رمضان ،كم كانت تتعب، كحال زوجتي حاليا .. كنت أشفق على أمي لأنها كانت تحمل أعباء البيت وحدها لم يكن أبي يقاسمها هذا الهم إلا نادرا ...حاليا أحاول ألا أكرر نفس التجربة مع زوجتي، اعترف لها بمعاناة المرأة المغربية قلت لها مؤخرا: " لابد من استصدار قوانين تشريعية تجبر الرجل على مساعدة الزوجة في أعباء البيت...القوانين هي وحدها القادرة على تغيير الوضع ...و لكن على المرأة أن تكون لها الجرأة للتبليغ عن زوجها إذا لم يقدم لها يد المساعدة.." نظرت إلي زوجتي بابتسامتها المعهودة و قالت لي:"لا عليك..يا حبيبي..لا تفكر في هذا الأمر كثيرا ...المشكل لا يرتبط بقوانين بقدر ما يرتبط بخلفية ثقافية...سيتحقق حتما التغيير ..ألا ترى ذلك في طبيعة علاقتنا ...حتما هناك أشخاص تغيروا مثلما تغيرنا نحن ..لا عليك ياحبيبي...آه تذكرت لقد سلقت البطاطس ، هل يمكن أن تنقيها ؟ هي هناك..شكرا لك حبيبي.. "
في الحقيقة لا أريد أن أتكلم عن زوجتي بقدر ما أريد أن أتكلم عن والدتي "الحاجة فاطمة"...هناك تقاطعات كثيرة بينهما : طاعة الله ،الصبر ، المحافظة على توازن الأسرة ، إسعاد كل أفرادها...
كانت والدتي تخرج إلى السوق وحدها عبر الأوطوبيس ، لم يكن يتجاوز ثمن التذكرة العشرين فرنكا، أي سنتيما بلغتنا الوطنية الحالية..بعد ساعات متعددة تعود محملة ، متعبة لكنها لا تستطيع أن تشرب جرعة ماء لأنها صائمة و حريصة أن يمر صيامها خلال كل الشهر في طاعة الله و الزوج و إرضاء الأبناء ..كانت تعبر في صلواتها عن رضاها بما يمنحنا الله من أكل و شرب و صحة و نجاحات في الدراسة...بالمناسبة أمي درست في مدارس "الفرنسيس" إلى حدود القسم الثالث ابتدائي بمدرسة " ثلث سقاقي" بالمدينة القديمة ،كانت تكتب اسمها بالفرنسية و تحفظ أناشيد وطنية فرنسية ترددها أمامنا ،كنا نشعر باعتزاز كبير لكن لم نكن نميز هل هذا الاعتزاز ناتج عن معرفة والدتنا لبعض الأناشيد الفرنسية أم ناتج عن الكلمات الوطنية التي كانت تشعل حماسنا... أما أبي فقد كان يشتغل مع مقاولين فرنسيين في البناء و استطاع أن ينسج علاقات صداقة مع الكثير منهم.. أبي هو الآخر كان يعرف بعض الكلمات الفرنسية و لكنة تعلم فقط كتابة اسمه باللغة العربية...كم كنا نضحك عندما يشد القلم بين أصابعه الغليظة ليخط بصعوبة مجموعة من الخطوط نتبين منها ملامح باهتة لاسمه.. لم نعان من الفاقة كما أننا لم نعرف التخمة ،...كانت السعادة تغمرنا بين والدين اهتما بنا كثيرا و حرصا على أن نأخذ حظنا من التعليم بالمدرسة العمومية المغربية...
حينما يقترب عيد الفطر تكثر خرجاتنا إلى السوق مع والدتنا ..أحيانا كثيرة نعود بخفي حنين نجر أرجلنا المتعبة من كثرة الانتقال من دكان إلى آخر...كانت أمي تحرص على شراء الأحذية و الألبسة المتينة ، لكن بأثمنة منخفضة ، كان من الصعب أن تجد كل المواصفات المطلوبة في يوم أو يومين لهذا كانت تخصص الأسبوع الأخير من شهر رمضان للمهمة المستحيلة...
خلال الأيام الأخيرة من رمضان كانت أمي تقدم لأبي تقريرا مفصلا عن خرجاتها "التسوقية" بعد الإفطار .. كانت تحرص على احترام مجموعة من الطقوس فلا تقدم تقريرها إلا بعد أن يأخذ أبي كأسا من الشاي المنعنع " برزته" صحبة سيجارتين أو ثلاثة إلى حين يسترجع "ميزاجه" فتنفرج أساريره و يصبح قابلا للسماع و الحديث مع أمي و معنا...
في تقريرها لهذا اليوم من مسلسل التسوق و هي تنظر في اتجاه أبي قالت له :" اليوم الفتنة فالسوق! ! " نظر إليها مبعثرا دخان سيجارته في كل أرجاء الغرفة الضيقة ضيق رئتيه المتعبتين فاسترسلت:" الفتنة تاع الصح ! ! الناس كلهم خرجوا ...أوطا في نوطا فيك.." رد عليها أبي ضاحكا :" ما عمرنا نتقدموأ ....غادي نبقاو دائما غي بهايم! ! "
لم أتبين في تلك اللحظة العلاقة بين التقدم و فتنة السوق ، نظرت باستغراب اتجاه أبي دون أن اتجرأ على استفساره ، لكن منذ تلك اللحظة استقر في ذهني أن الفتنة لا تكون إلا في الأسواق عندما تقترب الأعياد ،حينما يخرج كل أهالي المدينة دفعة واحدة لقضاء حوائجهم... كنت اعتقد أن الفتنة لا تتجاوز أسبوعا واحدا ، تنتهي بمجرد ما يحل يوم العيد... كنت أستصغرها ..لم أكن أتصور أن هناك معنى آخر للفتنة ...يظهر أنني كنت على خطأ.. أليس كذلك ؟ ؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و