الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بَصَائِرَ لِلنَاسِ - والحَقُّ أحَقًّ أنْ يُتَّبَعَ (2):

بشاراه أحمد

2017 / 6 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الإشكالية الثانية لدى الكاتب: بعنوان: (الأنفال لمن ؟),, مشيراً إلى سورة الأنفال التي نراها قد أشكلت عليه هذه المرة على ثلاث شعب ذات محاور,, على أية حال سنعرض ما قاله فيما يلي:

قال فيها: ((... الأنفال هي المسروقات التي كان يتم نهبها في الحروب وقد قال محمد أنها من نصيبه ( يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ) ولأن هذه الآية فيها تجاوز على حقوق المقاتلين كون محمد يريد الإستحواذ على كل الغنائم فسيتبع هذا حالة من التذمر والتململ والإنصراف عنه ليضطر مكرهاً إستبدالها بآية ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وللرسول ) ليصير الخمس له والأربعة أخماس للمقاتلين , فأليس هذا تناقض وتخبط فى قرار وحكم إلهى بل يصيب الله بعدم المعرفة والإدراك , أم أن الآية الثانية جاءت من تأليف محمد كالأولى بعدما تلمس أن إستئئثاره على الغنائم سيصيب المقاتلين بالتذمر والإنصراف عنه ...)).

ثم قال بعد ذلك: ((... ألسنا أمام نصوص بشرية تأتى مواكبة وملائمة للظرف السياسى فلا تجد غضاضة فى التغيير , ولمن يتحدثون عن صلاحية الآيات لكل زمان ومكان فهل لهم أن يحدثوننا كيف يتم تطبيق تلك الآيات والرسول غير حاضر ليأخذ الكل أو الخمس ؟! ...)).

الشعبة الأولى: سنعمل من خلالها - كالمعتاد - على تصحيح مفاهيم ومغالطات اللغة وأدوات البيان وذلك بالرجوع إلى أصل المفردات ومعانيها ومعطياتها حيث استخدمت, وعملها فيه قبل تناول ما قيل بالتفنيد ليظهر ماقد يخفى على البعض,, في ما يلي:

أولاً: تعريف أو مفهوم الكاتب للمفردة "الأنفال",, نراه قد أخرجها من ثوبها ومدلولاتها وكل معانيها بقوله عنها: ((... الأنفال هي المسروقات التي كان يتم نهبها في الحروب ...)), وهذا مفهوم خاطئ لا علاقة له بأصل الكلمة ولا إشتقاقاتها ولا يقترب حتى من مفاهيمها,, وذلك للآتي:

(أ): من حيث اللغة, نجد أن هذه المفردة شائعة عند العرب ولها إستخدامات كثيرة وإشتقاقات مثلها,, فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن من بين معانيها ما يلي:

1. النَّفل: هو الغنيمةُ والهبةُ ؛ وتجمع على أَنْفال ونِفال.
والنَفَلُ: هو العطاءُ,, تقول نَفَلَهُ/ أنْفَلَهُ درهماً معناه أعطاه درهماً. ونَفَلَ: معناها أعطى نافلة من المعروف, وفي ذلك قال تعالى لنبيه الكريم في سورة الإسراء: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ « نَافِلَةً لَّكَ » عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا 79), فاسْتَغِلَّ هذه العطية من ربك فرصة سانحة لك لتفوز بالمقام المحمود على تهجدك بالقرآن في جزء من الليل.

والنَّوْفَلُ: هو البحر, وأيضاً العَطِيَّة, وبعض أولاد السباع, وذكر الضباع, وابن آوى, وأيضاً الشِّدَّةُ, والرجل المِعْطَاءُ.
ومن ذلك قوله تعالى عن عطيَّتهِ (نافلته) لنبيه الخليل إبراهيم - ذريَّةً طيبةً - قال: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ « نَافِلَةً » وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ 72).
وإنْتَفَلَ: معناها طَلَبَ. وتَنَفَّلَ: صلى النوافل. وإنْتَفَلَ على أصحابه: أخذ أكثر مما أخذوا من الغنائم.

2. وها هو ذا الشاعر لبيد بن ربيعة يقول:
- وبإذْنِ اللّهِ رَيْثيْ وعَجَلْ *** إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيرُ نَفَلْ
- أحمَدُ اللهَ فَلا نِدَّ لَهُ *** بيدَيْهِ الخَيرُ ما شاء فَعَلْ
- مَنْ هَداهُ سُبُلَ الخَيرِ اهْتَدَى *** ناعِمَ البَالِ ومَنْ شاءَ أضَلّ

وقالت جَنُوب أُخت عَمْرو دي الكَلْب:
- وقد عَلِمَتْ فَهْمُ عند اللِّقاء ، بأَنهمُ لك كانوا نِفالاً نَفَّله نَفَلاً.
واضح أن المفردة قد حمَّلها الكاتب ما لا تحتمل,, فلا ندري من أين جاء بعبارة ((... الأنفال هي المسروقات التي كان يتم نهبها في الحروب ...)) هذه!, وما غايته منها,,, إذاً عليه أن يوضع ذلك للقراء الكرام إن شاء, لأنه قد خلط ما بين السرقة, والنهب, والغنيمة ثم ألحقها كلها بالأنفال, ولكل معناه الذي يختلف عن الآخر والكل لا يلتقي بالأنفال بأي حال.

3. ثم بنى الكاتب كل فقرتيه هاتين على نمط تلك العبارة التي إتضح ألَّا علاقة لها بالسرقة وسنثبت أنه ليس المقصود بها "الغنيمة" لذاتها لأنها تختلف عن النفل, وذلك ليتأكد القارئ أن المعلومات المقدمة له غير صحيحة وفيها هوى وشنآن ظاهر, وبالطبع الكل يعلم أن غياب "الحياد" يتبعه غياب أو غمط للمصداقية والأمانة العلمية. مثلاً,, فلنبحث عن مسوغ لعبارة الكاتب التي تبعت تلك والتي قال فيها: ((... وقد قال محمد أنها من نصيبه ...)), ..... أين ومتى قال رسول الله محمد الخاتم إن الأنفال هي من نصيبه؟؟؟ .... فإن كان قد وجد هذا القول في أي مرجع موثوق فليأتِ به على أعين الناس فوراً.

أما إن قصد بأنه قد إستنبط هذا القول من الآية التي ألحقها بعبارته هذه مستشهداً بها, والتي قال الله تعالى فيها لنبيه الكريم: ( يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ), فهذا الإستنباط غير صحيح لأن الآية تدل على متكلم "آمر", ومخاطب "مأمور", فلا يوجد عاقل يمكن أن يستشف منها أن الآمر هو الرسول والمأمور هو الله. ومن ثم فإن الآية ليس فيها أي إحتمالات,, إذ الله تعالى قد أمر رسوله بأن يقول للمؤمنين السائلين عن الأنفان بأن ربهم قال له " قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ..... إلى آخر الآية". فلم يقل الرسول إن "الأنفال لي" على الإطلاق ولا ينبغي له ولا يكون. واضح هنا أن مسببات اللبس أو التحايل عديدة أهما عدم التدبر, والشنآن الظاهر, وتحكيم الهوى.

4. ظن الكاتب ان هناك تجاوز على حقوق المقاتلين, من جراء اللبس والخطأ في فهم معنى المفردة إبتداءاً, ومدلولاتها ومقاصدها, نرى ذلك واضحاً في عبارته التي قال فيها: ((... ولأن هذه الآية فيها تجاوز على حقوق المقاتلين كون محمد يريد الإستحواذ على كل الغنائم فسيتبع هذا حالة من التذمر والتململ والإنصراف عنه ليضطر مكرهاً إستبدالها بآية ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وللرسول ) ليصير الخمس له والأربعة أخماس للمقاتلين ...)), ولكن إذا رجعنا إلى كل معاني ومشتقات كلمة "أنفال" بصفة عامة نجدها عطاء مطلق - ليس فيه أو معه أخذ - كما ظن الكاتب الذي أقحم نفسه في تشريع خاص للمؤمنين - الذين عشقوا أمر ربهم وتشريعه - مبني أساساً على قاعدة إيمانية راسخة هو لا يملكها أو يستطيع تصورها, وبالتالي فرض ظنه - أو لعله هواه - على القراء على أنه حقيقة صادقة ولكن الواقع غير ذلك فجعل العطاء الزائد أخذاً, والنفل سرقة, والزيادة غمطاً,,, وهذا خلط للأوراق يلزمه إعادة النظر والتبصر في القيم والقدرات أولاً قبل التورط بالقول بما لا يعقل. وسنعمل على تدبر السورة بكاملها أمام القراء - لاحقاً - ليقفوا على حقيقة الأمر من القرآن الموثق المعجز مباشرةً,, والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

5. ثم وقع الكاتب في ظن آخر أكبر من سابقه إبتعاداً عن الحق والحقيقة والقيم المعرفية, لأنه بالطبع قد بُنِيَ على ظن كاذب خاطئ, وذلك في قوله: ((... فأليس هذا تناقض وتخبط فى قرار وحكم إلهى بل يصيب الله بعدم المعرفة والإدراك, أم أن الآية الثانية جاءت من تأليف محمد كالأولى بعدما تلمس أن إستئئثاره على الغنائم سيصيب المقاتلين بالتذمر والإنصراف عنه ...)), قبل أن نفند هذا القول أود أن يرى القارئ,, التشتت واضحاً هنا وثقل الربكة والخلط من جراء الحيرة التي لن نتوقع له الخروج منها, خاصة بعد أن يرى كيف كشف القرآن الكريم الذي يحاول جاهداً دسه - بالتزوير والتحريف والبتر - ,, وذلك بقصد ألتعمية والتضليل لصرف الناس إلى وجهة يريدها هو لغاية في نفسه,,, والذي سنزيده توضيحاً أكثر في الشعبة التالية.

(ب): الشعبة الثانية - سِمَتُها "التحريف" والتزوير,, - ويتضح ذلك أكثر إذا علم القارئ الكريم أن الآيتين التين إستشهد بهما الكاتب قد جعل بينهما فجوة سعتها تسعة وثلاثين آية بالتمام والكمال, تضمنت هذه الفجوة المخلة - الآيات من الآية الثانية إلى الآية الأربعين), أي أنه قد إختزل أكثر من نصف السورة التي تعتبر من السور الطوال,, ليس ذلك فحسب, بل عمد إلى تحريف الآيتين التين أتى بهما ليصوغ منهما مسخاً ينسبه إلى كتاب الله المبين,, وقد كان أداؤه كما يلي:

1. حاول الربط: « ما بين أول آية بالسورة - بعد أن حرفها "بالبتر" - وجاء بجزء منها هكذا: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ...... 1) », و « بين الآية رقم 41 بعد أن حرفها "بالبتر أيضاً" وجاء بجزء منها هكذا: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ....... 41) », وهنا التزوير والتحريف والخداع واضح وجلي.

2. حاول إخراج كل من الآيتين من مدلولاتهما وإخراجهما من محتواهما ثم من مضمونهما, وتحريف مقاصدهما بذكر جزء يسير من كل آية لتعطي معنىً مبهماً أراده الكاتب عن قصد وترصد, فأنظر إلى الآيتين كاملتين فيما يلي لتقف على فداحة التحريف.
ففي الآية الأولى قال تعالى («يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ » فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 1), وفي الآية الثانية قال تعالى: (« وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ » وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 41), طبعاً لا يخفى على أحد مقاصد التحريف والتزوير هنا, والذي سنبينه عندما نعمد إلى تدبر الآيتين وما بينهما من آيات أغمطت.

3. هذا السلوك في التعامل مع المراجع والعبث في النصوص عياناً بياناً لهو أدل دليل وأوثق شهادة على أن المراد هنا الخداع بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى,,, هذا هو الظاهر من عرض الكاتب, وهذا أدل دليل وأوثق شهادة وبرهان على أن الآيات "كاملة" وبتسلسلها "الكامل" المرتب سوف يأتي بما لا تشتهي سفن الكاتب, فعمد إلى إخراجها من مضمونها حتى يخترق إعجاز القرآن وينفي عنه القدسية,,, ولكن هيهات. على أية حال إن كان له تفسير آخر لهذا الأداء المشبوه فله الحق في مواجهة القراء به إذ أن السكوت عليه بلا شك معناه العجز التام,, مع الإيجاب القهري الموضوعي.

(ج): الشعبة الثالثة,, تصور لنا شح المصداقية والأمانة العلمية إن لم يكن غيابها هو الأوثق, بجانب أخلاقيات ومعايير النقد التي تستوجب "الشفافية", و "الحياد", والموضوعية. وسنترك هذه الأمور للقراء يستشفونها بأنفسهم في كل فقرة أو إشكالية نتناولها بالتحليل والتفنيد ونلقي عليها بؤرة الضوء بصورة مستمرة وثابتة.

ثانياً: معلوم أن الأنفال هي سور مدنيّة - باستثناء بعض آياتها التي نزلت في مكة - أنزلها الله تعالى على رسولهِ الخاتم صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر الكُبرى فكانت "يوم فرقانٍ" مجيد, فرق الله فيه ما بين الحق والباطل. وقد سماها الله "الأنفال",، وهي غير تلك "الغنائم" التي تجمع بعد حرب فيها قتال, والتي يتم اقتسامها بين مستحقيها بعد الظفر في المعركة بمعايير معروفة للجميع.
ويدل على ذلك ما رُوِي عن ابن عباس - في بعض الروايات - قوله: إنّ المرادُ بالأنفال أنّها ما شذَّ عن المشركين وانتقل إلى المسلمين بلا قتال من أموالهم، وقال إنّ أمر تلك الأموال عائدٌ إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يضعها حيثُ يشاء وكيفما شاء. وهذا ما كان عليه الأمر قبل نزول سورة "الأنفال" بالتشريع الذي قسم هذا المال إلى جزئين إثنين:

- خمسه «20% » فقط (لله وللرسول, ولذي القربى, واليتامى, والمساكين, وأبن السبيل), لقوله تعالى: (... فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ),
- وأربعة أخماسه « 80% »، تقسم على المقاتلين حسب إستحقاق كل منهم وذلك وفق معايير محددة تقضي بأن تقسم الغنيمةَ بينَ المقاتلين, الناسُ فيه سواءٌ « للفرسِ سهمانِ » و « لصاحبِه سهمٌ », و « للرَّاجِلِ سهمٌ ».

والأدل على ذلك ما رُوِيَ عن سعد بن أبي وقَّاصِ قال: (لمَّا كان يومُ بدرٍ، وقُتل أخي عُمَيرٌ، وقَتَلْتُ سعيدَ بنَ العاصِ وأخذتُ سيفَه، وكان يُسمَّى ذا الكَتيفةِ، فأتيتُ به نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: اذهبْ فاطرحْه في القبضِ. قال: فرجعتُ وبي ما لا يعلمُه إلَّا اللهُ من قتلِ أخي وأخذِ سلبي.. قال: فما جاوزتُ إلَّا يسيرًا حتَّى نزلت سورةُ الأنفالِ، فقال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اذهبْ فخذْ سلبَك. وفي هذا دلالة على أن المراد بالأنفال: السَّلب الذي يأخذه المقاتل أو الغازي زائداً عن سهمه من الغنائم.

وهذه السورة جاءت منهاجاً كاملاً لآداب القتال حرباً وسلماً وإلتزاماً بالعقود والمواثيق والإتفاقيات, وقد تضمنت أيضاً معايير تقسيم الغنائم الشرعية تفادياً للفتنة وإعطاء كل ذي حق حقه كاملاً غير منقوص ولا محاباة بزيادة,, بالإضافة إلى تخصيص أربعة أخماس "الأنفال" زيادة للمقاتلين. كما تضمنت أيضاً مُعالجة قضية الأسرى في الإسلام, وغير ذلك من الأحكام الشرعية اللازمة لكمال هذا المنهج.

وقد كانت غزوة بدر الكبرى هي محور ومرجعية سورة الأنفال هذه لأنها قد تناولت تفاصيلها وأسبابها ومقتضياتها بدقة متناهية, وقد أطَّرت السورة لكل معاملات المؤمنين وطوقتهم بآداب وأخلاقيات ربانية منصفة حتى مع العدو المتربص.
حيث كانت نتيجتها نصرَ الله المؤزر, وقد بين للنبي وللمؤمنين أن هناك مواقف كثيرة لم تكن لهم يد فيها وإنما كانت بتدبيره وفعله هو لها, وأن النصر لم يكن بفعلهم هم وإنما من الله تعالى وقد حققه لهم رغم أنهم كانوا "أذلة" لا يزيد عددهم فيها عن ثلاث مائة مقاتل إلَّا بعدد يسير لا يتجاوز سبعة عشر مقاتل, وقد كان إستعدادهم وعدتهم وعددهم يقل كثيراً عن ثلث عدد وعدة وعتاد عدوهم.

لم يكن هناك داعٍ يكفي لترك المهاجرين ديارهم وأموالهم وذويهم في مكة والبحث عن ملاز آخر يأمنون فيه على أرواحهم ومعتقداتهم إن لم يجبرهم صناديد وجبابرة ومشركي قريش, الذين حولوا حياتهم إلى جحيم من التعذيب والإضطهاد والتنكيل والقتل والتضييق عليهم في الأسواق والطرقات,, كل ذلك لأنهم إختاروا لأنفسهم دينهم ومعتقدهم. فلم يتركوا لهم سوى أحد خيارين لا ثالث لهما:

- إما أن يرتدوا عن الإسلام ويعودوا لدين الشرك "صاغرين" مقهورين رغم أنفهم,
- أو أن يتركوا البلاد مجردين من كل ما يملكون إلَّا ما عليهم من ثياب, فإختاروا الهجرة فراراً بدينهم وأرواحهم وتركوا وراءهم كل شيء لهؤلاء الطغاة البغاة المعتدين, فأصبح الغني منهم فقيراً لا يملك ما يسد به الرمق, ولا ما يستتر به من الهجير والزمهرير والغسق, قاصدين وجه الله ومؤممين حيث يوجد حبهم ونبيهم رسول الله بالمدينة المنورة.

كان لا بد من أن يسترد هؤلاء المظلومين حقوقهم من غاصبيهم يوماً ما, وبنفس القوة التي أخذت بها منهم, ولم يكن هناك سبيل أمام إمامهم الرسول صلى الله عليه وسلم لإحقاق الحق ونصرة المظلومين - الذين تركوا كل شيء وراءهم للحاق به ونصرته وتأييده - سوى تعرضه لقوافل قريش لأنه لا يقصد الدماء ولا المهج "إنتقاماً", ولكن المطلوب هو إسترداد الحقوق لأهلها بأقل الخسائر في الأرواح بين الفريقين, فكان ما كان - قبل غزوة بدر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن القوافل القرشية التي تعرض لها إنما كانت تتضمن أموال المسلمين المهاجرين أنفسهم التي تركوها في مكة بعد طول تعذيب وتنكيل، وتركوا معها الأهل والولد والوطن، وهاجروا إلى المدينة عُزْلاً لا يملكون من قوت يومهم شيئًا؛ وذلك فرارًا بدينهم، فكان جل مطلبهم هو وجود مكان يعبدون فيه ربَّهم بأمان وحرية, دون أن يتعرَّض لهم أحد.

فالناظر إلى القوافل التي تعرض لها المسلمون كلها كانت لقريش "حصرياً", إذ أنها هي التي قامت بالاستيلاء على جميع ممتلكات المهاجرين لإختيارهم دين الإسلام على دين الآباء والأجداد، واستباحت ديارهم ودماءهم وسلبت أموالهم، ولن ينسى التاريخ لقريش تجريدهم لأموال صهيب الرومي رضي الله عنه, وعذابهم لبلال بن رباح, وآل ياسر,,, وغيرهم. وهذا يؤكد بطلان الفرية التي تقول إن النبي وأصحابه كانوا يتعرضون للقوافل العرب من أجل أخذ مال الناس بغير وجه حق.

ثالثاً: آن لنا أن نقف على ما قاله الله تعالى لنبيه وللمؤمنين في سورة "الأنفال" الكريمة هذه, ولماذا حاول الكاتب تزوير حقائقها بتحريفها وتغيير مقاصدها؟؟؟ ..... لنثبت أن الجواب يكمن في الآيات التي تعمد أخفاءها وهي من الآية الثانية إلى الآية الأربعين التي سنتدبرها هنا فيما يلي:

جاء في هذه السورة الكريمة تشريع خاص غزير للمؤمنين الصفوة كما يلي:

1. بدأت السورة بأمر من الله تعالى لرسوله الكريم بأن يرد على المؤمنين الذين سألوه عن الأنفال, ثم يبين لهم معايير الإيمان ومواصفات « المؤمنين حقاً »,, فقال له: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ .......), ولا شأن لكم بها. فأتركوا ما لا شأن لكم به وإهتموا بشأنكم ومن ثم: (... « فَاتَّقُوا اللَّهَ » « وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ » « وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ » - إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 1) صادقي الإيمان حقاً.

وعن « المؤمنين حقاً »,, أقول لكم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ - « إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ » « وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا » « وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » 2), فهل أنتم كذلك إبتداءاً؟؟؟
وهم أولئك: («الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ » « وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ » 3), وعليه, فإن الذين تنطبق عليهم هذه الأوصاف: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا « لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ » « وَمَغْفِرَةٌ » « وَرِزْقٌ كَرِيمٌ » 4).

2. كما قال له, ولتعلم أنك لم تخرج من بيتك للقتال من تلقاء نفسك بل الله هو الذي أخرجك, رغم أن هناك فريق من المؤمني كانوا كارهين لهذا الخروج, وذلك في قوله له: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ 5), ليس ذلك فقط بل كانوا: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ 6), وذلك لأن الخروج كان صعباً عليك وعليهم بكل المقاييس - إن لم يكن مستحيلاً - ولكن هذا مراد الله وهو قاضيه كما شاء وقدَّر.

3. وقال له ولهم, تذكروا عندما وعدكم الله النصر على إحدى الطائفتين تكون لكم "نصراً" من عنده, ولكنكم كنتم تودونها سهلة بلا تعب ولا مشقة أو خسارة, ولكن مراد الله هو إحقاق الحق بكلماته, ويقطع دابر الكافرين ويحسم أمرهم نهائياً, قال: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ 7), وبالطبع سيتم مراده ذلك مهما كانت المواقف والمشاعر, فإنه قد أخرجك من بيتك: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ 8).

4. علم الله حالكم أيها المؤمنون, وخلجات نفوسكم, والظروف القاسية التي كنتم فيها, فإستجاب لإستغاثتكم ووعدكم بالمدد من حيث لا تحتسبون, قال لهم في ذلك: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ 9), على الرغم من أن المسألة لن تحتاج إلى مدد وعدد, وإنما أراد الله أن يطمئن قلوبكم, فنصر الله متحقق بكم وبدونكم وبدون المدد بالملائكة, قال: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 10).

وقال لهم: تذكروا عندما تغشاكم النعاس رغم مخاوفكم وقلقكم الذي لا يكون معه نوم ولا يغمض معه جفن, ولكنه أراد ربكم إراحتكم بالاً وبدناً ووجداناً, ويصرف عنكم وسوسة الشيطان ورجسه وتسبيطه لكم,, قال في بيان ذلك: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ 11), وهذه - بلا شك - أهم خطوة لرفع أرواحكم المعنوية عاليةً, بجانب هذا وذاك تذكروا دور الملائكة المزدوج في المعركة, قال: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ 12), كل ذلك لإرباكهم وكف أذاهم.

وقد بين سبب ذلك العذاب والعقاب الذي أنزله على المعتدين الظالمين, قال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 13), وهذا صنف من أصناف عذابه, قال له عنه: (ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ 14).

5. الآن جاء دور الذين أعدهم الله إعداداً خاصاً مميزاً حتى وصفهم « بالمؤمنين حقاً », فقال لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ 15), لأن في ذلك مهلكة لكم في الدنيا والآخرة, وحذرهم بقوله: (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ - « إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ » « أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ » - فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 16).

6. وقد بين الله لهم ان الرامي منهم بسهم أو رمح,, في حقيقة الأمر ليس هو الذي رمى, وأن القاتل لعدوه منهم ليس هو الذي قتل ولكن كل ذلك فعله الله تعالى عنكم, قال لهم في بيان ذلك: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ « وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ » وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ « وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى » وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 17), ليس ذلك هو كل شيء, بل هناك المزيد, قال: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ 18), مهما بلغ شأنه وعظم.

7. ثم حذر وأنذر ألمشركين وأعطاهم فرصة أخيرة للتراجع والتفكير مرة أخرى قبل أن يقع عليهم العذاب والعقاب, بقوله لهم: (إِن تَسْتَفْتِحُوا « فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ » وَإِن تَنتَهُوا « فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ » وَإِن تَعُودُوا « نَعُدْ » - وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ « وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ » 19).

8. ثم حذر المؤمنين ووصاهم بالسمع والطاعة لله ولرسوله, وأن لا يتجاهلوا سماعهم لأوامر الرسول ونواهيه, قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ 20), وحذرهم من التشبه بالمنافقين لأنهم من أشر الدواب, فقال لهم في ذلك: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ 21), وأنا أقول لكم عنهم: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ 22), إذ لا خير فيهم, لأنهم منافقون: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ 23).

9. ثم زاد المؤمنين توصيةً بالسمح والطاعة لأن فيها خيرهم في الدارين, وحذرهم من نفسه حتى لا يشقوا في الدارين, فقال لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 24), ليس ذلك فحسب, بل حذرهم من الفتن, لأن خطرها لا يقع على أصحابها ومشعليها ومستحقيها فقط ولكنه يعم أثرها المدمر الجميع, الصالح منهم والطالح في آن معاً, فقال لهم محذراً: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 25), وذكرهم بفضله عليهم من قبل, قال: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 26).

10. ثم - في سياق هذه الجرعة التربوية التعبوية للمؤمنين - حذرهم من خيانة الله تعالى ورسوله, وخيانة الأمانات فيما بينهم قصداً,, فقال لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ 27), وبين لهم السبب في ذلك, وذكر لهم ما يحرض النفوس الضعيفة على الخيانة والفتن وهي الأموال والأولاد,,, فقال لهم: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ 28), فلا ينساقوا وراءها ويذهدوا في ما عند الله من الأجر.

11. ثم جاء دور تحفيذ ألمؤمنين وتعبئتهم وشحذ هممهم إستعداداً للقاء العدو الشرس المتربص, فناجاهم ربهم بأحب الأسماء إليهم, قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 29),, إذ أن المهمة التي أعدكم الله لها بكل هذا القدر من التمحيص نوعيَّة قدرها وأهميتها ودورها, وحاسمة في ضرورتها وحتميتها, وتقتضي هذا القدر من الإعداد والتمهيد والتعبئة.

12. بدأ الله تعالى أولاً بالقائد, النبي الخاتم, فقال له مذكراً ومنبهاً عن إستراتيجيات عدوهم وخططه التي يبيتها للخلاص من الإيمان والمؤمنين إستئصالاً, وأمره ألَّا يعبأ بهم لأن الله لهم بالمرصاد, فقال له في ذلك: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا « لِيُثْبِتُوكَ » أَوْ « يَقْتُلُوكَ » أَوْ « يُخْرِجُوكَ » - وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ « وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ » 30), وأعلمه انهم قد جبلوا على الكفر والمكر والعناد, ولكن لن يبلغه أ ذاهم ولا مكرهم.

وبين له أيضاً نوعاً من أحوالهم وسلوكهم المريض, فقال له: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ 31), ليس ذلك فحسب, بل: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 32), تمادياً وإصراراً على الغرور والعناد والفجور. ومن ثم, فعذابهم مبرر لأنه عن إستحقاق وجدارة "جزاءاً وفاقاً", وإلَّا لما عذبهم الله بذنوبهم, إذ أن وجودك فيهم خير فرصة لهم لتفادي هذا العذاب لو قالوا سمعناً وأطعنا غفرانك, لكفاهم الله شر هذا العذاب,, قال لنبيه الكريم في ذلك: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 33), ولكنهم أضاعوا هذه الفرصة سداً.

13. ثم بين حيثيات ودواعي عذاب الكافرين المعتدين, وكيف لا يعذبهم بذنوبهم, وقد تمادوا في غيهم وعدوانهم على الآخرين, إذ لم يقصروا شر كفرهم على أنفسهم, فإن فعلوا ذلك لتركهم لإختيارهم وحاسبهم عليه يوم القيامة,, ولكنهم قد تجاوزوا به كل الحدود, فأصبحوا يضيقون على حجاج بيت الله الحرام ويصدونهم عنه وهم لا ولاية لهم على مساجد الله التي إختص برعايتها وولايتها المتقون من عباده الصالحين, لذا برر لنبيه الكريم سبب عذابهم, فقال له: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ « يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ » - وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ - وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 34).

وبين أنه لم يقتصر أذاهم وعدوانهم وشرهم على الحجاج فقط, بل كانوا يسيئون للبيت الحرام نفسه إذ كانوا يطوفون حوله "عراةً", ويصدرون أصواتاً منفرة ماجنة مرتفعة من حناجرهم وتصفيقاً بأكفهم,, وهذا ما لا يليق ببيوت الله بصفة عامة وبأول بيت وضع للناس ببكة بصفة خاصة,, فقال لرسوله عن تلك التجاوزات ثم قال للكفار: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا « مُكَاءً وَتَصْدِيَةً » - فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ 35).

14. لم يقف أذى الكافرين عند هذا الحد وذاك,, بل تجاوزه بكثير, فقد كان أذاهم مبرمج وفق تخطيط متصاعد, وتمويل سخي ومتابعة بصورة مكثفة, كل ذلك موجه ضد كل من قال ربي الله إمعاناً في صد الناس عن سبيل ربهم بكل الوسائل (جزرة كانت أم عصا أم سيف), ولكن الله تعالى قد أحبط مكرهم بمكره وهو خير الماكرين,, والله تعالى - مبيناً مزيد من أخطار هؤلاء الكفار على المؤمنين المسالمين والأمن العام - قال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا « يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ » - فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ - وَالَّذِينَ كَفَرُوا « إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ » 36),, وقد كان.

15. إن العدة التي أعدها الله تعالى لهؤلاء الكفار لم يكن هناك خيار آخر بديل عنها,, ولا يمكن التغاضي عن تلك التجاوزات والعبث بأمن وسلامة الناس أكثر من ذلك, فقد بلغ الفساد والإفساد قمته, وقد تخطوا كل الخطوط الحمراء, فلا أمل في نصحهم أو في إبرام معاهدة معهم سوى المواجهة المباشرة لحسم هذا الأمر الحيوي فكانت الغاية أن يميز الله الخبيث من الطيب,, قال تعالى في ذلك: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ 37), فكان حكم الله عليهم بالحسم على الفور.

16. لم يباغتهم الله تعالى على غفلة أو يأخذهم دون أن ينذرهم ويحذرهم, لذا أمر رسوله الكريم أن يحذرهم شفاهةً, بقوله له: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ 38), حينئذ, ليس أمامكم سوى مواجهة حسم الأمر معهم بالقوة لأنه ليس أمامكم غيرها, ولأنكم إن لم تفعلوا ذلك الآن سيصبح الأمر خارج السيطرة وسيستفحل ولن تستطيعوا تفادي الفتنة الوشيكة التي لن يقف أذاها وضررها على الظالمين فقط وإنما ستتخطاها للآخرين, قال:
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 39), أما إن أرادوا الإستمرار في غيهم وعدوانهم, فلا تخافوهم, وإعلموا أن الله تعالى لن يجعل لهم سلطاناً عليكم, قال: (وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ 40), ويبشركم الله بأنه كتب لكم - في هذه الحرب الوشيكة - نصيباً قدره (أربعة أخماس) من "الأنفال", تأخذونه بعد النصر (بجانب أسهمكم في "الغنائم" كالمعتاد), صور الله تعالى هذه البشرى للمؤمنين المقاتلين بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 41). أما الخُمُسُ فهو للذين لم يشهدوا القتال وهم المذكورون في قوله تعالى: (... لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...).

إذاً,, نقول للكاتب, كل تحليلاتك وتصوراتك قد باءت بالفشل الذريع, فما دام أنك لم تفهم مدلولات آيتين فقط, فكيف تستطيع أن تفهم واحد وأربعين آية؟؟؟ ..... قد يكون لك أن تحاول التشويه ولكن على الأقل تحرى الموضوعية والمنطق حتى لا توقف الهرم على رأسه. فكما ترى لا يوجد تناقض ولا تخبط بل إتساق وتساوق وترابط مذهل يشهد بأن هذه الإعجاز الذي واجهته مع غيرك ممن سبقك من الأولين وسيلحق بك من الآخرين لا يمكن أن يصوره بشر بهذا النسق الجميل لا محمد الخاتم - وهو أولى الناس بالكمال البياني - ولا من كان دونه من الخلق وهو الأدنى عنه بكل المقاييس. فليس هناك تأليف, لا في الأولى ولا في الثانية, ولا إستئثار على الغنائم لأن "الأنفال" كانت - قبل هذه السورة - تذهب بكاملها 100% لرسول الله يتصرف فيها كما يشاء ويضعها حيث يرى, فجاءت هذه الآية لتقلصها إلى 20% فقط, أما النصيب الأكبر 80% منه قد نَفَلَهُ االله للمجاهدين زيادة على أسهمهم من الغنائم كالمعتاد.

على الرغم من أننا قد دحضنا هذه الإشكالية بالكامل, إلَّا أننا سنكمل تدبر باقي السورة في موضوع تالي تكميلي لضرورة معرفة باقي السورة بكاملها لإحتوائه على معجزات لا تخطئها العين أو تغيب عن الفطنة.

لا يزال للموضوع بقية,

تحية طيبة للقراء الكرام,

بشاراه أحمد عرمان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وقد فسر الماء بعد جهد جهيد بالماء
مروان سعيد ( 2017 / 6 / 2 - 22:13 )
تحية للاخ ابراهيم الثلجي وتحيتي للجميع
كل مرة ادخل صفحتك اندم على الوقت الذي ضيعته فيها لاانك تحرف الكلام عن موضعه ولا تعترف بالحقيقة ولكن الى متى ستبقون على التقية
هذه تفسير علمائكم تقول عكس ذلك
http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura8-aya1.html
واجمل ما في الاسلام مختلف عليه من علمائه دائما ولاتجد شيئ متفق عليه وهذا يدل على انه من شيطان رجيم يلخبط الادمغة ويشقلب العقول فيدور بدوامة الثقب الاسود ويخرج منه مغسول الدملغ وحالم بحور العين والغلمان المخلدون
اصحوا حفاظا على اولادكم لكي ينجوا من هذا الظلام ويدخلوا لنور الحياة
ومودتي للجميع


2 - عفواً ... أأنت من النادمين؟
بشاراه أحمد ( 2017 / 6 / 3 - 04:25 )
ما دام أن دخولك صفحتنا يحرك عليك الأوجاع والندم,, فلماذا تدخلها إبتداءاً,,, ألا يعني وقتك عندك شيئاً حتى تضيعه حيث الألم والندم والحسرة؟؟؟
لماذا لا تريح نفسك وتريحنا معك,,,هل عشقت الندم أم أنه كتب عليك أجراً في الدارين معاً؟؟؟
على أية حال ,, وللأسف الشديد لن نستطيع أن نقدم لك شيئاً غيره .

ولا يسعنا إلَّا أن نشكرك على إهتمامك الشديد بعلماءنا وتذكيرنا بهم حرصاً منك على صيانة الإسلام رغم ما تقاسيه من أوجاع وآلام وندم وحسرة وضياع.


تحية للطيبين الصالحين

اخر الافلام

.. الأرجنتين تلاحق وزيرا إيرانيا بتهمة تفجير مركز يهودي


.. وفاة زعيم الإخوان في اليمن.. إرث من الجدل والدجل




.. بحجة الأعياد اليهودية.. الاحتلال يغلق الحرم الإبراهيمي لمدة


.. المسلمون في بنغلاديش يصلون صلاة الاستسقاء طلبا للمطر




.. بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري