الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النافخ في البوقات/ الشاعر الذي أضاء العالم بضميره/ المعتزلي ماقبل الأخير / حميد حسن جعفر

مقداد مسعود

2017 / 6 / 6
الادب والفن


مقداد مسعود
النافخ في البوقات
الشاعر الذي أضاء العالم بضميره
- المعتزلي ما قبل الأخير -
حميد حسن جعفر

هل من الممكن أن يقول قائل، قارئ، متابع، ناقد، مثقف، قريب من حركة الشعر في العراق عامة، وفي جغرافية الجنوب/ البصرة خاصة، أن يقول عن (مقداد مسعود) انه كائن حالم، أو رجل شاعر؟ أم سيقول انه المعتزلي الأخير؟ أو انه المخلوق الانساني الباحث عن اللاواقع في الواقع، وعن الاستثناء في القاعدة، وعن الموضوعي في الذاتي؟ الباحث عما لم يقل؟؟
عندما يكتب لا يبحث عن أرض ليسقط عليها جثة، أو على أديمها ظلالا. فهو في هبوط/ صعود حر، حيث المجهول الذي يدور بين يديه وفي فلكه.
قارئ (مقداد مسعود) لابد له من أن يحمل حيرته معه، فهو – الشاعر – ممن لا يقر لهم قرار، فالقناعات لا يمكن أن تجد لها موضع قدم في خندق الشاعر المفتوح على أرض الشعر.
القلق الذي يشكل معظم مفاصله – والذي لن يظهر على السطح لأنه اتخذ من لجة القصيدة مركزا له – لن يمنحه هذا القلق سوى الهمّ الهائل من البحث عن المختلف، لا ضمن حركة الآخرين فحسب، بل مع نفسه، ومع ما يكتب من قصائد ونقود ومتابعات وقراءات. فهو مسكون بالوسواس الذي اسمه في القدامة شيطان الشعر، وهو مسكون بأرض واسعة اسماها الأوائل أرض عبقر. وكذلك مسكون بتاريخ طويل عريض من التناقضات التي طالما مرّ عليها الكثيرون من أفراد زمرته مرور الكرام. ليتكفل هو بحمل صليبه مجرجراً – على طريق الجلجلة – طريق الرفض والالتزام – من ورائه حشدا من ملائكة الشعر/ أعني الشعراء.
***

هل أقول إن (مقداد مسعود) كائن شعري متشكل عبر كتب شعرية عديدة وكتب نقدية؟ ومع هذه وتلك العديد من الخيارات، بدءاً بالقراءات والمعارف وليس انتهاءاً بالوعي والالتزام على المستوى الفكري والسياسي فهو منشغل ومشغول بكل الأشياء. كل الأشياء تأسره، تغويه، تفتنه، تطلق مجساتها باتجاهه، أو بالاتجاهات المتعددة التي من الممكن أن يكون في أحدها، محاولة إثارة مخاوفه وقلقه مرة، واهتماماته مرة أخرى. لذلك على القارئ والمتابع أن لا يتوقع منه شيئا من المتعارف عليه أو أشياء من المتوقعات، التي تحفل بها أذهان الكثير من القراء والمتلقين، اذا ما علم هذا القارئ أو ذاك أن المتلقين مازالوا وضمن الكثير من اهتماماتهم يقفون تحت سلطة الشفاهية مرة وتحت سلطة القراءات الأولية مرات متعددة، تلك التي لا يمكن أن تنتج وضعا قلقا أو حيرة لا يتفاداها المتلقي إلا عبر إطلاق أسئلته، أو عبر تفكيك المغاليق.
فالقارئ هذا وذاك مازال ينتظر المعرفة عن طريق الشرح والتفسير، عن طريق الحنجرة/ السمع وليس عن طريق العين/ القراءة.
المدونات مازالت – بالنسبة للمتلقي الشفاهي – تشكل مضيعة للوقت والجهد، فالحنجرة والصوت تشكلان أكثر من مصدر للمعرفة والتذوق والتزود بالخبرات لا لأنها أكثر بلاغة، بل لأنها أكثر مباشرة ووضوحا، وأسهل استقبالا وأضمن فهما. فالمنتج للصورة – وكثيرا ما تكون منتمية للاعلان أو الاعلام – لا يحفل بالمضمون، فهي أما أن تكون ذات مضمون مباشر أو ذات دعوة لإثارة الأحاسيس والكوامن. وعبر هكذا مفاصل يظل القارئ باحثا عن الاطمئنان، لا عن الحيرة. وكثيرا ما تكون الصورة منتجا مجانيا/ من غير مقابل من ناحية النقد/ المال، ومن غير الكثير من الجهد. فما من متابعة، وما من جهد مبذول، أو استرجاع، أو محاولة فتح المغاليق. أمام هكذا وقائع واحتمالات واختيارات يقف الشاعر خاصة والأديب عامة ومعه القارئ الكلاسيكي أو المعاصر ومن يبحث عن القدامة/ التراث والحداثة/ المعاصرة من جهة أخرى ليبحث الجميع فيما بينهم مع معارف وأفكار ومدارك. فمن الأمور التي لا يمكن أن يتنازل عنها الفعل الشعري لدى (مقداد مسعود) هو قلق القراءة والكتابة. هذا القلق الذي من الممكن أن يحول الشاعر الى ثائر والقارئ الى ثوري والنص الى دعوة للمغايرة والتحول وان تنتمي العملية الشعرية الى الاختلاف.
فالمجتمعات التي تشكل الثقافة فضاءً – حقوقا وواجبات – متنفساً للأفراد والجماعات، وتشكل المحيط الذي تسبح وسط الكائنات البشرية. مجتمعات كهذه لابد لها من امتلاك القدرة على صناعة المثقف المنتج، المثقف الفاعل، والذي بدوره سيكون مطالبا الشاعر بعدم التخلي عن مبدأ الابتكار والبحث والكشف وتلمس ما تخبئ العتمة والذي تشكل المغامرة مفصلا مهما من مفاصله.
الشاعر المبدع الذي يسكن (مقداد مسعود) من الجائز أن نقول انه ينتمي في الكثير من الأحايين الى هكذا نموذج مجتمعي، أو الى هكذا زمرة تنتمي الى مفصل مجتمعي يتمتع بهذه المواصفات.
***

قارئ (مقداد مسعود) – وكما يروم الشاعر – قارئ لم يعلن عن مواصفاته. فهو يقف خارج هكذا تحجيم أو عنونة.
فالقارئ عامة – والقارئ الذي يصاحب الشاعر في مغامراته لا يمكن أن يقف تحت مظلة ما.. حاله حال القراءة ذاتها المنشغلة بالانسان والإبداع، وما يتلبسها من حالات الاختلاف والبحث عن المنتج الإبداعي القادر لا على الإقناع – إقناع القارئ بقدر ما يستطيع أن يوفر للقارئ شيئاً من المغايرة. فالعالم/ الأرض، ومنذ بداياته الأولى وحتى بدايات الألفية الثالثة، منذ تشكيلاته الأولية وحتى يومنا هذا لم يكن مرتكزا في وجوده على أرضية الهدوء والسكونية بقدر ارتكازه على قرن الثور كما تقول الميثولوجيات والمعتقدات الجمعية، وبالتالي فهو يدور ضمن سنن صناعة عدم الاطمئنان، فالهاوية/ الفراغ هي كل ما يحيط به/ الأرض – العالم.
كذلك هي الحال مع الشاعر (مقداد مسعود) السابح في بحيرة الوساوس، الخائف حد الفزع من سلطة التكرار – على المستوى الشخصي أو الجماعة. الخائف من التوقف عن الكتابة المتحركة، الخائف من السقوط في التماثل والتشابه.
فالكتابة بالنسبة له غير مأمونة الجانب، وعليه أن يشاغلها، أن يديمها الكاتب/ الشاعر عبر المغايرة. ومن هكذا مشاغلة فسوف تجهز على كاتبها بالكثير من القسوة والإهمال وكذلك الحال مع القارئ المعرفي الذي لا يميل الى عملية ازدراد لقمة القراءة من غير أن يشعر بنكهة ما، نكهة مكونات النص الشعري. فما ان يرخي النص حتى يشد القارئ والعكس كذلك. فالعلاقة متبادلة، وتكافلية، وتكاملية، ما بين النص المنتج/ المغلق ومفاتيح القارئ الذي يشتغل على أكثر من قراءة ممكنة، وبالتالي فهو غير معني بالقراءة السهلة، وغير معني بالكتابة المنتمية الى الرسائل المعنونة.
***

الكثير من الشعراء والكتاب كذلك يبحثون عما يطلق عليه الكثير من العامة مفهوم الحقائق، وقد يسميها البعض الحقائق المفترضة.
هل من الممكن أن نسميها الحقائق/ الأوهام، التي تشكل المعادل الموضوعي للحدث. مدن الفلاسفة الفاضلة، أو مدن اللامكان، اليوتوبيات.
(مقداد مسعود) لا يبحث عن مدن الآخرين رغم أهميتها في صناعة القارئ/ الموالي للشاعر ضمن شيء من العمى.
(مقداد مسعود) يبحث عن مدينته هو، التي شيدها بمساعدة قارئ من أشباح الشاعر نفسه، وأضاع الاثنان – القارئ والشاعر – الطريق الموصل اليها.
مدن وجغرافيات (مقداد مسعود) مدن تنتمي الى مفصل مستل وبصعوبة من اللاواقع، وليس المدن المنتمية الى الحقائق/ الأوهام، بل المنتمية الى الوعي والفكر والمعرفة والالتزام حيث سوف تكون لهذه المفاصل اليد الطولى في توفير مواد بناء تلك المدن التي تقدمها كتابات (مقداد مسعود) للفعل القراءاتي.
القارئ الاعتيادي والقراءة الأولية، أو المتعارف عليها، قد يقف الانسان القارئ والقراءة ضمن حالة من الارتباك، ضمن مواجهتهما للمنتج الإبداعي/ الشاعر. وقد يمتلك هذا القارئ أو ذاك البعض من التصورات المسبقة حول هذه الكتابة/ المدونة أو تلك، وقد يمتلك بعض الأحكام المسبقة التي قد يستبقها من قراءات لشاعر آخر. وهذه التصورات والأحكام من الممكن أن تشكل مصدرا للخيبة، خيبة القارئ البريء الطيب بما يستقبل مما يكتب (مقداد مسعود) لذلك على قارئ كهذا أن يتخلى عن مستوى القراءة التي اعتمدها عند استقباله للفعل الكتابي للآخرين محاولا أن يضع أصابعه العشرة على مسالكه وطرقات متماهية خلف سواها.. قد تتخذ منها القصائد وسائط للكتابة من غير تحديد أهداف الوصول. فالقصيدة المعاصرة/ الحديثة التي يكتبها (مقداد مسعود) وسواه من الشعراء المبدعين قصيدة غير محكومة بالوصول الى قارئ ذي مواصفات خاصة.. غير محكومة بعنوانات المرسل اليهم، بل حتى القصائد التي يكتبها (مقداد مسعود) والمحكومة بالمهدى اليه/ الاهداءات كثيرا ما تتجاوز صاحب الرسالة/ العنوان وقوة العنوان المثبت في أعلى النص الشعري وصولا الى الحشد/ مجموعة القراء.
فالقصيدة الحديثة نص منفتح غير معنون، نص يبحث عن القارئ المختلف لا عن القارئ المعرفة.
ولأن (مقداد مسعود) غير منضوٍ تحت راية تمتلك سلطة النسق المطلق، النسق الشاطب، بل ولأن راية المعرفة والوعي والإحساس بالمغايرة تشكل الكثير من المسقفات التي تظلله بالشجاعة وبصناعة الخروقات في جدران الكتابة، اضافة الى أن الشاعر الذي يحتل تصورات الكائن الملتزم فكريا لم يكن خاضعا لقانون غير إبداعي، فالوقوف خارج القوانين الساكنة/ الخاملة، لم يكن – هكذا وقوف – من طموحات الشاعر، بل أن قانون (اللاقانون) والذي أطلق عليه (القانون الذهبي) والذي اتخذ منه الخمسينيون – رواد قصيدة التفعيلة – أو قصيدة العمود المطور – كما أطلق عليها – الدكتور عبد ألواح لؤلؤة – وسيلة لتجاوز الثوابت والميكانيكيات التي يعتمدها العمود الشعري، ولكي يتمكنوا بالتالي من إعادة مادة الشعر الى مياهها العذبة، متجاوزين بعض مفاصل تراث عمرها أكثر من خمسة عشر قرناً.
وقانون (اللاقانون) يكاد شكل العتبة التي ومن خلالها تمكن المبدعون من تدمير السكونية التراتبية للقصيدة العربية العمودية.
***

مبدأ (اللاقانون) القانون الذهبي لا يمكن أن ينتمي للتحجيم أو للتحجر، بل إن المغايرة تشكل أكثر من ملمح إبداعي تمكن الشاعر والقصيدة من أن يخترقا حاجز الثوابت التي شوهت وقبحت جسد القصيدة الكلاسيكية. بل وسلبت الكثير من القصائد والكثير من الشعراء جماليات القول وتحولاته. وكما كان (مقداد مسعود) وفيا لتجربته الخاصة، تلك التي تنتمي الى الوعي المنفتح على الآخر وكذلك الى البنية الشعرية التي تعتمد المجاورة للحقول الإبداعية الأخرى. بل إن المغامرة – وبعيدا عن المجازفة – المستندة على الكثير من القصدية والى الكثير من الذهنية المتوقدة والمخطط لها – إذ ان هكذا مواصفات هي الفضاء الأكثر صحيا لنمو الكائنات التعددية المراد منها أن تكون في الطليعة عبر اعتمادها على تراتبها في الاقتراب من هموم التحولات على مستوى الكتابة والقراءة، وعلى مستوى الوعي والفكر والالتزام.
***

إن الثقافة والتداخل الاجناسي استطاعا أن يدمرا مبدأ الوراثة، مبدأ الاشتغال الميكانيكي عبر الانتقالات من الآباء الى الأبناء وبالتالي أدت هذه التجاوزات – إلغاء بعض مفاصل قانون الوراثة – الى ظهور أقوام وشعوب وأجناس بشرية – بل وحتى حيوانية ونباتية – تختلف عن الإسلاف. بل إن البعض ما عاد يمتلك القدرة على إثبات مرجعياته الأبوية الى أقوام خرج هو من أصلابهم.
كذلك الحال مع الأجناس الأدبية والإبداعات الفنية التي بدأت تمتلك الكثير من الجينات المختلفة التي تثبت عدم انتمائها لعنصر سابق محدد، بقدر قدرتها على إثبات انتمائها الى اللاحق.
لقد مرت الثقافات عامة – الحضارات بكل مفاصلها – والأدب/ الشعر خاصة بمراحل قد تقترب أو تبتعد كثيرا أو قليلا من الجذور أو الأصول. محاولة التشكيل عبر مبادئ التأثير والتأثر، واختراق جدران الآخر، وقوة الإبداع، من أجل إنتاج ثقافة تنتمي الى المحلية من جهة، والى العالمية من جهة ثانية، عبر وحدة الهم الإنساني وتطلعات الشعوب والتجمعات البشرية الى صناعة المستقبل.
فخصوصية الدين والقومية والفكر والقصيدة لا يمكن أن تعني في يوم ما العزلة وتحويل الفضاء المجتمعي الى مجموعة من المحميات/ (كمبات).
هكذا هي القصيدة منذ منتصف القرن الماضي، حيث استطاع التحولات الاقتصادية والسياسية والفكرية التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى 1914- 1918 أن تترك آثارها على جسد العالم وعقل الإنسان. هذه التحولات المنتمية الى القلق والى الفوضى.. تنتمي الى القصدية في الكتابة لا الى الارتباكات، والمنتمية الى الوعي المتحول لا الى الوعي الثابت.
فقوة الحداثة، وقوة الوعي هما اللتان يقودهما الشعر والفكر سوية لابد لهما من أن ينتجا الكثير من التنوع والاختلاف، رغم وجود الجنس الأدبي الواحد أو مجموعة الأجناس المتجاورة/ المتداخلة.
***

(مقداد مسعود) وعبر كتبه الشعرية، بدءاً بالمغيب المضيء وصولا الى (ما يختصره الكحل يتوسع فيه الزبيب). مجموعاته الشعرية السبعة أو التسعة وبتعدد التجارب الكتابية وتحولات القصيدة.. باختلاف المقاصد/ وبقصدية انشاء النص، يعمل على الابتعاد عن التجارب الأخرى المستهلكة في كتابة الفعل الشعري، محاولا تهشيم زجاج القصيدة المقروءة والمطروحة على منضدة المتلقي/ القصيدة المتداولة.
فالنص الشعري سواء كان عموديا أو تفعيلة أو قصيدة نثر، لم يعد منحازا الى بنية هندسية واحدة، بعد أن استطاعت النصوص أن تتصدر حركة المغايرة.. بل وكذلك الحال مع المتلقي الباحث عن القصيدة المختلفة. إذ ان الهيئة العامة لبناء صورة القصيدة وأنساقها على صفحة الورقة – إذ ان شكل الحرف وشدة ظهوره – ونوع الخط، وتوزيع الأسطر/ الأشطر ومحاولات الاستفادة من الزخرفة العربية الاسلامية وقدرات الناسخ/ الخطاط العربي في ابتكار أشكال جديدة للحرف المنفرد أو لمجموعة الحروف ظهور الصورة والتخطيطات التي تصاحب النص الشعري.. كل هذه التصانيف استطاعت أن تضيف للقصيدة أشكالا وأبنية ومقاصد مختلفة، وليتمكن بالتالي الفعل القراءاتي من استقطاب الكثير من القرّاء. واستطاع الشاعر كذلك أن يجاور أو يحاور أو أن يمد أصابعه وسط هكذا منجز ينتمي الى الإبداع. لقد كان للجيل الستيني أفرادا وجماعات، أكثر من دور وأكثر من مساهمة في الخروج على النمطية من جهة وتثبيت العديد من المنجزات التي فتحت أكثر من أفق استطاع أن يمنح النص المقروء مهما كان جنسه أكثر من هوية إبداعية، ليكمل هذا الجهد الأجيال التي تلت جيل الستينيات. لقد استطاع كل من الشاعر والطباع والنسّاخ والقائم بشؤون الإخراج الفني، ومنضد الحروف، الأحبار الملونة، أن يوفر كل على انفراد، أو ضمن فعل جمعي من أن يتوفر أكثر من مفصل ينتمي الى التحرر من سطوة النسق الواحد، أو الصورة الثابتة المتكررة.
إن منجز صورة القصيدة – حيث قد يتشكل نص الصورة – كفعل كلاّني وصورة الكلمة والحرف المتجزئ استطاع أن يحرر الشاعر وكذلك القصيدة من السوابق التي كانت عليها القصيدة قبل ثورة قصيدة السياب والبياتي والحيدري ونازك.
***

(مقداد مسعود) ينتمي عبر الكثير – العشرات من نصوصه – الى الإعلان عن إشكالات الهيئة الخارجية للمنتج الشعري. انه يعمل على تدمير الإطار الخارجي لصورة القصيدة المطبوعة أو المكتوبة. يعمل على أن يمنح القصيدة القدرة على تجاوز حدود الشاعر نفسه. حيث تحاول أن تضع إصبعها على ما يوجد خارج الإطار.
فقصيدة الشاعر تعتمد النثر مرتكزاً يكاد يكون كلياً، حيث تكاد تختفي القوانين الخارجية لكتابة القصيدة العربية؛ لكي يتمكن من صناعة البدائل. فهو لا يتوانى، أو يتخوف من استخدامات الاستثناء من الألفاظ سواء كانت مهملة أو مستحدثة، والغريب من المعاني وتهذيب البعض منها، لا من اجل تدجينها وتدمير اندفاعاتها، بل من اجل صناعة وخلق ما يصدم المفاهيم القراءاتية التي تكاد تكون نمطاً غير قابل للتغيير، من اجل كسر طرق القراءة وصناعة الخرق في شكل الكتابة. اضافة الى أن القصيدة ذاتها باتت تبحث عن أشكال قد تنتمي في بعض الأحيان الى الفوضى أو الى الغموض. إلا أن التراكمات الكمية للأشكال لا يمكنها إلا أن تنجز حالة نوعية تتخلص عبرها القصيدة من آثام اللامعرفة ومن أخطاء الفطرة بعد أن استطاعت أن توظف المنجز الإبداعي لحقول ليس لها علاقة بالكتابة الأدبية أو الشعرية. إلا أن قوة الإبداع استطاعت أن تأخذ ضمن حالة من التوظيفات من مفروزات وتأثيرات وقدرات الفكر الديني والأسطورة والخرافة وأفعال الرقص والغناء والموسيقى، ومن علوم الجغرافيا والتاريخ والفلك ومن سلطات الميثولوجيات. فحقول المعرفة لم تعد حكرا على التفرد ضمن حالة من العزلة. فعبر عمليات التداخل والتاثير والتأثر استطاع العالم أن يشكل كلا منتميا الى الجزئيات من غير أن يفقد خصائصه، ومن غير أن تتشكل حالات من الشطب والإلغاء، سواء على مستوى الأشياء والأقوام والأجناس، أو على مستوى البقاء ضمن قانون التجاذب والتناحر والاحتفاظ بالمكونات.
***

القصيدة العراقية، والعربية كذلك لم تقف ضمن حالة من الحيادية طيلة – ما يمكن أن يقال – القرن العشرين أو معظمه، بل إن الانحياز الى الاختلاف وإعادة تشكيل العالم. بل كان الانحياز والإعادة – هذا القانون – يشكل مهام الشاعر والشعر. فالانسان في هذه الجغرافيات المكانية كان ومايزال يشكل الحجر الأكثر جذبا واندفاعا وحاجة في جدار القول والكلام في جدار القراءة والكتابة. لذلك فلا غرابة أن يجد القارئ والمهتم بالشأن الثقافي أن الشاعر العراقي، أو إن الشعراء العراقيين وحركة الشعر في العراق كذلك. وهناك أكثر من (مقداد مسعود) بل هناك العشرات ممن ينتمي لهذا النموذج، حيث تتكاتف محاولاتهم وتتكثف من اجل الوصول الى كينونة الانسان. الوصول الى المتغير في البنية الداخلية للكتابة. بعد أن استطاع أن يضع أكثر من إصبع على المختلف المتشكل في هندسة الشكل الخارجي. فالهندسة الوراثية للقصيدة لم تعد تنتمي الى الثوابت، بل إن المتغيرات هي التي تتسيد الموقف الذي تلبس الفعل الإبداعي.
(مقداد مسعود) ومن غير أن يعلن – صراحة – عن مواقف كهذه، يعمل وبإصرار على إدامة زخم حراك الكائن البشري، الصانع الأول للتحولات، على الرغم من أن الثوابت لا يمكن أن تضعه خارج اهتمامها.
فالتناقضات التي قد تصل حدّ الصدام هي من أهم مفروزاته الحياتية التي يأخذ بها الشاعر (مقداد مسعود) ليحولها الى منجز إبداعي ينتمي أولا وأخيرا للأفعال الشعرية.
***

الكائن الشعري، المنضوي، والمخبوء في دواخل الكائن البشري (مقداد مسعود) هو غير ما يتمظهر في بنية الشكل الخارجي المعلن، والذي تتحرك من خلاله تجربة الكائن المجتمعي في حياته اليومية.
أي ان هناك أكثر من كائن، أكثر من مواطن، أكثر من بنية إبداعية. يعمل الشاعر (مقداد مسعود) على تبنيها من اجل تنفيذ أهدافه ومآربه، وليس من الضروري ان تكون هذه المآرب – وكما هو متفق عليه – خبيثة، تعتمد المكر والخداع، بل إنها سوف تتحول بين يدي الشاعر الى أهداف نبيلة تعتمد المكاشفة وحسن النية والبحث عن البدائل.
فبنية الشاعر وبنية القصيدة تنتميان الى الحراك. هكذا يستقبل المتلقي ما تطلق القصائد من اشتغالات. على العكس مما يكون عليه الكائن الانساني من مسامحة ونبل وهدوء. ربما مع شيء قد يدل على الضعف وانعدام المقاومة والمسالمة، والركون الى الدعة. إلا أن ما ينتمي الى ما يسمى الواقع المعيش يقول غير ذلك، فالصراع والتناقضات والاختلاف من أهم المرتكزات التي من خلالها يكتب (مقداد مسعود) جل خطاباته الشعرية.
هل للوعي والمعرفة والفكر دور مشترك/ عملة نقدية ذات وجهين متكاملين المشترك الذي يوازي ويدوزن تناقضات الحياة بعيدا عن آليات الدمار الشامل/ الإلغاء. مشترك ينتمي الى التجاذب والتنافر، والتأثير والتأثر والظاهر والمخبوء، والأخذ والعطاء. مشترك يعتمد ضرورة البحث رغم وجود المتوفر، بل من اجل صناعة الطموح، ورغم وجود أكثر من وجه للعملية الإبداعية إلا أن الشاعر يكاد يتشكل من خلال عنصر الاختلاف تحديداً مع عدم التضحية بما يتبقى.
***

حرفة الأدب التي أدركت الكثيرين – من الأدباء والشعراء – تعتمد بالأساس على وجود مبدع أولا/ مرسل، وعلى مرسل اليه/ مستقبل ثانيا، وعلى وجود رسالة ثالثاً. هذه الثلاثية التي اعتمدها الفعل الأدبي، الشفاهي، أولا، ومنذ ظهور ما ينتمي الى أوليات المنجز الأدبي/ الحكايات – الحدّودات – أو الى المنجز الأدبي – القص والسرد اللذين كانا يعتمدان على فن الشعر في صناعة المنجز الإبداعي. ولتتمكن التدوينية ومنذ ظهور الكتابة/ اختراعاً قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، من الاستفادة وعبر المنظومة نفسها في إقامة عالم الكتابة، منذ الألواح الطينية وورق البردي والكتابة على الجدران/ جدران الكهوف أولا، وجلود الحيوانات وصولا الى الكاغد والورق وانتهاء بالكتابة الرقمية.
(مقداد مسعود) لم يختلف عن سواه – كائنات الأمس واليوم من المتلقين – والمرسلين في الحاجة الى القارئ.
ولكن قارئ (المغيب المضيء) و (الزجاج وما يدور في فلكه)
قارئ (حافة كوب ازرق)، و (زهرة الرمان) و (شجرة النارنج)
قارئ (بصفيري أضيء الظلمة واستدل على فراشتي)
قارئ (ما يختصره الكحل يتوسع فيه الزبيب) و (جياد من ريش نسور)
قارئ (يدي تنسى كثيراً)
قارئ لاواقعيات (مقداد مسعود) وتغريباته، وفنظازياته، لابد له من أن يكون محاذيا للشاعر نفسه، غير بعيد عن خزائنه، مطلعاً على مكامنه وما يضمر، متمكناً من مغاليق القصيدة. قارئ صاحب صبر ومرونة ومعرفة. فالتجريب والبحث عن المختلف هو ما تتميز به تجارب وكتابات (مقداد مسعود) حاله حال الكثيرين من المبدعين.
غير أن الشاعر هنا غير قادر على مقاومة القصيدة عندما تكون مهيئة للتشكل وفق مفهوم ضرورة التميز عن سواها، وعلى الرغم من أن صفة الإبداع تكاد تحكم سيطرتها على الكثير من التجارب الإبداعية.
(مقداد مسعود) يحاول أن لا يكون ضمن الحركة الجمعية للكتابة، يحاول أن لا يندس بين أفرادها، ضائعاً وسط مساراتها التي قد تتحول – بفعل حركة كتلة المجموع – الى متاهات.
(مقداد مسعود) يقرأ ويكتب، ويمنهج، يركّب ويفكك، يتابع ويستقرئ؛ من أجل صناعة ملامح خاصة لكائنه الخاص/ القصيدة.
***

هل من الممكن أن نقول إن الكثير من الشعراء ومنهم (مقداد مسعود) يعملون على صناعة القارئ المتخصص بما ينتجون، مؤكدين على ضرورة وجوب الابتعاد عن السائد، محاولين تشكيل ما ينتمي الى قانون التفرد والاختلاف؟
لقد عظم دور المبدعين في إعادة تشكيل وتركيب الكائن المتلقي لرسالة الإبداع حتى بات طموح الشاعر يتجاوز القارئ الاعتيادي وصولا الى القارئ النموذج، القارئ الذي لا يقل مقدرة ومعرفة عن صانع النص. بل قد يجاريه في صناعة نصوص أخرى، أي الانتقال من التلقي المحايد الى التلقي المنحاز نحو الإنتاج. وبقدر ما وضع هذا الشاعر أو ذاك نفسه وسط هكذا مأزق، مأزق القارئ المختلف، فقد استطاع أن يوظف الكثير من خزينه المعرفي في سبيل البحث والتقصي، من أجل الاستفادة من المنجز الإبداعي للسلف الصالح حيث جنبات الحداثة الدائمة الخضرة، عبر ضرورة مسايرته أو تجاوزه، من اجل إبقاء الكادر القراءاتي الى جانب النص.
المأزق المزدوج هذا، مأزق البحث عن تجربة جديدة، ومأزق البحث عن القارئ المتواصل، دفع بـ (مقداد مسعود) الى أن يدفع بنفسه الى المركب الصعب حيث عدم استهلاك النص وبقائه معافى رغم تعدد القراءات، وعبر التأكيد على اجتراح تجارب كتابية جديدة، تستند على قدرة الشاعر على التنوع، وقدرته على أن تكون المحمولات منتمية الى التعدد اللامتشابه، رغم انبثاقها من عند مجموعة البؤر المنتمية للواحد/ الشاعر.
***

القارئ الفعال لا يمكن أن يحس بالندم لحظة يكبله الشاعر بالقراءة لأنها سوف تشكل واحدة من أهم جينات الإنسان العصري المنتمي الى التطور والرقي. فالعملية التكافلية القائمة على إبداع الكتابة، أو إبداع القراءة، وجبت على الطرفين الكثير من الاستعدادات لإرسال واستقبال.
العملية التكافلية المعتمدة على عدم اجترار التجربة، وبالتالي ضرورة التزود بالمستجدات المعرفية، على مستوى حقل قديم/ حديث، هو حقل النقد. إضافة الى حقول معرفية تهم المتون، حيث المنهجيات واختلاف الاستقبالات المستندة على كميات الخزين المعرفي المرتبط باللحظة الآنية، وقدرات القارئ ذاته على الذهاب بعيدا في عالم القراءة أو الاكتفاء بالجروف والمناطق الضحلة.
الشاعر الراكض/ الباحث عن الجديد،
الشاعر الذي تأتي به المغايرة، كلاهما في امتحان دائم، كلاهما غير مستعد – رغم عنصر المنافسة – للتخلي عن القارئ والوقوف تحت مظلة الخسائر، كلاهما يستنجد بالواقع.
(مقداد مسعود) قد يبدو للبعض انه واقف عند حافة التطرف في صناعة المختلف، حتى يظن هذا البعض أن الاختلاف هو التيه، ناسيا أو متناسيا أن الكتابة فعل ينتمي الى المغامرة، الى تقويض الأنماط والمهيمنات التابعة للثوابت.
ومن أجل توظيف قدرات الكائن الشعري لابد من توفير خزين مستوفٍ لشروط الإبداع الذي تشكل القراءة ركنا أساسيا.
(مقداد مسعود) وبإمكاناته قادر على التحول من الانسان الكاتب، الى الانسان القارئ، فالانسان وقبل أن يكون كاتبا فقد كان قارئا؛ لذلك فالقراءة هي فعل سابق يمتلك من العمق التاريخي ما يجعله متفوقا على فعل الكتابة، لذلك فقد كانت القراءة ومازالت تنتمي الى الخزين المتراكم، بينما الكتابة تنتمي الى الاستهلاك، حيث تتصاعد حدة الخمول ومن ثم الانطفاء.
وفق هكذا استنتاجات يبدو أن (مقداد مسعود) كائن قارئ أولا، قارئ جيد من الممكن أن تتحول القراءة بين يديه الى منجز إبداعي يتفوق وفق قدراته على الكتابة.
فالمبدع مهما كان حقله الإبداعي يجب أن يكون من زمرة القراء الخلّص لمبدأ المغايرة: فالمعرفة هي دعوة لا لارتكاب الأخطاء، كما يفعل البعض في مواجهة تحولاتها، وممن يتصور أن الثقافة عملية مضادة لحركة المجتمع، متجاوزا وظيفة الثقافة في تخليص المجتمعات كافة من مهيمنات الفقر والجهل والمرض.
فالثقافة فعل يدعو الى استبدال الثوابت بالمتغيرات، كما تدعو الى صناعة البديل الأفضل.. وبالتالي فالمعرفة هي عملية اجتراح المستجدات التي تدفع بحركة المجتمع نحو التغيير/ الأمام، والذي لا يمكن أن يكون مألوفاً/ مقبولا من قبل الجميع. إذ ان البعض – شريحة، فئة، مجموعة، من الجميع هذا – تملك الكثير من الملامح المنتمية الى المستقبل.
***

القارئ والمتابع والمهتم بمنتوجات (مقداد مسعود) الشعرية والنقدية والصحفية، هذا الكائن المتلقي والذي سيكون بمعية الشاعر سوف لن يجد الروح المبدعة بعيدة عن صناعة المختلف، إذ لا وجود لهكذا روح مع الثابت الخامل. لذلك ومن اجل أن يظل الشاعر في لجة الفعل الثقافي مشتعلا بمياهه، يعمل الشاعر (مقداد مسعود) على أن لا يغادر ما يثير حفيظة السكونية.
فالكائن/ القصيدة التي تتلبسه لا قناعة لها بالتكرار
واذا ما كانت العنقاء ورمادها (دورة الحياة التي لا تكتمل إلا من خلال الاحتراق/ التطهر) ومازالت تحتل الكثير من تصورات المجتمعات وميثولوجياتها وقدرات تلك المجتمعات على النهوض والتخلص من ثوابت التخلف وسطوة اللامعرفة ومن ثم تحويل الانطفاء/ الرماد الى توقد.
فبالأحرى أن يتمسك الفعل الشعري ومنتجه ومتلقيه بهكذا دورة حياة تعتمد الحياة/ الولادة من خلال الموت، وان يتحول ما يترك الاحتراق خلفه من رماد الى أكثر من طائر عنقاء/ قصيدة.
فالمجتمعات لن تتخلى عن مفاصلها في مواجهة المجهول وبناء المستقبل إلا بتوفر مجموعة من القوى والتي سيكون الإبداع أحد دوافعها.
***

(مقداد مسعود) لا يعتمد المناورة أو المخاتلة بقدر ما يعتمد الاختلاف مجموعةً من مفاتيح تأخذ بيد المتلقي؛ من أجل اكتمال الفعل القراءاتي.
فالأبواب – التي قد لا وجود لها – ليس بحاجة لأن يطرقها أحد ما، وليس الحاجة لقراءة أحجية أو تمائم من اجل أن تفتح نفسها، على الضد من قصيدة المغاليق، التي تتخذ من المعارف تحصينات، ووسيلة ليجد القارئ جسده مقذوفاً وسط غابة لا مكان لحاطب ليل بين أشجارها.
غابة – قد يكون من السهل – أن يفتتح القارئ المقذوف بواباتها عبر عبارة تقترب من (افتح يا سمسم) أو بعبارة تشبه عبارة (بسم الله الرحمن الرحيم) أو بدعاء أو بترتيل، ليجد نفسه قاب قوسين أو أدنى من مدينة فاضلة باسلة.
***

(مقداد مسعود) لم يكن ساحراً يعمل على استغفال القارئ، لم يشتغل على المكر والخدع القراءاتية، وما كان يدعي النبوة، بل كان حكيما للروح ومهندسا للمدن، كان فاضلاً بين أقرانه.
انه الشاعر المضيء.
انه صفير الأشياء الذي لا يمكن أن يغيب.
وهو النسر الذي تتشكل من ريشه الجياد.
انه الفضة التي يعشق هدوءها، وشجرة النارنج التي يستظل بأغصانها الآخرون، انه المعتزلي الذي لن يكون الأخير.
***

من ذا استطاع أن يؤكد كينونته منفردا أو مع سواه بين يدي (مقداد مسعود)؟ هل استطاعت القصيدة أن تورط القارئ ومن قبله الشاعر ضمن عملية القراءة والكتابة، حيث القلق والمغامرة وطريق الجلجلة؟ أم إن الشاعر كان هو الأكثر حظا في صناعة الغواية!!
مخلوق الشاعر/ القصيدة ستكون بمواجهة المستهلك/ القارئ.
هل بمقدور هذا المخلوق – الذي تشكل من خلال الوعي والمعرفة والقصدية، من خلال الذهنية واللغة والفنطازيات، من خلال محاولات/ أفعال الشاعر في إنشاء البنية الكلانية للقصيدة –
هل بمقدور هذا الكائن أن ينتقي من المتلقين ما يتوافق أو يتعارض مع طموحاته وطروحاته؟ أم إن القارئ – والقارئ فقط – من سوف يمنح القصيدة لحظة الاتقاد لتجد نفسها وما يحيط بها وسط بؤرة احتراق العنقاء، علما أن القصيدة لا يمكن أن تكون وفق وضع سلبي كهذا. فالنص الإبداعي مهما كان جنسه سوف يكون ممتلكا لشيء من الإرادة في تكريم القارئ أو عدم الاهتمام به. هل سيكون الشاعر هو الخاسر/ الرابح، الأول والأخير، الآني والأبدي، لحظة استطاعت القصيدة أن تكمل دورتها، وليتوقف دور المنتج الكتابي.
على الرغم من أن الفعل الإبداعي يبدأ فعل استثارة مخيلة القارئ، من أجل إكمال متطلبات الكتابة عبر القراءة، فالنص لم يزل بحاجة الى الفعل الذي سوف لن يشكل النهاية، فنضوج النص كليا هو فعل وهمي لا يمكن بلوغه.
فلحظة البلوغ هذه هي لحظة موت النص، وموت الشاعر – القارئ. ومن اجل أن يبقى الجميع يمارس لحظة الحياة وبتوق شديد، فعلى هذا الجميع أن لا يعلن اكتمال الفعل، على أمل أن تتم عملية النضوج الوهمي في كتابة وقراءة آخر القصائد، وعلى آخر القصائد أن تقنع من يقف خارجها أنها لم تقل كل ما لديها، وما تبقى لن يكون أقل أهمية وإبداعا مما لدى المجهول/ المطموس.
***

هل كان (مقداد مسعود) ممسكاً بالوضوح؟ أم كان غائبا وسط بنية القصيدة!! ومن المؤكد أن القصيدة سوف لن تكتمل لحظة الولادة، ولن تمنح جسدها كليا للقارئ، وسوف تظل محتفظة بالكثير من الغواطس والمخبوءات.
فالغواية لا حدود لها، ومحاولة اكتشاف ما تحت عباءة النص أمر شديد القسوة، واذا ما كان للشاعر حضور واضح في النص، هل كان (مقداد مسعود) يضع القارئ هدفاً لما يكتب. حيث يجد القارئ أن الشاعر لم يكن سوى مجموعة سحرة، أو مجموعة نبوءات، أو ربما مشاريع لثورات مؤجلة أو في طور التشكيل.
فالالتزام الفكري لدى (مقداد مسعود) وما يتمتع به من وعي ومعرفة ومخيال جامح سوف لن يكون الشاعر بعيدا عن تأثيرات ما تنتج المميزات السابقة من قدرات على استقطاب القارئ بكل صنوفه، واستقطاب القراءة ذاتها بمجمل مستوياتها. إلا أن عينة من القراء – بذاتها – قد تكون هدف الشاعر في الكتابة، إذ إن وجود عينة – نموذج – ذات مواصفات خاصة هو ما لا يمكن أن يفارق ذهنية وتصورات الشاعر ومشاريعه.
لقد استطاعت القصيدة أن تقول بعض ما لديها، أو أن تقول ما يجاروها، واستطاع الشاعر أن يقتل القناعات المسبقة بمحمولات الإبداع.
وما بين تعدد التجارب – التي سوف لن يتوقف تناسلها – وتعدد الفجوات في جدار القراءة، سيظل القارئ – قارئ (مقداد مسعود) محاذيا إياه على أمل اصطياد لحظة اسمها الوهم/ المدينة الفاضلة.
*وجيز هذا المبحث في / طريق الشعب/ 6-6- 2017








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله