الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حفريات في الأسس - تاريخية القرآن - 1

تيسير الفارس العفيشات

2017 / 6 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حفريات في القرآن إن موضوع هذه الدراسة بما ينطوي عليه من جرأة غير عادية، للقفز فوق ما تراكم من أنقاض كبيرة وكثيرة ،غذاها تاريخ التبجيل عبر مختلف مراحل الزمن المقدس، واللغة المتعالية والمحرمات المتفجرة والمتبعثرة في شتى الأتجاهات والدروب، والتي راحت تضغط على العقل الإسلامي حتى منعته من الحركة ووضعته داخل سياج دوغمائي رهيب، فظل رهين ذلك السياج حتى هذه اللحظة، حبيس رؤى وتصورات شكلته وتعيد تشكيله باستمرار، أن مسألة تفكيك المناخ العقلي و الفكري برمته للمجتمعات الإسلامية، إنما يمر عبر قراءة جديدة ، قراءة تحفر في العمق لتكشف عن تلك المعاني والأفكار القارة والمؤسسة للذات والتاريخ والنسق العام للثقافة العربية الإسلامية، القراءة عن تاريخية القرآن التي نحاولها هنا تأتي في هذا السياق ، الاستدلالي المعرفي ، بمعنى أن النتائج التي يمكن التوصل إليها تعلو على تاريخ الحقيقة، و هي بهذا تصدم الوعي بشكل خطر. نحن نعرف إن مكانة العقل غير واضحة تماما. ولكن وحدهم المورخون المحدثون لا يزالون مستمرين في النضال من أجل الحفاظ على أولوية التفكير النقدي المتمركز حول نظام العقول المفترض وجودها، صراحة أو ضمنا في كل تركيبة معرفية، و خطاب معرفي ، ونلاحظ أن كل باحث ينغلق الآن داخل جدران اختصاصه الضيق ويدافع عنه وكأنه عرينه الخاص، ثم يقوم بإجراء البحوث ويراكم المعلومات الكثيرة ولكنه دون أن يتوقف للحظة واحدة لكي يتساءل عن جدوى هذه المعلومات أو مغزاها العميق أو الفعل الذي تركته في المجتمع، إنه لا يطرح التساؤل على أسس البحث ذاته ، أقصد الأسس العميقة التي تدفعه للبحث، وإنما يكتفي بآثار المعنى والتصورات، متوهما أنها تشكل المعنى والحقيقة المبرهن عليهما من قبل المنهجية العلمية المعترف بها على المستوى العام. نحن نعيش الآن على فكرة أن العقل قد تحرر نهائيا من الإكراهات القسرية للتحجر الدوغمائي، لكي يخدم المعرفة لذاتها وبذاتها، وبدى ذلك منذ اللحظة التي تم فيها الفصل بين الدين والدولة ، هذه اللحظة التي توصلت فيها الدولة الى السيادة والحرية ، ولكنها لا تناضل الآن من أجل الفصل بين العقل المعرفي وعقل الدولة ، هذا على المستوى الذي أنخرط فيه العقل الغربي كسياق عام يقود حركة الحياة، ولكننا نلاحظ بالنسبة للموضوع الذي يهمنا، أن العقل في السياق الإسلامي تتراكم عليه الإكراهات وتتضاعف، وقد خلق هو بذاته هذه الإكراهات لنفسه عندما كان يناضل من أجل الاستقلال المعرفي. في الواقع يهمنا السياق الذي قرئ فيه القرآن، أي السياق الإسلامي، إن مهمة الباحث تكمن في أشكلة كل الأنظمة المعرفية والفكرية التي تنتج المعنى، وكل الصيغ التي اختفت ولا تزال حية، والتي تنتج بدون تمييز المعنى وآثار المعنى، ينبغي أن ننظر الى القرآن نظرة متجاوزة نظرة تخترق كل ما هو سائد حتى هذه اللحظة في كلا المدرستين الاسلامية والإستشراقية. أهمية القرآن البالغة أنه لايزال يلعب دور المرجعية المطلقة في المجتمعات العربية والإسلامية. ولم تحل محله أية مرجعية أخرى، هو المرجعية المطلقة التي تحدد للناس ما هو الصح وما هو الخطأ، ما هو الحق وما هو الباطل، ما هو الخير وما هو الشر الخ.. ، إنه يُولّد التاريخ الحق، وبهذا يجعل التاريخ فوق الحق ويظل الحق مشروطا بالتاريخ ومن هنا تتم عملية تقديس التاريخ . القرآن كلمة مثقلة ومشحونة الى أقصى حد يمكن تصوره بالفكر اللاهوتي والممارسة الطقسية الشعائرية الإسلامية المستمرة منذ مئات السنين، الى درجة أنه يصعب استخدامها كما هي، فهي تحتاج الى تفكيك مسبق من أجل الكشف عن مستويات المعنى، والدلالة التي كان يمكن القبض عليها طمست ونسيت من قبل التراث التقوي الورع، وكذلك من قبل المنهجية النصية أو المغرقة في التزامها بحرفية النص، وهذه الحالة لا تزال مستمرة منذ زمن طويل، أي منذ تم الأنتقال من المرحلة الشفهية الى المرحلة الكتابية، ونشر مخطوطة المصحف المنسوخ باليد ثم المطبوع . القرآن هنا ومنذ البداية يمكن أن نصفه أو نسميه بالخطاب النبوي، أي ذلك الخطاب الذي يقيم فضاء من التواصل بين ثلاثة اشخاص قواعدية، أي ضمير المتكلم الذي ألف الخطاب المحفوظ في الكتاب السماوي، ثم الناقل بكل إخلاص وأمانة لهذا الخطاب والذي يتلفظ به لأول مرة أي ضمير المخاطب الأول الذي هو النبي، ثم ضمير المخاطب الثاني الناس، والمقصود بالناس الجماعة الأولى التي كانت تحيط بالنبي والتي سمعت القرآن لأول مرة، لقد كانوا يقومون برد فعل عفوي على هذا الخطاب عن طريق الموافقة والتصديق أو الفهم أو الرفض أو الدحض ، أو طلب الإيضاح والإستيضاح، سوف نعود لهذا التحليل النفسي الاجتماعي اللغوي لاحقا، ينبغي أن أسجل هنا نقطة إعتراض هامة للغاية، أن العلم الإستشراقي بكافة مدارسة كان محصورا بالتأريخ العام للوقائع الطازجة للتراث أو استعادتها عن طريق استخدام المنهجية اللغوية من نحو وصرف ومعاجم ودراسة تراكيب الجملة الخ .. وكان كذلك محصورا بالمنهجية التاريخية التقليدية التي سادت في القرن التاسع عشر والتي كانت تقصر عملها على سرد الوقائع كما هي، كان هذا العلم يجهل المفاهيم من نوع بنية شبكة العلاقات بين الضمائر أو الأشخاص المتكلمة كما شرحها عالم الألسنيات الفرنسي أميل بينفيست.. ومفهوم ظرف الخطاب، ومفهوم القوى المهيمنة والقوى المهمشة الذي يشتمل على الحالة الشفاهية والحالة الكتابية، بين المعرفة ذات البنية الأسطورية والمعرفة التاريخية النقدية، ثم الكتابة والثقافة العالمة ورجال الدين الذين ينتجونها ثم المدونة الرسمية للدين ثم الدين بمجمله. إن موضوع البحث الذي نحن بصدده هو عبارة عن مجموعة من العبارات الشفاهية في البداية، ولكنها دونت كتابة ضمن ظروف تاريخية لم توضح حتى الآن، أو لم يُكشف عنها النقاب، ثم رفعت هذه المدونة الى مستوى الكتاب المقدس بواسطة العمل الجبار والمتواصل لأجيال من المحركين التارخيين، واعتبر هذا الكتاب بمثابة الحافظ للكلام المتعالي لله، والذي يشكل المرجعية المطلقة والإجبارية التي ينبغي أن تتقيد بها كل أعمال المؤمنين وتصرفاتهم وأفكارهم، يوجد في هذا التحديد المختصر لموضوع هذه الدراسة ـ أي القرآن ـ تكثيف لمجموعة من المفاهيم الفاعلة والمشاكل التي لا تزال تنتظر توضيحات موضوعية بما فيه الكفاية، وأقصد بها توضيحات قائمة على المحاجات العقلية، وشاملة بما فيها الكفاية، لكي تفرض نفسها لاحقا ليس فقط على جماعة الباحثين المفكرين، وإنما أيضا على تلك الفئة من المؤمنين التي تضع نفسها في خانة المؤمنين الملتزمين بالطقوس والشعائر، إن هذه النقطة حاسمة كي نخرج أخيرا من ذلك العقل العلمي المتعجرف الذي لا يفسح أي مجال لكلام المؤمنين، هذا العقل الذي يفسر ويجزئ موضوعه، ويصنف ويحاكم دون أن يكشف فعلا عن الآليات الخفية للإيمان أو عن رزوحه المهيمن وآثاره ودلالاته، أقصد الإيمان الكائن لدى كل ذات بشرية والمفروض أنه ينبغي على الباحث المفكرأن يدمج في حقل دراسته التحليلية كل ما يقال ويعاش ويركب وينبثق داخل السياج المغلق، إن الباحث العلمي إذ يرفض اليوم الدخول في المختبرات الفوارة بالحياة والاحداث العظمى يعني أنه يحرم نفسه أو يحرم العلوم الاجتماعية من معطيات أساسية وضرورية من أجل تجديد مواقعها النظرية واستراتيجيات تدخلها العلمي، وأقصد بالمختبرات الفوارة بالحياة تلك المجتمعات التي جبلتها الثورات الدينية أو كانت قد حرثتها في العمق. كانت المدرسة الإسلامية تضغط دائما بالمحرمات على الدرسات القرآنية وتمنع الاقتراب منها أكثر مما يجب، وهذا أمر طبيعي لأن القرآن يمثل قدس الاقداس، وبالتالي تطبيق الدراسة العلمية يعتبر تدنيسا وكفرا ومروقا وارتدادا، وذلك لأن الدراسة العلمية سوف تكشف عن تاريخيته في نهاية المطاف، وسوف تربطه بظروف عصره الذي ظهر فيه، هذا ما يحاول المسلمون طمسه خشية من المشاكل التي سيجرها الى المنظومة الكاملة، وهذا ما حصل تماما في الجهة المسيحية الأوروبية عندما درسوا الأنجيل دراسة علمية نقدية تاريخية، و تم الكشف عن تاريخية شخصية ياسوع الامر الذي أدى الى هيجان الوعي المسيحي برمته، مما سهل على المستشرقين في المرحلة السابقة أن ينتهكوا هذه المحرمات أكثر مما يسهل علينا اليوم، لأن العقل العلمي في ذلك الوقت كان في أوج انتصاره، وهكذا نجد أن المعركة التي جرت من أجل تقديم طبعة نقدية محققة عن النص القرآني، لم يعد الباحثون يواصلونها بنفس الجراءة كما كان عليه الحال في زمن نولدكة وبلاشير وفلهوزون ، وذلك خوفا من الأصولية الإسلامية المتشددة وهذه الطبعة النقدية تتضمن بشكل خاص تصنيف زمني للسور والآيات من أجل العثورعلى الوحدات اللغوية الأولى للنص الشفهي ( لقد كشف نولدكة أن القرآن مرتب بعكس تاريخ النزول ثم حاول أن يتوصل جاهدا الى التسلسل التاريخي الحقيقي للآيات والسور وهذا عمل في غاية الصعوبة ووجد أن آيات بعض السور محشورة في سور أخرى فحاول إعادتها الى سياقها الأصلي) ولكن من أجل تحقيق القرآن لم تفقد اليوم أهميتها العلمية على الإطلاق وذلك لأنها هي التي تتحكم بمدى قدرتنا على التوصل الى قراءة تاريخية أكثر مصداقية لهذا النص ،( بمعنى أنه ما دمنا لم نتوصل بعد الى نسخة محققة للقرآن فإن قراءتنا التاريخية له ستظل ناقصة) أقصد قراءة أقل اعتمادا على الظنون والفرضيات والبحث عن الاحتمالات، يبدو لنا أنه من الأفضل أن نستخلص العبر من الحالة اللامرجوع عنها، والتي نتجت عن التدمير المنتظم لكل الوثائق الثمينة الخاصة بالقرآن، اللهم إلا إذا عثرنا على مخطوطات جديدة توضح لنا تاريخ النص وكيفية تشكله بشكل أفضل. ولكن هذه احتمالية مستبعدة جدا الآن، وإن لم تكن مستحيلة ، وقد تكون هذه الحالة نتجت أيضا عن قلة اهتمام المعاصرين، بمعنى أن المعاصرين لزمن للقرآن لم تكن المعرفة التاريخية هي شغلهم الشاغل كما هو حاصل الأن، كانت المعرفة الأسطورية أو الخيالية القائمة على حب التضخيم والمبالغة هي المسيطرة على وعي الناس، وبكل ما أصبح أساسا بالنسبة للمعرفة التاريخية الحديثة ، ولكن هذه المعرفة لم توسع من أرضيتها ولا أسئلتها إذا ما حكمنا على الأمور من وجهة نظر الدراسات الحديثة، إننا نعلم أن مادة البحث أي القرآن تتطلب تطبيق كل المناهج عليها من أجل تفكيكه، إنها تتطلب ليس فقط المنهجية التاريخية، إنها تتطلب التدخل على كل مستويات إنتاج المعنى وآثار المعنى من أجل توضيح ملابسات هذا النص المؤسس، وعندما أقول آثار المعنى فإننا نقصد بها تلك الناتجة عن النص المدروس كما تلك الناتجة عن كتابة الباحث نفسه، كما تلك المنتشرة داخل الأمة المفسرة، نحن هنا أمام نص هو النص القرآني الذي تكمن مهمته الأولى المسجلة في طريقة صياغته اللغوية، في أن يقول المعنى الصحيح والحقيقي عن الوجود البشري، وتكمن مهمته أيضا في النص على القوانين الموضوعية، والمثالية والمقدسة والتي لا يمكن تجاوزها، ويطلب من المؤمن التقيد بكل ذلك من أجل الحفاظ على وجوده داخل المعنى الصحيح والحقيقي، هذا فيما يخص النص التأسيسي الأول، ولكن تفرعت عنه نصوص ثانوية تتجلى وظيفتها في صياغتها اللغوية أيضا، كأن يقول المفسرون والخطاب الشائع: يقول الله ، أو قال تعالى، أو جاء في الحديث الشريف الخ ... ويُقصد بالنصوص الثانوية كل النصوص الأخرى ما عدا القرآن والحديث، كالتفسير والفقه والتصوف وعلم الكلام ... الخ وهي نصوص تعلق على النص المؤسس أي القرآن وتشرحه، وبما أنها تفعل ذلك فهنا تكمن المشكلة الكبرى إذ تظن أن كلامها يتمتع باستمرارية تواصلية معه، وبالتالي فله قدسيته أيضا ، فهم يستمدون قدسيتهم من قدسية القرآن طيلة الوقت، وهكذا يتم خلع القدسية على الوجود كله، وتكمن وظيفة هذه النصوص الثانوية في تأبيد وهم التواصلية المعاشة والمكثفة في التراث الحي الخاص بالأمة المؤمنة ، إن تأبيد هذا الوهم يتم ضمن المدة الطويلة للتاريخ، وهكذا نجد أن النص القرآني هو عبارة عن بنية محركة للوجود ومترجمة الى تجسيدات وجودية عديدة ومتغيرة (أقصد أن القرآن يحرك الوجود في كل جيل لأن كل جيل يقرؤه ويفسره ويستمد منه المعنى ويعيش عليه، وبالتالي فلا يمكن اعتبار القرآن كتابا ذا قيمة تاريخية فقط ، فما دام يؤثر على عقول الناس وسلوكهم عن طريق أداء الطقوس والشعائر وعن طريق تلاوته فسوف يظل حيا محركا للوجود، إلا إذا انتصرت العلمانية في الفضاء والفكر العربي عندها يتحول القرآن إلى كتاب تاريخي). نشرت المستشرقة جاكلين شابي مؤخرا كتابها الدراسات القرآنية وهي دراسة في غاية الأهمية، على أني سوف أعمق تحليلها كثيرا للوصول الى نتائج غاية في الأهمية والخطورة، إن شابي تقدم المثل العملي المحسوس على إمكانية تحقيق طفرة نوعية، أبستمية وابستميولوجية معا، إنها ترسم حدودا لا يمكن اختراقها بين القانون المعياري لمهنة المؤرخ من جهة، وبين مجال الفكر الإيماني والمعرفة الإيمانية من جهة أخرى، ولكن على الرغم من ذلك فلها ميزة القيام بدمج هذا المجال الموضوع منهجيا على حدة داخل أرضية التحري والبحث التاريخ، وينتج عن ذلك تقدم حقيقي ليس فقط في الكتابة التاريخية ذاتها، وإنما بشكل خاص في الكشف عن المجريات اللغوية والتاريخية لمنشأ هذا الإيمان الذي سوف يصبح المصدر الذي لا ينفد، والمحرك القوي دائما لكل العمل الجماعي للإسقاط العقلي على هذه اللحظة التدشينية ( أي أن شابي دمجت القرآن داخل الدراسة التاريخية وطبقت هذا المنهج العلمي بكل صرامة وبذلك كشفت عن كيفية انبثاق الإيمان الإسلامي من السياقات اللغوية والتاريخية المرافقة، وهكذا درسة مفردات القرآن بدقة متناهية وربطتها بظروف عصرها للتوصل الى ذلك) كما أوضحت كيف سيصبح المصدر الذي لا ينفد للتضخيم الاسطوري والإيديولوجي والمعنوي والدلالي والابداع الفكري والمؤسساتي والفني، وكلها قضايا لا تزال مفتوحة تتواصل وتتعقد وتتشعب تحت أعيننا حتى اليوم، إن المؤرخ الحديث أصبح تستولي عليه اليوم مفاهيم مثل الاسطورة والمخيال الاجتماعي ، وهو يقوم بالتحليلات النقدية والجدليات التحويلية لتحدث تغيرات مختلفة تنعكس في الآيات المعادة بكل ذكاء وعناية الى سياقها الطبيعي، وهذا يعني في ذات الوقت أنها محررة من المعاني الزائدة أو الإضافية التي تسقطها عليها القراءات (التقوية) اللاحقة وهكذا نتتبع لحظة بلحظة التشكيل الاستهلالي أو التدشيني العفوي لعقلانية فوق قبلية ، كما ونتابع ولادة جهاز مفهومي وليد، وترسيخه في الاستخدام اللغوي لفئة اجتماعية محددة، وكذلك في عقائدها وحكاياتها التأسيسية والبطولية، وهذه الفئة الاجتماعية المحصورة والمحدودة العدد في البداية يدل عليها بأسماء مثل أناس، عشيرة، قوم، وهي مستهدفة من خلال القرآن بصفتها الفئة التي يوجه إليها الخطاب، والتي ستصبح شيئا فشيئا الخصم الجدلي والعامل غير الإرادي الذي أدى الى التحول التاريخي، ومن المعروف أن هذا التحول قد حورب ورفض في مكة قبل أن يفرض نفسه في المدينة مع النبي المسلح بشكل مزدوج، بمعنى أنه اضاف السلاح العسكري الى السلاح الأولي الذي كان يمتلكه منذ البداية، أي سلاح الكلام الكاشف أو كلام الوحي، فيما بعد راحت القراءة الإيمانية التي حققها أوكشف عنها الباحث الحديث ،من خلال الحفر المعرفي تحول هذه الأحداث بالذات الى أبطال حكاية تأسيسية واسعة ودائمة ( المقصود بالابطال هنا الشخصيات المتصارعة داخل الحكاية أو ملحمةالتأسيس، وهم أولا المعارضون في مكة ثم المؤيدون في المدينة، وهذا ما تعبر عنه اللغة الإيمانية بمصطلحاتها المعروفة ـ كافرون أو منافقون ضد المهاجرون والأنصار، إن ملحمة التأسيس البطولية تحتاج هي الأخرى الى نفس الحفرالأركيولوجي من أجل التمييز بين الحقيقة التاريخية والاجتماعية من جهة، وبين التهويلات والتضخيمات الأسطورية اللاحقة من جهة أخرى، وهي تضخيمات يقوم بها المخيال الديني بالطبع. هكذا نجد أن جاكلين شابي تتجاوز الصرامة العلمية للمنهجية التاريخية النقدية التي كانت قد فرضت أحكامها منذ مدة طويلة، وفرضت تقسيماتها الزمنية وتحديداتها للواقع أو للموضوع المدروس، كما وفرضت نزعتها المعروفة في البحث المهوس عن أصول الكلمات، كما وفرضت هذه المنهجية المعروفة هوسها في البحث عن أصول الأفكار أو تسلسل نسبها عبر العصور وحتى اليوم، وهي إذ تفعل ذلك تنسى السياق الحي للمجتمعات التي انشرت فيها هذه الأفكار، وهو سياق الحاضر الذي يضج بتفاعلات الحياة والإبداع، أقول ذلك وأنا أفكر في اختزال القرآن الى مجرد المصادر التوراتية والعبرانية، فهي لا تدرس أفكاره لذاتها وبذاتها أي من خلال تفاعلها مع بيئة شبة الجزيرة العربية في تلك الفترة ومع الأحداث الجارية في المجتمع ، فهي تعيد كل فكرة أوكل قصة الى أصلها في التوراة أو الأنجيل أن هذه الدراسة مهمة ولكنها ليست كافية لأنها لا تضيء لنا الجوانب الأخرى والأكثر أهمية، لا ريب في أن الباحثة قد حافظت على هم الدراسة او خطها البحثي ولكنها أغنتها وأخصبتها عن طريق المكتسبات المنهجية والمصطلحية التي قدمتها الألسنيات الحديثة. ومن أهمها ذلك التمييز الذي تقيمه الألسنيات بين النص الشفهي والنص ذاته بعد أن يصبح مكتوبا، فهناك أشياء تضيع أو تتحور أو تتحول أثنا عملية الأنتقال تلك، ومن هذه المكتسبات أيضا التخلي عن الهوس في البحث عن أصول الكلمات والأفكار والقصص وإحلال الحقول المعنوية وشبكات ضلال المعنى أو المعاني الحافة التي تحيط بالنص، وكل ذلك يتم بفضل التحليلات المجهرية الدقيقة والصبورة، وهي تحليلات تمزج بين الحفر المعرفي عن معاني الكلمات والتحري العرقي اللغوي، وربط الكلمات القرآنية أو إعادة ربطها بالسياق البيئي والاجتماعي والثقافي والسياسي لتلك الفترة، ويتم ذلك عن طريق استخدام المصادر التاريخية المتاحة، وهي مصادر معروف تماما مدى هشاشتها ونقصها، ثم على شكل أخص نعرف مدى العمليات التحويرية التي تعرضت لها، ونقصد بها عمليات التنكير والتقنيع والحذف والزيادة والأنتخاب ثم التحوير، ثم التصعيد والتسامي، ثم جعل الأشياء متعالية وجوهرية ومقدسة ومؤسطرة، ثم أدلجتها اليوم بشكل فظ خشن، هذه هي القراءة القديمة التي يجب أن تحل محلها القراءة الجديدة التي تتبع منهجية تأخذ بعين الأعتبار الجدليات الأجتماعية، وتأثيراتها على العلاقة بين اللغة والفكر، لأن القراءة القديمة تجمّد هذه الجدليات وتتجاهلها عن طريق تحويل الأفكار المتحركة والتصورات العابرة والعرضية، وآثار الحقيقة وعلاقات القوى المؤقته والتحديدات الوظائفية أو الأعتباطية الى جواهر خالدة وماهيات مقدسة لا تمس، وحقائق متعالية تتسامى على كل تدخل بشري، اذا كنت قد توسعت قليلا في الحديث عن هذه الباحثة فلأنها تقدم مثالا مقنعا وواضحا على الأولوية المنهجية للقراءة التاريخية ثم على محدوديتها أيضا أوحدودها، فهي قد أثبتت فعاليتها ونجاحها أثناء تطبيقها على النص الديني إن المؤرخة استطاعت أن تثبت تاريخية القرآن عن طريق التمحيص التاريخي الدقيق، وقلبت بالتالي من مكانته المعرفية وقدسيته، فبعد أن كانت قدسيته متعالية أصبحت أرضية واقعية ، وهذا شيء خطير جدا وصادم بالنسبة لحساسية كل مسلم، حتى ولو لم يكن مؤمنا هذا من جهة، ومن جهة أخرى فنحن نعرف أن القرآن أتخذ على مر العصور مكانة متعالية جدا وكان يقدم المعنى الأخير والحقيقة المطلقة فكيف نوفق بين المكانتين المعرفيتين للقرآن؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاب كويتي «مبتور القدمين» يوثق رحلته للصلاة في المسجد


.. القبض على شاب هاجم أحد الأساقفة بسكين خلال الصلاة في كنيسة أ




.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا


.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز




.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب