الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لعنة الجغرافيا: حول الدولة المنبوذة

سامي عبد العال

2017 / 6 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


أوضح موقف سياسي - حيث لا بعده إلاَّ الحرب- أنْ تُصنَّف دولة بأنَّها منبوذة. كما حدث مع نظام " قطر" عقب الاجراءات التي اتخذتها بعض الدول العربية. ليتم معاقبتها جغرافياً بقصد تحجيم سياساتها المشبوهة والداعمة للإرهاب. وهذا طبعاً تحت الضوء الأخضر من القناص العولمي الجديد في البيت الأبيض.

موقف أشبه بالسلمي( وهذا أضعف الإيمان كما يقال ) لكنه مُلّغم برواسب وتراكمات تكاد تنال منها. بالتالي ليس مهماً البحث عما كانه هذا العزل لها، ولا ماهيته، ولا طبيعته. لأنَّ واقعاً للأزمات التي أحدثتها الدولة المنبوذة أعمق من أي تصنيف. وقد تكون مصدر قلاقل وأضرار للإقليم الموجودة فيه. وبقدر هذا الوضع يأتي رد الفعل السياسي مكافئاً للآثار المترتبة عليه.

إذن قبل ذلك: ما الذي فعلته دولةٌ ما حتى تصبح منبوذة؟! تحتاج الاجابة على هذا السؤال رؤيةً أبعد. ففي حالة اسرائيل تقع دولتها وسط برميل من الكراهية اسمه الشرق العربي الاسلامي. ولأسباب دينية واجتماعية وسياسية كانت الدولة الصهيونية مصدراً للإرهاب تجاه السكان الأصليين. لقد اغتصبت حق الغير في الوجود بمبررات توراتية ولاهوتية سياسية. كما كانت الدولة السالفة وظيفية تحشر الشعب المحتل في فوهة بندقية الدول الكبرى. بمعنى أنها تمثل عصا غليظة لتنفيذ سياسات خارجية في المنطقة. وتقدم خدماتها الجيو سياسية لأقطاب القوى العالمية. ومن حين لآخر تصبح عميلاً اقليمياً يتلقى الدعم للقيام بأهداف غيرها.

والدولة المنبوذة في حالة كهذه عبارة عن حالة احتلال وعدوان وإرهاب في مقابل الكراهية التي تحيط بها من كل جانب. وطوال تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي كان ثمة عزلة مقصودة من دول الجوار. وضعتها- أي اسرائيل- في خندق النبذ بعيداً عن علاقات التلاصق المكاني والزماني. حتى من كان يقترب يجرى عليه ما جرى عليها. مثل مصر أبان عقد معاهدة السلام مع اسرائيل. عندما تخلى عنها العرب وقاطعتها أغلب الحكومات القائمة آنذاك. ورغم كون الموضوع برمته سياسياً إلاَّ أن النبذ قد يصل حد التطهر من عدم القدرة على قبول الدولة المقصودة.

إنَّ النبذ في السياسة اشعار الدولة بكونها مكروهة وبعيدة عن المشهد العام. ووضعها تحت درجة ازدراء جغرافي كأنها لدى درجة الصفر. وهي درجة التجمد في المشاعر والعلاقات المتبادلة بين الدول والأقاليم. ووقف حالة السيولة في المجالات المشتركة إنْ وجدت. وينسحب ذلك على دلالة العزل السياسي وتبعاته الاقتصادية والثقافية والعسكرية. بحيث يلغي وجودها بشكل غير تقليدي. فلئن كانت تتمتع بالموقع الاستراتيجي فإن الانعزال يجردها من معالمها الخاصة. وفي هذه المرة يكون نوعاً من التدخل السياسي كعقاب فيزيائي يحدُ من قدراتها.

نموذج اسرائيل ليس مجانياً بل شكل "عقدة تاريخية" historical complex للعرب المعاصرين. وأدخلهم في عملية تحسس أقفيتهم كلما واجهوا نكبة سياسية. ولا سيما أنّ هذا النموذج المنبوذ شكلَّ مثالاً للعب والحيل والمؤامرات في المنطقة. و بالمقابل جاء كذلك دليلاً على الحجم الاستراتيجي للدولة بغض النظر عن مساحتها الجغرافية. ففي مجالات التعليم والمعرفة والتقنيات والسياسة تساوي اسرائيل جميع الدول العربية مجتمعة. وبإمكانها أن تأرجحهم في الهواء إذا ما وضع الطرفان في ميزان القوة.

على ذات الغرار حاولت قطر- مجانياً أيضاً- تقمص الدور السابق في المنطقة العربية. نذرت نفسها لدور القوة الناعمة soft power خلال توظيف الاعلام والأموال العابرة للحدود وصناعة الجماعات الموالية ورسم خريطة الاسلام السياسي وانشاء بنوك لرأس المال الرمزي المتمثل في مشايخ الفتوى وقيادات الجماعات الارهابية. والغريب أنَّ قطر دولة قزم سياسياً وجغرافياً وثقافياً إلى حد التآكل. وإذا نظرنا إلى وضعها فقد لا يراها المراقبُ إلاَّ بعد حملقةٍ – عن كثب- في الإقليم البري والمائي للخليج العربي.

وهذا الأمر يشكِّك في صفة " الدولة " التي تحملها قطر بصرف النظر عن الاعتراف بها في المنظمات والهيئات الدولية. لأنَّ تكوينها التاريخي لم يكن طبيعياً بل نتيجة الانقلابات المتتالية استيلاءً على السلطة. وفي حالات الانقلاب لا يتم السؤال عن تطور إنساني ولا عن بناء نظام الحكم ولا حول الممارسات السياسية. الموضوع برمته نهب عام للدولة يقوم به الحاكم الجديد تحت بصر العالم. كما لا يكون ثمة مستقبل لأنَّ الأمير الآتي سيكون مثل سابقه. وهذا ما حدث في مجمل عصورها... سلسلة الآباء والأبناء في سطل واحد. إذ يسود منطق "الغلبة والغنيمة" التي تحدث عنه ابن خلدون مراراً في تفسيره لمسارات التاريخ العربي. ولا سيما بصدد نشأة الدويلات وانهيار سواها.

ربما ذلك حدَّد سياسات الحكم القطري الخارجية بذات الأسلوب. لأنَّ صناعة الارهاب ورعايته وتمويله والتماهي معه يصعب تجنبه من دولة بهذا التكوين. وهو التكوين المميز للجماعات الارهابية التي تتوالد عن بعضها البعض بعد الإطاحة بقيادتها. سواء بعمل خارجي أم بانقسام داخلي. وبين عشية وضحاها تعود قطر إلى وظيفة الدولة في المناسبات واللقاءات الدولية ثم سرعان ما تترك دورها إلى تنظيمات دينية. حيث تقوم الأخيرة كبديل عنها في مناطق الصراع الساخن. وفجأة تنقلب هي ذاتها من نظام له رصيده السياسي إلى مجرد جماعة تبذل أموالاً وخططاً للإطاحة بالأنظمة الأخرى. هذا هو القانون التاريخي لحركة الأفعال السياسية- لقطر ولجماعات العنف الديني- أثناء الربيع العربي.

ولذلك كان صعباً – بل مستحيلاً- معرفة توجهاتها السياسية على أرض الواقع. لأن الدول الوظيفية كائنات مشوهة تتقلب كلما كان " الوسط " مواتياً لحركة راعيها الخارجي. فقطر دولة بلا معالم مؤثرة إلاّ من الامكانيات الاقتصادية. ماذا تفعل في محيطها الجغرافي؟ فلا تملك تجربة في الحكم الحقيقي ولم تقدم شيئاً ذا بال في الفكر الإنساني. وذلك ليس حجراً عليها ولا تقليلاً من شأنها كما هو. فالمجال الكوني متاحاً لأي مجتمع وعقوله لمعانقة الابداع في كليته الإنسانية وآفاقه الحرة.

كما أنَّ قطر لا تنفرد بهذه الوضعية فدول الخليج تقع داخل الخانة الأفعوانية التي تمتد بالأموال خارج مساحتها من التخلف السياسي والفكري. ولو اتيح لأي دولة منها لأنْ تمارس المهام ذاتها لفعلت. ولما نذهب بعيدا. جميع الممالك والدول الصحراوية اسهمت في تحريك الأحداث الربيعية لصالحها. وكانت تدخل في صراعات دموية بأدوات مشبوهة... سواء من الاسلام السياسي أم من الطوائف أم من الميلشيات المحلية.

إنَّ انعدام الاسهام الحضاري ( لنقل هذا الفراغ ) في الشخصية المكانية والسياسية للدولة يدفعها لتعويضه بأشياء بديلة. كانت الأقرب إلى قطر جماعات الاسلام السياسي لملء الفراغ. وفي هذا لم تقدم جديداً سوى إدارة بالوكالة المحلية لتلك الجماعات العنيفة. فالعتاد الفقهي والفكري والتنظيمي من خارج الدولة أيضاً. على سبيل المثال الإخوان معروفون بنشأتهم المصرية والقاعدة مشهورة بتأسيسها الوهابي والدواعش لا يحتاجون إلى مخزون فقهي بخلاف فتاوى القتل والذبح كي ينشروا الموت في أصقاع الأرض. جميع ذلك تجمّع بين أصابع قطرية ( كوكتيل ارهاب) تضرب به شرقاً وغرباً.

وتلك كارثة ما بعدها كارثة في دول تحاول تلفيق التاريخ. إنَّ اللجوء إلى الجماعات الدينية لتحل محل الجغرافيا السياسية للدولة هو أكبر تدمير لروح الإنسان. ويجعل كل حديث عن الحقوق السياسية والآخر والأقليات واحترام حرية التعبير والديمقراطية والعدالة- كما تكرر فضائية الجزيرة- مجرد حركة بهلوانية لهذا الكائن المشوه إقليمياً ودولياً. لأن" الكائن – الدولة " يتعلق دوماً بقوة خارجه. ولن تستطيع قطر أو ما يماثلها الحياة بمعزل عن التوظيف السياسي. ولذلك ليست القضية أيضاً نفخ الأوداج الاعلامية والصراخ حول الثورات إنما ماذا تفعل على الأرض. إنَّها بلا وزن نوعي سياسياً لكنها تحرك العنف الديني بأموالها الطائلة.

لقد عاش نظام قطر طوال سنوات كصوت فضائي ليست أكثر. يبتز الأنظمة العربية بالإعلام وكشف الواقع بينما واقعها الآسن يقع بعيداً عن الأنظار. وكأنها تكرر مأساة الأنظمة القومية التي كانت أبواقاً إذاعية تنفخ في غرائز الجموع تجاه دول الأعداء ومؤامراتهم. بينما يأكلها الصدأ الفكري والثقافي من الداخل. الفارق الظاهر أن أصوات قنوات الجزيرة كانت تواكب هرولة الأقدام بين الكر والفر من جماعات الاسلام السياسي. وكانت ترفع التكبيرات على الرؤوس المقطوعة والدماء النافرة واختراق الأجساد وهرسها.

هكذا فإن نظام قطر – كشأن بعض الدول العربية الأخرى- نظام سياسي مسخ يلتحف بالجماعات الارهابية من جهةٍ ويلعب على أحبال الوكالة للقوى الكبرى من جهة تالية. مما جعل أحد ثعالب السياسة الأمريكية يقول: بعدما رأينا ما فعلته قطر أثناء الربيع العربي لم نعد نحتاج إلى اسرائيل في المنطقة!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اضطرابات في حركة الطيران بفرنسا مع إلغاء نحو 60 بالمئة من ال


.. -قصة غريبة-.. مدمن يشتكي للشرطة في الكويت، ما السبب؟




.. الذكرى 109 للإبادة الأرمينية: أرمن لبنان.. بين الحفاظ على ال


.. ماذا حدث مع طالبة لبنانية شاركت في مظاهرات بجامعة كولومبيا ا




.. الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق بشأن المقابر الجماعية في مستشف