الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بغداد في عيون مبشر إنجليزي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر

كلكامش نبيل

2017 / 6 / 11
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


بدأتُ بقراءة هذا الكتاب لمعرفة تفاصيل عن الحياة اليومية للسكان في بغداد في مطلع القرن التاسع عشر، لكنني فوجئتُ بكم الألم والخوف والمآسي التي مرت على المدينة في تلك الحقبة، رغم التغيرات الجيدة نحو التغريب وادخال القليل من العناصر الثقافية الأوروبية في ظل الحكام العثمانيين من أصول جورجية. يعمل الكاتب أنتوني نوريس غروفز، المبشر البروتستانتي الإنجليزي، على تدريس 58 صبي و9 فتيات في مدرسة صغيرة في بغداد في عامي 1830 و1831، لكنه يدون ملاحظاته القيمة عن الحياة السياسية والاجتماعية والدينية في المنطقة ككل. هناك تفاصيل عن الحروب والتغيرات الاجتماعية وأوضاع المسيحيين واليهود في المنطقة، فضلاً عن واقع التعليم والكوارث الطبيعية والأوبئة التي عصفت بها بلا هوادة والفوضى السياسية التي تعكس واقع الامبراطورية العثمانية في أيام ضعفها.

صدمتُ بتعليق المبشر بصورة متطرفة – تذكرنا بتعليقات رجال الدين في المنطقة في الوقت الحاضر – عندما وصف تاجراً أرمنياً من مصر وسوريا، والذي اعتبره كاثوليكي الانتماء، بأنه "كافر" لأنه قال بأن الجميع بالنسبة إليه واحد، سواء أكانوا من الأرمن أو السريان أو المحمديين أو اليهود، ما داموا أناساً جيدين. وعلق مرة أخرى على شخص مشهور من المحمديين، لكنه يراه "كافراً" أيضاً، لأنه رئيس طائفة وحدة الوجود وبأنه يعتقد بأن الإله كل شيء وكل شيء هو الإله. ومن ثم يقول بأن "الكفر" منتشر في هذه البلاد وأن المسيحي والمحمدي يقول بأنه كذلك بالاسم ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن معتقداتهم.

يتكلم غروفز عن اقتراحات راقت للباشا العثماني بخصوص تراخيص للملاحة في نهري دجلة والفرات لاختصار الرحلة من بريطانيا إلى مومباي في الهند ويتكلم عن مخاوف من هجمات العرب لكن السفن البخارية يمكن أن تحل المشكلة بحيث لا يتمكن العرب من مطاردتها. ويتكلم الكاتب عن تزايد اهتمام السكان بتعلم اللغة الانجليزية، ويذكر أن من بين طلبته ابن تاجر مجوهرات من الروم الكاثوليك. يقول الكاتب بأن السكان جميعاً، وليس المسيحيين فقط، بل حتى المحمديين، كانوا يتمنون سيادة القوة الانجليزية هنا، لأن الباشا، ورغم أنه لا يفرض عليهم الكثير من الضرائب، إلا أنه يأخذ القشطة ويترك الباقي للشعب، فضلاً عن تغيير سعر الصرف كل شهر تبعاً لاحتياجات الباشا وما يدرّ عليه من أرباح. وعلى الرغم من هذا الميل نحو الاصلاحات نقرأ عن الرفض الشديد في مواقف أخرى حيث يذكر الكاتب تعليقات المحمديين في ماردين حول الباشا وانزعاجهم من الملابس الأوروبية الجديدة التي تم ادخالها للبلاد، وبأنهم بدأوا يروجون بأن المسجد القديم في المدينة سيصبح كنيسة من جديد وأن الباشا قد اعتنق المسيحية، ويرفضون الأزياء العسكرية الجديدة ويعتبروها "حرام" وغير شرعية.

يتكلم الكاتب عن دور الحكومة في اضعاف المسيحيين من خلال استغلال النزاعات حيث التقى بشخص يعقوبي من ماردين، يحمل رسالة من المطران حول كنيستين انتزعتها كنيسة الروم الكاثوليك من اليعاقبة، ويقول بأن وضعهما كما وصف مؤسف، ويضيف بأن الباشا في ماردين يشجع مثل هذه النزاعات بين الكنائس ليقوم بابتزاز الطرفين وانتزاع الأموال منهما.

يهتم غروفز بالتعليم وبعثته التبشيرية معاً، حيث تلقى الكاتب من جمعية الكتاب المقدس في مومباي، قوائم بخصوص ارساله نسختين من الانجيل بالانجليزية، و50 نسخة من العهد القديم، و20 انجيل بالعربية، وخمسين انجيل بالسريانية، و50 نسخة من العهد القديم بالسريانية، وخمسين انجيل بالارمنية، و100 نسخة من سفر المزامير بالفارسية، و75 نسخة من سفر التكوين بالفارسية، وستة نسخ من العهد القديم بالعبرية. ويقول بأن الأهم بالنسبة له تلك النسخ المتوفرة بالعربية والفارسية والكلدانية. يقول الكاتب أن الأرمن في العراق كانوا يواجهون مشاكل في فهم الطقوس في الكنائس وأنهم يرغبون في استخدام اللهجة العامية، لأن الطقوس تتم بلهجة القسطنطينية بينما السكان يستخدمون لهجة يريفان، ويضيف بأنها لهجة شائعة في كاراباغ في شمال بلاد فارس. ويناقش كثيراً في عموم الكتاب المشكلة الناجمة عن اختلاف الأرمنية العامية والكلاسيكية ويقارن ذلك الجمود بوضع اللاتينية في أوروبا قبل التحرر من قيودها الثقافية. يعبر الكاتب عن رغبته في الحصول على كتب مدرسية بالعربي من مالطا اعتماداً على أعمال السيد جُويت. وعن الانحياز ضد المسيحيين يقول الكاتب أنه يجد صعوبة في العثور على ملا لتعليم الطلاب العربية، وأنهم متحاملون جدا ضد تعليم المسيحيين، بل على الأخص ضد قراءتهم للعهد الجديد.

يتكلم المبشر بشغف حول مهتمه في اعادة الحياة للكنيسة في هذه الاراضي القديمة، التي كانت من المواطن الأولى للكنيسة. وفي موضع آخر يتكلم بحزن حول فقدان السلام في هذه الأرض وكثرة الخارجين عن القانون واللصوص فيها. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يقص قصص لتغيير في الديانة بشكل معاكس، حيث يذكر قصة الجنائني الذي يعمل لدى الباشا، وهو يوناني تم ارساله إلى بغداد من القسطنطينية، وكيف أنه أصبح محمدياً في السادس من آب عام 1830، وانه أراد تحويل ابنتيه، 13 و14 عاماً، لكنها رفضتا ولجأتا لاحدى المعامل لتبقيا في حماية الإنجليز. لكن الميجور ت. لم يستطع الاحتفاظ بهما لأنه يبقي أسرة أحد الخدم الباشا أيضاً والمسجون بسبب تأخر في سداد بعض الأموال في التجارة في البازار، و قصة ألماني متزوج في ألمانيا يرغب في الزواج من أرمنية كاثوليكية فترفض الكنيسة في العراق زواجه فيضطر لاعتناق الاسلام ويحاول اجبار من يحبها لاتخاذ ذات الخطوة. لكنه يركز جهوده التبشيرية على المسيحيين أصلا لتحويلهم للبروتستانتية ولم ينجح سوى في تحويل الملا الذي يدرس اللغة العربية وأحد التجار العرب. يفكر غروفز في اليهود أيضاً كهدف محتمل. يتحدث غروفز عن تاجر محمدي يطلب نسخة من العهد القديم ليقرأها في طريقه إلى مكة فيتمنى المبشر أن يكملها قبل وصوله إلى هناك ليتوقف في أورشليم من دون اكمال الرحلة، بالاضافة إلى حاخام من بغداد يقرأ الانجيل من خلال يهودي بولندي يعمل خياطاً لدى علي باشا ورجل دين من ايران يعبر كلاهما عن رغبته في اعتناق المسيحية.

عن اليهود في المنطقة، يذكر غروفز وجود 10,000 من اليهود في بغداد، أما يهود شمال شرق إيران فيبلغ عددهم هناك حسب اللغات التي يتكلمونها: في سمقرند 500 يتحدثون التركية – في 5000 يتحدثون التركية والفارسية– وفي مشهد 10000 يتحدثون التركية والفارسية– وفي هرات 8000 يتحدثون التركية والفارسية – وفي كابول يتحدثون لغة الباشتو. يذكر الكاتب وجود مدرسة لليهود في بغداد تضم 150 صبياً في احدى الكنس الستة التي ترتبط ببعضها البعض لتشكل مبنى واحد في ذات المنطقة، وأنهم يمتلكون ثلاثة حاخامات، وأن الكثير من الصبية يتلقون تعليمهم في المنزل على يد مدرسين خصوصيين.

عن أوضاع المسيحيين في المنطقة، يتكلم غروفز عن أوضاع ديار بكر، وأن آخر احصاء يشير لوجود 700 عائلة سريانية و6,700 عائلة أرمنية، ويشير إلى أن السريان الذين يعيشون في الجبال مستقلين عن المحمديين بشكل رائع وينقسمون إلى قبائل داخلية ويخضعون لسلطة المطارنة. ويكتب بأنهم أكثر تعلماً، من ناحية القراءة والكتابة، من السريان غير المستقلين الذين يعيشون في السهول. يذكر الكاتب أنه في المنطقة الممتدة من الموصل إلى سنجار، يكون الطريق المحاذي لجبال سنجار أكثر أمناً من السهول وأن أياً من المحمديين لا يعيش وسط الأيزيديين والسريان. لكنه يقول بأن هناك رهبان أرمن في نصيبين لا يمتلكون أية كتب مطبوعة عندهم. ويذكر تأثير العادات في المنطقة، لاسيما الثأر، حتى على المسيحيين، ففي ماردين يعتبر الكلدان والسريان المستقلين بأن الثأر لقتل رجل من قرية ما على يد رجال من قرية أخرى مسألة شرف. في دياربكر (آمد)، يسجل وجود 5000 منزل يضم 25000 أرمني. ومن خلال حوار مع تاجر أرمني من دمشق يتحدث عن عدم السماح لغير المسلمين بركوب الخيل هناك لكن التعامل جيد مع ذلك عكس ما هو عليه حال اليهود هناك. 10000 أسرة مسيحية في دمشق. وعن قره قوش نقرأ بأنها "بلدة صغيرة على بعد 12 ميل من الموصل وتضم 900 منزل يقطنها السريان واليعاقبة، والعديد منهم قد أصبح كاثوليكياً. ويتحدثون السريانية لكن بشكل مختلط جعلهم يواجهون صعوبات كبيرة في فهم المخطوطات السريانية. وتضم سبع كنائس أربعة منها للكاثوليك والبقية لليعاقبة "السريان الأرثوذكس". يتوقع أن الموصل وماردين وديار بكر أماكن مثلى للعمل التبشيري ويتحدث عن وضع نساطرة الجبل وقلة ارتيادهم للقداسات والكنائس. لكن الكاتب لم يعرف بالتأكيد الكوارث التي لحقت بالوجود المسيحي في جنوب تركيا في مطلع القرن الماضي وما لحق بالوجود المسيحي في العراق وسوريا من خسائر كارثية في السنوات الحالية على أيدي الجماعات الدينية المتطرفة.

يذكر الكاتب على لسان شخص من ماردين أن الأيزيديين لم يعودوا بذات الكثرة هناك كما كانوا في السابق بسبب التناقص الكبير في اعدادهم بسبب وباء الطاعون الذي ضرب المنطقة قبل سنوات قليلة والتي فقدت ديار بكر بسببه 10,000 نسمة من سكانها.

عن الأوبئة، نقرأ نصوصاً مؤلمة عن طاعون تبريز والبصرة وأنباء عن طاعون في السليمانية قبل أن يضرب الطاعون بغداد ويقتل الآلاف بما فيهم زوجة المبشر. كما يتكلم عن الكوليرا التي ضربت البصرة وأتت على 1,500 شخص من أصل 6,000 نسمة وتركت المنازل خالية والقوارب تتحرك لوحدها بلا أملاك على سطح الأنهر والجداول. يذكر الكاتب غياب مفهوم العزل عندما يضرب الطاعون مدينة، الأمر الذي يساعد في انتشاره. يسرد غروفز تفاصيل مروعة آلمتني وذكرتني برواية الطاعون للفرنسي ألبير كامو التي كتبها عن طاعون يضرب وهران بالجزائر ابان الحكم الفرنسي. عندما ضرب الطاعون بغداد عادت قافلة كبيرة من المسيحيين إلى الموصل – كانوا قد تركوها قبل ثلاث أو اربع سنوات بسبب طاعون ومجاعة ضربت المدينة - فيما تحرك اليهود إلى البصرة. ويذكر الكاتب عودة اليهود إلى بغداد من دون أي شيء بعد أن تعرضوا للنهب والسلب. يذكر غروفز وفاة 2000 شخص في احد الأيام و1800 في يوم آخر – وأنه لم يبقى في المدينة سوى 400 أرمني وأن الطاعون أصاب بيت من كل ثلاثة أو أربعة بيوت مما أدى إلى أن يلقى نصف السكان الأرمن حتفهم. يتكلم المبشر عن عدائية بعض النساء للأجانب والمسيحيين ونعتهن لهم بصفات سيئة وصراخهن في وجههم وتحميل الأجانب مسؤولية تلك النكبات التي ضربت المدينة وينقل قول البعض من المسلمين "أن المسيحيين واليهود لوحدهم من بقي في المدينة، وأنه بالكاد العثور على مئة محمدي في بغداد كلها." ويذكر المبشر أن أسقف بابل الفرنسي الكاثوليكي توفي أيضاً. ومن صور الاضطهاد الأخرى، نقرأ اعتراض السكان في محلات اللحم اذا باع القصاب اللحم لغير المسلمين قبل المسلمين ويرفضون وجود اسلحة لدى غير المسلمين ويذكر قصة تجريد ابن تاجر ارمني محترم من أسلحته وضربه في بغداد.

يعبر المبشر عن استغرابه لمعرفته بأن كل القبائل العربية التي تعيش بمحاذاة هذه الأنهار، عدا المنتفق، هم من الشيعة، أتباع علي، بعد أن كان يعتقد بأنهم من أتباع عمر ويذكر اعتراض الشيعة على تأجير السيد لمنزله للمبشر لأنه يستخدمه في تعليم الكتاب المقدس.

عن الفوضى السياسية، يذكر الكاتب صعوبة العيش في هذه البلاد، ففي 19 آب 1830، سمع غروفز عن أنباء عن وجود ما يقرب من 20,000-30,000 من العرب على بوابات المدينة بهدف الاطاحة بالباشا. ويمتلك الأخير قوات على بعد 24 ميل فيما يمتلك ضابط انجليزي كتيبة على بعد 12 ميل. يتحدث غروفز أيضاً عن الصراع بين والي بغداد وولاة الموصل وحلب، وتقدم علي باشا من حلب إلى بغداد الذي أجبر كل التجار ومعظمهم من اليهود على هجرة المدينة في التاسع من حزيران. ويذكر انشاء تشكيلات لحماية الأحياء وكل فظائع القصف والنهب والسلب والمجاعة، والسماح للفقراء بالمغادرة كل فترة، وارتفاع أسعار البضائع بشكل كبير. ويذكر وجود رجل فرنسي يعلم جنود الباشا في بغداد النظام وتعرض منزله للسلب.

بعد كارثة الطاعون التي قتلت ما يقرُب من ثلاثين أو اربعين ألف من السكان، جاء الطوفان ليضرب بغداد ويدمر جزء من جدار القلعة وتضرر آلاف المنازل بما في ذلك 200 منزل في الحي اليهودي في المدينة.

يتحدث المبشر عن درجة الحرارة المرتفعة في العراق وكيف أنها قد تصل إلى 117 فهرنهايت ولا تقل عن 110 في الظل. وعند الحديث عن أنباء سيطرة فرنسا على الجزائر وتونس يفرح بذلك على الرغم من أنه تم على أيدي "كافرة" حسب وصفه، في اشارة لمبادئ الثورة الفرنسية العلمانية.

في النهاية، الكتاب – الذي قرأته بالإنجليزية - مهم جداً رغم كم التأملات فيه والآلام الخاصة بالكوارث والفقدان الذي يعاني منه المبشر والسكان. الكتاب مؤلم لأنه يضم كماً كبيراً من الأسى والفوضى والموت. أحياناً يسهب الكاتب في النقاشات اللاهوتية وقد يبدو ذلك مملاً بالنسبة للباحث التاريخي غير المهتم بموضوع التبشير. مع ذلك، إنه كتاب مهم لتسليط الضوء على جزء من صورة الحياة في بغداد والمنطقة في مطلع القرن التاسع عشر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعقيب
نورس ( 2017 / 6 / 12 - 12:53 )
يبقى ما كتبه المبشرون والكتاب المصاحبون لجيوش الاحتلالو المستشرقون عموما مادة تأريخية كبرى غنية بكثير من التفاصيل

اخر الافلام

.. السودان الآن مع عماد حسن.. هل سيؤسس -الدعم السريع- دولة في د


.. صحف بريطانية: هل هذه آخر مأساة يتعرض لها المهاجرون غير الشرع




.. البنتاغون: لا تزال لدينا مخاوف بخصوص خطط إسرائيل لتنفيذ اجتي


.. مخاوف من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني على وقع ارتفاع حدة ال




.. صوت مجلس الشيوخ الأميركي لصالح مساعدات بقيمة 95 مليار دولار