الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيام في مدينة لايبتزغ

علي دريوسي

2017 / 6 / 11
الادب والفن


عندما وصل أحمد للمرة الأولى إلى مطار مدينة لايبتزغ، تناول حقيبته الكبيرة ومضى باتجاه باب الخروج، هناك كان أحد الأصدقاء الطيبين في انتظاره، الذي اعتاد تقديم المساعدة، صعدا إلى الباص باتجاه مركز المدينة، في غرفة صديقه الطلابية الصغيرة أمضى أحمد يومه الأول، استيقظ باكراً في اليوم الثاني للذهاب إلى معهد اللغة، كان قد مضى ثلاثة أيام على بدء دورة اللغة، مشى عدة خطوات كما تم إخباره ليصل إلى محطة قطار الشوارع، هناك اِلتقى بصديقةٍ كانت قد سبقته إلى المعهد بأربعة شهور على الأقل، حيّاها، تبادلا بضعة جملٍ، نصحته على الفور أن يبتعد عن كل ما يسمونه عربي وسوري على وجه الخصوص، وصل القطار، صعدا، اِفترقا.

وصل أحمد إلى المحطة الأقرب إلى المعهد، تَوَجَّبَ عليه متابعة الرحلة مشياً على القدمين لحوالي عشر دقائق، كانت سعادته كبيرة وهو يمر بجوار محطة القطار الرئيسية الرائعة، كانت في الطور الأخير من عمليات الترميم، بعد أن أُهملت لعشرات السنين في ظل الحكومة الشيوعية، كان يمشي دون تخطيط، يمشي بجانب عشرات الطلبة القادمين من مختلف أنحاء العالم، في طريقهم الحتمي إلى المعهد الأكثر حميمة والأشهر في ألمانيا، معهد هيردر للغات، التابع لجامعة لايبتزغ، جامعة كارل ماركس سابقاً.
بمعونة صديق قام بالتسجيل في المعهد، ثم ذهب برفقته إلى إدارة السكن الجامعي. هناك رأى للمرة الأولى كيف يحصل الإنسان على رقم وينتظر دوره لمقابلة موظف ما بشأن أمر ما، سحب رقماً وجلسا، عندما حان موعده، دخلا إلى غرفة إحدى الموظفات، تمكّن الصديق المرافق له وبكلمات مُقتَضَبة من إفهام الموظفة مُرادهما، بعد أن قدَّم إليها قرار التسجيل في معهد اللغة، بعد عدة دقائق حصل على عقد السكن على أن يأخذ المفتاح من غرفة الهاوسمايستير، الناظر هناك، عاد إلى غرفة صديقه حيث أمضى ليلته الأولى، شكره، أخذ حقيبته ومضى إلى سكنه الجديد.

كانت غرفته تقع في شقة من شقق الطابق الثاني، فتح الباب ودخل، كانت تضم أربع غرف ودورة مياه دون مطبخ، كان هناك مطبخ كبير في ردهة الطابق، يُستخدم من قبل الطلاب المقيمين في الطابق الواحد، بنظرةٍ سريعة تفحَّصَ ردهة الشقة، مغسلتي الوجوه والأيادي، الأبواب المغلقة، شمّ رائحة غريبة عن بيئته، فتح باب غرفته ودخل، ثمت خزانة خشبية، طاولة صغيرة وكرسي، مكتبة بثلاثة رفوف وسرير، استلقى على السرير الضيق، نظر إلى سقف الغرفة، خاطب نفسه: هل هذا ما كنت أنتظره؟ إنها لمفاجأة حقيقية، في الواقع كنت آمل أن أحصل على بيت بسقفٍ من القرميد، في ضاحيةٍ هادئة وقريبة من المدينة، بيتاً من تلك التي كنت شاهدتها سابقاً في برامج الأطفال.

شعر بالسأم والضجر منذ الساعة الأولى لدخوله الغرفة، خرج يتفقَّد دورة المياه، وصلته موسيقى صاخبة، أنينها لا يلامس القلب، موسيقى خشنة تُذكّرك بالطقس الحار والأطفال في الغابات، موسيقى أفريقية بلونٍ بني وبطعم الحشائش، أحدهم بلون الليل، طويل القامة، نحيل الجسد، خرج لتوه من دورة المياه، الرائحة لا تُطاق، وأفريقي آخر عبوس الوجه يفتح باب غرفته ويخرج برفقة اِمرأة تشبهه.

يتمتم بإنكليزية خجولة: مرحباً، أنا أحمد، من سوريا، الساكن الجديد، طالب في معهد اللغة.
يرد أحدهم: مرحباً. ويعود إلى غرفته.
أما الآخر فيتجاهله ويخرج من الشقة.

موسيقى الطبول تصدح، ومع حرارة الموسيقى تراءى له أنّ كل بقعة من الشقة هي من اللون البنيّ. فيما بعد سيعرف حتماً أنّ لا جدران الشقة ولا أبوابها كانت بنية، فيما بعد سيكتشف حتماً أنّ ليس كل من سكن غرفة طلابية هو طالب، بل لعله لاجئ أو عامل أو قادم جديد بلا مأوى ويعيش بالأسود، ولعله اِستأجرها لوقتٍ مُحَدَّد بعد أن سافر قاطنها الأساسي في إجازة، أو للعمل في مصانع السيارات ولم يشأ أن يتركها فارغة.

عاد أحمد إلى غرفته، كانت حارة، أشعة الشمس تخترقها بقوة، ولا عجب في ذلك، إذ أنّه قد وصل إلى المدينة بينما الصيف يغزوها، كان ذلك في الثامن والعشرين من شهر آيار لعام 1998.

في تلك الليلة غفا أحمد قلقاً مضطرباً كما في الليلة الأولى، لكنه غفا هذه المرة على وقع الطبول الأفريقية وأنَّات لذيذة لاِمرأة في الجوار، غفا وهو يحلم بغرفةٍ أوروبية بيضاء.

في اليوم التالي اِلتقى بصديقه في المعهد، رجاه أن يرافقه إلى إدارة السكن لتغيير غرفته، ضحك الصديق وقال: عليك أن تقبل الأمر كما هو، الغرف ليست متوفرة كما تعتقد، إضحك في عبّك أنّك حصلت على غرفة.

وأمام إلحاحه رافقه الصديق لمساعدته في مقصده، لم يطل انتظارهما طويلاً، قابلا الموظفة، شرح لها المرافق بأنّ صديقه يرتدي نظارة طبية، والشمس تزعجه وتسبب له آلاماً في الرأس والعينين.
اِبتسمت الموظفة للكذبة البيضاء، استوعبتهما وقدَّمت بديلاً للغرفة وغيّرت عقد الإيجار، لم تكن الغرفة البديل التي اِقترحتها تنأى بعيداً عن الوحدة السكنية الأولى، بل تفصلها عن الغرفة الأفريقية بنايتان طلابيتان لا أكثر، كانت الغرفة في الطابق الرابع من البناية رقم 33 بطوابقها الثمانية في شارع فيليب روزينتال.

سلَّم أحمد الغرفة المُشمِسة، حمل حقيبته ومشى إلى الغرفة الجديدة مُشبعاً بالطمأنينة والأمل بحياة طلابية أوروبية لا أفريقية أو أمريكية أو آسيوية، وصل إلى الشقة، فتح الباب، كانت رائحة النظافة تفوح من أرجاء الشقة، والهدوء يسود المكان، كانت تفاصيلها تشبه تفاصيل الشقة الأولى، كانت المغسلتان أول ما لفت نظره، نظيفتان، على رفيهما كؤوس زجاجية، في كل منها فرشاة أسنان وعلبة معجون، شعر أحمد من اللحظة الأولى أنَّه قد وصل أخيراً إلى المكان الصحيح، صارت اِبتسامته شبراً على وجهه.
فيما بعد سيعلم أنَّ جيرانه في الشقة هم أندريا الطالبة الألمانية في معهد الفلسفة وعلم الاجتماع، الطالبة x القادمة من منغوليا والطالب أليكس من روسيا.

فيما بعد ستعلِّمه أندريا كيفية التوفير بالماء عند تنظيف الأسنان، وبالكهرباء في النهار. فيما بعد سيقع في حب أندريا دون لغة، بينما هي تضحك. فيما بعد سيقدِّم لها كأساً من الشاي الأسود، تشربه وهي تضحك. فيما بعد ستعزمه أندريا لتناول طعام الغداء -شباكيتي - في غرفتها، يقبل العزيمة شاكراً ولا يأكل من شدة الخجل. فيما بعد ستطلب أندريا منه أن يغلق باب غرفته حين يكون في داخلها، كي لا يزعج الآخرين في حرية حركتهم وهم قادمون من الحمام مثلاً. فيما بعد ستغادر أندريا الغرفة للالتحاق بالفصل الدراسي التدريبي.

فيما بعد سيزوره صديقه الذي يحاول مغازلة المرأة المنغولية. فيما بعد سيحاول بدوره معانقة المنغولية. فيما بعد سيتعرّف على الشاب الحمصي الطموح الودود أبو زينو القادم من باب السباع للتخصص في الرياضيات الإحصائية، سيمضي معه أوقاتاً حميمة. فيما بعد سيتعرّف على الشاب الدرعاوي أبو طحينة والشاب الديري أبو خليل. فيما بعد سيرقصون جميعهم في غرفته الصغيرة وهم يضمون كتاب الرسم الهندسي إلى صدورهم وكأنَّه الكتاب السماوي.

فيما بعد سيتعرّف على اِمرأة تعاني من حالة انفصام، ستدعوه إلى تناول طعام العشاء مع زوجها وطفلها، سيقبل الدعوة ويدخن مع زوجها، ستدعوه لاحقاً لتنظيم مظاهرة شموع للوقوف في وجه الوحش الرأسمالي. فيما بعد سيحاول التَّمَلُّص منها والابتعاد عنها، سيعرِّفها إلى صديق حمويّ كان بدوره يعيش بدايات حالة انفصام أدت بها إلى التَشَرُّد في الشوارع، إلى أن قامت السفارة بإرساله إلى أهله، سيعرِّفها أيضاً إلى صديقٍ آخر، طالب طيب من عشّاق الفول والبطاطا.

ستمضي أيام طلبة معهد اللغة هكذا، بين مزح وجد، فرح وحزن، ضجر وابتسامة، قراءة واستراحة، صداقة وعداوة، حب وكره، حنين وجفاء، صحة ومرض...

ذات يوم أحد، اليوم الثاني من عطلة نهاية الأسبوع، سيكون وحيداً في الشقة الطلابية، سيعيش حالة ضجر شديدة رغم وظائف اللغة المتراكمة التي تنتظره لفهمها وحلها، سيذهب إلى المطبخ لتحضير فطوره، سيسمع فجأة صوت اِمرأة تولول وتصرخ وكأنّها تطلب النجدة، فضوله الشرقيّ وشهامته يحركانه، سيخرج مهرولاً من ردهة الطابق الأول، ستعلو النهنهات والشهقات القادمة من الطابق العلوي، سيصعد السلالم بقوة شاب رياضيّ لإنقاذ اِمرأة لعلها تحترق أو تموت ببطء، سيكتشف أنَّ مصدر الأنين والصراخ والبكاء قادم من الطابق السادس وليس الخامس، سيصعد السلالم من جديد، يقترب العويل أكثر، سيكتشف أنَّ ما يحدث، يحدث على الأرجح في الطابق السابع، يصل الطابق السابع، صار النواح والصراخ أكثر وضوحاً، سيقترب من أبواب الشقق كلها، يسترق السمع لما يحدث، سيعلم لاحقاً أنَّ الجريمة تحدث في الطابق الأخير، لعل المرأة في حالة انتحار، لعلها في حالة تسمُّم، ولا يمكن أن تكون هناك حالة اِغتصاب…

وقف في ردهة الطابق الثامن، أفزعه صدى الألم، لم تستغرق حيرته طويلاً، رأى باب إحدى الشقق نصف مفتوح، سارع إليه وكأنَّه المُنقِذ المُنتظَر لتخليص الغَريقة من محنتها، اِندفع إلى داخل الشقة، صُدِمَ لهول وبشاعة ما لمحت عيناه، كانت أرض الردهة مُغطاة بالشعر الأشقر الطويل، ورأى شاباً حليق الرأس، قبيح الوجه، قصير القامة، في يده مقص، وفي اليد الأخرى حزام بنطلون، بدا من منظره وشكله أنَّه قادم من بلاد المغرب العربي.

سأله أحمد بهلعٍ وبلغةٍ عربية: ما الذي حدث؟ هل وقعت جريمة؟ هل قتلت المرأة؟
أجاب المغربي: اتركني وشأني، انقلع من غرفتي، وأضاف شتيمة لاذعة.

غلى الدم في عروق أحمد، دفع الباب بقبضة يده، بحركةٍ عنيفة من يده أبعد المغربي المُشوَّه من أمامه، وما أنْ حاول الولوج إلى الغرفة التي تنبعث منها الآهات، حتى خرجت اِمرأة ألمانية ممشوقة القَدّ، جميلة المُحَيّا رغم خسارتها لشعرها الأشقر الطويل، الذي قُصّ بشكلٍ مفزع، نظرت بوجهها الحزين الباكي إلى وجه أحمد وقالت: لماذا تحشر نفسك بيننا؟ هذه مشكلة خاصة بيني وبين صديقي، أتمنى أن تغادر على الفور.

في تلك اللحظة أشرق وجه المغربي، استغل كلمات صديقته وراح يدفش أحمد بيديه ليخرجه من الشقة، كانت رائحة غريبة تفوح بالشقة، لعلها رائحة البخور أو رائحة الحشيش التي تشبه رائحة البخور، أو لعلها كانت رائحة المغربي الشنيعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-