الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مواقف مفكرين مغاربة من العلمانية و علاقة الدين بالسياسة .

مهدي جعفر

2017 / 6 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ساح نظر عدة مفكرين غربيين و اضطلع بآراء تقدمية حول علاقة الدين بالدولة و السياسة ، ما دفع في اتجاه تشكيل دول غربية تفصل ما بين السلط الدينية و الدنيوية ، ما جعل اختصاصات كل من رجل الدين و السياسة متمايزان ، هذا غربيا أما عَربيا فقد اصطبغ فكر العرب زمن ما سمي "بالنهضة العربية" أواخر القرن 19م و مَطلع القرن 20م ، بآراء متضاربة حول علاقة المقدس بالدنيوي ، ما امتد لزماننا متجسدا في فكر كبار المفكرين العرب المعاصرين ، سواء من نادي اليسار (الحداثي) أو اليمين (الإسلامي) ، هنا سنحاول اسجلاء طبيعة هذه الآراء المتضاربة عند أربع مفكرين مغاربة معاصرين و هم : "محمد عابد الجابري" الفيلسوف الثراثي في كتابه "الدين والدولة و تطبيق الشريعة 1996" ، و "طه عبد الرحمان" الفيلسوف و المفكر الإسلامي في كتابيه "روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية" و "بؤس الدهرانية :النقد الإئتماني لفصل الأخلاق عن الدين" ، كما استرشدنا بطريق نظر آخر مثله "عبد السلام ياسين" المفكر الإسلامي و منظر حركة "العدل و الإحسان" في كتابه "الإسلام و القومية العلمانية" ، كما سنحاول عدم استثناء موقف الكبير "عبد الله العروي" في كتابيه "مفهوم التاريخ" و "مفهوم العقل" ، وكذا في مواقفه الفكرية و السياسية في هذا الصدد .

نظرا لقيمته الفكرية و الفلسفية يجمل بنا استهلال الحديث باستعراض رأي الأستاذ المرحوم عابد الجابري ، الذي اختطت يداه أكثر من 15 كتابا في قضايا متعددة لعل من بينها التنظير لعلاقة السياسي بالديني ، خط ذلك العريض نجده في كتابه "الدين و الدولة و تطبيق الشريعة" الذي يُعد عصارة لما سبقته من مشاريع فلسفية وفكرية جريئة متميزة ، أثرى بها المفكر المغربي المشهد الفكري و الأكاديمي العربي و الإسلامي ، إذ أن أول سؤال يبرز في الفكر السياسي هو سؤال علاقة الدين بالدولة ، و دائما ما يطرح في أوساط اليسار فصلهما عن بعض ، عبر تكوين مجال للدولة مخصص للبث فيما هو دنيوي ، و ترك تدبير الحقل الديني لأهله دون تداخل في الإختصاصات وفق علاقة تعاون و تكامل لاعلاقة تنافر و تباعد ، و هو ما سملية بـ"اللائكية" أو "العلمانية" فما موقف الجابري من العلمنة و فصل الدين عن السياسة ؟

يرى الجابري أنّ مسألة "العلاقة بين الدين والدولة" لم تطرح في زمن النبي ولا في زمن الخلفاء الراشدين، ففي زمن النبي كان الجهد متجهاً إلى نشر الدين والدفاع عنه، وكان "الأمر" كله في هذا الشأن لصاحب الرسالة: للوحي الذي كان ينزل عليه و لاجتهاده الشخصي واجتهاد صحابته" (1) ، ثم إنّ مصطلح "الدولة" بمفهومنا المعاصر ظهر لأول مرّة مع انتصار الثورة العباسية حين قال العباسيون هذه دولتنا، إشارة إلى انتقال الأمر إليهم من يد الأمويين. ومن هنا جاءت على لسان المؤرخين عبارات: الدولة الأموية، الدولة العباسية، دولة معاوية، دولة هارون الرشيد، وهي عبارات تفيد انتقال الأمر من أسرة إلى أخرى، ومن ملك إلى آخر، وهي مصطلحات تجد معناها الأصلي في قوله تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" . كما أنّ الصحابة لم ينظروا إلى الإسلام على أنه دولة بهذا المعنى ، معنى الشيء الذي تتناقله الأيدي والذي يختفي بعد وجود. كلا، لقد كانوا ينظرون إلى الإسلام على أنه الدين الخاتم الذي سوف يبقى إلى يوم القيامة. ولذلك ربطوه بالأمّة ونسبوا الأمّة إلى الإسلام ورسول الإسلام: أمّة الإسلام، أمّة محمد (2) .

غير أن هذا المظور سيقلب إلى مطلب الفصل بين الديني و السياسي ، و هو ما يَردُّه الجابري إلى عاملين ، أولا: أنه لم يكن في التاريخ الإسلامي دين متميز أو يقبل التمييز والفصل عن الدولة ، فلم يشهد المسلمون قط أنّ فصلت دولتهم عن الدين ، إذ لا أحد من الحكام استغنى عن إعلان التمسك بالدين لأنه لا أحد منهم كان يستطيع أن يلتمس الشرعية لحكمه خارج شرعية الإعلان عن خدمة الدين والرفع من شأنه . ثانيهما: أنه لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي مؤسسة خاصة بالدين متميزة من الدولة ، فلم يكن الفقهاء يشكلون مؤسسة ، بل كانوا أفراداً يجتهدون في الدين ويفتون فيما يعرض عليهم من النوازل أو تفرزه تطورات المجتمع من مشاكل (3) ، و بما أن هذه العاملين يتقاطعان على طول الخط مع الأدبيات السياسية المعاصرة فقد حدث طلب الفصل حتى لا تََشُذ السياسة العربية عن السياق السياسي العالمي .

أما فيما يخص رأيه حول مفهوم "العلمانية" فإن الجابري يعلن عن ضبابية معناه و مرماه ، إذ عَدَّه شعار ملتبس و ترجمة غير موفقة للائكية بالفرنسية، ذلك لأنّ كلمة لائيك لا ترتبط بأي علاقة اشتقاقية مع لفظة العلم (4) ، يستلهم الجابري في سياق متصل رؤية "جان لاكروا" و التي مؤداها أنّ "فكرة اللائيكيّة ليست المقابل المعارض لفكرة الدين ، و لكنها تستدعي على الأقل التمييز بين ما هو دنيوي وما هو مقدّس. إنها تفترض أنّ جانباً من الحياة البشرية لا يخضع لقبضة التعاليم الدينية ، أو على الأقل يقع خارج سلطة رجال الدين" (5) ، بناءا على ذلك يُعلن الجابري أن هذا النهج السياسي لا يتوافق مع ثقافة الشعوب العربية و هنا نقتبس للقارئ ما يلي : "هذه الفكرة غريبة تماماً عن الدين الإسلامي وأهله : فالدين الإسلامي قوامه علاقة مباشرة بين الفرد البشري وبين الله ، فهو لا يعترف بأي وسيط ، و ليس فيه سلطة روحية من اختصاص فريق وسلطة زمنية من اختصاص فريق آخر . باختصار، فإنّ طرح شعار اللايكية، أي ما ترجم بـ"العلمانية"، في مجتمع يدين أهله بالإسلام هو طرح غير مبرر، غير مشروع ، ولا معنى له " (6) . ما يوضح أن الجابري "لا يتفق" مع الطرح الذي يقضي بفصل الدين عن الدولة في الميدان العربي ، غير أن ما البديل الذي طرحه هذا المفكر عن نهج العلمنة ؟

يقترج الجابري تعويض العلمنة بـ"الدمقرطة" و "العقلنة" ، يقوله : " إن الدمقرطة و العقلنة هما اللذان يعبّران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي ، الديمقراطية تعني حفظ الحقوق : حقوق الأفراد وحقوق الجماعات ، و العقلانية تعني الصدور في الممارسة عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج" (7) . و بذلك فإنه يستبعد تطبيق العلمنة و يقترح العمل على تحقيق ديموقراطية النظام السياسي العربي ، و عقلنة مسلكياته و قراراته حسب ما يتفق مع تطلعات هذه الشعوب .

إذا كنا قد عرضنا لموقف الجابري الإنزوائي اتجاه فصل الديني عن السياسي فما موقف مفكر آخر من نفس حقل اشتغال و نظرة الجابري و هي الفلسفة ، يتعلق الأمر بـ"طه عبد الرحمان" الفيسلوف المغربي المتضلع في علم المنطق ، فما منظوره لعلاقة الدين بالدولة و السياسة ؟ يشكل كل من كتابيه "روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية" و "بؤس الدهرانية :النقد الإئتماني لفصل الأخلاق عن الدين" مَتن موقفه في هذا الصدد ، إذ حاول في كتابه الأول "روح الدين" إعادة النظر و تجديد الفهم للإشكالية المؤرقة حول علاقة الدين بالسياسة ، منطلقا من مسلمات دينية مبناها على تعدية الإنسان و ازدواجية وجوده ، إذ أن الإنسان بالضرورة منوجد في العالم المرئي بجسده متواجد في العالم الغيبي بروحه، و هكذا فالفرضية القائلة باختصاص كل من الدين و السياسة بجانب من جوانب الحياة الإنسانية فرضية خاطئة ، بل الصواب أن الدين و السياسة وجهان لتسيير الشأن التعبدي و التدبيري على حد سواء ، من خلال آليات التشهيد و التغييب، هنا نقتبس قوله بالظبط إذ يقول " علاقة الدين بالسياسة علاقة وجودية بين عالمين متقابلين، و أن هذه العلاقة تتخذ في الواحد منها عكس الاتجاه الذي تتخذه في الآخر ، فتكون في الدين عبارة عن تنزيل، بجعل العالم الغيبي مشاهدا في العالم المرئي، أو قل عبارة عن تشهيد، و تكون في السياسة عبارة عن تنزيه يجعل العالم المرئي متواريا في العالم الغيبي، أو قل عبارة عن تغييب" (8) . من هنا فلا مجال للحديث عن "فصل" أو "وصل" بين السياسة و الدنيا، أو حتى الحديث عن كون "الإسلام دين و دنيا" كما يقول الإسلاميون، بل إن الإنسان مخير بين أن يسلك طريق السياسة من خلال التغييب ، أو طريق الدين من خلال التشهيد ، التغييب برفع الواقع إلى درجة التنزيه ، أو التشهيد بتنزيل كمالات العالم المطلق على الواقع .

و عليه فإن طه عبد الرحمن، يخلص إلى أن ليس كل من يوظف الدين في شؤون حياته بالضرورة دُيانيا ، لأن الدين أو العالم الغيبي الذي ينهل منه الإنسان قيمه الدينية حاضر دائما في لاشعور الإنسان لأنه مفطور على ذلك سواء تصرف سياسيا أو فنيا أو عبديا ، في نفس السياق يطلق الأستاذ طه لفظ "الدولة المشتبهة" ، و معناه الدولة التي تجعل الدين جزءا من العمل السياسي ، تمارس ما يسميه "تسييس الدين" ، إنها لا تقصد تحقيق مقتضيات الدين لذاته ، أو تنزيل أحكامه على الواقع الإنساني فيصير بذلك الدين حاكما على السياسة و موجها لها ، بل إنها مجرد خطة أو استراتيجية للدولة ، يؤكذ ذلك بقوله : " قد نفرق في التسيد بين نوعين اثنين ميختلفان باختلاف التغييب الذي أفضى إليه، فهناك التغييب الإقراري و هو التغييب الذي يقر بوجود العالم الغيبي، متشبها بكمالاته، و هذا النوع الأول من التغييب يورث ما نسميه التسيد المشتبه" (9) و بذلك أصلق التشبه بالدولة حسب هذا المعنى .

غير أن موقفه من العلمنة تعزز أكثر في كتابه "بؤس الدهرانية" ، بحيث يوافق الجابري في عدم دقة ترجمة و معنى العلمانية ، كما أنه يقترح تعويض هذا اللفظ الفضفاض بكلمة "الدُّنيانية" في إشارة إلى الدنيوي المقابل للسماوي (10) ، بعد ذلك ينتقل لِلَطم العلمانية بـ"البُأس" و اعتبار أفكارها قريبة من أفكار الدهريين الذين يعتقدون بدهر الدنيا و يكفرون بالآخرة (11) ، مرد بُأس العلمانية حسب هذا المفكر يرجع لتصوراتها و مقولاتها الكبرى التي عمل عبد الرحمان على تفكيكها ، إذ وضح أن تصورها لعلاقة الإنسان بالله يحصل بشكل خارجي و تجزيئي للصفات و الكتب الإلهية ، وهو ما يخلق هوة كبيرة بين هذين الكيانين اللامنفصلين (12) ، كما ثَرَّب طه على الفكر الدنياني تصور التَّسيُّد في علاقة الله بعباده ، و محالة منازعة الله في "تَرَبُّبه" و "تَدبيره" حسب تعبير هذا المفكر (13) ، كما انتقد و بشدة فصل الأخلاق عن الدين إذ اعتبر ذلك ظلما للدين و إقصاء له عن كل مَحسَنة و مَزِية ، خصوصا مع اعتبار الدنيانية أن لا عبادة في الأخلاق ، كما سلَّمت بأحادية المرجع الأخلاقي و هو الإنسان دون مصدر غيبي لذلك (14) . و هو ما يوضح عدم موافقة بل شجب طه عبد الرحمان لكل أنواع الفصل بين الديني و السياسي و الأخلاقي .

ننتقل الآن إلى التعريف بموقف الشيخ "عبد السلام ياسين" ، الذي هو أحد -كما هو معلوم- أبرز منظري حركات "الإسلام السياسي" بالمغرب ما يعني أنه صاحب توجه يميني إسلامي محافظ ، ذلك ما اعترى موقفه من العلمانية و منظوره لشكل الدولة و علاقتها بالدين ، إذ أن كتابه " الإسلام و القومية العلمانية" يعتبر أهم مرجع لاستشفاف موقفه في هذه النزيلة ، إذ تفرغ في فصل هذا الكتاب الثالث إلى استعراض تاريخي يوضخ السياقات التاريخية و الظروف الإجتماعية لنشوء العلمانية في أوربا ، من تغول الكنيسة للدين و استغلال الدولة للمقدس ما أعقبه بتعبير عبد السلام "الإنفصام النكد" و يعني به انفصال الدين عن الدولة ، معتبرا ذلك آلية إلحادية لمحاربة الدين أي دين حتى الإسلام (15) ، يردف عبد السلام ذلك بتبيين ما سماه بـ"الوصال الأنكد" معناه حسب قوله : " كان الوصال بين كهنة الدين وطواغيت القيصرية المستبدين أصل البلاء ، تزوج فسق الفاسقين بطغيان المستكبرين فولدا النبتة العسرة الملعونة ، و حيثما تم هذا الزواج الغاشم اشتغل الدين وحرف الكلم عن مواضعه " (16) ، أي أن الوصال بين الكنيسة و القياصرة تسبب في الإنفصال بينهما بعد ذلك ، كما يدمج الشيخ "ياسين" على سبيل المقارنة كل مراحل عرضه التاريخي بالتجربة الإسلامية الكلاسيكية لكي يوضخ اخلافها و تميزها عن التجربة النصرانية .

يستمر عبد السلام ياسين في تقريح كبد التاريخ الأوربي ، ليربط اللادينية و اللاإيمان و عدم طلب الحق بالفلاسفة الذين انقطعوا لنقد الكنيسة بل و التحريض على الثورة ضددها ، نقتبس للقارئ قوله كالتالي: "لم يكن عند الفلاسفة طلب صادق للحق ، و لم يكن أمامهم مصدر يستقون منه علم الحق، فنبذوا نبذ النواة الكنيسة، ونبذوا معها مبدأ الدين نبذا مطلقا. و ورث العلمانيون من ذراري المسلمين تلك الحروب و تلك العداوة و ذلك النبذ المطلق " (17) . و هنا ينتقل للتاريخ الإسلامي ليَستنكِر و يُنكِر على أعلام "فكر النهضة العربية" مثل "عبد الرحمان الكواكبي" و "محمد عبده" و "طه حسين" عدم تشبثهم بالدولة الإسلامية و تطبيق الشريعة (18) ، بل و تماهيهم مع الطرح العلماني الذي يعتبره إلحاد يحارب الدين مثلما كان أيام الجاهلية ( بمعنى أن العلمانية من سمات الجاهلية أي ما قبل الإسلام و بالتالي فهي كفر ) .

و عليه فإن الشيخ عبد السلام ياسين لا يضع يده في كف نهج سياسي يفصل الدين عن الدولة ، بل يزندق و يتفه من يدعوا لذلك ، كما أنه غير موافق على أشكال الحكم في الدول العربية التي تتوسل الدين للصعود لسدة الحكم ذلك بقوله: " إن للإسلام الرسمي الموروث ، إسلام أجهزة الحكم الجبرية في بلادنا ، ارتباطات بأعداء الإسلام في الخارج ، و ارتباطات طبقية في الداخل و صبغة محلية قومية ، و وظيفة تخديرية " (19) ، ما جعل الأستاذ عبد السلام ياسين يَنقُم على الحكام العرب و في مطلعهم الملك الحسن الثاني ، ما تبسبب في قضاءه ردحا من الزمان في السجن و المعانات من الإقامة الجبرية .

أخيرا نصل إلى عرض منظور مختلف تماما ، و هو رأي علم الفكر المغربي و العربي المعاصر البروفيسور "عبد الله العروي" الذي قدم مشورعا فكريا متكاملا ، تعرض بالتحليل و التقصي إلى مختلف القضايا و من بينها إشكالية الدين و السياسة في نسق البناء الدولاتي العربي ، إذ كان العروي من الذابين عن الحداثة ، مدافعا شرسا عن ما سماه "التاريخانية" أي "طي الصفحة" ، في إشارة إلى ضرورة القطع مع الماضي بكل تجلياته و الإنخراط في المشروع الحداثي بإملاءاته ، باعتبار مكتسبات الحداثة من "المتاح للبشرية جمعاء" ، حسب تعبيره فالتاريخانية " ليست إحدى الفلسفات أو النظريات، بل إنها منطق التاريخ إذ يعي نفسه" (20) كما أنها " فلسفة كل مؤرخ يعتقد أن التاريخ هو العامل المؤثر في أحوال الناس"(21) ، بمعنى أن أشكال التفكير العلمي و الفلسفي و كذلك السياسي تشكل نمطا من مسلكيات تاريخية ، آن الوقت لاستبدالها بأطر فكر سياسي جديد و أشكال حكم معاصرة من أجل اللحاق بركب الحداثة .

كان العروي و هو يخط مساره الفكري الذي يمكن اختزاله في ثلاثة محاور أساسية ، تحليل الواقع الاجتماعي والاقتصادي و التاريخي للمجتمع العربي بكل تناقضاته حتى السياسية و الدينية ، ثم تحليل انعكاسات هذه التناقضات على وعي الإنسان العربي ، بناءا على ذلك فقد اعتبر علاقة الدين بالدولة علاقة مرضية ، و هو ما ينعكس على الوضع العام السياسي بشكل سلبي ، جاعلا إياه أداة غير ناجعة في القيام بوظيفة الدولة على أحسن وجه ، و هو ما توضحه وضعية اقتصاد و معدل التنمية في الدول التي استدمجت العقائد بالمصالح السياسية ماضيا و حاضرا ، ذلك ما يستدعي وعي تاريخاني يُقدم على تمييز العقائد من السياسات ، و هو ما يتطلب في فكر العروي وجود عقل أو عقلية خاصة ، إذ يقول في هذا الصدد : "الاختيار العقلي على مستوى الفكر لا يؤدي بالضرورة إلى عقلانية المجتمع" (22) ، و بالتالي فإنه يطرح مفهوم "العقل السالك" و يعني ذلك العقل الذي يرتبط بالعمل في حقل السياسة لا التعبد عبر ممارساته .

أملا منا أن نكون قد قربنا القارئ من بعض آراء هؤلاء الفطاحلة المفكرين ، لم يبقى لنا سوى أن نتساءل بحسن نية مستحضرين مواقف الجابري و عبد الرحمان طه ، عبد السلام ياسين و عبد الله العروي ، أي موقف منهم يحمل صلاحية و راهنية للنسق السياسي العربي المعاصر ، الذي تعتوره عدة مشاكل و تحتبس نجاحه مجموعة من الإكراهات التنموية و الإقتصادية و الحقوقية ، هل يجمل بالحاكم استبقاء التجارة و الخرافة في يد واحدة ، هل نسمح بتطويب رئيس الدولة لكل السلط ، أم يستحسن بنا الدعوة إلى فصل السلط و تمييز الإختصاصات الدينية عن الإختصاصات السياسية كي تتضح الرؤية و تظهر المشاكل بأعيانها حتى نقرح لها الحلول المناسبة ؟ سؤال بل أسئلة متروكة لكل مهم و قارئ .









____________________________________

هوامش و إحالات :


(1)- الجابري، محمد عابد ، "الدين والدولة وتطبيق الشريعة" ، (سلسلة الثقافة القومية 29، قضايا الفكر العربي 4)، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت لبنان، ط1/فبراير 1996 ، ص 19-20 .

(2)- نفسه ، ص 21 .

(3)- الجابري ، ص 61-62 .

(4) - نفسه ، ص 108 .

(5) - الجابري ، ص 109 .

(6) - الجابري ، ص 110 .

(7) - المرجع السابق، ص 113 .

(8) - طه عبد الرحمن، "روح الدين : من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية" ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء 2008 ، ص 46.

(9) - طه عبد الرحمن في "روح الدين" ص 240 .

(10) - طه عبد الرحمن ، "بؤس الدهرانية :النقد الإئتماني لفصل الأخلاق عن الدين" ، الشبكة العربية للأبحاث و النشر ، بيروت 2014 ، ط 1 ، ص 11 .

(11) - طه عبد الرحمن ، "بؤس الدهرانية" ، ص 12 .

(12) - طه عبد الرحمن ، "بؤس الدهرانية" ، ص 71 - 73 .

(13) - عبد الرحمن ، نفس المرجع ، ص 78 - 80 .

(14) - طه عبد الرحمن ، "بؤس الدهرانية" ، ص 119 - 121 - 123 .

(15) - عبد السلام ياسين ، " الإسلام و القومية العلمانية" ، دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية ، طنطا-الطبعة الثانية 1995 ، ص 45 .

(16) - عبد السلام ياسين ، " الإسلام و القومية العلمانية" ، ص 50 .

(17)- عبد السلام ياسين ، " الإسلام و القومية العلمانية" ، ص 64 .

(18) - ياسين ، نفس المرجع ، ص 114- 115 .

(19) - عبد السلام ياسين ، " الإسلام و القومية العلمانية" ، ص 69 .

(20) - عبد الله العروي، "مفهوم التاريخ" ج1 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء-المغرب ، طبعة الرابعة ، 2005 ، ص 357 .

(21) - عبد الله العروي، "مفهوم التاريخ" ج1 ، ص 349 .

(22) - عبد الله العروي، "مفهوم العقل" ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء-المغرب ، طبعة الثالثة 2001 ، ص 74.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نور الغندور ترقص لتفادي سو?ال هشام حداد ????


.. قادة تونس والجزائر وليبيا يتفقون على العمل معا لمكافحة مخاطر




.. بعد قرن.. إعادة إحياء التراث الأولمبي الفرنسي • فرانس 24


.. الجيش الإسرائيلي يكثف ضرباته على أرجاء قطاع غزة ويوقع مزيدا




.. سوناك: المملكة المتحدة أكبر قوة عسكرية في أوروبا وثاني أكبر