الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملامح من المشهد الفلسفي العراقي

مهدي شاكر العبيدي

2017 / 6 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفلسفة هي حب الحكمة، وتعني الحكمة التفكير المستقيم الذي يجنبنا عواصف الحياة ، فنحتكم إلى العقل والمنطق في النظر إلى القضايا والمشكلات والانتهاء منها إلى حلول صائبة دونما انقياد بوحي العاطفة والشعور فلا تجيء الأحكام والانطباعات واستجابة الأفراد حيالها متسرعة ومشوبة بالضلال والخطأ، ويكمن السر في تردد بعض المتعلمين عن تدارس الفلسفة وزهدهم فيها إلى ما يتوهمونه من عسر وصعوبة في اكتناه رموزها وتفسير إيماءاتها ودلالاتها، فحتى العالم العراقي الراحل الدكتور كمال السامرائي الذي كان من حضور الندوة الفلسفية المنعقدة في بيت الحكمة قبل مدة للكشف عن مضامين الدرس الفلسفي وتاريخه، أفاد في تعقيبه ومداخلته على البحوث والمحاضرات الملقاة انه يفتقد فيها التعريف الجامع المانع للفلسفة مع خروجه منها بحصيلة من المعرفة تحيط بالأدوار والمراحل التي مر بها التأليف الفلسفي من لدن المفكرين والمثقفين العراقيين مروراً بأشهر المؤلفين ونتاجاتهم على الرغم مما شاع في الثقافات الإنسانية عن الوشائج القوية بين الطب والفلسفة مستنداً في استبانة هذه العلاقة إلى قولة سقراط الحكيم المشهورة : ان من يسعى إلى إبراء مريض فهو يسير نحو السعادة. بينما وجدنا في بعض آثار هواة الدرس الفلسفي من الأدباء المستنيرين خاصة انها اطلقت قديماً على بعض الخارجين على الشرع، والمجترئين على إعلان آرائهم وتوجهاتهم المباينة للمألوف من المواضعات والحقائق، ومن جروا على خطة وسلكوا نهجاً خاصاً بهم يميزهم عن سائر الناس، وتلتقي كل هذه الوجهات والنوازع عند إجماعهم على معاونة الإنسان في تجميل حياته، وبذلك تغدو الفلسفة في عداد المفهومات الواضحة والمعارف الميسرة، بدون حاجة إلى قراءة المباحث والفصول الباحثة في ما وراء الطبيعة التي يخرج الدارس منها بلا طائل سوى استنفاد جهده في التنقير وراء المعضل العسير من المعميات والأحاجي كما نصح غير واحد من الدارسين.
وعلى هذا التحصيل فقد اختلطت المؤلفات المندرجة في خانة المنطق والكلام والتصوف ، وعدت جميعاً من قبيل الكتابات الفلسفية برغم ما يبين على الفلسفة من النظر العقلي والرجوع إليه في كل استجابة أو تصرف، وما يعنيه التصوف ويستهدي به كل آن من الذوق والإلهام الوجداني والمعرفة القلبية وصولاً إلى الحياة الروحية المليئة بالصفو والسعادة، من تعارض واختلاف بينهما.
فلا مراء أن سجل المرحوم د. حسام الالوسي وهو يحكي عن جهوده في تدريس التيارات الفلسفية أو تبسيطها لطلبته طوال أكثر من ثلاثة عقود ما اعتاده وترسمه من سيرة وسلوك لائقين برجل الفلسفة، تتجلى مواصفاتها أو تطبيقاتهما بعبارة أصرح و أوضح، في التسامح وقبول الرأي الآخر وتحاشي الانحياز والميل إلى جانب وكلف بالنقاش مهما استتبعه وترتب عليه أو نتج عنه من الافتراق أو التقارب بين وجهات النظر الأخرى، فضلاً عن الاحتراس من اللجوء إلى القوة والعنجهية والتسلط، وجميع هذه الخلال والمبادئ الخلقية يمكن أن تؤلف تعريفاً عملياً للفلسفة قبل اقتصارها على المحاكاة النظرية واللغو الفارغ وغير المجدي .
وينبري د. عبد الستار الراوي في مبحث مستفيض لتقصي العهود التي جازها التأليف الفلسفي في العراق عبر حقبة طويلة نسبياً تبدأ من عام 1867 وتنتهي في العام 1978م، تحت عنوان : الفلسفة في العراق / قراءة تاريخية، مستوحياً الحوادث البارزة في تاريخ العراق الحديث وما صحبها من متغيرات اجتماعية وسياسية وثقافية لا تخلو من أثر في تطلع المفكرين والمتنورين فيه إلى الإصلاح واجتثاث الأوهام والخرافات والمعتقدات البالية المسيطرة على عقول الناس وأفهامهم، مسجلاً لكل مرحلة ما طرأ عليها أو سادها من انتشار الوعي وتنبه العقول واحتدام الصراع بين المقلدين والمجددين، وما تخلل ذلك من وقائع وماجريات وحكايات لا تعدم الطرافة في جوانبها وأنحائها، عن اضطرار بعض أعلامها للتقية أو المداراة، وتحلي آخرين بالجرأة المتناهية في الجهر بأفكارهم ومسلماتهم غير مبالين بما نالهم وتعرضوا له من التشنيع والإساءة والانتقاص، فبلغ مجموع ما اطلع عليه أو وصل إلى علمه من التأليف والمدونات الفلسفية بحدود خمسمائة كتاب، يتناول قسم كبير منها الناحية الدينية بالشرح والتعليل، وقد فاته أن يستقري سابقة معروف الرصافي ورأيه في وحدة الوجود التي يخالها ادخل في صلب عقيدة الإسلام من أن تنسب إلى الزهاد والمتقشفين، فله رسالة مشهورة في هذا الباب ضمن كتابه رسائل التعليقات ، لقي جراءها من الحيف والكنود ما يضطر غيره للتراجع والنكوص، لولا أن تصدى لشانئيه وعدائه الألداء بمقارعتهم رأياً برأي وحجة بمثلها، فضلاً عن أن له منجزاً ثقافياً رصيناً هو كتاب ( الشخصية المحمدية ) الذي لم يطلع عليه أو يتداوله إلا قلة من ذوي الاختصاص وباستعارة نسخته المخطوطة من مكتبة المجمع العلمي العراقي*، وعلى غراره عهد عن الشيخ محمد رضا الشبيبي اشتغاله بالفلسفة في طور من حياته، فأودع حصيلة معرفته بكتاب عنوانه ( تراثنا الفلسفي ) وهو مطبوع متداول منذ عام 1965 م ، وكلا الشاعرين المجليين الرصافي والشبيبي لا يصح درجهما وعدهما من الفلاسفة المتفرغين إنما هما من الأدباء الهواة للفلسفة والمؤثرين أن يزدان شعرهما بشيء من الفكر والتأمل لا أن يشتمل على المعاني السطحية القريبة والألفاظ الخلابة .
قلت كان حرياً بالدكتور عبد الستار الراوي أن يولي هذا المنحى من اهتمامات الرصافي فضلاً من عنايته الكريمة، أسوة بصنوه جميل صدقي الزهاوي، وانجازيه الرائعين الفجر الصادق والمجمل مما أرى على تباعد المسافة بين زمني تأليفهما، وبرغم اعترافه بكتابته للأول منهما مداراة لهوى السلطان عبد الحميد وإعلانه ندامته على فرقه وخشيته من استبداده وتجبره بعد زوال حكمه، وكانت جهارته في الرد على منكري التوسل بالكرامات والخوارق من الوهابية، واستفاضته في الدعاء للسلطان وعده طاعته من الواجبات الدينية، تنقل لنا صورة قاتمة عن بلبلته واهتزازه واضطراب فكره، وعجزه عن التفريق والتمييز بين ما يقبل من الأفكار أو يرفض عقلاً وسط ذلك الخلط الشنيع أو الجمع بين المتضادات والنقائض.
وبعد فهذه مداخلة أو تعقيب على أهم ما احتوى عليه كتاب ملامح من المشهد الفلسفي في العراق الصادر عن بيت الحكمة والذي تضمن انظاراً وآراء أصيلة أخرى آمل أن يتسع الوقت لتناولها وتمحيصها.
* طبع كاملا في برلين مؤخرا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات