الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السينما الممسرحة والمسرح المؤفلم

جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)

2017 / 6 / 18
الادب والفن


السينما الممسرحة والمسرح المؤفلم
د. جواد بشارة
كان الشغف الأول في طفولتنا البائسة والجميلة في نفس الوقت، هو السينما. كنا نشاهد فيلمين أو ثلاثة كل أسبوع حسب إيقاع تغيير عناوين العروض في صالات السينما المتوفرة في المدينة آنذاك، في سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وكان المسرح يقتصر على بعض الفنانين المبدعين في مدينتي ممن درسوا المسرح على أصوله العلمية وتخرجوا من معهد الفنون الجميلة قسم المسرح، وكنت أهتم به نظرياً وثقافياً من خلال القراءة والإطلاع على تاريخ المسرح ونظرياته وجمالياته ومدارس الإخراج فيه وعن عباقرة التمثيل في المسرح العراقي والعربي والعالمي. لغاية عام 1965 لم أشاهد مسرحية واحدة في صالة مسرح حقيقية ، فقط ما يعرضه التلفزيون من مسرحيات مصرية أغلبها كوميدية لنجوم المسرح والسينما المصريين، وبعض المسرحيات العراقية الجادة بما فيها الكثير من التراجيديا والكوميدياً على حد سواء. لم يكن أمامنا ، إذا أردنا أن نمارس مهنة الفن الدراماتيكي، سوى المسرح ومن ثم الإذاعة والتلفزيون فلم تكن هناك سينما عراقية نشطة ووفيرة الإنتاج على غرار ما يحدث في مصر هوليود الشرق كما كانوا يسمونها آنذاك. وهناك طريق واحد لاغيرها لسبر أغوار هذا العالم المدهش والولوج إلى عالم الإحتراف فيه، ألا وهو الانتساب إلى معهد الفنون الجميلة أو أكاديمية الفنون الجميلة عبر المرور باختبارات صعبة وجادة لاختيار الموهوبين الذين يستحقون مقاعدهم الدراسية، فالجدية والأصالة والموهبة والمعرفة الأولية هي المعايير المطلوبة للقبول والتخصص . وفي بداية السبعينات أفتتح قسم متواضع للسينما في معهد الفنون الجميلة ودخل فيه كوكبة من الشباب المثقف والمندفع والطموح وأغلبهم أصبح من اقرب وأعز أصدقائي فيما بعد، وذلك على يد كوكبة من السينمائيين الشباب آنذاك ممن عادوا من دراساتهم في الخارج لفن السينما في معاهد مرموقة كمعهد الدولة للسينما في موسكو " الفغيك" مثل عباس الشلاه وعزيز حداد وعبد الهادي الراوي وطارق عبد الكريم وعبد الوهاب الدايني وجعفر علي حميد محمد جواد . كنت منعزلاً في عشقي للسينما التي ألتهمت كل ما وقع بين يدي عنها وشاهدت كل ماعرض منها على شاشاتنا الفضية وفي التلفزيون وفي المراكز الثقافية الأجنبية، الفرنسية والبريطانية والألمانية. وبعد إطلاعي الواسع وثقافتي السينمائية المتينة ولم أكن قد تعديت العشرين من عمري بعد أن تعرفت على تاريخ السينما العالمية وجمالياتها ومدارسها الفنية والإخراجية واللغة السينمائية وكبار المخرجين العالميين وأهم الأفلام التي تشكل آثاراً فنية لاجدال فيها، قررت أن أرحل إلى أرض السينما الحقيقية وعاصمتها الخالدة باريس، لدراسة هذا الفن والتخصص فيه أكاديمياً، رغم فقري وأمية والدي ومعارضتي للنظام السياسي القائم آنذاك، أي كنت محروماً من أية فرصة للحصول على زمالة دراسة أو بعثة دراسية على حساب الدولة، و لا إمكانية الاعتماد على تمويل الأهل لتكاليف دراستي للسينما والتي هي بنظرهم عار وفضيحة أخلاقية، ومع ذلك غامرت ورحلت لمقابلة جان ميتري الذي سبق لي أن أرسلت له نصاً عن فيلمه التجريبي باسفيك 231 ونصاً تحليلياً لفيلم هيروشيما حبيبتي بالانجليزية بالطبع لأني لم أكن أعرف الفرنسية بعد. وكان معلمي وأبي الروحي الذي قادني ووجهني وأشرف على أطروحتي جان ميتري المؤرخ والمنظر والأستاذ الجامعي ومؤسس المعهد العالي للدراسات السينمائية الإيديك للدراسات التقنية والمهنية في مختلف الاختصاصات السينمائية، وقسم السينما في جامعة باريس للدراسات النظرية العليا في جماليات السينما ولغتها، وعلاقتها بالفنون الأخرى، لا سيما بالمسرح والفن التشكيلي والموسيقى والتصوير الفوتوغرافي وعلم النفس، وتبيان أوجه التداخل والتفاعل المشترك بينهم، هو الذي احتضنني ورعاني ووجهني. وأتذكر مقولته المؤثرة المحفورة في ذاكرتي :" يابني لاتقتحم السينما ولا المسرح قبل أن تكتشف شكسبير وتقرأه بإمعان وتعمق فهو الجسر الواصل بين العالمين ، فهو ليس فقط مصدر نصوص للإعداد السينمائي لمسرحياته فحسب، بل هو مصدر إلهام جمالي لازم وحتمي لبنية الحلم البشري، وما عليك سوى التعرف على جان كوكتو ومارسيل بانيول وساشا غيتري وروجيه بلانشون وآريان منوشكين وأنطونين آرتو وأرسون ويلز وغيرهم فهم فرسان هذين الفنين. فهناك المسرح المصور سينمائياً والمسرح المؤفلم أي المعد فيلمياً وهناك الأفلام التي حولت إلى مسرحيات والسينما الممسرحة أو الأفلام التي تتبع الصيغ المسرحية في العرض والتمثيل، وسوف تكتشف كل ذلك وتتعرف عليه من خلالهم وأفلامهم ومسرحياتهم وعروضهم الفنية أي سوف تكتشف السحر المصور أي سعيهم للشعر السينمائي".
أصابني الذهول وأنا اسمع كلام أستاذي ولم أكن قد إتقنت اللغة الفرنسية بعد فكان يحدثني ويعيد ترجمة ما يقوله بانتظام إلى الإنجليزية. فالسينما ترسم الناس كما هم في حين يصيغهم المسرح كما يجب أن يكونوا عليه. تعلمت كذلك أن لافائدة تجنى من مقارنة السينما بالمسرح أو المفاضلة بينهما فالنتيجة دائماً زائفة ومفتعلة فقبل أن نقوم بذلك علينا أن نعرف عن أي سينما نتحدث وأي مسرح نقصد. فأغلب منظري السينما يمتلكون نظرة أحادية مسبقة وصنمية جامدة عندما يتحدثون عن المسرحة دون أن يعيشوا المسرح على حقيقته ومتعته المتجددة في كل مساء حيث يأخذ العرض حلة أخرى جديدة، فهو حي ومتحرك ومتعدد كما هي السينما. فالمسرح أثر على السينما وأثراها ورفدها بمبدعين خلدهم التاريخ، والسينما لم تنافس المسرح أو تنهيه فكل واحد منهما قلد الآخر وانتهل منه مفرداته ومكوناته خاصة بعد ظهور السينما الناطقة. كان العظيم آيزنشتين قد أدرك هذه العلاقة الديالكتيكية بين الفنين سيما اللقاء بين مسرح الكابوكي الياباني والمحاولات المتجددة الجريئة للمسرح الحديث عندما يتوقف في لحظة ما عن أن يكون مسرحاً محض ويغدو سينما من نوع آخر، قطعاً ليست السينما التقليدية الشعبوية التي نعرفها. هي نوع يمكننا تسميته بالــ - سين – م – سرح أو السينما المسرحية أو المسرح السينمائي، مثلما دمج العظيم الآخر آينشتين المكان والزمان في وحدة عضوية واحدة أسماها – الزمكان – فكلاهما يحتاج للمكان ومكوناته وتكويناته – ممثلين، ديكور ، إنارة، والزمان وإيقاعاته ومدته وجريانه ونقلاته ، وكلاهما يتوسل الملهاة والمأساة ، الكوميديا والتراجيديا، الدراما والميلودراما وكلاهما يخضعان لسلطان الميزانسين ــ أي الإخراج ــ والسينوغرافيا وينهلان من التاريخ ومن عالم الكتابة والكتاب .
إقتباسات:
بعض الفنانين المبدعين كانوا يشكلون حلقة الوصل بين الفنين المسرحي والسينمائي فإما أن يكونوا مسرحيين مهتمين بالسينما أو العكس سينمائيين يهتمون بالمسرح ويتابعون تطوره ونشاطاته ويتعاطون معه بطريقة أو بأخرى كالمخرج السينمائي الراحل المبدع الكبير آلان رينيه الذي كان يرتاد صالات العرض المسرحي بانتظام ويعد بعض المسرحيات للشاشة ويختار ممثليه في أفلامه من مثلي المسرح ويدربهم على العمل أمام الكاميرا السينمائية وهو أسلوب يختلف تماماً عن التمثيل على خشبة المسرح كما هو معلوم. بعض رجال المسرح المشهورين في فرنسا وفي أوروبا وأمريكا تحولوا إلى السينما وأصبحوا من السينمائيين الذين يشار لهم بالبنان مثل مارسيل بانيول وجان كوكتو وساشا غيتري وجان آنوي وأنطونين آرتو ومارسيل آشار وباتريس شيرو وبيتر بروك وبرتولد بريخيت وآنغمار برغمان.
فجان آنوي على سبيل المثال كاتب مسرحي معروف تقدم مسرحياته باستمرار على مدار العام في الكثير من المسارح الفرنسية وقد قام بنفسه بإعداد مسرحيته الشهيرة " مسافر بلا متاع" للشاشة الفضية سنة 1952 وكتب السيناريو لكن الفيلم لقي نكسة تجارية رغم مستواه الفني الرفيع وفشل فشلاً ذريعاً جماهيرياً ، كما كتب حوار فيلم كريستيان جاك " Dégourdis de la onzième سنة 1936 ، وحوار فيلم ريشار بوتييه " كارولين العزيزة" سنة 1950 ، وكان حاضراً بقوة في فيلم المخرج جان غرميون الأقدام البيضاء" سنة 1948 وكان قد كتب سيناريو وحوار فيلم مارسيل دوفيفييه " آنا كارنين ، كما أعد مسرحيته الشهيرة " بيكيت" للشاشة ومثل البطولة في الفيلم النجمان الشهير ريتشارد بيرتون وبيتر أوتول وإخراج بيتر غلينفيل . يقول الفنان العبقري الغريب الأطوار أنطونان آرتو عن السينما ، التي مثل فيها دور البطولة في فيلم " آلام جان دارك" إخراج كارل دراير، " أنها تغتال فينا الانعكاسات والتأملات" ، وكان يعشق أفلام ماكس براذر ، كما عبر صاحب مسرح القسوة بالقول أن شعر وفعالية وكفاءة المسرح التي لا تنفذ و لا تستهلك بسرعة و لا تستنفذ لأنها تتقبل الفعل المتحرك المنفعل والفارض لنفسه ولا يعيد تكرار نفسه مطلقاً ، المسرح بمثابة آلة علاج الوخز بالأبر الصينية للروح البشرية فهو، أي المسرح، لايستسلم للسرد لكي يتدخل في صميم اللحظة المسرحية لكي يفجرها ويبعثرها كما هي الرمانة الناضجة ، في حين أن السينما لا تتدخل على هذه الشاكلة بل تتكشف فحسب ". لا يوجد من وجهة نظر صاحب المسرح وقرينه، فيلم يكون مصدراً للنار أو الطاعون الذي يحلم به آرتو كما عبر عنه في نظريته عن مسرح القسوة . وكلنا يتذكر الجدل الذي أثاره في أوساط اليسار الثر الفني الملتزم الذي قدمه فيرناردو سولاناس تحت عنوان" ساعة الأفران" والاستخدام العنيد للاقتباس الأحادي لــ " المتفرج الجبان" و لا يمكنه مس المعنيين المتماهين مع الممثلين ويوجهون انتقامهم لشخص ثالث كأن يكون جاراً أو أحد المارة، ويقيمون للشهداء نصباً متخيلاً أو خيالياً كما هو الحال مع تجشؤات غودار الذي يتمتع بتمسيح أو تملق متفرجين زبائن متواطئين مسبقاً أو مشاركة عملاء مكسوبين سلفاً . ومهما كانت صيغ آرتو خصبة في إطار مقاربات جديدة لتقنيات الإخراج فإن صيغ آرتو كالتداخلات غير المبرهنة التي تحمل شكوى مماثلة من عدم القدرة على الهروب من دائرة ضيقة من الهواة فلا يمكن للأبوكاليبس ـ أو نهاية العالم ـ أن ينقسم على نفسه أو ينشطر لأنه ذو مصير واحد مشترك للجميع.
صموئيل بيكيت كان فنان وكاتب مسرح بامتياز لكنه مع ذلك لم يفلت من مصيدة السينما فلقد تمت أفلمة مسرحيته في إنتظار غودو الشهيرة ومسرحية " كوميديا" حيث حولها المنتج والموزع والمخرج التجريبي ماران كارميتز إلى فيلم روائي متوسط الطول مكتفياً بنصب كاميرا سينمائية أمام الممثلين المدفونين في جرار حجرية ولا نرى سوى رؤوسهم . وبيكيت هو مخرج الأثر السينمائي الوحيد في حياته تحت عنوان " فيلم" والذي كان بمثابة آخر ظهور للمثل الشهير باستر كيتون. وهو فيلم سينمائي قصير وصامت. حيث صور بيكيت وجه باستر كيتون الشاحب الخرب والمثير للشفقة في فضاء أو مكان فارغ مقفر ومهجور في نيويورك ، قبل أن يتوفى الممثل بفترة قصيرة . كما صورت مسرحيات بيكيت مثل " آه ايتها الأيام الجميلة " . أما المخرج السينمائي الفرنسي مارسيل بلووال فقد حقق عملاً سينمائياً أصيلاً عن نص لبيكيت بعنوان " كل هؤلاء الذين يسقطون" سنة 1957.
وعلى عكس ذلك كان المخرج السينمائي السويدي آنغمار بيرغمان، فهو سينمائي محض لكنه يعشق المسرح وقام بإخراج عدة مسرحيات وأخرج أوبرا موزارت " الناي السحري" سينمائياً وفي داخل الفيلم هناك إخراج لمسرحية أو استعمالات لمشاهد مسرحية . وهناك فضاءات مصغرة أو نماذج مصغرة لماكيتات مسرحية في فيلم " ساعة الذئب" أستخدمت كمكان لاستعادة الطفولة ، مسرح الظل والضوء وهو عبارة عن تداخل للتواصل الشمولي ورحلات الذات المنطوية . وغالباً ما يشير آنغمار برغمان في أفلامه لممثل المسرح المأخوذ على انفراد أو كعضو في فرقة . وكان فيلم " الختم السابع" بمثابة إشارة مهووسة تقريباً للإمساك بهذا العالم على حافة الكون للحد من قساوته بما هو مليء بالمرض والجنون والوحدة والموت الشفافية في صورة القطع المكافيء واستعادة الصفاء في فضاء اللعب. وهي الصورة المثالية التي تخيم على هذه المحاكاة التي ينزلق فيها الممثلون في فيلم " ٌالشعيرة Rite" في سجن التبعية المتبادلة وفضاعة الشعور بالذنب التي لا يمكن طردها كما يطرد الشيطان في التعويذة، إلا من خلال ممارسته وتطبيقاته الإخراجية ومنهجيته الملموسة في أفلام " المرآة" و " برسونا" وإحكام الارتباط الصريح والجلي بين الكوميديا والمرض وانفصام الشخصية "الشكيزوفرينيا" وهي ممارسة صعبة ومعقدة تقع على عاتق الممثل البيرغماني وفي كل الأحوال المقصود من ذلك هو الممثل المسرحي تحديداً أو ممثلي المسرح كما لو أن التمثيل على الشاشة ليس سوى انحراف أو اشتقاق أو مشهد ثانوي ، أو الزمن اللاحق حيث تسجل الكاميرا التمزق الحاد أو المسيل الدقيق للدموع .
اشتهر بيرتولد بريخيت بأنه من أعظم منظري المسرح البديل والمسرح الملتزم وبنظريته في التغريب المسرحي في ألمانيا والعالم برمته. وهو من مواليد القرن التاسع عشر 1898 وتوفي في منتصف القرن العشرين 1956، أي إنه عاصر إكتشاف السينما منذ أيامها الأولى وبالتالي من غير المنطقي ألا يهتم بهذا الفن الذي يمس ويصل إلى أوسع عدد ممكن من المشاهدين وله تأثير كبير جداً على حشود هائلة من المتفرجين ، أوسع بكثير من حدود صالات العرض المسرحي الصغير والمحدودة في برلين التي تعرض فيها مسرحياته وهناك قصص متداولة عن ارتباطاته بصناعة السينما وعلاقته بأساطينها وسيناريوهاته غير المنفذة وما واجهته من احتقار وإهمال بسبب طروحاتها السياسية الملتزمة. في عام 1928 كان نجاح نصه " أوبرا القروش الأربعة قد لفت أنظار منتجي شركة نيرو فيلم. وسبق لبرتولد بريخت أن كتب أو ساهم في كتابة عشرات السيناريوهات التي لم تخرج للسينما ولم يفلح هو بإخراج أي منها مثل "صاقل الجوهرة"، و" والدة بحارة العالم" و " الأم " وغيرها. إلا أن أبورا القروش الأربعة قد وفرت له أول فرصة حقيقية للولوج إلى عالم السينما وقد أعرب عن ذلك أصحاب شركة الإنتاج نيرو فيلم بالقول" وجدنا في هذا المشروع فرصة لكسب المال وصنع فيلم جيد في نفس الوقت". ولقد أعطي لبريخت في العقد الموقع معه حق التدخل وإلقاء نظرة على عملية الإعداد السينمائي لنصه المسرحي الذي كلف هو للقيام به نظراً لما يحتويه من مضامين سياسية.إلا أن هذا العمل لم يعجب شركة الإنتاج التي ألغت العقد معه مما دفع بريخت لإقامة دعوة قضائية ضد الشركة وربح المنتج الدعوة لكن القضية أحدثت ضجة كبيرة في الأوساط الفنية وحاول بريخت نقل الموضوع للنقاش العام وإشراك الجماهير وتوسيع النقد ليطال طبيعة الإنتاج الرأسمالي الضخم ونظام النجوم ونقد المؤسسة الصناعية السينمائية برمتها والتركيز على حقوق المؤلف . تلقى فيلم المخرج بابست الانتقادات والهجمات السياسية وامتصها باسم الحنين إلى أساليب الماضي في معالجة المواضيع وتقديم المجرمين على نحو مثالي، مع الاحتفاظ بالقيمة الفنية العالية للمعالجة السينمائية والنوعية الراقية في لغته الإخراجية وهو إعداد حر عن نص بريختي . في عام 1931 صور المخرج سلاتان دوداو فيلم " بطون مثلجة " عن سيناريو لبرتولد بريخت حيث تدفع مأساة البطالة عاملاً شاباً للانتحار وعائلته المطرودة من مسكنها بالقرب من برلين لتعيش في مخيم بائس من القماش ومن خلاله يعرض بريخت دعاية الحزب الشيوعي الألماني ودحضه وإدانته للفقر ودعوته للعدالة الاجتماعية والتضامن المجتمعي والمدعوم بالأغنية السياسية النضالية التحريضية التي أداها هانس آيسلر للمزيد من التأثير النفسي على المتلقي، ولقد منعت الرقابة عرض الفيلم خوفاً من محتواه السياسي . وهذا هو الفيلم الوحيد الذي نال رضا وموافقة بريخت خلال منفاه السياسي في أمريكا لكنه لم يتوج بالنجاح الجماهيري المأمول منه . ولم يفلح بريخت في إنجاز عشرات السيناريوهات والنصوص و والقصص التي قدمها لصناعة السينما بسبب رؤيته المسرحية الضيقة للغة السينمائية التي توسلها . لقد تعاون برتولد بريخت مع المخرج الألماني العظيم المنفي هو الآخر في أمريكا فريتز لانغ في فيلم " الجلادون يموتون أيضاً" سنة 1942 لكن التعاون توقف في مرحلة السيناريو وطلب بريخت أن يسحب أسمه من عناوين الفيلم . ولم تنجح حتى ألمانيا الديموقراطية الاشتراكية أن توفر لبريخت السبل والإمكانات اللازمة لتحويل آثاره المسرحية إلى أعمال سينمائية ناجحة ومقبولة، أي لم تساهم في خلق سينما يريختية على غرار المسرح البريختي الشهير، فالسينما عصية على التلائم والتوائم والتوافق والتأقلم مع الرؤية الجمالية البريشتية، ومفهوم التغريب المسرحي يصعب تطبيقه سينمائياً في ذلك الوقت قبل ظهور المدارس السينمائية الحديثة الجريئة التي كسرت حاجز التقمص والتماهي بين الجهور والعرض وطبقت مفهوم التغريب البريخيتي سينمائياً كما شاهدنا ذلك في أفلام غودار أحد أشهر أعمدة مدرسة الموجة الجديدة الفرنسية، وتجاوز وهم الواقع الملتصق بالسينما التقليدية. فلكي تكون بريخيتاً في السينما ينبغي أن تفهم فكره وتفكيره ومفاهيمه ورؤيته المسرحية أكثر مما هو التعرف على تجربته السينمائية الفاشلة.
المبدع المسرحي بيتر بروك نموذج آخر لهذه العلاقة المعقدة بين المسرح والسينما، وهو من مواليد 1925 وما يزال على قيد الحياة ومستمر في عطائه المسرحي المذهل خاصة ملحمة رامايانا" المهابهاراتا".قدم بروك في سن السابعة عشر فاوست لمارلو وفي سن العشرين قدم نص" الآلة الجهنمية" لكوكتو، لكنه اشتهر بمعالجاته المسرحية المتميزة لمسرحيات شكسبير "روميو وجوليت" سنة 1947 و "حساب مقابل حساب" سنة 1978 وهو من المعجبين المتيمين بأنطونان آرتو الذي سعى للكشف عن مكامن العنف الخفية مقابل العطف والرقة الإنسانية الشكسبيرية وعبر كافة تجاربه السينمائية القليلة نعثر على نفس التوتر والحدة والضغط حيث هي السمة الطاغية في عالم آرتو.
في عام 1952 كرس أول أفلامه لأوبرا المتسولين وهو نص أليزابيثي استلهم منه بريخت مسرحيته "أوبرا القروش الأربعة" ولكن بعيداً عن إشكالية المسرح المؤفلم وو أفلت من سجن نفسه داخل مفرداته الجمالية، فلقد نوع بيتر بروك مقارباته الإخراجية. وفي عام 1960 تجرأ بيتر بروك في تقديم معالجة سينمائية لنص الروائية الفرنسية مارغريت دوراس التي تحولت هي الأخرى إلى الإخراج السينمائي فيما بعد، وهو نص رواية "موديراتو كانتابيل" الجميل والصعب جداً والذي يتحدث عن لقاء عابر مع سيدة برجوازية مدمنة على الخمر مع شخص مجهول في إحدى البارات الفرنسية، وقدم فيه تجربة إخراجية سينمائية متميزة وفريدة من نوعها حتى في طريقة أداء الممثلين النجمين الفرنسيين جان مورو وجان بول بلموندو . وفي عام 1963 نقل إلى الشاشة الفضية نصاً روائياً آخر لوليام غولدين تحت عنوان" سيد الذباب" ويتحدث عن مجموعة من المراهقين الذين وجدوا أنفسهم سجناء في جزيرة معزولة ومحاولتهم خلق مجتمع بدائي ينظمون حياتهم داخله. وهو المعادل السينمائي لمسرح القسوة الذي بوسعنا تسميته سينما القسوة.
وفي سنة 1966 أخرج بروك فيلم "مارات سادو" وفي السنة التالية كرس فيلماً لحرب فيتنام تحت عنوان " اروي لي الأكاذيب" ، وفي سنة 1969 تطرق بيتر بروك لمسرح شكسبير سينمائياً مع إخراجه لفيلم " الملك لير" . ولقد غادر بيتر بروك إنجلترا نهائياً واستقر في باريس وواصل عمله المسرحي حتى يوم الناس هذ، لكنه أخرج أروع فيلم فكري في حياته وهو " لقاء مع أناس متميزين" عن نص لمعلم روحاني فرنسي متصوف هو غورجييف Gurdjieff وهو عن لقاءاته مع أقطاب الفكر الصوفي وعرض حياتهم الخارجة عن المألوف.
جان كوكتو الفنان الأسطوري الذي أبدع في كافة الميادين فهو شاعر مجدد وروائي وكاتب مسرحي ومخرج سينمائي متذوق لأساليب الإبداع السري تحت الأرض وأساليب الطليعة وطرف في الصراع والتنافس مع أقطاب السوريالية، حتى إنه ترك بصماته على جيل كامل من المخرجين الشباب في فرنسا وأوروبا، من أمثال آدولف آرييتا وبنوا جاكو وكلود ميللر وغيرهم. أثناء عرض مسرحيته " الآباء الرهيبين" اتخذ ركناً قصيا وصار يراقب كل شيء وكأنه ينظر لها من خلال عدسة كاميرا ، لذلك وافق متحمساً لإعدادها للشاشة محافظاً على نصه بالكامل دون تعديل أو حذف أو إضافة ما جعل النقاد يتهجمون عليه فرد عليهم " ماتشاهدونه لا يتعدى كونه مسرح مؤفلم وليس سينما خالصة حيث سجلت الكاميرا الثابتة تظافر المكان والزمان المسرحيين كعين شاهدة متلصصة على مشهد مغلق في دائرة مغلقة ولم تقم سوى بتضخيم الحدث سيكولوجياً من خلال التركيز على سايكولوجية الشخصيات حيث دور البطولة الأول هو للديكور". ولقد قام كوكتو بمحاولات سينمائية جريئة غدت من كلاسيكيات السينما الشعرية مثل " دم الشاعر" و" أورفيه" و "الحسناء والوحش".
مارغريت دوراس ـ وتلفظ دوار بالنطق الفرنسي ـ والتي كرست لها أطروحة دكتوراه دولة تحت عنوان " البنيات السردية في آثار مارغريت دورا السينمائية والأدبية والمسرحية"، هي مبدعة متعدد المواهب وهي شخصية فذة ومتميزة وقوية جداً في سلوكها وعلاقاتها وثقافتها الواسعة وامتلاكها لموهبة الكتابة والسيطرة على التعبير الأدبي وهي من رواد الرواية الجديدة في فرنسا ولها سينما خاصة بها معروفة بسينما دوارس التي تمزج النص بالصورة والحركة بالسكون والصمت بالضوضاء والنور بالظلام والموسيقى بالمؤثرات الصوتية. كان أول عهدها بالسينما هو كتابتها لسيناريو التحفة الفنية السينمائية " هيروشيما حبيبتي" الذي أعدته عن رواية لها بنفس العنوان للمخرج الفرنسي الكبير آلان رينيه وفيه الكثير من التجريب في أساليب الإخراج والتصوير كتحفة سينمائية من تحف مدرسة الموجة الجديدة .وهناك تجربة نص " أيام بأكملها فوق الأشجار" الذي كان في البداية قصة قصيرة ثم حولته دوراس إلى مسرحية، ومن ثم إلى فيلم سينمائي. أعدت رواية " سد ضد الباسفيك" للمسرح دون أن تغفل جمالية الإخراج السينمائي داخل المسرح، وهي تكرر في كافة أعمالها ثيمات من حياتها الشخصية عن الحب والمنفى والأم والجنس والماضي الاستعماري الفرنسي في الهند الصينية. تمكن آلان رينيه من اقتحام موهبة وعالم دوراس الأدبي ونقل المعادل السينمائي لروايتها " هيروشيما حبيبتي مما أدهشها وهي التي من الصعب أن يعجبها أو يرضيها شيء. فقد نجح في أن يسرب نصاً كاملاً وحواراً برمته في مشاهده محافظاً على نص دوراس كما هو دون أن يخلق حالة من الملل في سياق بحثه عن السينما الجديدة في نهاية خمسينات القرن الماضي. وفي فيلم " الشاحنة" كرست دوارس أسطورتها من خلال مونولغ ــ حوار مع الذات ــ أداه النجم الفرنسي جيرار ديبارديو ببراعة منقطعة النظير حيث ارتقى بقوة اللغة والكلمات والجمل الشعرية إلى حد التسامي، ولكن هل يمكننا أن نقول أن " الشاحنة" ليس سوى مسرح مؤفلم؟. سينما دوراس تحتاج لكتاب تنظيري بأكمله لفهم واحتواء وتأطير لغتها الإخراجية الفريدة والخاصة بها فمن لقطة واحد يمكننا أن نكتشف أن ما نراه هو سينما مارغريت دوراس، وسوف نكتب عن ذلك لاحقاً.
آريان منوشكين رئيسة فرقة مسرح الشمس هي إبنة منتج سينمائي مهم لكنها أمضت عشر سنوات في المسرح قبل أن تلج إلى عالم السينما في فيلمها الأول " موليير" متأثرة بالمخرج الإيطالي روسيلليني .
لورنس أوليفييه ممثل ومخرج سينمائي بريطاني اشتهر في هوليود أيضاً ومارس الإخراج والتمثيل السينمائي بكفاءة عالية واتقان مذهل. عرف عنه أنه أفضل من تعامل مع نصوص شكسبير فأخرج ومثل في "عطيل" و "الملك لير " و " هاملت" و" هنري الرابع " و " ريشار الثالث " وكذلك مثل في العشرات من الأفلام السينمائية أشهرها " سبارتاكوس" لستانلي كوبريك و " بوني ليك المفقود" و" ماراتون مان" وعشرات غيرها. لكنه يبقى من أقطاب عالم المسرح الشكسبيري وتحويله إلى السينما ومقولته الشهيرة تتردد في رؤوس متابعيه وتلامذته" عندما نحول شكسبير للسينما فلن يبق شكسبير كما هو، أي شكسبير الذي نعرفه، ولا الفيلم المأخوذ عن مسرحيته فيلما بمعنى الكلمة كغيره من الأفلام" فهناك سحر شكسبيري يحوم دوماً فوق المسرح والسينما كلما اقتربنا من النص الشكسبيري.
يقول المثل أن المسرح يبتكر الزمن والسينما توظفه. وبين صالات المسرح وصالات العرض السينمائي هناك مجانسة ولكن بدون تشابه أو تماثل بل بعض التشابه الجزئي الذي بالكاد يطفو للعيان بين الفنين فهما من حيث جوهرهما وطبيعيتهما وطريقة أو نظام الإدراك فيهما والذي يميزهما عن بعض ويوسم كلاً منهما بطابعه، يجعلهما مختلفان ومكملان بعضهما للبعض الآخر. أفضل من استوعب هذه المعادلة الصعبة بين الفنين هو المبدع الأسطوري أرسون ويلز. فهو رجل مسرح بامتياز وعملاق سينمائي لا يدانيه أحد ومجدد في كلا العالمين. فهو مدرسة بذاته. أرسون ويلز أكبر من أن يسجنه النص الشكسبيري سواء في المسرح أو السينما فهو يصمم بنية خاصة كالحلم في أي فيلم يعده عن مسرحية لشكسبير مع احترام لكلمات وجمل شكسبير كما لمسنا في " التعطش للشر " و " ماكبث" و " عطيل" و " هنري الرابع" و " فالستاف"، فالنص الشكسبيري يتكيف داخل تلافيف النسيج الحلمي الفيلمي لويلز ويتخذ قالبه وهيكيليته وتصميمه دون أن يتقولب كلياً بحدوده، وأرسون ويلز خبير بشكسبير وعالمه، فهو قادر على أن يحول نصاً بوليسياً مبتذلاً إلى إبداع ذو جاذبية شكسبيرية. يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي