الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الماء بالجنوب الشرقي المغربي بين التقدير والتدبير

لحسن ايت الفقيه
(Ait -elfakih Lahcen)

2017 / 6 / 21
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر


يشكل الماء بمنطقة تافيلالت الكبرى أكثر من سائل طبيعي، لأنه لا يتوقف عند علاقته بكل شيء حي، بل يتجاوز الوظيفة ليقتحم عالم الميتافيزيقا ويحتل مكانه فيه، ويظهر في كثير من المواقع كأنه رسول الناس إلى العالم الماورائي، قد ينبتق في المزارات المائية، الحامات (حامات إمغي) والبحيرات (بحيرة تيزليت) والعيون (عين تيفيكرة) وقد يعين 5يظهر) في السحاب المزين بقوس قزح المعروفة بعروس المطر. ولأن لجريان الماء وقعا على سطح الأرض، إن لم نقل إنه واحد من عوامل المورفوتشكال، فقد اتخذ أساس لمعلمة المجال بمنطقة تافيلالت الكبرى واعتبر منذ عهد الحماية الفرنسية كمعيار للتقطيع الإداري. وحسبنا أن مقسمات الماء بين الأنهار الثلاثة، غريس، زيز، كير، حدود بين الدوائر الإدارية أو الجماعات المحلية أو الأقاليم الإدارية نفسها. ولم تبدع فرنسا في عهد حماية المغرب في ذلك، فالمغاربة كانوا منذ القديم يتخذون المجاري المائية حدودا فاصلة بين الممالك الأمازيغية حيث ذكر المؤرخ اللاتيني سالوست أن واد ملوشة (ملوية) حد فاصل بين مملكتي بوكوس ويوغورطة. وكان الماء قبل عصر التقطيعات الإدارية الحديثة والفلسفة المجالية والجهوية الموسعة يتخذ لباسا إثنوغرافيا، وعلى سبيل المثال أصبح واد حيبر يحمل اسم واد أيت عيسى بعد وصول هذه القبيلة إلى حوض كير،قبل أربعة قرون بالتقديرولواد زيز رافد ينسب إلى أيت يحيى بشرق دائرة إملشيل. وللعيون كذلك غلاف إثنوغرافي مثل أغبالو نايت سخمان (تعني أغبالو عين) شمال إملشيل. ونسجل أن معظم العيون بمنطقة تافيلالت، أو في جميع أنحاء المغرب، تنسب إلى الحيوان أو النبات، كنحو عين إمصكي (عين مسكي) [إمصكيو بالأمازيغية نوع من الشجر]، وعين تيفيكرة، وأغبالو ن تسردان (عين البغال بالأمازيغية)، وعين لحنوش (عين الأفاعي بالأمازيغية)، وعين الذياب (عين الذئاب)، وتيط أورماس (عين منسوبة إلى نبتة ملحية)، وأمان إليلا (ماء الدفلى) بالأمازيغية.

وللماء أيضا بعد وظيفي حيث اتخذته قبيلة أيت يزدگ معيارا للتوزيع العشائري للأرض.
وقبل ظهور الساعة الميكانيكية، كان الماء الموظف في الزراعة المسقية بواسطة السواقي أو المواجل يقسم في أيام الشح اعتمادا على حركة الشمس الظاهرية، من غروب الشمس إلى طلوعها، ومن الفجر إلى الضحى، ومن الضحى إلى الزوال، ومنه إلى العصر أو الغروب. ولضبط الفترة الزمانية يلجأ السكان إلى قياس ظلهم بواسطة أقدامهم، ويتباين عدد الأقدام المطلوبة في قياس الزوال، من خلال ظل قامة الإنسان، من شهر إلى آخر. ولضبط القياس حسب شهور السنة نظم الشعراء قصائد شعرية للغاية تحفظ عن ظهر قلب. وأما ماء المواجل (الصهاريج) فيوزع كيفا كماء السواقي وفق قياس الزمان قبل ظهور الساعة الميكانيكية، ويوزع كمّا بقياس عمق الماء في الماجل (الصهريج) بأعمدة من القصب لقياس العمق، يختلف طولها حسب اختلاف الماء المخصص لكل عشيرة، علما أن كمية الماء تتناسب والمساحة الزراعية الخاصة بالعشيرة. وتشكل المساحة الزراعية المسقية أساسا لتحديد عدد العمال المطلوبين لإصلاح السواقي وقنوات الري المختلفة والأشغال الجماعية للقبيلة.
وحضر الماء في أعراف الكثير من القبائل والعشائر. لذلك فهو مضمن في الوثائق العرفية وعقود البيع والشراء والإرث، ومحاضر الصلح، وإصلاح ذات البين بين الأشخاص والقبائل. ولا يزال الماء سببا لكثير من التوتر والنزاع بمنطقة تافيلالت.
وفي عهد استقلال المغرب بدأ القانون الوضعي يصطدم بالعرف وعجزت المحاكم عن حل النزاع حول الماء للاختلاف المرجعي بين المحكمة ومؤسسة القبيلة. ولقد عرف وضع الماء هدوءا طيلة سنوات الجفاف التي دامت لأكثر من عقدين من الزمان. ولما تغير المناخ وباتت المنطقة تشهد أمطارا طوفانية نتج عنها انجراف التربة واندراس القرى بأكملها (بوذنيب) ونسف الرياح نسفا كاملا لأشجار باسقة بمنطقة الريش، بات التفكير في مواجهة الكوارث الطبيعية وفي معالجة التوتر الذي خلفه ارتفاع منسوب الماء بسد الحسن الداخل، يعد واحدا من الأولويات.
ومن المفيد الوقوف عند بعض الفصول الثقافية والمحطات المخصصة للتفكير حول الماء منذ ثلاث سنوات، دون إغفال أهوال الماء بالجنوب الشرقي المغربي في أواخر سنة 2008 .
1- التبرك بالماء بين الوثنية الأمازيغية واليهودية
يشكل الماء في الثقافة الصنهاجية بالجنوب الشرقي المغربي رمزا مقدرا لا مثيل له. ويظهر أن اليهودية الأمازيغية هي التي أعطت هذا العنصر المكانة الرمزية الثقافية التي هي عليها الآن في بعض الهوامش التي لا تزال تحافظ على المعتقدات القديمة. والمقصود باليهودية الأمازيغية خليط ثقافي متجانس مكون من بقايا الوثنية الأمازيغة والديانة اليهودية بما هي أولى الديانات التي وصلت الجنوب الشرقي المغربي عن طريق الهجرة اليهودية ابتداء من القرن العاشر قبل الميلاد والتي أسست مملكة تزروت التي أضحت في زمان يصعب تحديده تحمل اسم تزاگورت (زاگورة). ومن واد الزيتون الذي يسمى حاليا واد درعة انتقل اليهود إلى سجلماسة ومنها انتقلوا إلى أعالي زيز ابتداء من القرن الخامس الميلادي حسب تقدير بعض الدارسين. وباختصار، فأينما حل اليهود الذين تمزَّغوا، ولا نقول الأمازيغ الذين تهودوا، كي لا نجر سجالا يصعب الخروج منه بسهولة، بفعل ندرة المادة التاريخية المصدرية، تظهر المزارات المائية. فاليهود وجدوا أمامهم معتقدات أمازيغية، فكان لزاما عليهم العمل على تكييفها والمعتقد الجديد الذي حملته هذه الديانة. وتجدر الإشارة، إلى أن اليهود تشبعوا بالثقافة الأمازيغية يوم إقامتهم في مصر. وهناك مصطلحات أمازيغية دخلت قاموس العبادات في ديانات التوحيد مثل الصلاة على سبيل المثال أو (تزاليت) بالأمازيغية والتي لها ارتباط ب (أزال) [بزاي أمازيغية رقيقة]، أي: أشعة الشمس الحرارية. والصلاة عند الأمازيغ القدماء تقام وقوفا في الزوال تقديرا للشمس. وتعني الصلاة في اللغة العربية الدعاء كما في الأمازيغية، وكانت في أول الأمر تقام وقوفا ثم تعدلت في سنن ديانات التوحيد. ولا يفيدنا الاسترسال كثيرا في المفاهيم والمصطلحات التي انتقلت من شمال أفريقيا إلى مصر الفرعونية لتؤثر على المسيحية واليهودية التي يشكل الإسلام تركيبا لهما وتصحيحا وتعديلا. ويعنينا أن اليهود وجدوا أمامهم الأمازيغ يعبدون إله أمون إله الماء والخصوبة ويعتبرونه رمز الوحدة (تمونت) ويستعطفونه في صلاة الاستسقاء ( الثلغنجا ) التي لا تزال تقام وقوفا. والهدف من طقس (التلغنجا) التحرش جنسيا بالإله أمون بواسطة تمثال امرأة (الثلغنجا) ينصب في رأس قصبة فيدركه إله أمون فيصيح عدة صيحات قوية معبر عنها بقصف ولمعان البرق. وفي كثير من الأحيان تتم العملية في هدوء تام. وفي جميع الأحوال تظهر (الثلغنجا) في السماء على شكل عروس مزينة تسمى بالأمازيغية (تيسليت أونزار) أو عروس المطر وهي قوس قزح المعروف. أنزل اليهود التبرك بالماء من السماء إلى الأرض، لأن اليهودية تميل دواما إلى إعطاء الطابع الدنيوي للدين. وقد قام القياس في غالب الظن على سيرة النبي موسى التي ارتبطت كثيرا بالماء. وكلنا يعلم أن أمه قذفته في اليم (واد النيل )، كما في الكتب المقدسة، فألقاه اليم بالساحل ليأخده فرعون، يعتقد أنه أخناتون. وتتكون كلمة موسى من مقطعين اثنين : (مو) تعني الماء و(شي) تفيد الشجر. وللنبي موسى علاقة بالماء في صراعه مع فرعون مصر (أخناتون) الذي قتل غرقا بينما نجا موسى وقومه من اليهود. وللنبي المذكور كذلك علاقة بالينابع والعيون. ولذلك كله نلمس الاحتفالات بالعاشر من محرم استذكارا لنجاة اليهود من بطش فرعون، يبرز ذلك التذكر في ركن ممارسة الرش بالماء. ونلمس أيضا التبرك بالماء في كثير من العيون بالجنوب الشرقي المغربي، بحيرة تيزليت، عين تيفيكرة، حامات مولاي هاشم، حامات إمغي، التي نسبها أحد رجال السلطة سنة 1984 إلى مولاي علي الشريف، وعين موغل قرب بني تجيت. وللعيون علاقة بكرامات بعض الأولياء الذين لهم ارتباط بقبائل صنهاجة التي حلت بالجنوب الشرقي المغربي في وقت متأخر لتحمل الموروث الثقافي القديم المركب من العنصر اليهودي والوثني. ومن العيون المرتبطة بالخصوبة عين مسكي إو (إمصكيو)، وهو نوع من الشجر الصحراوي، وللكلمة اتصال ب (إمزكي)، لأن الزاي أصل حرفي السين والصاد في الأمازيغية. وإمزكي اسم الفاعل من (توزكت) أي در الحليب، وهو مصطلح الخصوبة، يطلق على واحة مزكيطة (إمزكي) بحوض درعة. ونشير أن بواد غريس قرية (تيمزكيت) المرتبطة بالخصوبة. وللخصوبة علاقة مباشرة بإله أمون. وهناك بإملشيل قرية ألمغو التي تعني مرعى اللبن [ألمو ن أوغو]. وباختصار، أضحى المركب الثقافي اليهودي الأمازيغي والوثني مفيدا للاعتراف بأن بالوسط الذي نعيش فيه يعطي الطبيعة تقديرا فائقا ماءها ومرعاها، وجبالها، وصخورها وشجرها. فهيا بنا إلى استثمار الموروث الثقافي لإنقاذ المحيط البيئي.

- 2الماء والمجال في الثقافة الصنهاجية بالجنوب الشرقي المغربي

تتدخل في تحديد المجال بمنطقة تافيلالت مجموعة من العناصر الثقافية ذات جذور قديمة، لاتينية وفينيقية، ولليهودية الأمازيغية دور غير منكور في ترسيخ ثقافة التحصين في معظم المجالات المعمرة في الجنوب الشرقي المغربي. ودون تفصيل القول في الرموز من حيث جذورها وأصولها، نكتفي بالنظر للمجال الوظيفي، بما هو إطار للحياة السوسيو اقتصادية، تحت مؤثرات ثقافية تستدعي التفسير والتحليل. إن حضور اللباس الثقافي والإثنوثقافي في كثير من النقط العمرانية المنعزلة يساعد على فهم الكثير من الصراعات حول المجال والتي لا تفتأ تكلف السلطة كثيرا، لأنها مصدر قلق أمني مستمر. ولقد أثار اللباس الثقافي الذي يغشى مجموعة من المجالات العمرانية انتباه المستعمر الفرنسي، لذلك كلف الماريشال ليوطي أكثر الضباط استنارة للمداومة على التدوين والتوثيق وإرسال تقارير دورية منتظمة إلى مقر الإقامة العامة. ولمجهودات المستشرقين دور مهم في الكشف عن أسس الروابط القوية بين الإنسان والأرض والتي تفسر في الغالب صمود سكان الجنوب الشرقي المغربي أمام جيوش المحتل. ولا تزال الرموز الثقافية المقدرة مصدر الكثير من الحركات الاحتجاجية بجبال إقليم الرشيدية. وللأسف، بدأت القيم الثقافية المرتبطة بالمجال تتعرض للاستئصال باسم الاستثمار وباسم المحاكم المدنية التي حلت محلت المحاكم العرفية التي أنشأها المستعمر بناء على دراسات مستفيضة. ولا يحمل هذا الخطاب شيئا من الدفاع عن القيم القديم في وسط قروي يخضع، عن إكراه، لتحولات سريعة ناتجة في معظمها عن التدهور البيئي. إن ما تفرضه الضرورة، الإحاطة بتلك القيم باعتبارها تراثا ثقافيا مغربيا مهددا بالزوال بفعل الإهمال. ولا نشك أن هناك قيما ثقافية مرتبطة بالمجال يمكن أن تساهم في التحسيس في أفق إنقاذ المحيط من التدهور البيئي. ويعد الماء واحدا من الرموز التي تتأسس عليها الثقافة المجالية.
تتقاطع الثقافة الأمازيغية والصابئة في تقدير الماء. ولا غرو، فالماء عنصر أساسي في تحديد المجالات الوظيفية في كل البلاد الممتدة من غرب النيل إلى المحيط الأطلنطي. وفي إقليم الرشيدية يستغل الماء أحس استغلال في الفصل بين المجالات الوظيفية وتحديدها. ولقد استغل المستعمر الفرنسي الماء في التقطيع الإداري. فاعتمد على مقسمات الماء والمنحدرات والمجاري لكنه أهمل مفاهيم أخرى ذات أهمية.
يتناسب التحديد الإداري في غالب الأحيان وتوزيع الماء في المجال. والناظر في الخرائط التي تمثل المجال في منابع الأنهار بالجنوب الشرقي المغربي يلمس تناسبا وتوافقا بين المجالات الهيدورولوجية والوحدات الإدارية، الدوائر الإدارية، الملحقات، الجماعات المحلية القروية، مما يفيد قيام التقطيع الإداري على أساس الماء أو بالأحرى نظرة القبائل إلى الماء باعتباره سائلا حيويا مقدرا متبركا به. ومن بين العناصر التي توظف كحدود بين العشائر والقبائل نجد مقسمات الماء. فمنها ما يفصل إقليم الرشيدية عن الأقاليم المجاورة، خنيفرة وبولمان وفيجيج وورزازات على سبيل الحصر، ومنها ما يفصل بين الجماعات المحلية القروية والدوائر الإدارية. ويغلب على الظن أن الثقافة المجالية بدأت تتعمق بالجنوب الشرقي المغربي بعد وصول الوفود الأولى من صنهاجة ابتداء من القرن السابع عشر. وللتذكير فإن ( زناگة) بفيجيج أكثر تشبثا بتنظيم الماء عن غيرها من (زناكة) تافيلالت والأطلس الكبير الشرقي. وتعد أيت يزدك أكثر قبائل صنهاجة توظيفا للماء بجبال إقليم الرشيدية. ويظهر أنها أول من وظف ماء السقي في تحديد المجال الزراعي التابع للقرية المحصنة. ويقوم التحديد اليزدگي للمجال الزراعي على علاقة الماء بالمنحدر وبالملكية الزراعية للعشيرة أو العشائر التي تقطن القرية. فكل ما تغمره مياه ساقية قرية ما بالفعل، الشريط المحروث الأخضر، أو بالتقدير، أراض يمكن حرثها لو ارتفع منسوب مياه الساقية، يصبح ملكا لتلك القرية. وبعبارة أخرى، فالمجال الزراعي المسقي قسمان، المجال المحروث فعلا والمجال الممكن حرثه بالمقياس الطوبوغرافي، أي أن طبيعة الانحدار تسمح بتمديد الساقية في المجال غير المحروث ( إسوان بالأمازيغية) لو سمحت كمية الماء بذلك. ويطلق على المياه في علاقتها بالانحدار (أزايزAzaiz ) والتي تنطق اختصارا زيز(Ziz). ويتميز واد زيز بشدة الانحدار في المنطقة الجبلية شمال إقليم الرشيدية. ويغلب على الظن أن كلمة زيز ظهرت مع وصول الوفود الصنهاجية الأولى النطاق الجبلي الممتد شرق بحيرة تيزليت. وللتذكير فقط، كانت تطلق زيز على الشريط الزراعي الواقع غرب مركز الريش حيث يسود نظام ملكية الأرض وفق انتشار مياه السقي في المجال المسقي أو الممكن سقيه كما سبقت الإشارة. وعلى سبيل المثال فقط فإن المجال الوظيفي لقرية أيت موسى وعلي غرب مركز الريش يمتد على مسافة 15 كيلومتر تقريبا تناسبا والمنبسط الذي يمكن أن تغطيه مياه ساقيتها. ويتناسب مصطلح زيز مع مصطلح تافيلالت أو( تافيلاليت ) بالأمازيغية، أي: الجرة الضخمة. ف(تافيلاليت) تعني السهل المنبسط الذي تغمره مياه الواد بالفعل أو بالتقدير. ويظهر التناسب بين الكلمتين، زيز وتافيلالت، في كون الأولى مرتبطة بالماء لما يغمر المجال بالفعل أو بالتقدير، فهي تفيد، أيضا، الوسعة والرحابة، والثانية مرتبطة بالأرض التي يسمح لها مستواها الطوبوغرافي المنخفض بالاستفادة من مياه الواد بالفعل أو التقدير. ومما يميز تافيلالت عن زيز الاتساع والانبساط أو باختصار تطلق زيز على المجرى المائي في علاقته بالأرض وتطلق تافيلالت على الأرض السهلية في علاقتها بالواد. ولكلتا الكلمتين علاقة بالماء والمجال. وقياسا على ما ذكر يملك المغاربة حق استغلال صحراء تافيلالت من شمال مركز أرفود إلى الساحل الأفريقي لأن مياه زيز يمكن أن تغمر، على مستوى التقدير سهل تافيلالت إلى شمال دولة مالي. وتأتي المجاري المائية في الدرجة الأخيرة في الفصل بين المجالات في حال تقاطع اتجاه المجرى المائي وامتداد اتجاه التضاريس. وعلى سبيل المثال اتخذ واد تاوسارت أحد روافد واد كير حدا فاصلا بين قبيلة أيت مسروح الشرقيين وأيت مسروح الغربيين وإن شئت فهو حد بين دائرة الريش الإدارية وقيادة بوذنيب. ويفصل واد بونگارف بين جماعتي گرس تيعلالين وسيدي عياد بشمال إقليم الرشيدية ويفصل واد تايرارت بين جماعتي النزالة وسيدي حمزة. وهناك أمثلة أخرى لكنها قليلة بفعل وجود أودية مرافقة لاتجاه التضاريس لا تصلح للتحديد. وللفجاج دورها في الفصل بين النطاقات الإثنومجالية. فالفج يشكل بوابة جبلية تسترعي الانتباه لأنه ممر الماء والبشر والدواب وله ارتباط بالأمن أو الخوف. وللفجاج بالجنوب الشرقي المغربي تاريخ عريق بفعل وقوع معظمها في مسار تجارة القوافل مما يعرضها للفتن باستمرار. ولما كانت الفجاج تفصل عادة بين نطاقين مناخيين بفعل اتجاه التضاريس الجنوبي الغربي/الشمالي الشرقي فإنها حدود طبيعية بين مجالين قبليين أو بين جماعتين قرويتين أو بين إقليمين أو دائرتين إداريتين. ومن الفجاج الموظفة في التحديد (فج تيزي نتلغمت، فج زعبل، فج أمسد، فج تيسيلا، فج باب نواياد...). ويحضر الماء أيضاء في أسماء بعض الأماكن. ويظهر أن ( كير) أول مصطلح مجالي مرتبط بالماء بالجنوب الشرقي المغربي، أشار إليه المؤرخ اللاتيني بلين الأكبر حينما خص بعض الفقرات من الجزء الخامس من كتابه ( التاريخ الطبيعي ) لرحلة القائد الروماني سويتونيوس بولينوس الذي وصل حوض كير في القرن الأول الميلادي. وتعني (كير) صوت يصدر عن الماء في المنحدر. وهناك أيضا فم (غيور) حيث بني سد الحسن الداخل والذي يفيد صوت الماء القوي في منعطف نهري بالانكسار الجبلي الجنوبي الأطلسي. وهناك أعلام مرتبطة بملتقى الوديان منها(أموگر) التي تعني الملتقى و(تجرسيفت) مؤنت جرسيف التي تعني بين الويدان، وتطلق على قرية بشمال مركز الريش وهناك ( تاردة) التي تعني المغسل، وتقع بالجنوبي الغربي لمدينة الرشيدية. وفضلا عن ذلك، نجد أسماء العيون، عين الشعير، عين تيفيكرة، عين الشواطر وأسماء الشلالات، إيموزار، إجورار. وباختصار، يظهر أن الماء والمجال عنصران مترابطان يحدد أحدهما الأخر، لذلك وجب تدوين كل ما يتعلق بالماء من ثقافة وأعراف تفيد في حماية المجال من التدهور والتعبئة لحماية الوحدة الترابية المغربية.

03- الحوار الوطني حول الماء في محطته ما قبل الأخيرة بين الصحوة الديمقراطية وتكريس سياسة الميز الجغرافي بين المناطق.
ما أكثر التجمعات المستحسنة في أشكالها والمقبولة في مواضيعها المناسبة وحاجات زمانها، إلا أن الساهرين على تنظيمها يتخلفون دوما عن الركب مما يؤكد أن التنمية بالجنوب الشرقي المعربي في حاجة إلى جنودها. ومن بين التجمعات الجماهيرية التي انخرط في تنظيمها المسؤولون، تلك التي تسمى الحوار الوطني حول الماء. ولا غرو، فشأن الماء يهم الجميع وهو بحق موضوع جدير بالمناقشة، وإن شئت، فهو مجال لممارسة الديموقراطية المحلية والتنمية المستدامة. فلا يمكن الحديث عن هذا المورد الطبيعي بدون التوصية بضرورة توزيعه توزيعا عادلا على كافة المواطنين وبدون التفكير في تنمية مَنَاهِلِه وموارده، وتدبير استعماله وتجهيز قنواته وأحواض خزنه. وقبل ذلك لا يمكن مناقشة الماء بدون إشراك المجتمع المدني ومحاسبة المجتمع السياسي والأخذ بعين الاعتبار آراء كل المهتمين والمعنيين بالموضوع. إلا أن جلسات الحوار حول الماء لا تخلو من بعض الشوائب منها الاستمرار في تكريس الميز بين المناطق الجغرافية (الأحواض النهرية) في توزيع الماء أو بالأحرى في التجهيزات الهيدرولوجية مما يؤثر سلبا على الحوار ويفرغه من مضمونه الديموقراطي ويجعل التفكير في شأن الماء غير سليم. وإن المحطة ما قبل الأخيرة من الحوار الوطني حول الماء بأرفود يوم 29من مارس2007 و30 منه سنة 2007، والتي مضى عليها عشر سنوات، كشفت أن منطقة تافيلالت خير نموذج للمجال اللامتكافيء في توزيع الموارد الطبيعية والإمكانيات التنموية وعلى رأسها الماء والتجهيزات الهيدروفلاحية.
أ- الحوار الوطني حول الماء و حرمان سكان منابع الأنهار من المشاركة.
لم تكن مديرية الماء بالرشيدية وحدها المسؤولة عن اختيار المشاركين في الحوار الوطني حول الماء فلا شك أن دورها انتهى حينما عرضت اللائحة على السلطة الإقليمية لتراجعها بالتشطيب على الأشخاص غير المرغوب فيهم وإضافة آخرين تناسب مقالاتهم كل مقام. ونسجل أن سياسة الميز الجغرافي حضرت أثناء مراجعة لوائح المشاركين، حيث مثل حوض كير الأعلى بشخصين اثنين فقط، وكان نصيب زيز العالي أربعة أشخاص. ومن حسن حظ غريس العلوي أن مثل بأكثر من هذا العدد، فكانت نسبة تمثيل القسم الجبلي من إقليم الرشيدية 3 في المئة فقط، مما يكشف أن سياسة الميز الجغرافي حاضرة في مرحلة الإعداد للحوار الوطني في محطته ما قبل الأخيرة. وحسب تصريح موظف بمديرية الماء بالرشيدية كلفه رئيسه لتوزيع الوثائق على المدعووين فإن رئيس دائرة الريش هو الذي تهاون في تبليغ الدعوات إلى أصحابها و يفهم من كلامه أن السيد القائد تصرف في توزيع الدعوات بوضع علامة (غير مرغوب فيه) أمام أسماء ثلة من المقترحين للمشاركة في الحوار حول الماء بأرفود، فكانت نسبة الحضور هزيلة للغاية. ولا جناح على القائد إن كان نفذ أمرا يتناسب ومرجعيه سياسة الميز الجغرافي بجهة مكناس تافيلالت، ولا ذنب لمن يطيع ولي أمره في إدارة الداخلية. وأما بعض الفعاليات المستنيرة فغائبة في لائحة المدعووين لأن رئيس مديرية الماء يجهل وجودها ولا عذر للجاهل.
ب- الحوار حول الماء في مواقف مديرية الماء بالرشيدية
الحوار الوطني حول الماء (أرفود 29-30 مارس 2007) عنوان بلاغ صحفي جدير بالنقد لما يحويه من مواقف مديرية الماء بالرشيدية التي حررته ونشرته. فالحوار (في فضاء من صمت وندرة ماء) يكمن هدفه، حسب البلاغ المذكور، (في تقاسم واقع الحال والحلول الممكنة في ميدان الماء مع الفاعلين المحليين وتنوير الرأي العام حول التهديدات التي تحدق بالموارد المائية وبالتالي على إرث إيكولوجي هش) بالواحات. والحوار أيضا سيضع (إشكالية الماء في صلب التوازن الواحي وحماية الواحات). ويفيد الحديث عن الواحات، حسب البلاغ دائما، (إثارة إشكالية الماء) سيما وأن المجال الواحي لائق لاستخلاص مؤشرات مخيفة ما دام (الماء يشكل عنصرا مركزيا يتحكم في مستقبل هذا المجال الهش). ويقوم الموقف الرابع، المضمن في البلاغ، على سرد مختصر لتاريخ واحات تافيلالت البيئي للاستخلاص أن (التوازن بين الإنسان والطبيعة والذي بلوره المجتمع الواحي) أضحى مختلا اليوم بفعل (تضاعف عمليات ضخ المياه... الشيء الذي أدى إلى انخفاض المستوى المتوسط [للفرشة] بحوالي سبعة أمتار خلال السنوات العشرين الأخيرة). وسجل البلاغ تخوفا يفيد أن الوضع الحالي سيؤدي في حال استمراره (إلى الموت البطيء للواحات). واقترح (حسن تدبير الموارد المائية المحدودة) بالواحات. فالحوار الوطني في محطته ما قبل الأخيرة، وفي غياب ممثلي القسم الجبلي، ركز على الواحات وكرس الميز الجغرافي بينها وبين المنابع التي اختل توازنها البيئي ولم تعد تغذي الواحات جيدا. وحسبنا أن الضخ المرتفع بأعالي كير أثر بالسلب على العين الزرقاء مسكي التي تغذي واحات مدغرة. ولقد تبين كذلك أن ضعف التساقطات بالجبال هو الذي أثر سلبا على تدهور الواحات الجنوبية.
ج- الماء بتافيلالت وتأثير سياسة الميز الجغرافي
لا يمكن الحكم على تافيلالت الكبرى بأنها وحدة سوسيومجالية متجانسة بدون تحديدها هيدرولوجيا. وبعبارة أخرى، فالأحواض النهرية، زيز غريس، گير، لمعيدر، هي التي تؤطر مجال تافيلالت الطبيعي وتضفي عليه صفة الوجود. وعلى الرغم من هزال ميزانية التساقطات التي تغذي المجاري المائية ب 133ملم في المعدل و 260 ملم في المنبع وضعف واردات المياه السطحية المقدرة ب 626 مليون متر مكعب في السنة وارتفاع حجم المياه المستعملة إلى 572 مليون متر مكعب في السنة، يستعمل منها عن طريق الضخ220 مليون متر مكعب في السنة، وعن طريق الري بالسواقي 352 مليون متر مكعب، فإن الواحة في حاجة إلى إمكانيات أخرى للمقاومة من أجل البقاء. وتجدر الإشارة إلى أن مقاومة سكان الواحة لندرة الماء بحسن التدبير لن تصمد اليوم، كما كانت بالأمس، أمام التحولات الزراعية التي باتت تعتمد على استخراج كميات كبيرة من الماء في باطن الأرض في الفرشات المائية للعصر الأولي Nappes discontinues du primaire وفرشات الحوض الطباشيري Nappes du bassin crétacé والفرشات الرباعية Nappes du quatérnaire والتي بلغت نسبتها 100 في المئة في تينجداد وتافيلالت وبوذنيب. ولن تصمد أيضا أمام الإهمال الكلي لمنابع الأنهار التي تشكو من شدة التدهور البيئي بفعل الانجراف المهول للتربة بسفوح الجبال والمنحدرات الشديدة وبشواطيء الأنهار وضفافها. ونسجل أن المسؤولين بالإقليم لا يعيرون أي اهتمام لمنابع الأنهار لأن ما يسطرونه في تقاريرهم، وما هو مضمن في محاضرهم، أو كل ما هو مكتوب عندهم، أن سد الحسن الداخل يشكو من التوحل دون أن ينتبهوا إلى أن التعرية النهرية الجبلية هي مصدر الأوحال المرسبة في البحيرة الصناعية لسد الحسن الداخل، تلك الأوحال التي كانت تضمن خصوبة سهل تافيلالت في العقود الماضية أعني قبل بناء السد. ومن جانب آخر لم يقترح المخطط المديري سوى بناء سد واحد فقط بأعالي زيز قرب قرية ايت بالحسن بالتجمع القروي النزالة،حجم حقينته 1.6 مليون متر مكب من الماء في حين تم اقتراح سبعة سدود بحوض غريس وثلاثة بكير. ويستخلص من ذلك كله أن الجهات المسؤولة تبتغي أن توجه كل مياه واد زيز إلى سد الحسن الداخل لتحول لفائدة سكان مدغرة والرتب وتافيلالت. وأما القاطنون بشمال السد فلا نصيب لهم في المياه التي ورثوها عن أجدادهم. فالسدود التقليدية القديمة المشيدة لتزويد السواقي لم تعد تصمد أمام الفيضانات القوية المتكررة و بالتالي فلا حَظَّ للمواطنين القاطنين في أعالي زيز من الطبيعة سوى الكوارث التي تهلك الحرث والنسل وتنسف الأراضي الصالحة للزراعة. ومادام المسؤولون، للآن، يبتغون الحفاظ على سد عملاق واحد بفم غيور لفائدة سكان تافيلالت ويعملون وفق المثل القائل : مصائب قوم عند قوم فوائد فإن على المحرومين من الماء الطبيعي إلا الاستعداد للهجرة وترك المجال واسعا لسكان تافيلالت وحدهم لتحقيق سياسة الميز الجغرافي التي تضرب شعار الانتقال الديموقراطي في العمق. وإذا كان الحوار الوطني حول الماء، كما قال السيد وزير إعداد التراب الوطني والبيئة يرجى منه أولا تكريس الديموقراطية بإشراك الكل في مناقشة موضوع الماء فإن هذا الحوار في محطته ما قبل الأخيرة بأرفود كرس سياسة الميز الجغرافي. فما رأي المهتمين بالشأن السياسي في هذا البلاد ؟
04 – الماء وفيضان 2008 (بوذنب نموذجا)
حلت كارثة طبيعية بمنابع الأنهار بقلب سلسلة جبال الأطلس الكبير الشرقي يوم 10 أكتوبر، مصدرها إعصار قوي يعد الأكثر من نوعه منذ أكثر من قرن من الزمان، حسب شهادة بعض الكبار في السن. وإنه من الصعب الإحاطة بكل الخسائر التي خلفها الإعصار لا لأنها كثيرة ومتنوعة. ويجب الانتباه أن ما يميز إعصار أكتوبر عن إعصار 25 مايو 2006 الذي سماه البعض ( تسونامي) الرشيدية اتساع النطاق الجغرافي المصاب. فإذا كان إعصار مايو قد ضرب مركز مروزكة بجنوب إقليم الرشيدية ومركز الريش بشماله فإن إعصار أكتوبر شمل بقوته منابع الأنهار بالجبال، كير، زيز، غريس، ملوية. وسنفصل القول في ضرر فيضانات واد كير وحدودها في ما يأتي، علما أن الواد يمتد أيضا في التراب الجزائري حاملا اسم واد الساورة. فإذا أردنا تصنيف الخسائر حسب النوع نسجل أن العناصر الزراعية جمعاء أهلكت بريح صرصر عاتية أو بسيل جارف أو بإرسابات مهولة. فكل محصول الذرة بالشريط الزراعي المسقي بواحتي زيز وكير مصاب بالضرر. ومعظم أشجار الزيتون بواحة تيعلالين بواد زيز متكسرة بالريح العاتية. وأما التربة فقد انجرفت بقوة النحت الرأسي للسيول بالمواضع التالية تيط نعلي، موكر، باكنو، إيرارة، تازگارت، بوذنيب، زاوية سيدي بوكيل، قرى الگرس، أعباري، أيت واعلو، أو تعرضت للإرسابات بالمواضع القريبة من مخاريط انصباب السيول الجبلية مثل تزروفت، زاوية سيدي حمزة، تيط نعلي، أيت بني يحيى، تيغجدت، أيت موسى وعلي. وإنه من الصعب الحلم بعود الحياة الزراعية إلى حالها قبل 10 أكتوبر بدون مساعدات أو تدخل. فلا تربة ولا حقول ولا أشجار ولا سواقي لأن كل المجال الجغرافي الذي صنعه الإنسان بوسائله التقليدية تغير كلية بعد تدهور التربة كواحد من العناصر الضرورية في الزراعة وبعد ردم السواقي ونسف الشجر. ولم تنج أركان البيوت التي هزتها الرياح القوية من الضرر ففي النطاق الجغرافي الذي غشيه الإعصار. لقد فاض واد كير وارتفع منسوب المياه فيه ليتجاوز مجراه الأكبر الذي كان رسمه منذ زمان، وغمرت المياه كل الشريط الزراعي المحاذي له وامتدت لتغمر جزء ا من المجال المعمر بدور السكان المحليين فكانت الكارثة مهولة. فالدور المنهارة بمنابع الأنهار المذكورة تعد بالعشرات أما جدران المنازل الصامدة أمام الإعصار فقد أصابتها شقوق وخدوش تندر بقرب سقوطها. ومن غرائب الكارثة اختفاء أسرة مزارع قرب مركز كرامة عن الأنظار وبعد مضي 48 ساعة على هيجان الواد انتشر خبر العثور على ثلاث جثت قرب مركز بوذنيب، رجل وامرأة وطفل صغير، وضع حدا للتساؤل عن مصير تلك الأسرة. وأما المدارس فقد أغلقت أبوابها يوما كاملا وبعض يوم بفعل عزلتها التامة. ولم تنج حجرات الدرس من الانهيار في بعض النقط العمرانية الجبلية. ولقد احتج السكان بكل من مركز بوذنيب وكرامة صباح يوم الأحد 12 أكتوبر على عدم تدخل السلطة في الوقت المناسب للإنقاذ. وكادت الاحتجاجات بمركز كرامة تتحول إلى مواجهة بين فرق التدخل السريع والمتظاهرين. ولا نعلم ما إذا كان أولو الأمر ينوون التدخل لإنقاذ الموقف علما أن إقليم الرشيدية يعاني من سياسة الميز الجغرافي. ولا نريد أن نذكر بما حدث عقب إعصار مايو 2006 الذي هلك بقوته ستة أشخاص، ثلاثة منهم يقطنون مركز مرزوگة وآخرون يمارسون الترحال قرب مركز الريش. فبينما استفادت مرزوگة من مساعدات تعد بملايين السنتيمات تلقى أهل ضحايا الريش ما مبلغه كيسا من الدقيق وعلبة شاي وخمسة ليترات من الزيت وعشر كيلوغرامات من السكر. ففي ظل سياسة الميز التي يعاني منها إقليم الرشيدية سيحافظ المجال الجغرافي المعرض للإعصار على تدهوره وتشوهه بعض الوقت. نأمل أن نكون مخطئين في تقديرنا فنسمع يومئذ خبر التدخل ابتغاء المساعدة والإنقاذ. فماذا عن كارثة بوذنيب ؟
شاءت الأقدار أن تعود بوذنيب بعد قرن من الزمان إلى حالها، فتعمل على جلب الأنظار كما فعلت سنة 1907، لما دخلتها جيوش الاحتلال الفرنسي. نذكر أنه بعد حدث الاحتلال بقليل، وبالضبط في بحر سنة 1908، استجابت قبائل الأطلس الكبير الشرقي والواحات الصحراوية المجاورة لنداء بوذنيب التاريخي فنهضت لملاقاة جيوش الاحتلال ونشبت معركة رهيبة بين الطرفين، شكلت بداية لمرحلة تاريخية جديدة بالجنوب الشرقي المغربي، طبعها الكفاح من اجل الحرية والاستقلال والأمن والاستقرار.
شاءت الأقدار أن تعود بوذنيب إلى نقطة الصفر، هذه المرة، تحت وقع الفيضان لا تحت وقع النيران. لقد فعل واد كير ما لم تفعله جيوش الاستعمار على المستوى المادي والمعنوي. وقرينتنا على ذلك أنه بالأمس كانت الأحلام لا تتجاوز حدود المقاومة من أجل الاستقلال وإنهاء الاحتلال. واليوم، وابتداء من ليلة العاشر من أكتوبر 2008 تشتت الحلم بالمرة تحت وقع فيضان واد كير التي أهلكت الحرث والنسل ودمرت البيوت، ولم تترك فرصة واحدة للتفكير والتدبير والتأمل. نقمة كبيرة أصابت بوذنيب، فلا أرض في ومحيطها ولا نبات ولا عمران، ولا شيء غير البكاء على الأطلال.
بدأت مياه واد گير تزحف على الشريط الزراعي ابتداء من منتصف نهار يوم الجمعة 10 شتنبر 2008. ولم ينتظر السكان بلوغ الواد موضع القرية التي يعود بناؤها إلى أواخر العصر المريني. وحسب شريط الأحداث المصور والذي أعدته الجمعية المحلية للتضامن مع فيضان واد كير كأرضية لتأسيس الفعل، فإن السكان لا يتوقعون بالمرة زحف المياه على المجال المعمر، لأنهم لم يألفوا ذلك من قبل، لذلك انتظر بعضهم بعض الوقت في ترقب مستمر لاتجاه المياه إما في سطوح المنازل أو في واجهة القصر المظلة على الواد. وهناك من شرع في بناء حواجز ترابية أمام المياه قبل وصولها جدران القرية. والملاحظ أن الخوف لم يستحوذ عليهم رغم وقع الفاجعة. وحسب التصريحات التلقائية التي تضمنها الشريط نجد من يرجع الكارثة إلى عدم الاستجابة لمطلب السكان القاضي بتحويل قرية بوذنيب القديمة إلى موضع محصن، ومنهم من يرد الكارثة إلى القضاء والقدر. وفي أمد غير بعيد اقتنع الكل بالرحيل إلى خارج القرية فبدأوا يندفعون لقضاء ليلتهم في العراء ولحسن الحظ تمكنوا من النجاة بأرواحهم وفي المجال الممدن من مركز بوذنيب زحفت المياه على المعسكر والمدرسة المختلطة ومفتشيه التعليم الابتدائي كما دخلت منزل القائد رئيس ملحقة بوذنيب.
وهدمت السيلان أيضا معصرة الزيتون بمركز بوذنيب وسبعة منازل. وحسب شهود عيان فإن عرض الواد تجاوز ثلاث كيلومترات.
وكانت حصيلة الفيضان، وقتها، انهيار 65 منزلا بقصر بوذنيب تؤوي 163 فردا وتصدع جدران 66 منزلا تؤوي 343 شخصا. وبموازاة ذلك اندرست 12 منزلا بقرية أولاد علي يقطن فيها حوالي 85 فردا وفي قرية بني وزيم تشرد حوالي 58 شخصا يتناسب عددهم و14 منزلا. وسببت السيلان في تشريد 32 فردا موزعين على 7 منازل بمركز بوذنيب. ومحصل القول سجلت اللجنة المحلية للتضامن مع ضحايا واد كير انهيار122 منزلا وتصدع جدران 66 دارا ليبلغ عدد المشردين حوالي 772 فردا من بينهم سكان قرية الگرعان الذين فقدوا سبع منازل وسكان قدوسة (أقدوس) بالأمازيغية القاطنين قرب الضفة اليسرى لواد گير وهم أفراد أربع أسر تقطن أربعة منازل.
ماذا عن آفاق ما بعد الكارثة ؟
.
الحديث عن ما بعد الكارثة لا يتعدى الاقتراح والتصور والتخمين. إذ لا أحد يعلم مجريات الأحداث والوقائع في المستقبل المنظور. وبعبارة أخرى لا يمكن التصريح إلا بما هو مضمن في مخططات المؤسسات والحال أنها لم تعلن بعد أو على الأقل لا تزال قيد البحث والدراسة. وإلى حدود صباح يوم السبت 25 أكتوبر 2008 سجل في الميدان حضور اللجنة المحلية للتضامن مع ضحايا فيضان واد كير التي تأسست يوم 11 أكتوبر 2008، وتضم ممثلي جمعيات سكان المناطق المتضررة، الگرعان، قدوسة، بوذنيب، أولاد علي. وحسب علمنا، بدأ المسؤولون يتردون على مركز بوذنيب ابتداء من يوم الأحد 12 أكتوبر عقب الوقفات الاحتجاجية التي نظمها السكان. وانتشر خبر نزول والي جهة مكناس تافيلالت رفقة بعض البرلمانيين إلى أرض بوذنيب صباح يوم 14 أكتوبر 2008. وهناك وعود قوية تكشف عن استعداد المؤسسات للانخراط في عملية إنقاذ مواطن الكارثة بكير الأسفل. وأما الجمعيات التنموية فقد بدأت تستعد للمساهمة في التخفيف من حدة الحدث، حيث عملت اللجنة المحلية على ضمان مأوى المشردين بتخصيص مؤسسة الخيرية ل 206 أشخاص، وفتح النادي النسوي أمام 48 فردا مشردا. وأما الضحايا الآخرون فقد قصدوا دور الأهل والأحباب تجنبا لكل حرج. وفي يوم 24 أكتوبر 2008 حضرت شبكة الجمعيات التنموية لواحات الجنوب الشرقي بمركز بوذنيب لتوزيع بعض المساعدات. وفي يوم 25 أكتوبر 2008 قصدت جمعية الألفية الثالثة لتنمية الفعل الجمعوي بالجنوب الشرقي المغربي مركز بوذنيب للمساهمة في صياغة برنامج استعجالي يشكل مرجعا للتدخل في المستقبل.
ويرى بعض الفاعلين الجمعويين بمركز بوذنيب أن الكارثة ضربت ثلاثة عناصر رئيسية في التنمية، الأرض والماء والإنسان. بيان ذلك أن الأرض الصالحة للزراعة تعرضت للإتلاف بفعل الانجراف، والسكان لم يتسيقطوا بعد من صدمة الكارثة التي لم تشهدها منطقتهم من قبل وإن شهدتها فإن ذلك تم قبل أكثر من خمسة قرون. وأما الشبكة الهيدرولوجية التي تضمن سقي المزروعات فقد تضررت في معظم النقط. لذلك لا بد من العمل في أفق تحقيق ما يلي :
- إعادة التوازن البيئي للمنطقة والكف عن تهميشها المقصود الذي دام نصف قرن من الزمان.
- خلق أوراش للعمل لضمان القوت اليومي للسكان كمقدمة لإعادة إدماجهم في وسطهم.
- جلب المزيد من المساعدات الغذائية والدواء وضمان المأوى للأسر المشردة.
- إعادة دورة الحياة الزراعية إلى حالها باستصلاح الأراضي وتوزيع أعلاف الماشية لإنقاذ القطيع.
- بناء قرى نموذجية تحل محل القرى الزراعية التقليدية والتفكير في توسيع الشريط الزراعي بعيدا عن المجرى الأكبر لواد كير.
- الضغط والترافع ابتغاء بناء سدين اثنين على واد كير للتخفيف من هول الكارثة.
- تعبئة جميع الفاعلين الجمعويين والإقليميين للانخراط في مشروع إنقاذ سكان واد گير والمرافعة من أجل إعادة النشاط الزراعي بالمجال الوظيفي للمناطق المتضررة إلى وضعه قبل الكارثة.
وفي الختام نقول، إذا كانت القرية الزراعية التقليدية قد صمدت لقرون من الزمان أمام عدة أهوال، فإن الوقت قد حان لتأهيل البادية التقليدية وتطوير العلاقة بين الفلاح والأرض لتتناسب وحاجات المرحلة إن هي إلا تحت رحمة التغيرات المناخية: الفيضانات المهولة والجفاف. ولقد بات يجري بناء بعض السدود والتفكير في إنشاء سدود أخرى للتخفيف من الهول إن لم يكن التأهيل هو المبتغى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله اللبناني يوسع عملياته داخل إسرائيل ويستهدف قواعد عس


.. حزب الله يعلن استهداف -مقر قيادة لواء غولاني- الإسرائيلي شما




.. تونس.. شبان ضحايا لوعود وهمية للعمل في السوق الأوروبية


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية.. وطلاب معهد




.. #الأوروبيون يستفزون #بوتين.. فكيف سيرد وأين قد يدور النزال ا