الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فوبيا الحقيقة والفضيحة

سامي عبد العال

2017 / 6 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الحقيقة مقولةٌ معرفية بينما تشتعل الفضيحةُ على نحوٍ أخلاقيٍّ. لكنهما يمُران عرَّضاً- بفعل الثقافة إلى درجة التأسيس- داخل بعضهما البعض. هذا العَرض كأنَّه إيقاع أيديولوجي يبرز مفارقة الانتقال بين الابستمولوجيا Episteme والإتيقاEthos . أي أنَّ المعرفة ما لم تتطور تسقط تلقائياً في فخ الأحكام القيمية. وتَحُوْل الأخيرةُ دون رؤية تلك المعرفة بشكلٍّ حقيقي كما تدعي. بل سيكون ثمة حائل بينها وبين المساس بها على نطاقٍ واسعٍ. فالـEthos تمثل روح الجماعة ونظامها الرمزي كذلك.

بجانب هذا تشكل الحقيقةُ نقطةً قُصوى لهذا الإبْعَاد والحَجْر على الواقع. وحيث يعرف الإنسان أشياء وموضوعات وأعمالاً ورؤى فقد تصطدم بخلفياته الأخلاقية. ليعتبرها نوعاً من الانكشاف الخجُول حيث لا يود أنْ يراه الآخرون. وهذا نتيجة غياب الفكرة الواضحة عن الأشياء والعالم وبفضل الخلط الأساسي بين المعرفة والدين والأخلاق.

ذلك استناداً إلى قاعدة اجتماعيةٍ تحكم قبضتها على الأفراد أفعالاً وخيالاً. أقرب الأمثلة على ذلك فكرة " إسلامية المعرفة". وهي تديين المعرفة رغم تمردها وثورتها إذ يرفض معتنقو الفكرةِ دراسةَ العلوم إلاَّ تحت سقف الدين. ويحاولون إخفاء كلِّ نقائضها حتي وإنْ أثبتها العلم اثباتاً لا لبس فيه. لعلَّه إخفاء بمثابة التكتم على الفضائح التي قد تحدث بفضل تحققها. لأنَّهم يدركون أنَّ المعرفة غير الممتثلة لما يعتقدون ستعرضهم للشكوك وزعزعة معتقداتهم. وكم من المعارف تُصنف تحت بند العلوم غير الشرعية مثل الفلسفة والأديان الشرقية ونظريات علم النفس والاتجاهات المعاصرة في الدراسات الدينية. فالفلسفة تُحرَّم لصالح نسخةٍ مشوهة ومهذبة اسمها: الحكمة أو التفسير. وإذا تمَّ تدريسها فلا يُسمّح لها بالاقتراب من الأفكار الشائعة ولا علاقة لها أيضاً بأنماط التفكير في المجتمع.

هنا يشرئب كُّهان الدين لحجب هذه المعارف خوفاً من انحراف العقل. إنَّهم يتعاملون مع العقل بوصفه " ملكة معيارية اخلاقية" يجب الهيمنة عليه. وهذا يفسر أيضاً نظرتهم إلى عقل المرأة كفضيحة. فلا يحق لها أنْ تفكر أو تبدع أو تدلي برأيها أو تطرح توجها معيناً. الفضيحة: تتم بانتشار ورواج ما يُعاب، إظهار المعايب، كل ما ينكشف من انحراف عن القيم الأخلاقية، ما يجلب العار ويؤذي( يخدش) المشاعر الاخلاقية اجتماعياً. ولنلاحظ أن الرواج لا يهتم بالواقع قدر اهتمامه بالاصطدام بالأخلاقيات العامة بصرف النظر عن صحتها. ونحن نعرف أن تلك الاخلاقيات هي الثمار العفنة لشجرة المجتمع الذي يضرب جذوره في التخلف والقمع. قال الراجز: قومٌ إِذا ما رَهِبُوا الفَضائِحا على النساء، لبسوا الصَّحائِفا.

بالتالي لا تخلو الحقيقة من فضيحةٍ ما... ذلك في مجتمعات مهووسة بظواهر الاثنين معاً. مثل المجتمعات العربية والشرقية التي تقتات يومياً على الجانب الأخلاقي للمعرفة. وعلى ترسيخ الحقيقة باعتبارها شيئاً موضوعياً رغم كونِّها أوهاماً وراء أوهام. فهي إنسانية الطابع. أي تتسع لفائض خيالي يحيلها – بأقصى الظروف - إلى إفرازٍ بشري قابل للتحول والانهيار. الحقيقة مثلها مثل التاريخ.. فجأة ينتقل من الذاكرة إلى الحضور. مع أنَّه في الجوهر نسيان له طرائق الاستحضار. والبون شاسعٌ لا تخطئه الفكرةُ بين الزمن كأنَّه واقع وبين اعتباره صناعة بإرادة الانسان وأفعاله.

بينما في المجتمعات الحرةِ لا يوجد ما يُسمى بالحقائق لكونها ليست ثابتةً. هي الوجه المُغاير لما يراه الإنسان من حالات وإمكانيات تسقط تواتراً مع مرور الزمن. كل حقيقة هي في عين الوقت لا حقيقة. إنَّها إساءة تقدير، إساءة معرفة، إساءة نظر، إساءة فهم، إساءة قراءة، إساءة إدراك، إساءة علاقة، إساءة يقين... ضمن ما يجري من صورٍ وأحداثٍ وكتابة وحيواتٍ. دوماً تنقسم الحقيقة في واحديتها بأطياف التعدد، التنوع، التباين، التناقض. والحقيقة الوحيدة معناها حياة وحيدة ومتفردة لا نظير لها. وهذا حُكمٌ بالإعدام على أيّة حياةٍ سواها. ومن هنا تتوالد أعمال العنف وإقصاء المختلف. كما لا يوجد ما يعتبر فضائح لأنّ هناك شفافية وحرية- مثلما يفترض- خارج التغليف بالأيديولوجيا واللاهوت. على ذات الدرجة تحرص الحرية على فقأ اليقين عندما ينقلب حقيقة أو الحقيقة عندما تُمسخُ إلى يقين.

ليست حريةً تلك التي تخْنُس بجوار جدار الاستبداد وأقانيم الثقافة السائدة. وما لم تُطح بجذورها لن تكون ثمة مسؤولية عن الحياة. لأنَّ حياة حرة هي ما تبدع روحها الخاص على نحو كلي. بحيث تعصف بالثوابت المعمول بها. عندئذ تستطيع أنْ تؤكد أثرها الخلَّاق إزاء المستقبل. ولنا أنْ نترقب الحرية طاقةً كامنةً في خلوص الأشياء إلى ذاتها. بمعنى إذا كانت الأشياء والأفكار في سياقها المتغير ستكون قادرة ًعلى التحرر من أحكامنا الإدراكية. وهو ما يجعل كلَّ فكرةٍ، دجما، حقيقة مهددة بما تنطوي عليه آجلاً أم عاجلاً. ذلك باعتبارها كأي مادة في لغة الإنسان وحياته. كثيراً ما أشار أينشتين أنَّ أيَّ تطور علمي لابد أنْ يسبقه تطور معرفي إجمالاً.

إنَّ أخطر ما يجري على هذا الصعيد هو تغليظ اليقينيات باسم الحقائق والعكس. وهو عبارة عن شحن أيديولوجي وتعبئة لاهوتية حول ما يسمى بالثوابت والهويات القومية والدينية والطائفية والمذهبية والقبلية. تلك الرواسب الجمعية القارة في قعر الدماغ الرعوي الشرقي إلى الآن. ولك أنْ تتخيل كم العنف الذي يتولد عن رد أفعال نتيجة إنكار ذلك لو تم الاختلاف حوله. كما أنَّ اليقينيات بهذا المعنى مؤهلة لتدشين دوائر من الخوف والرعب. لأن تاريخاً للمجتمع كله سيكون مهددا وتحت الاختبار في أية لحظة. وهذا ينذر بانطواء ممارسات الجماعة والأفراد على أسرار دائمة الانحجاب. وأيةُ حقيقةٍ حال تغليظها بما لا تحتمل تغدوُ على شفى الافتضاح من تلقاء نفسها. والذي يسندها عندئذ سلطةٌ مطلقةٌ تحوطها بهالةٍ من التقديس والوقاية الخارجية.

تاريخ الثقافة العربية هو تاريخ تلك الحمايات للحقائق العامة سواء بأسلحة الدين أو السياسة أو المجتمع. بما يدلل أنَّ الحقيقة ليست ما يتحقق ويُرى رُؤي العين والحواس والتجريب باختلاف أصنافها. بيد أنَّها تحتاج إلى مجال من عدم الاقتراب. فيقال حقيقة الرجل: ما يلزمه حفظه والدفاع عنه. والمعنى ههنا لا يأتي كمعنى إنما كتلقين حول ما يكونه الفرد. وما هو الفرد أصلاً؟! الفرد أيا كان لا يملك كيانه طليقاً في هكذا مجتمعات. إنه مجرد علامة طافية كجثة فوق مياه راكدة. منذ ولادته وحتى نهايته( من المهد إلى اللحد) وهو في حالة تزييف داخل حتى ذاته. يهادن السلطة التي تتناسل في أرجاء حياته حتي يصبح إنساناً آخر إلاَّ أن يكون نفسه.

ولذلك.. رُعباً من صدمات التغير تحاط الحقائق بكم هائل من المحرمات الثقافية. لأن كشفها يعني شكاً في إطار عام يمثل يقينها الفوري. ففي السياسة لا يمارس النظام الحاكم - أي نظام- مهامه بوضوح. ولذلك يحيط نفسه بطباق من الغموض الواحدة تلو الأخرى. ويشدد على صيانة أسراره. حتى أنَّه يقنع مواطنيه بكون انكشاف الحقائق يعد نوعاً من الفضائح غير المقصودة. وهي التي بجب الحفاظ عليها مصونة من الانكشاف تحسباً لما سيحدث.

إذن بأقصر الطرق تعدُّ الحقيقة من جنس الفضائح ضمن الثقافة العربية. في السياسة، المجتمع، الاخلاق والاقتصاد تتم الممارسات بمعاني التغطية والحجب. إن تلك الثقافة لا تظهر بنيتها من أول وهلة. وتتناقض مع مضامين التعريف الذي تنطوي عليه لذاتها. فلئن كانت الثقافة تعني الحذق والصقل والتبرية ( التقشير والسن)، فإنَّ ممارساتها تدفن محتوياتها بطابع أخلاقي. بمعنى: أنَّها لكي تتسق مع أفكار فاعليها لا تظهر إلاَّ كما يريدون. ونظراً لسنوات القهر والاستبداد السياسي طبعت مجتمعها بأطر الخضوع السلطة الشائعة في تاريخه. وفي هذا تعد سلطة العادات والتقاليد أكثر نفاذا من أية قوة سواها. لأن الثقافة التراثية تحكم هيمنتها على العقل الجمعي. هناك ثقافات عربية فرعية مازالت تعيش في القرون الأولى من تاريخ المسلمين.

لذلك بقدر انحجاب الحقائق وإقصاء الشك عنها تُنتظر الفضائح. فالخوف على الحقيقة يخلق خوفاً من الفضيحة... وهناك أمثلة بارزة على ذلك.
أولاً: الفضائح الاجتماعية... وهي النمط الأكثر رعباً بالنسبة للأفراد والجماعات. وربما يبقى الفرد مغتصَّباً فكرياً وشعورياً لحساب المحيط الذي يعيش فيه. وهي التي تؤسس للخوف من مواجهة الحقيقة والفضيحة على السواء. لأنَّ المردود الاجتماعي للاثنين أكثر عمقاً مما نتصور.
هناك في الثقافة الشعبية أمثال معبرة أبرزها : " اللي اختشوا ماتوا ". حيث أُطلق التعبير على نسوة كُّن في حمامٍ عام. وعندما اندلت النيران في جوانبه- أثناء استحمامهن- فضلن الموت حرقاً عن الخروج إلى الشارع مخافة الانكشاف أمام الناس. ورغم المأساة التي تقبع في التفاصيل غير أن المأساة الأبشع: أنَّ الموت يساوي النظام الاجتماعي. إذا أخذنا الموضوع بحساب النتائج. لأنَّهن حينما خفن الخروج كان الموت الجسدي تفحماً أفضل لديهن على الموت الاجتماعي إذ ستندلع فيهن الفضيحة. وللأسف مازال هذا المثل يُستعمل للاحتشام والتندر بأهمية الخجل في الحياة العامة!!
الخطورة هنا أنَّ أغلب العلاقات الإنسانية والظواهر الاجتماعية تُحدَّد في هذا الإطار. فليس النظام الاجتماعي سوى سيرك يصطاد فيه القوى الضعيف ويمارس عليه عنفاً لا حدود له. وما يجري على الأفراد يجري على الكتل البشرية الأخرى. فالخوف يأتي من تباين الأوزان النوعية للناس. ولذلك شاع المثل التالي: " ناس تخاف ما تختشيش ". أي ترتعب من العواقب إزاء اقدامها على عمل ما لكنها لا تختشي أي لا تخجل!! مع أنَّ الخجل في المثل الأول أدي للموت كذلك.

ثانياً: الفضائح السياسية... وتمثل مظهراً لجوهر لا يختلف عنه في قليلٍّ أو كثيرٍ. لأنَّ السياسة بطبيعة تكوينها بيئة خصبة لبكتيريا الفضائح. وطالما أنَّ السياسة هي ممارسة القدرة بمنطق الإرادة العامة، فلن يكن هناك إلاَّ الحيلة لبلوغ الأهداف. لا مجال لنقاء الغايات، لأنَّه لا توجد غايات خارج هذا التلوين عن طريق أية وسائل متاحة. حتى المعايير تنعدم مع الفعل السياسي. لأنه غير محدد الاتجاه بفضل إمكانيته الملتوية حتى النهاية. إذن لا توجد حقيقة في السياسة، بمعني لا يوجد يقين. إنَّه الإنسان الرغائبي، الذي يدرك الأشياء بالغريزة ويتشمم الأفكار والمعاني كما تتشمم الكلاب ما تأكله.

ثالثاً: الفضائح الدينية... وهي تأتي من توظيف الدين لأغراض الجماعة خارج حرية الأفراد. فإذا كان الفرد حراً فيما يؤمن ويعتقد، فكيف يمكن قطع هذه المسافة. إنَّ الاعتقادات العامة هي مساحة من التوليف الامتلاء الفارغ لما يعتقد فيه الفرد لكن بزيادة السلطة الشائعة. وتلك تصنع أوهاماً تتقمص أدوار المعتقد كما لو كان خالصاً وله نفس درجة الإقناع الشخصي. بينما الأمر مخالف إذ لا يوجد ما يسمى بالإيمان الديني الجمعي.

وهذه هي مشكلة الأحاديث والمقولات المنسوبة إلى الأنبياء لملء الفراغ العام. حيث يكون المجال السياسي والإرادة التي تعول على الدين كأحد وسائل الضبط الاجتماعي. فلترويض القطعان واصطياد العبيد يجب إيجاد وسائل ردع وترغيب للسيطرة عليها. اُخترعت الكهانة واُخترع الفقهاء واخترعت سير القديسين والأولياء والقصص والسرديات الكبرى للقيام بتلك المهمة بوعي أو لا وعي. حيث يخرج الفرد من ذاته داخلاً في ذات كلية عبارة عن حكاية تمتص طاقاته وتهدهد نوازعه وتربت غرائزه نحو المجتمع. وتجعله ممتثلاً لما يؤمن به الآخرون. بحيث يستطيع أن يؤدي الرقصات المطلوبة منه على مسرح السلطة فينال جائزته في التو.

وبالتالي سيكون الخوف مصيراً لمن يتنازل عما يؤمنون به، لأن نفس قوة الإلزام التي دفعته للاعتقاد هي ذاتها التي ستلاحقه بالعار. ولندقق أنَّ عدم الإيمان بدين ما أو الإلحاد تحول لدى الجماعة البشرية من اعتقاد شخصي إلى فضيحة اجتماعية. ليس لأنَّ الدين يقول ذلك بل لأنَّ الجماعة تطلق لعناتها وراء من يتملص من ربقتها. كما أنها رأت العبودية خير وسيلة لضمان التماسك والمناطحة في صراعها مع الجماعات.

وهذا سر الاتهامات التي تُوجه لم يجترأ لا على النصوص الدينية بل على الحماية الثقافية للنص، تقديسه، رفعه خارج الزمان والمكان. الله لا يحتاج إلى حماية كما يُظن. وطوال التاريخ كانت النصوص الناطقة باسمه عاريةً من أية هيمنة خاصة به سواء مادية أمو معنوية. الحماية الوحيدة هي قدرة الجماعة على التمسك به. من ثم فإنّ الإلحاد هي التهمة الخطأ في المواقع الخطأ. حيث يكون الإيمان خارج المعايير ولا سبيل إلى تنميطه وتعميمه. ولا لأصبح الاعتقاد سلعةً يقوم اقتصاده على أسواق المذاهب والطوائف والملل والنحل وتجارة الفتاوي وصناعة النصوص وطبقات الفقهاء والعبيد. تلك التجارة التي أفرزت جماعات الارهاب الدموي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحقيق مستقل يبرئ الأنروا، وإسرائيل تتمسك باتهامها


.. بتكلفة تصل إلى 70 ألف يورو .. الاتحاد الفرنسي لتنمية الإبل ي




.. مقتل شخص في قصف إسرائيلي استهدف سيارة جنوبي لبنان


.. اجتماع لوكسمبورغ يقرر توسيع العقوبات الأوروبية على إيران| #م




.. استخراج طفلة من رحم فلسطينية قتلت بغارة في غزة