الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العولمة ما لها وما عليها

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2017 / 6 / 24
العولمة وتطورات العالم المعاصر


العولمة ما لها وما عليها


حتى نكون أقرب للموضوعية من التنظير المثالي لا بد لنا أن نفهم فلسفة العولمة والحداثة والمراحل التي صارت فيها في بعدها الــ ( الما بعد)، ولا بد أن نعترف بحقيقة أن كل فكر جديد يطرح في الساحة العالمية يشكل صدمة في الوعي وخاصة الوعي العميق الذي تترسب به كل التجارب الماضية، وتشكل إرهاصاتها الأولى مثار سلسلة من التساؤلات وعلامات الأستفهام الكبيرة حول قدرتها أولا على تحقيق أفكارها وشعاراتها ومن ثم ما يترتب على تلك التجربة من أثار ونتائج تتعلق بالخصيصة والهوية والأنتماء.
هذا الواقع لا ينكر وغير مستبعد وغير قابل للتجاوز حتى تعط الأجوبة العملية بعضا من محمولها كمنطق عقلاني، يقول السيد كاظم حبيب في تصديه لهذا الموضوع (ولا شك في أن العولمة تطرح مشروعا ثقافيا وحياتيا حديثا يتناغم مع مستوى التقنيات الحديثة ويختلف عن الماضي أو السائد حاليا, ولكنه ما يزال في بداية الطريق، وهذا الجديد بما يحمله من حداثة وتوافق مع الزمن قادر على إبعاد القيم والعادات والتقاليد القديمة والبالية العاجزة عن مسايرة الزمن المتكاثف بشدة, لا في المجتمعات العربية والإسلامية فحسب, بل في جميع المجتمعات. ولكن هذه الثقافة الحديثة ذات الاتجاهات العامة والمتباينة في مستوياتها من حيث الغنى والرداءة ستأخذ خصوصيتها الملموسة من واقع ومستوى تطور كل بلد من البلدان) .
إذن الحداثة والعولمة ترتبط بفاعليتها مع المجتمعات والأفكار التي تتلائم مع النظم والقواعد الثقافية والسياسية فيها قربا وبعدا وأستجابة أو رفض، المهم ليس أن نرفض أو نقبل بدون أن تكون الجاهزية الثقافية بشقيها النظري والعملي قادرة على الفهم والفرز والتصنيق ثم اللجوء للقرار بناء على نتائج التجربة ومعطيات النجاح والفشل، هذه الأساسية هي واحدة من أسباب الخشية والتعنت الذي نتعامل به كمجتمع وفكر أسلامي مع مجمل التطورات الكونية وتحولاتها في النظام العالمي الجديد.
فالعولمة بحد ذاتها مشروع جمعي إنساني كشف عن حقيقة أن الإنسان هو الخالق للتطور وهو الصانع لمشاريع التجديد فيه، لذا فأي نتيجة سلبية أو إيجابية يتم تدقيقها وفحصها سوف يتم بنفس ألية الخلق وفي ذات المنهج دون أن ننتظر أمرا فوقيا يصحح لنا أو يؤيد ما تم، نعم من الممن أن نجري مقاربات مع المخزون الفكري ونحدد الماهيات بناء على حكم العقل والمصلحة الشمولية، ويمكننا أحداث مقارنات تأريخية مع كل التجارب البشرية تأريخيا أو وفقا للسنن المعتمدة، ولكن هذا لا يعني أن نقف موقف المتفرج الذي ينتظر التوضيحات والشروح من الأخر حتى نحدد موقفنا الكلي منها.
العولمة كما تطرح نفسها اليوم على أنها الأنفتاح المتكامل في جوانب الحياة كلها على الأخر وفض الأشتباك بين ما هو محلي وبين ما هو مشترك بين الإنسان، هنا العولمة تمارس دور الخطاب الإنسانوي الشامل دون أن تعترف أن الإنسان مجردا هو كيانات منفصلة تتمتع بحدود ذاتية بناء على الهوية أو بناء على الواقع التأريخي، فهي تخرجه من أطاره المحلي ليكون كائن كوني ينتمي بالكامل إلى دائرة الفعل المشترك الذي يحصر الواقع الفعلي ضمن مفهوم واحد.
من المناسب أيضا أن نطلع على أفكار الأخرين الذين هم واقع مجتمعات العولمة والأقرب لمخاض الفكرة التجربة، البعض يستخدم مفهوم العولمة لوصف كل العمليات التي تكتسب بها العلاقات الاجتماعية نوعاً من عدم الفصل وتلاشي المسافة، حيث تجري الحياة في العالم كمكان واحد ـ قرية واحدة صغيرة، ويعرفها المفكر البريطاني رونالد روبرتسون العولمة بأنها (اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم وزيادة وعي الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش)، كما يعرفها مالكوم واترز مؤلف كتاب العولمة بأنها (كل المستجدات والتطورات التي تسعى بقصد أو بدون قصد إلى دمج سكان العالم في مجتمع عالمي واحد).
فالعولمة في حد ذاتها كفكرة فلسفية ليست وليدة مراحل صراع الإنسان مع بعضه كما يصورها أو يتصورها البعض، ولا هي بديلا عن مفهوم العالمية التي تعني وجود مظاهر غالبة تفرض نفسها على الوجود العالمي كغالبية أو كظاهرة عامة، العولمة هي نتاج تراكم تأريخي أسسته الأديان وتبنته كخطاب عام، مثلا في الخطاب الإسلامي على وجه الخصوص تتجلى جذور فكرة العولمة بأطهارها العام:
• {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}الأعراف158.
• {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}الحج49.
• {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}الحجرات13.
لقد ورد الخطاب الإنساني بعنوان الناس في الكثير من الآيات والنصوص التي تخاطب المجتمع البشري ككل وتطلب منه إرادة واحدة وهي الأمتثال لحدي الخير والحق، هذا الخطاب بمفهومه الشمولي خطاب يخرج الإنسان هويته الفرعية نحو الهوية الكونية وبخرجه من عزلة الواقع وحدوده إلى فضاء الكونية العولمية، دون أن تنسى هذه النصوص قضية الإنسان من هدفها أن يكون بفعله أمة واحدة، بمعنى أن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة ولكن طلب منهم أن يكونوا كذلك وفقا لتجربتهم على أساس واحد هو أن الله خالق الجميع، وعليهم أن يتوحدوا بذلك وتحت شعار {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}لقمان28.
ولكم هما نتسائل ما الفرق بين العولمة المطروحة واقعيا وبين العولمة الدينية؟ وهل أن الفكرة الدينية تستند للعالمية أولا من أن الدين للناس والخطاب عالمي أم أن هذا الطرح يشمل أن يكون للتصنيفات اللاحقة التي فصلها الدين حدود حقيقة؟ الجواب العولمة الدينية بأهدافها ومحمول القصود فيها تتبنى الشمولية والعدل والوحدة الحقيقية بين بني البشر (كلكم من آدم وآدم من تراب)، ولا تفرض غير هدفية الحق والخير لكل الخليقة بما فيها الوجود المادي الذي يعيشه الإنسان.
أما ما تطرحة العولمة اليوم من أنماط عملية في العلاقات التي تنشأها منها وإن كانت لحد اللحظة لم تكتمل في بنائية الفكرة وتعطينا خلاصة شمولية لها، ولكنها تتبنى خيارات رئيسية في مجالات محددة تعتقد أنها البداية والجوهر للتحول إلى كونية المجتمع البشري، فهي تختزل الفكرة وكأنها تحدد أبعادها وفقا للواقع بما يلي(أبعاد اقتصادية وسياسية وتكنولوجية والمعلوماتية وكذلك التقنية، كما تسبب في إلغاء الحدود بين دول العالم وشعوبها، وتحويل الكون إلى قرية صغيرة، يتواصل فيه جميع البشر بسرعة قياسية)، هذا الأختزال اللا منطقي وإن كان مبررا لحداثة التجربة وعدم تكامل بنائها الهيكلي، تسبب في توجس عند الكثير من الشعوب والمجتمعات التي ترى نفسها غير مؤهلة للأنخراط فيها، أما لضعف في مقوماتها السياسية والأقتصادية والفكرية، أو عدم قدرتها على المواجهة وترى في نفسها الطرف المذعن والمغلوب كنتيجة لهذا الأنخراط.
تعدد الجوانب العملية لمفهوم وعالم العولمة وتركزها في محاور أربع رئيسية، قد يحول هذه المنظومة الفلسفية إلى أيدولوجيا تتمحور حول ذاتها، وحول محاورها فيخرجها من جانبها الإنسانوي ويطيح بها في واد أخر، فالعولمة التي تسعى لتحرير العقل الإنساني من واقع الجفرافيا والتأريخ قد يستخدم أيضا لأستعباد الإنسان مرة أخرى بمفهوم ( الهيمنة )، فالوقائع على الأرض تبشر بنوع جديد من الأدلجة الفكرية التي جعلت من العولمة مذهب سياسي وأقتصادي يسخر لأستغلال الشعوب بعناوين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
الواجب الإنساني اليوم ينصب كجهد جماعي كوني على تحرير مفهوم العولمة من ظواهر الهيمنة وأعادته إلى طريق التحرر والتجدد والإنسانية (وهناك اتجاها آخر ينادى به الأستراتجيون من علماء السياسة، يرى ضرورة فك الاشتباك بين العولمة والهيمنة، إذ يرى هؤلاء أن العولمة عملية تطور تاريخى موضوعى لا نملك إلا الاستجابة إليها، بينما الهيمنة وهى إيدولوجيا العولمة هى ما يجب أن نحاربها، على اعتبار أن الهيمنة انتعاش لـموازين القوى السيــاسية و الاقـتصــادية فى العالم لـصالـح قطب واحـد يــريد أن يفرض سياسات يسير الكل فى ركابها) .
فما للعولمة ليس لغيرها من الفلسفات البشرية والنظريات التي أنجبها التأريخ الحضاري من أنحياز للإنسان، فهي الوحيدة التي فككت علاقة وروابط التأريخ والجغرافية في سيرورة الإنسان وأعادته للمنطلق الأول (منطلق الإنسانية الواحدة)، ويبقى تدخل الإنسان بجانبه الأناني هو من يحرف هذه السيرورة ويعيد طرحها من زاوية المصالح الذاتية لا من زاوية الفكرة أصلا، ولا بد أن نسجل أيضا أن تطور العولمة برغم محاولات جهات عديدة على أدلجتها، لكنها ومع ذلك ستبقى الخيار الممكن والأصيل لتلك العودة للأصل المشترك.
عند قراءة الواقع العالمي تبرز لنا صور إيجابية أكثر من كل المظاهر السلبية التي خرجت من عباءة النظام الرأسمالي الإمبريالي الذي ترعرت في أجواءه أولى أرهاصات العولمة، فليس من المفيد هنا التجني على الحقائق وتعظيم السلبيات في واقع كان سلبيا في طبيعته قبل ظهور العولمة، وهو المسئول الأول عن كل تخلفنا وعدم توازنه المؤدي للأستغلال والتهب والهيمنة، إنها المرحلة الأخيرة من رأسمالية وأمبريالية العالم الغربي بكل مقوماته القديمة، وصفحة جديدة ما زالت تستبان للواقع وتطرح مشروعها الحضاري بكل أصالة.
فلولا تفشي أستحقاقات النظرية وتجسيدها لواقع التحول والتحرر لم يتمكن الإنسان خاصة في المجتمعات الفقيرة والضعيفة والمتخلفة أن ينفتح على العالم، وأن يساهم من موقعه في تحقيق حريته على الأقل القدرة على المطالبة بها، هذا ما إذا نظرنا إلى شكلية النظام العالمي القديم، فقد ساهمت كما يقول أحد الباحثين هذه المجتمعات على الوعي بأزمتها المستديمة وما خلفها عصر الكونيالية الأستعمارية (تساعد الدول على إدخال التصليحات اللازمة على كافة أجهزتها وقطاعاتها سواء الإدارية أو الإنتاجية، حتى تساير التطور الهائل الذي يعيشه عالمنا بما فيه البلدان المتقدمة الأخرى، والانفتاح على كل ما هو متقدم ومتطور بما فيه الاقتصاد، وذلك بشرط وجود شبكة من المؤسسات النشطة، والبيئة السليمة التي تؤمن بسيادة القانون والنظام القضائي المتطور، والتشريعات الحديثة، والعمل على محاربة الفساد واعتماد السياسات المالية والنقدية التي تتسم بالمصداقية والشفافية) .
فالعولمة التي تركز في مسعاها الفلسفي إلى المشاركة الجمعية عبر الحدود في محاولتها أنسنة الواقع العالمي، وإدارته إدارة جماعية عبر التداخل في المصالح والحاجات والمشاركة في صنع القرار الدولي المناسب للتصدي لقضايا عالمية مصيرية، فقد وضعت مجمل القضايا على طاولة الحوار وعبر المؤسسات الأممية، فليس بمقدور المجتمعات المتصارعة والمتنازعة أن تصنع السلام بموجب فهم مشترك بعيدا عن مصالحها المتناقضة، وقد جرب العالم أبان عصر الحرب الباردة تلك القطيعة وأثارها على المجتمعات العالمية حين أنقسم العالم إلى أقطاب متصارعة على النفوذ والسيطرة والهيمنة.
ولا بد أن نقر بحقيقة أن العالم الجديد ليس عالما مثاليا في كل شيء ولا يراد له أن يكون كذلك، ولكن تبني العولمة كخيار هو حتمية تأريخية للتجربة الإنسانية في بسط التعايش والتعاون بدل التنازع والصراع الدولي، يقول الكاتب أمجد قاسم في ما ذكرناه في مقالته عن العولمة (أن هناك مشاكل إنسانية مشتركة لا يمكن حلها من منظور السيادة الوطنية المطلقة للدولة التي يقوم عليها النظام الدولي القائم في اليوم كانتشار أسلحة الدمار الشامل والتهديدات الثورية والتلوث البيئي وغيرها من المشكلات وبالتالي فلابد من اشتراك جميع دول العالم في استراتيجية موحدة للسيطرة والقضاء علي تلك المشاكل) .
كل ما كتبنا عن العولمة في هذا البحث المختصر يفرض على العالم الإسلامي ممثلا بمفكريه وساسته وقواه المدنية أن تنحت لها تصورا برغماتيا يتصالح مع واقع العالم الجديد وينخرط فيه على أنه عنصر مساهم في تطوير مفاهيمه وسيرورة خط المنهج الفلسفي الذي صنع العولمة، وأن لا يفرط بغرور بالمكسب الحضاري المتاح من خلال الأستفادة القسوى من الأمكانيات السياسية والأقتصادية والثقافية التي أنتجها العالم المعاصر، وأن يصنع خريطته الذاتية بعيدا عن إرثية التأريخ والتمسك الأعمى بما يسمى مفهوم الهوية، فالنتيجة سنجد أنفسنا مرغمين بالحتمية التأريخية أن نكون ضمن هذا العالم دون إرادتنا وقد فقدنا كل الفرص المتاحة أمامنا في أن نسخر ما يمكن لأجل قضية النهوض والتجدد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل بدأ العد العكسي لعملية رفح؟ | #التاسعة


.. إيران وإسرائيل .. روسيا تدخل على خط التهدئة | #غرفة_الأخبار




.. فيتو أميركي .. وتنديد وخيبة أمل فلسطينية | #غرفة_الأخبار


.. بعد غلقه بسبب الحرب الإسرائيلية.. مخبز العجور إلى العمل في غ




.. تعرف على أصفهان الإيرانية وأهم مواقعها النووية والعسكرية