الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المال ورأس المال في الفكر الديني

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2017 / 6 / 25
الادارة و الاقتصاد


المال ورأس المال في الفكر الديني


المال ذلك الموجود الساحر والمثير ذو النزعة الفوقية الذي تهفو له كل النفوس وتستعين به كل الموجدات الواعية لقيمته وتتخذ منه طريقا لتيسير مفاصل مهمة وأساسية في الحياة البشرية ,وحتى أحيانا لتنمية وتطوير قضايا خارج نطاق الضروري والمهم والحاجة عندما يشارك في حركة الترف وصولا للبطر الذي هو نوع من أنواع الاستمتاع الغير طبيعي والشعور بالسعادة المصطنعة ,وأيضا فوق حدود الطبيعي المحكوم عادة بالتناسب, أما رأس المال فهو له مفهوم أخر وإن كان موضوعه المال لكن عنوانه غير عنوان المال العمومي ,حيث تذهب الفكرة العامة عنه إلى أنه الشرط الأساسي لكينونة عالم التبادل التجاري وليس الاقتصادي كما هو معروف غالبا .
الإنسان كائن مجبول على المتناقضات ولا يمكن إلجاءه إلى قضية ما لم يكن له فيها مصلحة معنوية أو مادية, هذه الحقيقة لا ينكرها لا العلم ولا المعرفة ولا يستطيع متعقل أن يثبت أن الإنسان ملاك يمكنه أن يعيش مثاليا إيجابيا كما ينبغي, كما لا يقر عاقل أنه مجرد من المثاليات وأنه محض شر يبحث عن وجوده خارجا عن كل قيمة فيها خير أو حق, الحقيقة الوحيدة التي يقر بها المختلفون أن الإنسان نتاج واقع يفرض أولا عليه ومن ثم عند أكتمال فاعلية الوعي عنده سيكون نتاج نفسه بما تكونت عليه مسبقا .
وحده ولوحده يمكن أن يكون خيرا أو شرا عندما ينحاز لمصدر قوته من خلال العقل لا من خلال مكون أخر وهو الإنسان الأكثر إيجابية، أما الذي يوازن بين المقومات المؤثرة ويجنح للوسطية والتوسط بينهما خاضعا للواقع كما هو فهم الأغلبية من الناس, الأغلبية التي تدين بالقضاء والقدر وتسمي كل خطواتها تعقلا وخضوعا لمنطق الحياة كما تراها, أما الذين تستعبدهم قوى الحس والمادة ولا يرون لوجودهم حقيقة إنما هم ظل لوجود أخر، فهؤلاء يسمون العنصر السالب بالوجود حيث أن غيابهم ووجودهم لا يقدم ولا يؤخر ولكن يظهر طغيان البعض فقط وتبرير لمنطقهم المخالف للأشياء .
المال كما السلطة واحدة من الشهوات التي تستعبد الإنسان وتحوله إلى ظل لها، وتأخذه لعكس الغاية من وجود المال ووظيفته في الوجود, وقد يتخذه البعض طريقا لاستعباد الآخرين من بني جنسه ويظن أن مجرد تمتعه بهذه السلطة إنما يكشف عن قدرته على تحريك الوجود بأي أتجاه يختاره, والحقيقة أن مجرد شعوره بهذا الحس هو أستعباد له بمنطق المال حين يكون سيدا .
آخرون يرون في المال ضمانه للتمتع بحياة مستقرة ويجب عليهم أن يفتشوا في كل مكان عن مناجمه ومستودعاته، وأنهم بهذا إنما يمارسون حقا إنسانيا محضا, ولا يجمعون البتة بين الحق المجرد من ضابط وهو بالأخر ليس حقا طبيعيا إنما أفتراض يلبسونه لباس الحق، وبين الحق المنضبط فلا وجوب لأن نجعل المال غاية تبرر لنا أنتهاك حق الآخرين باسم الحق نفسه, رأس المال واحد من وسائل البحث عن مال وعن قوة وعن سلطة تقود للمجد، ولكن حينما تكون الطريقة برغماتية أكثر من حدود المعقول المقبول تتحول لقوة شيطانية تسحق إنسانية المالك وتحوله إلى كائن فاقدا لمعنى الإنسان .
المال ورأس المال إشكالية الإنسان عبر العصور والقضية التي شغلت بال المفكرين والمصلحين والفلاسفة وعلماء الاقتصاد والأجتماع وعلم النفس، دون أن ينجحوا تماما في تهذيب سلوكيات الإنسان تجاه موضوع العلاقة بينه وبينهما وظلت القضية تخضع للصراعات البينية, وحتى الدين عندما جاء وشرع قوانين ومعتقدات كان المال واحدا من أكثر المواضيع جدلية، وأكثر من تفاصيل التركيز على أهمية التوازنات والتعامل في محددات خاضعة له بالنتيجة للتوازن بين الأنا والآخر وتقع في صالح الإنسان عموما، وصاحب المال ورأس المال خصوصا عندما منحهم المعصومية الطبيعية التشريعية .
ويبقى موضوع المال ورأس المال قضية إنسانية ملحة تحتاج للكثير من الجهد والمتابعة والبحث والأنتقال من حقيقة (أن المال قوة وسلطان مجرد) إلى حقيقة أهم هي (أن الإنسان هو من منح هذه المسميات السلطان والقوة والقدرة، وهو القادر أيضا على التخفيف من غلواءها والرجوع بها إلى الوضع الطبيعي), وهذه مهمة الإنسان العاقل المسترشد بحقائق الكون الكلية عندما يدرس ويبحث مفتحا كل عيونه على كل الخطوط والمنعطفات والفروع والأصول ولا ينحاز لنظرية محددة على أنها تملك الحقيقة المطلقة .
فالتنمية مرتبطة بقضيتين أساسيتين هما:
• وجود رأس المال القادر على التحرك بحرية في ظل منظومة من القواعد والقيم التي تحترم حق العمل، ووجود الإدارة القادرة على تشغيل هذا الرأسمال بصورة مثمرة لا بصورة أستغلالية.
• وجود هيكلية أجتماعية وتشريعية تحمي الرأسمال كما تصون الإدارة من الأنحراف، هذه الهيكلية الضرورية مرتبطة بالواقع ومستندة إلى طبيعة البيئة ومنظومة الأفكار الساندة، فكل نجاح لرأس المال والأدارة سيصب في مصلحة خير المجتمع ويقوي من العلاقات المرتبطة به والتي أهمها الإنسان ذاته.
هذه المعادلة أدركتها الفكرة الدينية وراعتها في تصورها العام وإن لم تتدخل في التفاصبل الخاصة، إلا في موضوعي الحرام والحلال، فالتفريق أذا بين أدوات الأدارة ضروري لحفظ المجتمع وصيانة الإنسان من العبث بمصلحته البعيدة {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}البقرة275, فمثل هذا النص بيان مهم لكيفية أسترشاد الأدارة المالية في التعاط مع المال من جهة والإنسان الذي هو مالك ومدير وصاحب الحاجة له.
المبدأ الأول الذي يقوم عليه تصور الدين في موضوع التنمية أن العمل والمال وطريقة تداوله يجب أن يخدم الإنسان في وجوده، لا أن يخدم الإنسان المال ويستعبد إنسانيته بعنوان الحاجة، أما المبدأ الأخر أن الناس أحرار فيما يرونه من طريق عقلي ومنطقي وطبيعي للعمل لكسب المال، بل أن العمل في حد ذاته كان واجبا وحقا مصانا بالمحمول النصي ولا بديل عنه في أحداث التحولات الإيجابية التي يجب أن تسود في المجتمع {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}المائدة63.
كل النظريات التي جاءت متأخرة والتي بنيت على روايات وحواديث وأفكار من قبيل ما فعل المسلمون من خلال طريقة توسعهم بأجتهادات فقهية أو نتيجة مطامع سياسية حصل منها المجتمع الإسلامي على موارد مالية، فهي أما كانت تنظيرات خارج النص من قبيل السعي على أسترقاق الشعوب وبيع الأماء والعبيد، أو ترتبت عن نتائج غاب عنها التقدير السليم للنصوص، لا يمكنها أن تكون من ضمن ما يفكر به المجتمع وهو يتناول موضوع التنمية، التنمية تعريفا هي عملية أستثمار مدروس ومقنن وواقع يساهم في أعادة تدوير العمل والمال معا لتحقيق الوفرة الطبيعية للسلع والخدمات والمال معا دون أن يخرق مبدأي الحلال والحرام أو يلجأ لطرق خارج النظام.
حتى مسألة ما يعرف بالخراج والزكاة والخمس وغيرها من الأحكام الضرائبية بصفتها الحقيقية هي أفكار تنموية الهدف منها معالجة حالات الخلل وعدم التوازن في وجود الثروة بيد قلة من المالكين أو الرأسمالين، توجه للطبقة الأفقر والأقل قدرة على توفير الضروريات من أسباب العيش ومكافحة الفقر، فالتنمية بأفكارها العامة تهدف إلى:
1. تنويع مصادر الثروة وتنويع طرق توزيعها مع الحفاظ على معصومية المال ورأس المال والمالك {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} النساء2.
2. الحفاظ على الترابط الأجتماعي والشعور بالأخر من ضمن مفهوم أخلاقي يساهم أولا في توفير الأمن الأجتماعي والفهم التربوي للملكية كحق {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}النساء5.
3. حماية نمط العيش وتقوية علاقات العمل من خلال قوونة العلاقات المالية والمادية داخل المجتمع، ومنع أستغلال السلطة لحقها في إدارة المجتمع من التعدي على الملكية المصونة بالنص {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}البقرة188.
4. رعاية وحماية النشاط الأقتصادي والمالي ككل من خلال حماية المال ذاته من أن يتعرض للأعتداء أو المصادرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}النساء29.
5. هدف التقنين التشريعي لدور المال هو هدف أجتماعي عام ولا يمكن فهم التكاليف المالية على أنها حق منفعي لله، فهذا الفهم يعني أن إدارة المال بالصورة التي حرم وحلل النص أشكالها هي لخدمة الإنسان وسعادته وفوزه بالحياة لي إلا {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}محمد36.
6. تسخير المال العام والجزء الممنوح من المال الخاص تقربا لله هدفه الأول حماية المجتمع من التجاوز والأعتداء، وليس خدمة السلطة كمؤسسة لها أهداف خاصة، فالتطوع في منح المال هو نوع من الشعور التضامني العام الذي يحمي المال وصاحب المال والمجتمع من كل أعتداء يمسه {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}الصف11.
7. وأخيرا لا بد أن نذكر أن المال في مفاهيم محمولات النص يعبر عنه بالسلطان بتعبير القيمومية العامة، وهي بمعنى القوة والقدرة الحصرية لصاحبها أن يوجهها وفقا لمقتضيات متوازنة بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، توازن يحد من قوة المال من جهة وسطوة المصلحة الأجتماعية من جهة أخرى {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاما}النساء5.
إن ما تقدم لا يشكل إلا ما هو الغالب من دور وأهداف للتنمية في المجتمع، وترك باقي التفصيلات والعلاقات والإشكالية تنبع من التجربة البشرية، فلا يمكننا معها أن نصف هذه المفاهيم وفقا لمحددات مدرسة أقتصادية ما، ولا نعتها بمسميات خارج كونها أفكار ومبادئ أخلاقية عامة تهدف لحماية الإنسان ورسم خارطة طريق بمفاهيم إرشادية جناحيها الحق والخير، إلا أننا أيضا يمكننا أن نقول إنها فكرة الحرية في العمل الأقتصادي داخل المجتمع، على أن تتقيد بمصلحة الإنسان لا بمصلحة النظام الأقتصادي الوضعي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الجمعة 19-4-2024 بالصاغة


.. تطور كبير فى أسعار الذهب بالسوق المصرية




.. صندوق النقد يحذر... أزمة الشرق الأوسط تربك الاقتصاد في المنط


.. صندوق النقد الدولي: تحرير سعر الصرف عزز تدفق رؤوس الأموال لل




.. عقوبات أميركية على شخصيات بارزة وشركات إنتاج الطائرات المسيّ